حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٣

٥ ـ صرف الخلافة الإسلاميّة عن مفاهيمها الخيّرة إلى ملك عضوض لا يعني بأهداف الاُمّة.

وتحفّز الأخيار والمصلحون إلى إرسال الوفود إلى يثرب للإطلاع على أوضاع الخليفة والتعرّف على شؤونه.

مذكرة اُخرى لأهل الثغور :

وأرسلت الجبهة المعارضة مذكّرة اُخرى للمرابطين في الثغور من الصحابة يطالبونهم بالقدوم إلى يثرب للإطاحة بالحكم القائم ، وهذا نصّها : إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمد (صلّى الله عليه وآله) ، فإنّ دين محمد قد أفسده خليفتكم فأقيموه (١).

وألهبت هذه المذكرة القلوب ، وتركت النفوس تغلي كالمرجل غيظاً وغضباً على عثمان.

وفود الأمصار :

واستجابت الأقطار الإسلاميّة لنداء الصحابة ، فأرسلت وفودها إلى يثرب لتقصّي الحقائق ، والاطّلاع على الأحداث والوفود التي أقبلت هي :

أ ـ الوفد المصري :

وأرسلت مصر وفداً كان عدده أربعمئة شخص ـ وقيل : أكثر من ذلك ـ بقيادة محمد بن أبي بكر ، وعبد الرحمان بن عديس البلوي.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ١١٥ ، الكامل ٥ / ٧٠.

٣٨١

ب ـ الوفد الكوفي :

وأرسلت الكوفة وفدها بقيادة الزعيم مالك الأشتر ، وزيد بن صوحان العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله الأصم العامري ، ويرأس الجميع عمرو بن الأهثم.

ج ـ الوفد البصري :

وأوفدت البصرة مئة رجل بقيادة حكيم بن جبلة ، ثمّ أوفدت خمسين رجلاً ، وفيهم ذريح بن عباد العبدي ، وبشر بن شريح القيسي ، وابن المحرّش وغيرهم من الوجوه والأعيان.

ورحّبت الصحابة بالوفود ، وقابلتها بمزيد من الاحتفاء والتكريم ، وأخذت تعرض عليها أحداث عثمان ، وتحرّضها على إقصائه عن الحكم والوقيعة به.

مذكّرة المصريِّين لعثمان :

ورأى الوفد المصري أن يرفع مذكرة لعثمان يدعوه فيها إلى التوبة والاستقامة في سياسته وسلوكه وهذا نصّها :

أمّا بعد ، فاعلم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ، فالله الله ثمّ الله الله ، فإنك على دنيا فاستقم معها آخرة ، ولا تنسى نصيبك من الآخرة ، فلا تسوغ لك الدنيا ، واعلم أنّا لله ولله نغضب ، وفي الله نرضى ، وإنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتّى تأتينا منك توبة مصرّحة ، أو ضلالة مجلحة (١) مبلجة ، فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك ، والسّلام (٢).

__________________

(١) مجلحة : مشتق من جلح على الشيء : أقدم عليه.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ١١١ ـ ١١٢ ، الأنساب ٥ / ٦٤ ـ ٦٥.

٣٨٢

واضطرب عثمان ، وقرأ الرسالة بإمعان وقد أحاط به الثوار ، فبادر إليه المغيرة وطلب منه الإذن بالكلام معهم فأذن له ، ولمّا قرب منهم صاحوا به : يا أعور وراءك.

وصاحوا به ثانياً :

يا فاجر وراءك.

وصاحوا به ثالثاً :

يا فاسق وراءك.

ورجع المغيرة خائباً مهاناً قد أخفق في سفارته ، ودعا عثمان عمرو بن العاص وطلب منه أن يكلم القوم ، فمضى إليهم وسلّم عليهم فلم يردّوا عليه السّلام لعلمهم بفسقه وفجوره ، وقالوا له :

ارجع يا عدو الله.

ارجع يابن النابغة ، لست عندنا بأمين ولا مأمون.

ورجع خائباً في وفادته ، لم يستجب له القوم وقابلوه بمزيد من التوهين والاستخفاف.

استنجاده بالإمام (ع) :

وعلم عثمان أن لا ملجأ له إلاّ الإمام أمير المؤمنين فاستغاث به ، وطلب منه أن يدعو القوم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأجابه إلى ذلك بعد أن أخذ منه المواثيق على الوفاء بعهده ، ومضى الإمام إلى الثوار وهو يحمل الضمان لجميع مطاليبهم ، فلمّا رأوه قالوا له :

وراءك.

٣٨٣

ـ «تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كلِّ ما سخطتم عليه».

ـ أتضمن ذلك؟

ـ «نعم».

ـ رضينا.

وأقبل وجوههم وأشرافهم مع الإمام فدخلوا على عثمان فعاتبوه ولاموه على ما فرّط في أمور المسلمين ، وطالبوه أن يغيّر سياسته وسلوكه ويسير بين المسلمين بالحق فاستجاب لهم ، وطالبوا منه أن يكتب لهم كتاباً بذلك ، فأجابهم إلى ما أرادوا وكتب لهم هذا الكتاب :

هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمَن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين أن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، يعطى المحروم ، ويؤمن الخائف ، ويردّ المنفي ، ولا يجمر في البعوث ، ويوفر الفيء ، وعلي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين ، على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب.

وشهد فيه كل من الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن مالك بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيوب خالد بن زيد ، وكتب ذلك في ذي القعدة سنة (٣٥ هـ).

وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا إلى جماعتهم ، وطلب منه الإمام أمير المؤمنين أن يخرج إلى الناس ويعلن لهم بتنفيذ طلباتهم ففعل عثمان ذلك ، فأعطاهم عهد الله وميثاقه أن يسير فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، وأن يوفر لهم الفيء ولا يؤثر به أحداً من أقربائه ، وقفل المصريّون راجعين إلى بلادهم.

نقضه للميثاق :

ونقض عثمان ما قطعه على نفسه ، ولم يفِ للمسلمين بما عاهدهم عليه

٣٨٤

ويقول المؤرّخون : إنّ السبب في ذلك أنّ مروان الذي كان مستشاراً له ووزيراً ، قد دخل عليه فلامه وعذله على ما صنع قائلاً : تكلّم وأعلم الناس أنّ أهل مصر قد رجعوا ، وأنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً ؛ فإن خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك مَن لا تستطيع دفعه.

وامتنع عثمان من إجابته ؛ لأنه دعاه لأن يناقض نفسه ، وأن يقول غير الحق ، ولكنه ما زال به يحذّره مغبّة ما صنع ويخوّفه عاقبة الاُمور ، ولم تكن لعثمان إرادة صلبة ولا عزم ثابت ، فكان ألعوبة بيد مروان فاستجاب له ، واعتلى المنبر فخاطب الناس قائلاً : أمّا بعد ، إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر ، فلمّا تيقّنوا أنه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم.

وانبرى المسلمون إلى الإنكار عليه ، وناداه عمرو بن العاص : اتق الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت نهابير (١) وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب معك.

فصاح به عثمان : وإنك هنا يابن النابغة؟ قملت والله جبّتك منذ تركتك من العمل؟

وارتفعت أصوات الإنكار من جميع جنبات الحفل وهي ذات لهجة واحدة : اتق الله يا عثمان. اتق الله يا عثمان.

وانهارت أعصابه ، وتحطّمت قواه فحار في الجواب ، ولم يجد بدّاً

__________________

(١) النهابير : المهالك.

٣٨٥

من أن يعلن التوبة مرّة اُخرى عمّا اقترفه ، ونزل عن المنبر وهو خائر القوى ، ومضى إلى منزله (١).

استنجاده بمعاوية :

ولمّا تبيّن للثوار أنه لم يقلع عن سياسته ، وأنه جاد في سيرته لا يغيّر منها ولا يبدل ، أحاطوا به وطالبوه بالاستقالة من منصبه ، فلم يستجب لهم ورأى أن يستنجد بمعاوية ليبعث له قوة عسكرية تحميه من الثوار ، وقد كتب إليه هذه الرسالة : أمّا بعد ، فإن أهل المدينة قد كفروا وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة فابعث إليّ من قِبَلك مقاتلة أهل الشام على صعب وذلول (٢).

وحمل الكتاب مسور بن مخرمة ، ولمّا قرأه معاوية قال له مسور : يا معاوية ، إنّ عثمان مقتول فانظر فيما كتب به إليك.

وصارحه معاوية بالواقع وبما انطوت عليه نيّته قائلاً : يا مسور ، إنّي مصرح أنّ عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ورسوله ويرضاه ، ثمّ غيّر فغيّر الله عليه ، أفيتهيّأ لي أن أردّ ما غيّر الله عزّ وجلّ (٣).

ولم يستجب معاوية له ، وكان فيما يقول المؤرّخون : يترقّب مصرعه ليتخذ من دمه وسيلة للظفر بالملك والسلطان ، وقد تنكّر لألطافه وأياديه عليه وعلى اُسرته ، يقول الدكتور محمد طاهر دروش :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ١١٠ ، الأنساب ٥ / ٧٤.

(٢) الكامل لابن الأثير ٥ / ٦٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٢.

(٣) الفتوح ٢ / ٢١٨.

٣٨٦

وإذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية ودمه في عنقه ، ومسؤوليته عن ذلك لا تدفع ، فهو أولى الناس به ، وأعظم الرجال شأناً في دولته ، وقد دعاه فيمَن دعا يستشيره في هذا الأمر وهو داهية الدهاة ، فما نهض إليه برأيه ، ولا دافع عنه بجنده ، وكأنه قد استطال ـ كما استطال غيره ـ حياته ، فترك الأيّام ترسم بيدها مصيره وتحدد نهايته ، فإذا جاز لأحد أن يظنّ بعلي أو بطلحة والزبير وغيرهم تقصيراً في حقّ عثمان فمعاوية هو المقصّر ، وإذا جاز أن يلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم.

وعلى أيّ حال ، فإن معاوية لمّا أبطأ عن إجابته ، بعث عثمان رسالة إلى يزيد بن كرز والي أهل الشام يستحثّهم على القدوم إليه لإنقاذه من الثوار ، ولمّا انتهى إليهم كتابه نفروا إلى إجابته تحت قيادة يزيد القسري ، إلاّ أنّ معاوية أمره بالإقامة بذي (خشب) وأن لا يتجاوزه ، فأقام الجيش هناك حتّى قُتل عثمان.

وكتب عثمان رسائل اُخرى إلى أهل الأمصار وإلى مَن حضر الموسم في مكّة يطلب منهم القيام بنجدته ، إلاّ أنهم لم يستجيبوا له ؛ لعلمهم بالأحداث التي ارتكبها.

الإحاطة بعثمان :

وأحاط الثوار بعثمان ، وقد رجع إليهم الوفد المصري حينما استبان المكيدة الخطيرة التي دبّرت ضدّه ، وقد حاصروا عثمان وهم يهتفون بسقوطه

__________________

(١) الخطابة في صدر الإسلام ٢ / ٢٣.

٣٨٧

ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وقد أشعل نار الثورة في نفوسهم مروان بن الحكم فقد أطلّ عليهم وخاطبهم : ما شأنكم؟ كأنكم قد جئتم لنهب! شاهت الوجوه ، تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنّا.

ونفذ صبر الثوار فعزموا على قتله ، وصمّموا على تقطيع أوصاله والتنكيل به.

ونُقلت كلمات مروان إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فخفّ إلى عثمان مسرعاً فقال له : «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟! والله ، ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وايم الله لأراه سيوردك ثمّ لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ؛ أذهبت شرفك وغلبت على أمرك».

وتركه الإمام (عليه السّلام) وانصرف عنه ، فقالت نائلة زوج عثمان للاُمويِّين : أنتم والله قاتلوه ومُيتّموا أطفاله. والتفتت إلى عثمان تنصحه بأن يعزب عن مروان ولا يطيعه ، قائلةً له : إنك متى أطعت مروان قتلك.

وأحاط به الثوار فمنعوا عنه الماء والطعام وحاصروه ، وهو مصرّ على سياسته لم يقلع عنها ، وقد اترعت النفوس بالحقد والكراهية له ، وقد جنى هو على نفسه لإطاعته لمروان وانصياعه لرغبات بني اُميّة.

يوم الدار :

واندلعت نيران الثورة واشتدّ أوارها ، فقد أحاط الثوار بدار عثمان

٣٨٨

وقد خرج إليهم مروان فبرز إليه عروة بن شييم الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخرّ لوجهه ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي بسكين ليقطع رأسه فعذلته فاطمة الثقفية ، وكانت اُمّه من الرضاعة ، فقالت له : إن كنت تريد قتله فقد قتلته ، فما تصنع بلحمه أن تبضعه؟

فاستحي منها وتركه ومشى إليه الناس ، وتسلّقوا عليه الدار ، ولم يكن عنده أحد يدافع عنه ؛ فقد ورمت منه القلوب ونفرت منه النفوس ، ورمي بالحجارة وناداه الناس : لسنا نرميك ، الله يرميك.

فردّ عليهم عثمان : لو رماني الله لم يخطأني.

واحتفّ به بعض الاُمويِّين يدافعون عنه ، وقد نشب بينهم وبين الثوار قتال عنيف ، وقد فرّ من ساحة القتال خالد بن عقبة بن أبي معيط ، وإليه يشير عبد الرحمان بن سيحان بقوله :

يلومونَني في الدارِ إن غبتُ عنهمُ

وقد فرّ عنهم خالدٌ وهو دارعُ

وقُتل من أصحاب عثمان زياد بن نعيم الفهري ، والمغيرة بن الأخنس ، ونيار بن عبد الله الاسلمي وغيرهم.

الإجهاز على عثمان :

وأحاط الثوار بعثمان بعد أن انهزم عنه بنو اُميّة وآل أبي معيط ، فأجهز عليه جماعة من المسلمين في طليعتهم محمد بن أبي بكر ، فقد قبض على لحيته وقال له : قد أخزاك الله يا نعثل.

__________________

(١) حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السّلام) ١ / ٢٧٩.

٣٨٩

ـ لست بنعثل ، ولكن عبد الله وأمير المؤمنين.

ـ ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان.

ـ يابن أخي ، دع عنك لحيتي ، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه.

ـ ما اُريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك.

وطعن جبينه بمشقص كان في يده ، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ في أصل اُذن عثمان حتّى دخلت في حلقه ، ثمّ علاه بالسيف ، ووثب عليه عمرو بن الحمق الخزاعي فجلس على صدره وبه رمق ، فطعنه تسع طعنات ، وكسر عمير بن ضابئ ضلعين من أضلاعه ، وحاولوا حزّ رأسه ، فألقت زوجتاه نائلة وابنة شيبة بن ربيعة بأنفسهما عليه ، فأمر ابن عديس بتركه لهما (١).

واُلقي عثمان جثّة هامدة على الأرض ، لم يسمح الثوار بمواراته. وقال الصفدي : إنهم ألقوه على المزبلة ثلاثة أيّام (٢) ؛ مبالغة في تحقيره وتوهينه. وتكلّم بعض خواصّه مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليتوسّط في شأنه مع الثوار في دفنه ، فكلّمهم الإمام فأذنوا في دفنه (٣).

ويصف (جولد تسهير) دفنه بقوله : وبسط جثمانه دون أن يغسل على باب ، فكان رأسه يقرع قرعاً ، يقابل بخطوات سريعة من حامليه ، وهم يسرعون به في ظلام الليل ، والأحجار ترشفه واللعنات تتبعه ، ودفنوه في حش كوكب (٤) ، ولم يرضَ الأنصار بمواراته في مقابر المسلمين (٥).

__________________

(١) الغدير ٩ / ٢٠٦.

(٢) تمام المتون / ٧٩.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٢٨١.

(٤) حش كوكب : اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.

(٥) العقيدة والشريعة في الإسلام / ٤٥.

٣٩٠

وأمّا غلاماه اللذان قُتلا معه فقد سحبوهما وألقوهما على التلال ، فأكلتهما الكلاب (١).

وعلى أيّ حال فقد كانت الثورة على عثمان ثورة اجتماعية لا تقلّ شأناً عن أنبل الثورات الإصلاحية التي عرفها التاريخ ، فقد كانت تهدف إلى الحدّ من سلطة الحاكمين ، ومنعهم من الاستبداد بشؤون الناس ، وإعادة الحياة الإسلاميّة إلى مجراها الطبيعي.

متارك حكومة عثمان :

وتركت حكومة عثمان كثيراً من المضاعفات السيّئة التي امتحن بها المسلمون أشدّ الامتحان ، فقد أشعلت نار الفتن في جميع أنحاء البلاد ، وجرّت للمسلمين الويلات والخطوب ، ونتحدّث ـ بإيجاز ـ عن الأحداث الكبرى التي مُني بها العالم الإسلامي من جرّاء حكومته وهي :

١ ـ إنّ حكومة عثمان قد عمدت إلى التهاون في احترام القانون ، وتجميد السلطة القضائية ، فإنّ أفراد الاُسرة الاُموية قد جافوا في كثير من تصرّفاتهم وسلوكهم الأحكام الدستورية ، وكان موقف عثمان معهم يتّسم بالميوعة والتسامح ، فلم يتخذ معهم أيّ إجراء حاسم ، وإنما كان مسدّداً لهم ومتأوّلاً لأخطائهم ، كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، وكان من النتائج المباشرة لذلك شيوع الفوضى في السلوك ، وفساد الأخلاق والتمرّد على القانون.

٢ ـ إنّ حكومة عثمان لم تتخذ الحكم وسيلة من وسائل الإصلاح الاجتماعي ، وإنما اتخذته وسيلة للإثراء والاستغلال ، والسيطرة على الشعوب

__________________

(١) سيرة الحلبي.

٣٩١

مما أهاب بكثير من الفئات أن ينظروا إلى الحكم بأنه مغنم وسبب للتمتع بنِعَم الدنيا وخيراتها ، وقد أدّى ذلك إلى تهالك الجماعات والأفراد نحو الملك والسلطان ، فطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم لم يكونوا ينشدون أيّ هدف إنساني أو اجتماعي في تمرّدهم على حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وإنما كانوا هائمين في طلب الإمرة والخلافة ، وأعقب عصيانهم بلبلة الروح الدينية ، وزعزعة الإيمان في النفوس ، وانتشار الأحزاب النفعية التي حالت بين المجتمع الإسلامي وبين حكومة القرآن.

٣ ـ وخلقت حكومة عثمان طبقة ارستقراطية أشاعت الترف والبذخ وتهالكت على اللذّة والمجون ، وكان من بينها الاُسر القرشية التي غرقت بالأموال وحارت في صرفها ، في حين أنّ الأوساط الاجتماعية كانت تعاني الضيق والحرمان ؛ ممّا أدّى إلى ثورة المصلح الكبير أبي ذر صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على الرأسمالية القرشية التي جُمعت بغير وجه مشروع ، ومطالبته بتأميمها وإرجاعها إلى الخزينة المركزية ؛ لتنفق على تطوير الحياة الاقتصادية وتنمية الدخل الفردي ، وإذابة الفقر والحاجة في جميع القطاعات الشعبية حسب ما يريده الإسلام.

٤ ـ وعملت حكومة عثمان على إحياء العصبية القبلية التي حاربها الإسلام ، فقد جهد عثمان على تقوية اُسرته وبسط نفوذها ، وحمايتها من القانون ومنحها جميع أسباب القوة ؛ مما أدّى إلى تكتّل الاُسر العربية ، وشيوع النعرات الجاهليّة من الافتخار بأمجاد الآباء والاعتزاز بالأنساب ، وغير ذلك مما سنذكره في بحوث هذا الكتاب.

٥ ـ تطلّع النفعيِّين إلى الوصول إلى الحكم والاعتماد على قوّة السيف من دون أن يعنى بإرادة الاُمّة. يقول (يوليوس فلهوزن) : فمنذ ذلك الحين صار للسيف القول الفصل في أمر رئاسة الحكومة التيوقراطية ، وفتح باب

٣٩٢

الفتنة ، ولم ينسد بعد ذلك أبداً سدّاً تامّاً ، ولم يمكن ذلك الحين المحافظة على وحدة ممثلة في شخص إمام على رأس الجماعة إلاّ في الظاهر على الأكثر وبالقوة والقهر. فالحقيقة أنّ الجماعة قد انشقّت وتفرّقت شيعاً وأحزاباً ، كل منها يحاول أن يفرض سلطانه السياسي ، وأن يلجأ للسيف تأييداً لإمامه على الإمام الحاكم بالفعل (١).

لقد انتشرت الأطماع السياسية ، وتهالك النفعيّون على الوصول إلى كرسي الحكم ، مما أدّى إلى إشاعة الفتن والفوضى في جميع أنحاء البلاد.

٦ ـ التطبيل بدم عثمان ، واتخاذه شعاراً للفتنة وإراقة الدماء ، والتمرّد على القانون لا من قِبَل الاُمويِّين فقط وإنما من قِبَل جميع الفئات الطامعة في الحكم ؛ كطلحة والزبير وعائشة وغيرهم من الذين ساهموا مساهمة إيجابية في الثورة على عثمان ، وقد أطلت في سبيل هذه الأطماع الرخيصة أنهار من الدماء الزكيّة ، وشاع الثكل والحداد في ربوع الوطن الإسلامي.

هذه بعض المتارك التي خلّفتها حكومة عثمان ، وهي ـ من دون شك ـ قد أثّرت تأثيراً عميقاً في تطوّر الأحداث ، واتجاه المجتمع نحو الأطماع السياسية ، وانتشار الانتهازية والوصولية بشكل فظيع مما أدّى إلى الصراع العنيف على الحكم ، وتحوّل الحكومة الدينية إلى الملكية التي لا تعنى بأيّ حال باُمور الإسلام وتطبيق أهدافه.

كما باعدت ما بين المسلمين وبين أهل البيت (عليهم السّلام) الذين نصّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) على إمامتهم ، وأوصى الاُمّة باتّباعهم ، فقد تحطّمت بشكل سافر تلك القدسية التي أحاطهم بها ، واتّجهت السلطات التي تلت حكومة الخلفاء إلى تمزيق أوصالهم والتنكيل بهم ، ولم ترعَ فيهم قرابة الرسول (صلّى الله عليه وآله) التي هي أحقّ بالرعاية من كل شيء.

بقي هنا شيء وهو أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان في عهد عثمان في

__________________

(١) تاريخ الدولة العربية / ٥٠ ـ ٥١.

٣٩٣

شرخ الشباب ، ويقول المؤرّخون : إنه انضمّ إلى الجيش الإسلامي الذي اتّجه إلى فتح طبرستان سنة (٣٠ هـ) ، وكان على قيادته سعيد بن العاص ، فأبلى الجيش بلاءً حسناً وفتح الله على يده ورجع ضافراً (١).

ولم تظهر لنا بادرة اُخرى عن الإمام الحسين في تلك الفترة ، ولعلّ السبب يعود ـ فيما نحسب ـ إلى أنّ الاُسرة النبوية كانت من الجبهة المعارضة لحكومة عثمان ، وقد قامت بدور إيجابي في التنديد بسياسته ، وقد صبّ عثمان جامّ غضبه على أصحاب الإمام أمير المؤمنين كأبي ذر ، وعمار ، وابن مسعود ، فأمعن في ظلمهم وإرهاقهم ، وقد شاهد الإمام الحسين (عليه السّلام) تلك الأحداث المفزعة فأضافت إلى نفسه آلاماً ، وعرّفته بواقع المجتمع واتّجاهاته.

وزعم بعض المؤرّخين أنّ الإمام الحسن والحسين (عليهما السّلام) دافعا عن عثمان حينما أحاط به الثوار ، وقد دلّلنا على عدم صحة ذلك بصورة موضوعية في كتابنا (حياة الإمام الحسن) ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة عثمان.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٥٧ ، العبر ٢ / ٣٤ ، ولم يذكر صاحب الفتوحات الإسلاميّة انضمام الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى ذلك الجيش.

٣٩٤

عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)

٣٩٥
٣٩٦

وحقّقت الثورة على عثمان مكسباً عظيماً للمسلمين ، فقضت على الاستغلال والتلاعب بمقدّرات الاُمّة ، وقضت على الغبن والظلم الاجتماعي ودكّت عروش الطغيان ، وحقّقت للاُمّة أهمّ ما تصبو إليه من تحقيق العدل والرخاء والأمن.

لقد استهدفت الثورة القضايا المصيرية للاُمّة ، وكان من أهمّها ترشيح الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لمنصب الحكم ، ويقول المؤرّخون : إنّ الثوار وسائر القوات المسلحة قد احتفّت بالإمام ، وهي تهتف بحياته وتناديه : لا إمام لنا غيرك.

لقد أيقنت الأوساط الشعبية أنّ الإمام هو الذي يحقّق آمالها وأهدافها ويعيد لها كرامتها ، وأنها ستنعم في ظلال حكمه بالحرية والمساواة والعدل ، فأصرّت على انتخابه وتقليده شؤون الخلافة.

وجوم الإمام (ع) :

واستقبل الإمام الثوار بالوجوم وعدم الرضا بخلافتهم ؛ لعلمه بالأحداث الرهيبة التي سيواجهها إن قَبِل خلافتهم ، فإنّ الأحزاب النفعية التي خلقتها حكومة عثمان قد تطعّمت بالخيانة ، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشخصية ، وأنها ستقف في وجهه ، وتعمل جاهدةً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق مخططاته السياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور.

وهتف الإمام بجماهير الشعب التي احتفّت به معلناً رفضه الكامل لخلافتهم ، قائلاً لهم : «لا حاجة لي في أمركم ، فمَن اخترتم رضيت به».

وأيّ حاجة للإمام في خلافتهم ، فهو لم ينشد مكسباً خاصّاً له أو لاُسرته ،

٣٩٧

وإنما كان يبغي تحقيق أهداف الاُمّة ، وإعادة الحياة الإسلاميّة إلى مجراها الطبيعي ... وأصرّت الجماهير على انتخابه قائلة : ما نختار غيرك.

ولم يعنَ بهم الإمام ، وإنما أصرّ على الامتناع والرفض ، ولكن الثوار لم يجدوا أحداً خليقا بإدارة شؤون الاُمّة غير الإمام الذي توفّرت فيه جميع الصفات القيادية من الصلابة للحق ، والقدرة على تحمّل المسؤولية ، فأصرّت على فكرتها في ترشيحه للخلافة.

مؤتمر القوات المسلحة :

وعقدت القوات العسكرية مؤتمراً خاصّاً بعد امتناع الإمام من إجابتها ، عرضت الأحداث الخطيرة التي تواجه الاُمّة إن بقيت بلا إمام ، وقد قرّرت على إحضار المدنيِّين وتهديدهم بقوة السلاح إن لم ينتخبوا إماماً للمسلمين ، ولمّا حضروا قالوا لهم : أنتم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة ، وحكمكم جائز على الاُمّة ؛ فانظروا رجلاً تنصبونه ، ونحن لكم تبع ، وقد أجّلناكم يومكم. فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ علياً وطلحة والزبير ، وتذهب من اُضحية ذلك اُمّة من الناس (١).

وفزع المدنيّون وعلاهم الرعب ، وخيّم عليهم الذعر ، فهرعوا إلى الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون :

البيعة البيعة!

أما ترى ما نزل بالإسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى؟!

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٨٠.

٣٩٨

فأجابهم الإمام مصرّاً على رفضه قائلاً :

«دعوني والتمسوا غيري».

وأحاطهم علماً بالأحداث المذهلة التي سيواجهها إن قَبِل خلافتهم قائلاً : «أيها الناس ، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ، لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت له العقول» (١).

ولم تعِ الجماهير قوله ، وإنما ازدحمت عليه تنادي :

أمير المؤمنين ، أمير المؤمنين (٢).

وكثر إصرار الناس عليه وتدافعهم نحوهم ، فصارحهم بالواقع ليكونوا على بيّنة من أمرهم قائلاً :

«إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم ، ألا وأنّي من أسمعكم وأطوعكم لمَن ولّيتموه».

لقد أعرب لهم أنه إن تولّى قيادتهم فسوف يسير فيهم بالحق والعدل فلا يجاب ولا يصانع أيّ إنسان ، ودعاهم إلى التماس غيره ، إلاّ أنهم أصرّوا عليه وهتفوا : ما نحن بمفارقيك حتّى نبايعك.

وتزاحمت الجماهير عليه ، وانثالوا عليه من كل جانب وهم يطالبونه بقبول خلافتهم ، وقد وصف (عليه السّلام) شدّة إصرارهم وازدحامهم عليه بقوله : «فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع (٣) ينثالون عليّ من كل

__________________

(١) نهج البلاغة ـ محمد عبده ١ / ١٨٢.

(٢) أنساب الأشراف ٥ / ٧.

(٣) عرف الضبع : الشعر الكثير الذي يكون على عنق الضبع ، يضرب به المثل في كثرة الازدحام.

٣٩٩

جانب حتّى لقد وُطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي (١) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم» (٢).

وأجّلهم إلى صباح اليوم الثاني لينظر في الأمر ، فافترقوا على ذلك.

قبول الإمام (عليه السّلام) :

ولم يجد الإمام (عليه السّلام) بدّاً من قبول الخلافة ؛ خوفاً أن ينزو إليهم علج من بني اُميّة ، كما كان يتحدّث بذلك ، يقول (عليه السّلام) : «والله ، ما تقدّمت عليها إلاّ خوفاً من أن ينزو على الاُمّة تيس من بني اُميّة ، فيلعب بكتاب الله عزّ وجلّ» (٣).

لقد دعته الضرورة والخوف على الإسلام إلى قبول خلافتهم التي لا إرب له فيها سوى إقامة الحقّ ودحر الباطل ، فلم يكن ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام من عشّاق الملك والسلطان ، ولا ممن يبغي الحكم لينعم في خيراته ، إنه ربيب الوحي الذي أثبت في جميع أدوار حياته زهده في الدنيا ، وعزوفه عن جميع رغباتها.

البيعة :

وازدحمت الناس في الجامع الأعظم تنتظر بفارغ الصبر لعلّه قد أجابهم

__________________

(١) شقّ عطفاي : أراد به خدش جانبيه من كثرة زحام الناس عليه للبيعة.

(٢) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة ، يصف جثومهم بين يديه.

(٣) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٧.

٤٠٠