حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٣

سبطيه ، ومن المقطوع به أنّه لو كان لهذا الحديث أيّ نصيب من الصحة لعرفه الإمام ، وما كتمه النبي (صلّى الله عليه وآله) عنه.

٤ ـ إنه لو كان له أيّ مدى من الصحة لَما خفى على اُمّهات المؤمنين ، وقد أرسلن إلى عثمان بن عفان يسألنه أن يسأل لهنّ ميراثهنّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ... هذه بعض المؤاخذات التي تواجه الحديث ، وهي تجعله من الضعف بأقصى مكان.

حوار الزهراء (عليها السّلام) مع أبي بكر :

وضاقت الدنيا على بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأرهقت إرهاقاً شديداً من الإجراءات الصارمة التي اتخذها أبو بكر ضدّها ، ويقول الرواة : إنّها (سلام الله عليها) استقلت غضباً ، فلاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملأة (١).

ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء وارتجّ المجلس ، فأمهلتهم حتّى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم ، افتتحت خطابها بحمد الله والثناء عليه ، وانحدرت في خطابها كالسيل ، فلم يسمع أخطب ولا أبلغ منها ، وقد تحدّثت في خطابها الرائع عن معارف الإسلام وفلسفته ، وألقت الأضواء على علل أحكامه ، وحِكم تشريعاته ، وعرضت إلى ما كانت عليه حالة الاُمم قبل أن يشرق عليها

__________________

(١) الملأة : الأزار.

٢٦١

نور الإسلام من التناحر والانحطاط ، ووهن العقول وضحالة التفكير خصوصاً الجزيرة العربية ؛ فقد مُنيت بالذل والهوان ، فكانت على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، وقد بلغت من الانحطاط في حياتها الاقتصادية إلى حدّ كانت الأكثرية الساحقة ؛ تقتاد القد ، وتشرب الطرق ، وظلت على هذا الحال المرير ترسف في قيود الفقر ، إلى أن أنقذها الله بنبيّه ورسوله (صلّى الله عليه وآله) فدفعها إلى واحات الحضارة ، وجعلها سادة الاُمم والشعوب ، فما أعظم فضله على العرب وعلى الناس جميعاً ... وعرضت سيّدة النساء (عليها السّلام) إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وجهاده المشرق في نصرة الإسلام ، والذبّ عن حياضه ، في حين أنّ المهاجرين من قريش كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين لم يكن لهم أي ضلع في نصرة القضية الإسلامية ، وإنما كانوا ـ على حدّ تعبيرها ـ ينكصون عند النزال ، ويفرّون من القتال ، كما كانوا يتربّصون بأهل البيت الدوائر ، ويتوقّعون بهم نزول الأحداث.

وأعربت (عليها السّلام) في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُني به المسلمون من الزيغ والانحراف ، والاستجابة لدواع الهوى والغرور ، وتنبّأت عمّا سيواجهونه من الأحداث الخطيرة والكوارث المؤلمة نتيجة لِما ارتكبوه من الأخطاء والانحراف عمّا أراده الله منهم من التمسّك بالعترة ، وبعدما أدلت بهذه النقاط المشرقة عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقالت : «وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي من أبي! أفحكم الجاهليّة تبغون ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون. أفلا تعلمون ـ بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية ـ أنّي ابنته؟ ويهاً أيها المسلمون! أاُغلب على تراث أبي؟ يابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟

٢٦٢

لقد جئت شيئاً فرياً. أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ). وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ يقول : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). وقال : (وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ). وقال : (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن). وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا؟ أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أوَلست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟».

ثمّ وجّهت خطابها إلى أبي بكر فقالت له : «فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ».

واتّجهت نحو فئة المسلمين تستنهض هممهم ، وتوقظ عزائمهم للمطالبة بحقّها ، والثأر لها قائلة : «يا معشر الفتية وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام ، ما هذه الغميزة في حقّي ، والسّنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله أبي يقول : المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، أتقولون : مات محمد فخطب جليل استوسع وهيه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، واظلمّت الأرض لغيبته ، وكسفت

٢٦٣

الشمس والقمر ، وانتشرت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال وخشعت الجبال ، واُضيع الحريم ، وأديلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى التي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه في ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً ، وتلاوةً وألحاناً ، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ».

وأخذت تحفّز الأنصار وتذكّرهم بجهادهم المضيء وكفاحهم المشرق في نصرة الإسلام وحماية أهدافه ومبادئه ، طالبةً منهم الانتفاضة والثورة على قلب الحكم القائم قائلةً :

«إيهاً بني قيلة (١)! أاُهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجُنّة (٢) ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب وتحمّلتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الاُمم وكافحتم البُهم ، فلا نبرح وتبرحون نأمركم فتأتمرون ، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيّام ، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنى جرتم (٣) بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ، بؤساً

__________________

(١) بنو قيلة : هم الآوس والخزرج من الأنصار.

(٢) الجنّة (بالضم) : ما يستتر به من السلاح.

(٣) جرتم : أي ملتم.

٢٦٤

لقوم نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ».

ولمّا رأت وهن الأنصار وتخاذلهم وعدم استجابتهم لنداء الحق ، وجّهت لهم أعنف اللوم ، وأشدّ العتب والتقريع قائلة : «ألا وقد قلت ما قلتُ على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، وبثة الصدر ، ونفثة الغيظ ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دَبرة الظهر ، نقية الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصومة بـ (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ). فبعين الله ما تفعلون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وأنا ابنة نذيركم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانظروا إنّا منتظرون» (١).

وقد وجلت القلوب ، وخشعت الأبصار ، وبخعت النفوس ، وأوشكت أن تردّ شوارد الأهواء ، ويرجع الحقّ إلى نصابه ومعدنه ، إلاّ أنّ أبا بكر قد استطاع بلباقته الهائلة وقابلياته الدبلوماسية أن يسيطر على الموقف وينقذ حكومته من الانقلاب.

وقد قابل بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بكل تكريم واحتفاء ، وأظهر لها أنه يخلص لها أكثر مما يخلص لابنته عائشة ، وأنه يكنّ لها في أعماق نفسه الاحترام والتقدير ، كما أظهر لها حزنه العميق على وفاة أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنه ودّ أن يكون مات قبل موته ، وعرض لها أنه لم يتقلّد منصب الحكم ولم يتخذ معها الإجراءات الصارمة عن رأيه الخاص ، وإنما كان عن رأي المسلمين وإجماعهم ، وقد جلب له بذلك القلوب بعد ما نفرت منه ، وأخمد نار الثورة وقضى على جميع معالمها.

__________________

(١) أعلام النساء ٣ / ١٢٠٨ ، بلاغات النساء / ١٢ ـ ١٩.

٢٦٥

حجّة الزهراء (عليها السّلام) :

أمّا حجّة الزهراء (عليها السّلام) على إرثها من أبيها ، فقد كانت وثيقة للغاية ، فقد كان استدلالها بآيات محكمات لا ترد ولا تكابر ، احتجّت أوّلاً على توريث الأنبياء الشامل لأبيها بآيتي داود وزكريا ، وهما صريحتان بتوريثهما ، واحتجّت ثانياً بعموم آيات المواريث ، وعموم آية الوصية ، ويجب الأخذ بتلك العمومات ، وهي بالطبع شاملة لأبيها ، وخروجه عنها إنّما هو من باب التخصيص بلا مخصص.

ثمّ ذكرت لهم أن ما يوجب التخصيص والخروج عن هذه العمومات إنّما هو فيما إذا اختلف الوارث ومورثه في الدين ، وتقول لهم : «فهل لكم إذ منعتموني عن إرثي من أبي إنّي وإيّاه من أهل ملّتين وهما لا يتوارثان؟ أوَلست وإيّاه من أهل ملّة واحدة؟!».

وقد بلغت بهذا المنطق إلى أبعد الغايات ، وقدّمت أروع الحجج في الدفاع عن حقّها.

تأميم فدك :

وبقي هناك شيء آخر ذات أهمية بالغة في المجال الاقتصادي وهي واردات فدك ، فقد كانت تقوم بسدّ جميع ما تحتاجه العترة الطاهرة من النفقات الاقتصادية ، وتوفّر لها أسباب المعيشة برخاء إلاّ أنها اُمّمت ، واُضيفت وارادتها إلى بيت المال ؛ لئلاّ تقوى شوكة علي (عليه السّلام) على مناهضة الحكم القائم.

وهنا بحوث بالغة الأهمية أنفقنا على تحقيقها وقتاً غير قليل ، وقد حُذفت وأعرضنا عن ذكرها ، فإنه لم تكن عندنا ـ يعلم الله ـ أيّة رغبة في الخوض

٢٦٦

في هذه البحوث المؤلمة ، إلاّ أنّ دراسة حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) دراسة منهجية سليمة وشاملة تتوقف على دراسة هذه الأحداث التي لعبت دورها الخطير في مسرح السياسة الإسلامية ، فقد أخذت تجري كلّها في فصل واحد مترابط ، وأعقبت أشدّ المحن والخطوب.

مآسي الزهراء (عليها السّلام) :

وطافت موجات قاسية من الهموم والأحزان ببضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) ووديعته ، فقد احتلّ الأسى قلبها الرقيق المعذّب ، وغشيتها سحب قاتمة من الكدر واللوعة على فقد أبيها الذي كان أعزّ عندها من الحياة ، فكانت تزور جدثه الطاهر فتطوف حوله ، وهي حيرى ذاهلة الّلب ، منهدّة الكيان فتلقي بنفسها عليه ، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها ووجهها وتطيل من شمّه وتقبيله ، فتجد في نفسها راحة ، وهي تبكي أمرّ البكاء وأشجاه ، وتقول بصوت حزين النبرات :

ماذا على مَن شمَّ تربةَ أحمدٍ

أنْ لا يشمَّ مدى الزمانِ غواليا

صُبّت عليّ مصائبٌ لو أنّها

صُبّت على الأيام صُرن لياليا

قل للمُغيّب تحت أطباق الثرى

إن كنت تسمعُ صرختي وندائيا

قد كنتُ ذات حمىً بظلِّ محمدٍ

لا أختشي ضيماً وكان جماليا

فاليومَ أخضعُ للذليل وأتّقي

ضيمي وأدفعُ ظالمي بردائيا

فإذا بكت قُمريّةٌ في ليلها

شجناً على غصنٍ بكيتُ صباحيا

فلأجعلنَّ الحُزن بعدك مُؤنسي

ولأجعلنّ الدمع فيك وشاحيا (١)

وتصوّر هذه الأبيات أروع تصوير وأصدقه للوعة الزهراء وشجونها

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ١٣١.

٢٦٧

فقد مثلت أحزانها المرهقة على فراق أبيها الذي أخلصت له في الحب كما أخلص لها أبوها ، ولو صبّت مصائبها الموجعة على الأيّام لخلعت زينتها.

كما صوّرت هذه الأبيات الحزينة مدى منعتها وعزّتها أيّام أبيها ، فقد كانت من أعزّ نساء المسلمين شأناً وأعلاهنّ مكانة ، ولكنها بعدما فقدت أباها تنكّر لها القوم ، وأجمعوا على الغضّ من شأنها ، حتّى صارت تخضع للذليل ، وتتقى ممن ظلمها بردائها إذ لم يكن هناك مَن يحميها ، ولم تكن تأوي إلى ركن شديد.

وقد خلدت إلى البكاء والحزن حتّى عُدّت من البكّائين الخمس (١) الذين مثّلوا الحزن والأسى في هذه الحياة ، وقد بلغ من عظيم وَجْدها على أبيها أنّ أنس بن مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصابها الأليم ، وكان ممّن وسّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مثواه الأخير فقالت له : «أنس بن مالك؟».

ـ نعم ، يا بنت رسول الله.

فقالت له وهي تلفظ قطعاً من قلبها المذاب : «كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!» (٢).

وقطع أنس كلامه وطاش لبّه ، وخرج وهو يذرف الدموع قد غرق في عالم من الأسى والشجون.

وألحّت بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على ابن عمّها أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن يريها القميص الذي غسّل فيه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فجاء به إليها فأخذته بلهفة وهي توسعه تقبيلاً وشمّاً ؛ لأنها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه ، ووضعته على عينيها ، وقلبها الزاكي يتقطّع من ألم الحزن والأسى

__________________

(١) البكّاؤون الخمس : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وعلي بن الحسين ، وفاطمة ، جاء ذلك في بحار الأنوار ١٠ / ٤٤.

(٢) سنن ابن ماجة / ١٨) ، المواهب الّلدنية للقسطلاني ٢ / ٣٨٢.

٢٦٨

حتّى غشي عليها ، وخلدت وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل ، وظلّ شبح أبيها يتابعها في كل فترة من حياتها القصيرة الأمد ، وقد ثقل على القوم ـ فيما يقول المؤرّخون ـ بكاؤها ، فشكوها إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وطلبوا منه أن يجعل لبكائها وقتاً خاصاً ؛ لأنهم لا يهجعون ولا يستريحون.

فكلّمها أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأجابته إلى ذلك ، فكانت في نهارها تخرج خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين (عليهما السّلام) فتجلس تحت شجرة من الأراك فتستظل تحتها ، وتبكي أباها طيلة النهار ، فإذا أوشكت الشمس أن تغرب تقدّمها الحسنان مع أبيهما ورجعوا قافلين إلى الدار التي خيّم عليها الحزن والأسى ، وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقطعوها ، فكانت تبكي في حرّ الشمس ، فقام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فبنى لها بيتاً أسماه : بيت الأحزان ، ظلّ رمزاً لأساها على مرّ العصور.

ونُسب إلى قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله) أنه قال فيه :

أم تراني اتخذتُ لا وعُلاها

بعد بيتِ الأحزان بيتَ سرورِ

وكانت حبيبة رسول الله تمكث نهارها في ذلك البيت الحزين تناجي أباها وتبكيه أمرّ البكاء وأقساه ، وإذا جاء الليل أقبل علي فأرجعها إلى الدار مع ولديها الحسن والحسين (عليهما السّلام).

وأثّر الحزن المرهق ببضعة النبي وريحانته حتّى فتكت بها الأمراض فلازمت فراشها ، ولم تتمكّن من النهوض والقيام ، فبادرت السّيدات من نساء المسلمين إلى عيادتها فقلن لها : كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟ فرمقتهنّ بطرفها ، وأجابتهنّ بصوت خافت مشفوع بالحزن والحسرات قائلة :

«أجدني كارهة لدنياكنّ ، مسرورة لفراقكنّ ، ألقى الله ورسوله

٢٦٩

بحسراتكنّ ؛ فما حُفظ لي الحقّ ، ولا رُعيت منّي الذمة ، ولا قُبلت الوصية ، ولا عُرفت الحرمة» (١).

وخيّم على النسوة صمت رهيب ، وانعكس على وجوههنّ حزن شديد ، وغامت عيونهن بالدموع ، وانطلقن إلى بيوتهن بخطى ثقيلة ، فعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول ، فكانت وقعها عليهم أشدّ من ضربات السيوف ، فقد عرفوا مدى تقصيرهم تجاه وديعة نبيّهم ، وهرعن بعض اُمّهات المؤمنين إلى عيادتها ، فقلن لها : يا بنت رسول الله ، صيري لنا في حضور غسلك حظّاً.

فلم تجبهن إلى ذلك ، وقالت : «أتردن أن تقلن فيَّ كما قلتنّ في اُمّي؟ لا حاجة لي في حضوركنّ».

إلى جنّة المأوى :

وتوالت الأمراض على وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) وفتك الحزن بجسمها النحيل المعذّب حتّى انهارت قواها ، وأصبحت لا تقوى على النهوض من فراشها ، وأخذت تذوي كما تذوي الأزهار عند الضماء ، فقد مشى إليها الموت سريعاً وهي في شبابها الغضّ الأهاب ، وقد حان موعد اللقاء القريب بينها وبين أبيها الذي غاب عنها وغابت معه عواطفه الفيّاضة.

ولمّا بدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة طلبت حضور ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين فعهدت إليه بوصيّتها ، وقد جاء فيها : أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم ، وأن لا يشيّعها أحد من الذين هضموها ؛ لأنهم أعداؤها وأعداء أبيها ـ على حدّ تعبيرها ـ ، كما عهدت إليه أن يتزوّج من بعدها بابنة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩٥.

٢٧٠

اُختها اُمامة ؛ لأنها تقوم برعاية ولديها الحسن والحسين اللذَين هما أعزّ عندها من الحياة ، وعهدت إليه أن يخفي موضع قبرها ليكون رمزاً لغضبها غير قابل للتأويل على مرّ الأجيال الصاعدة ، وضَمِن لها الإمام جميع ما عهدت إليه ، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون.

وأسرّت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى أسماء بنت عميس ، فقالت لها : «إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء بعد موتهنّ».

فقد كانت العادة أن يدرج على المرأة ثوب فيصفها لمَن رأى ، وقد كرهتْ ذلك فأحبت أن يصنع لها سرير لا يبدو فيه جسدها ، فعملت لها أسماء سريراً يستر مَن فيه قد شاهدته حينما كانت في الحبشة ، فلمّا نظرت إليه سرّت به ، وابتسمت وهي أوّل ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى (١).

وفي آخر يوم من حياتها أصبحت وقد ظهر بعض التحسّن على صحّتها ، وكانت بادية الفرح والسرور فقد علمت أنها في يومها تلحق بأبيها ، وعمدت إلى ولديها فغسّلت لهما ، وصنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم ، وأمرت ولديها بالخروج لزيارة قبر جدّهما ، وهي تلقي عليهما نظرة الوداع ، وقلبها يذوب من اللوعة والوجد ، وخرج الحسنان ، وقد هاما في تيّار من الهواجس ، وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان ، والتفتت وديعة النبي إلى سلمى بنت عميس ، وكانت تتولّى تمريضها وخدمتها ، فقالت لها : «يا اُمّاه».

ـ نعم يا حبيبة رسول الله.

ـ «اسكبي لي غسلاً».

فانبرت وأتتها بالماء ، فاغتسلت فيه ، وقالت لها ثانياً :

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٢.

٢٧١

«ايتيني بثيابي الجُدد».

فناولتها ثيابها ، وهتفت بها مرّة اُخرى : «اجعلي فراشي وسط البيت».

وذعرت سلمى وارتعش قلبها ، فقد عرفت أنّ الموت قد حلّ بوديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وصنعت لها سلمى ما أرادت فاضطجعت على فراشها ، واستقبلت القبلة والتفتت إلى سلمى قائلة بصوت خافت : «يا اُمّه ، إنّي مقبوضة الآن ، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد».

وأخذت تتلو آيات من الذكر الحكيم حتّى فارقت الحياة ، وسمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها لتلتقي بأبيها الذي كرهت الحياة بعده.

لقد ارتفعت تلك الروح إلى جنان الله ورضوانه ، فما أظلّت سماء الدنيا في جميع مراحل هذه الحياة مثلها قداسةً وفضلاً وشرفاً وعظمةً ، وقد انقطع بموتها آخر مَن كان في دنيا الوجود من نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وقفل الحسنان إلى الدار فلم يجدا فيها اُمّهما ، فبادرا يسألان سلمى عن اُمّهما ، ففاجأتهما وهي غارقة في العويل والبكاء قائلة : يا سيدَيَّ ، إنّ اُمّكما قد ماتت فاخبرا بذلك أباكما.

فكان ذلك كالصاعقة عليهما فهرعا مسرعين إلى جثمانها ، فوقع عليها الحسن (عليه السّلام) ، وهو يقول : «يا اُمّاه ، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني». وألقى الحسين (عليه السّلام) نفسه عليها وهو يعجّ بالبكاء قائلاً : «يا اُمّاه ، أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي».

وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً وتعزّيهما ، وتطلب منهما أن يسرعا إلى أبيهما فيخبراه ، فانطلقا إلى مسجد جدّهما رسول الله وهما غارقان في البكاء

٢٧٢

فلمّا قربا من المسجد رفعا صوتهما بالبكاء ، فاستقبلهما المسلمون ، وقد ظنّوا أنهما تذكّرا جدّهما فقالوا : ما يبكيكما يا بنَي رسول الله؟ لعلّكما نظرتما موقف جدّكما فبكيتما شوقاً إليه؟

ـ «أوَ ليس قد ماتت اُمّنا فاطمة؟».

واضطرب الإمام أمير المؤمنين وهزّ النبأ المؤلم كيانه ، وطفق يقول : «بمَن العزاء يا بنت محمد؟ كنت بك أتعزّى ففيم العزاء من بعدك؟». وخفّ مسرعاً إلى الدار وهو يذرف الدموع ، ولمّا ألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله أخذ ينشد :

لكلِّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ

وكلّ الذي دون الفراقِ قليلُ

وإن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ

دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ

وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام وهم يذرفون الدموع على وديعة نبيّهم ، فقد انطوت بموتها آخر صفحة من صفحات النبوة ، وتذكّروا بموتها عطف الرسول وحدبه عليهم ، وقد ارتجّت يثرب من الصراخ والعويل.

وعهد الإمام إلى سلمان الفارسي أن يعرّف الناس أنّ مواراة بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) تأخر هذه العشيّة ، وتفرّقت الجماهير ، وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الإمام لتلقي نظرة الوداع على جثمان بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فحجبتها أسماء وقالت لها : لقد عهدتْ إليّ أن لا يدخل عليها أحد (١).

ولمّا مضى من الليل شطره قام الإمام فغسّل الجسد الطاهر ، ومعه

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ / ٣٦٥.

٢٧٣

أسماء والحسنان (عليهما السّلام) ، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم ، وبعد أن أدرجها في أكفانها دعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان اُمّهم ليلقوا عليها النظرة الأخيرة ، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وعويلهم ، وبعد انتهاء الوداع عقد الإمام الرداء عليها ، ولمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى عليها ، وعهد إلى بني هاشم وخُلّص أصحابه أن يحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير ، ولم يخبر أيّ أحد بذلك سوى تلك الصفوة من أصحابه وأهل بيته ، وأودعها في قبرها وأهال عليها التراب.

ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، واندفع يؤبّنها بهذه الكلمات التي تمثّل لوعته وحزنه على هذا الرزء القاصم قائلاً : «السّلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، السريعة اللحاق بك ... قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصبيتك موضع تعزٍّ ؛ فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ... إنّا لله وإنّا اليه راجعون.

لقد استُرجعت الوديعة ، واُخذت الرهينة ؛ أمّا حزني فسرمد ؛ وأمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ... هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسّلام عليكما سلام مودع لا قالٍ ولا سئم ؛ فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن اُقم فلا عن سوء ظنٍّ بما وعد الله الصابرين» (١).

وطفحت هذه الكلمات بالألم الممض والحزن العميق ، فقد أعلن فيها شكواه للرسول على ما ألمّ بابنته من الخطوب والنكبات ، ويطلب منه أن يلحّ في السؤال منها ؛ لتخبره بما جرى عليها من الظلم والضيم في تلك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ محمد عبده ٢ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٧٤

الفترة القصيرة الأمد التي عاشتها.

كما أعلن (سلام الله عليه) عن شجاه المرهق على بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فهو في حزن دائم لا تنطفئ فيه نار اللوعة حتّى يلتحق إلى جوار الله. وينصرف الإمام عن قبر الصدّيقة لكن لا عن سأم ولا عن كراهية ، وإنما استجابةً لتعاليم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر.

وعاد الإمام (عليه السّلام) إلى بيته كئيباً حزيناً ، ينظر إلى أطفاله وهم يبكون على اُمّهم أمرّ البكاء وأشجاه ، فتهيج أحزانه. وقد آثر (عليه السّلام) العزلة عن الناس وعدم الاشتراك بأيّ أمر من اُمورهم ؛ فقد أعرض عن القوم وأعرضوا عنه ، لا يشاركونه بأيّ أمر من اُمورهم ، اللّهمّ إلاّ إذا حلّت في ناديهم مشكلة لا يهتدون إلى حلّها فزعوا إليه لينتهلوا من نمير عمله.

وقد قطع الحسين (عليه السّلام) دور الطفولة في هذه المرحلة المحزنة وقلبه قد أترع بالأحزان والآلام ، فقد فَقَدَ في تلك الفترة الحزينة جدّه الذي كان يفيض عليه بالعطف والحنان ، وفَقَدَ اُمّه الروؤم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور ، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغضّ الأهاب.

ومن الطبيعي أنّه ليس أكثر حزناً ولا أقوى صدمة على الطفل من فَقْد اُمّه العطوف ؛ فإنه يفقد معها جميع آمال حياته.

لقد رأى الإمام الحسين (عليه السّلام) وهو في سنّه المبكّر ما عانته اُمّه من عظيم الرزايا والخطوب فكان لها أعمق الأثر وأقساه في نفسه ، وقد أعطته هذه الأحداث دراسة عن ميول الناس واتّجاهاتهم ، وأنهم لا يندفعون نحو الحق وإنّما ينسابون وراء أطماعهم وشهواتهم.

٢٧٥

ولاة أبي بكر :

كان جهاز الحكم الإداري في عهد أبي بكر خاضعاً لإرادة عمر بن الخطاب فهو المخطط لسياسة الدولة ، والواضع لبرامجها الداخلية والخارجية قد وثق به أبو بكر ، وأسند إليه جميع مهام حكومته ، فلم يعقد أيّ عقد أو يقطع أيّ عهد إلاّ عن رأيه ومشورته ، كما لم يوظّف أيّ عامل إلاّ بعد عرضه عليه.

أمّا تعيين الولاة على الأقطار والأقاليم الإسلامية ، أو إسناد أيّ منصب حسّاس من مناصب الجيش فإنه لا يمنح لأحد إلاّ بعد إحراز الثقة به والإخلاص منه للحكم القائم ، والتجاوب مع مخططاته السياسية ، فمَن كانت له أدنى ميول معاكسة لرغبات الدولة فإنه لا يرشّح لأيّ عمل من أعمالها ، ويقول المؤرّخون : إنّ أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام ، ولم يكن هناك أيّ موجب لعزله إلاّ لأن عمر نبّهه على ميوله لعلي ، وبيّن له مواقفه يوم السقيفة التي كانت مناهضة لأبي بكر (١).

ولم يعهد أبو بكر بأيّ عمل أو منصب لأحد من الهاشميين ، وقد كشف عمر الغطاء عن سبب حرمانهم في حواره مع ابن عباس : من أنه يخشى إذا مات وأحد الهاشميين والياً على قطر من الأقطار الإسلامية أن يحدث في شأن الخلافة ما لا يحب (٢).

كما حرم الأنصار من وظائف الدولة ؛ وذلك لميولها الشديد إلى علي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٥.

(٢) مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الأثير ٥ / ١٣٥.

٢٧٦

(عليه السلام) ، أمّا عماله وولاته فقد كان معظمهم من الاُسرة الاُمويّة ، وهم :

١ ـ أبو سفيان : استعمله عاملاً له على ما بين آخر حدّ للحجاز وآخر حدّ من نجران (١).

٢ ـ يزيد بن أبي سفيان : استعمل يزيد بن أبي سفيان والياً على الشام (٢). ويقول المؤرّخون : إنه خرج مودّعاً له إلى خارج يثرب.

٣ ـ عتاب بن أسيد : عيّن أبو بكر عتاب بن أسيد بن أبي العاص والياً على مكة (٣).

٤ ـ عثمان بن أبي العاص : جعله والياً على الطائف (٤) ، ومنذ ذلك اليوم علا نجم الاُمويِّين ، واستردّوا كيانهم بعد أن فقدوه في ظلّ الإسلام.

وأبدى المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من حرمان بني هاشم من التعيين في وظائف الدولة ومنحها للعنصر الاُموي الذي ناهض النبي (صلّى الله عليه وآله) وناجزه في جميع المواقف ، يقول العلائلي : فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الاُمويّون وحدهم ، لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم ، وآثروا في سياستها ، وهم بعيدون عن الحكم كما يحدّثنا المقريزي في رسالته (النزاع والتخاصم) (٥).

إنّ القابليات الدبلوماسية والإحاطة بشؤون الإدارة والحكم ، والمعرفة

__________________

(١) فتوح البلدان ـ للبلاذري / ١٠٣.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٢ / ٢٨٩.

(٣) الإصابة ٢ / ٤٤٤.

(٤) تاريخ ابن الأثير ٢ / ٢٨٩.

(٥) الإمام الحسين (عليه السّلام) / ١٩١.

٢٧٧

بشؤون الدين كان متوفرة عند الكثيرين من المهاجرين والأنصار من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكان الأجدر تعيين هؤلاء في مناصب الدولة ، وإبعاد الاُسرة الاُموية عنها ؛ لوقاية المجتمع الإسلامي من مكائدها وشرورها.

سياسته المالية :

وقبل أن نعرض إلى السياسة المالية التي نهجها أبو بكر نودّ أن نعرض إلى السياسة المالية التي وضع برامجه الإسلام ، فقد استهدف فيها إذابة الفقر ، ومكافحة الحرمان وتطوير الحياة الاقتصادية بحيث تتحقق الفرص المتكافئة لعامة المواطنين ، بحيث لا يبقى أي ظلّ للبؤس والحاجة ، ويعيش الجميع حياة يسودها الرخاء والرفاه.

وكان أهم ما يعني به الإسلام إلزام الولاة بالاحتياط في أموال الدولة ، فلم يجِز لهم بأيّ حال أن يصطفوا منها لأنفسهم شيئاً ، كما لم يجِز لهم أن ينفقوا أيّ شيء منها لتوطيد حكمهم ودعم سلطانهم. وكان الطابع العام لهذه السياسة المساواة بين المسلمين في العطاء ، فليس لرئيس الدولة أن يميّز قوماً على آخرين ؛ فإنّ ذلك يخلق الطبقية ، ويوجد الأزمات الحادّة في الاقتصاد العام ، ويعرّض المجتمع إلى كثير من الويلات والخطوب.

ويقول المؤرّخون : إنّ أبا بكر قد ساوى في العطاء بين المسلمين ، ولم يشذ عمّا سنّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذا المجال ، إلاّ أنّ بعض البوادر التي ذكرت تجافي ذلك فقد وَهَب لأبي سفيان ما كان في يده من أموال الصدقة ؛ كسباً لعواطفه التي تشترى وتباع بالأموال (١) ، كما قام بتوزيع شطر من الأموال على

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٢٠٢.

٢٧٨

المهاجرين والأنصار ، فبعث إلى امرأة من بني عدي بقسم من المال مع زيد بن ثابت ، فأنكرت ذلك وقالت : ما هذا؟

ـ قسم قسمه أبو بكر للنساء.

ـ أترشونني عن ديني؟! والله لا أقبل منه شيئاً. وردّت المال عليه (١). هذه بعض المؤاخذات التي ذكرها بعض النقّاد لسياسته المالية.

عهده لعمر :

ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه ، وقد صمّم على تقليد زميله عمر بن الخطاب شؤون الخلافة ، إلاّ أنّ ذلك لاقى معارضة الكثيرين من الصحابة ، فقد انبرى إليه طلحة قائلاً : ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً ، تفرق منه النفوس وتنفضّ منه القلوب (٢)؟

وسكت أبو بكر ، فاندفع طلحة يوالي إنكاره عليه قائلاً : يا خليفة رسول الله ، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يديه ، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة (٣)؟

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٥٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٤٣ ط دار إحياء الكتب العربية.

٢٧٩

وبادر أكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر يعلنون كراهيتهم لخلافة عمر ، فقد قالوا له : نراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا ، وأنت بين أظهرنا ، فكيف إذا وليت عنّا ، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك ، فما أنت قائل؟

فأجابهم أبو بكر : لئن سألني الله لأقولنّ : استخلفت عليهم خيرهم في نفسي (١).

وكان الأجدر به فيما يقول المحققون أن يستحيب لعواطف الأكثرية الساحقة من المسلمين ، فلا يولي عليهم أحداً إلاّ بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه ، أو يستشير أهل الحلّ والعقد عملاً بقاعدة الشورى ، إلاّ أنه استجاب لعواطفه الخاصة المترعة بالحبّ لعمر ، وقد طلب من معقيب الدوسي ان يخبره عن رأي المسلمين في ذلك ، فقال له : ما يقول الناس في استخلافي عمر؟

ـ كرهه قوم ورضيه آخرون.

ـ الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟

ـ بل الذين كرهوه (٢).

ومع علمه بأن أكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الأمر فكيف فرضه عليهم ، ولم يمنحهم الحرية في انتخاب مَن شاؤوا لرئاسة الحكم؟!

وعلى أيّ حال فقد لازم عمر أبا بكر في مرضه لا يفارقه ؛ خوفاً من التأثير عليه ، وكان يعزّز مقالته ورأيه في انتخابه له قائلاً :

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ١٩.

(٢) الآداب الشرعية والمنح المرعية ١ / ٤٩.

٢٨٠