حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٣

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا) (١).

لقد كمل الدين بولاية أمير المؤمنين ، وتمّت نعمة الله على المسلمين بسمو أحكام دينهم ، وسمو قيادتهم التي تحقّق آمالهم في بلوغ الحياة الكريمة ، وقد خطا النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك الخطوة الأخيرة في صيانة اُمّته من الفتن والزيغ ، فلم يترك أمرها فوضى ـ كما يزعمون ـ وإنّما عيّن لها القائد والموجّه الذي يعنى بأمورها الاجتماعية والسياسية.

إنّ هذه البيعة الكبرى التي عقدها الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أوثق الأدلّة على اختصاص الخلافة والإمامة به ، وقد احتجّ بها الإمام الحسين (عليه السّلام) في مؤتمره الذي عقده بمكة لمعارضة حكومة معاوية وشجب سياسته ، فقد قال (عليه السّلام) : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد صنع بنا وبشيعتنا ما علمتم ورأيتم ، وشهدتم وبلغكم ، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدّقوني ، وإن كذبت فكذّبوني. واسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، ومَن ائتمنتموه من الناس ووثقتم به فادعوه إلى ما تعلمون من حقّنا ؛ فإنّا نخاف أن يدرس هذا الحقّ ، ويذهب ويغلب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون».

وما ترك شيئاً مما أنزل الله في القرآن فيهم إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً مما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه واُمّه ونفسه وأهل بيته إلاّ رواه ، وكل ذلك يقولون : اللّهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعون : اللّهمّ نعم ، قد حدّثني به مَن أصدقه وآتمنه من الصحابة. وقال (عليه السّلام) في عرض استدلاله :

__________________

(١) ذكر نزول الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ / ٢٩٠ ، والسيوطي في الدر المنثور وغيرهما.

٢٠١

«أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله نصّبه ـ يعني علياً ـ يوم غدير خمٍّ ، فنادى له بالولاية ، وقال : ليبلّغ الشاهد الغائب». قالوا : اللّهمّ نعم (١).

إنّ البيعة للإمام في يوم عيد الغدير جزء من رسالة الإسلام ، وركن من أركان الدين ، وهي تستهدف صيانة الاُمّة من التيّارات العقائدية ، ووقايتها من الانحراف.

مرض النبي (صلّى الله عليه وآله) :

ولمّا قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) راجعاً إلى يثرب بدأت صحته تنهار يوما بعد يوم ، فقد ألم به المرض ، وأصابته حمى مبرحة حتّى كأنّ به لهباً منها ، فكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجه وعوّاده أيديهم عليها شعروا بحرّها (٢) ، وقد وضعوا إلى جواره إناء فيه ماء بارد ، فما زال يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول : «ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ».

وهرع المسلمون إلى عيادته وقد خيّم عليهم الأسى والذهول ، فازدحمت حجرته بهم فنعى إليهم نفسه ، وأوصاهم بما يضمن لهم السعادة والنجاه قائلاً : «أيها الناس ، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي». ثمّ أخذ بيد وصيّه وخليفته من بعده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قائلاً لهم :

__________________

(١) الغدير ١ / ١٩٩.

(٢) البداية والنهاية ٥ / ٢٦٦.

٢٠٢

«هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض» (١).

وقد قرّر (صلّى الله عليه وآله) بذلك أهمّ القضايا المصيرية لاُمّته ، وعيّن لها القائد العظيم الذي تنال به جميع أهدافها وآمالها.

استغفاره لأهل البقيع :

وحينما ألم المرض بالنبي (صلّى الله عليه وآله) أيقن بمفارقته لهذه الحياة ، وحدّثته نفسه أن يذهب ليودّع مقابر المسلمين ويستغفر لهم ، فاستدعى أبا مويهبة في غلس الليل البهيم ، فلمّا مثل عنده أمره أن يمضي معه إلى البقيع قائلاً له : «لقد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع ؛ فلذا بعثت إليك للانطلاق معي».

وسار النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى انتهى إلى بقيع الغرقد ، فسلّم على الأموات وقال لهم : «السّلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ؛ أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاُولى».

لقد استشفّ (صلّى الله عليه وآله) من وراء الغيب ما تُمنى به اُمّته من الانقلاب على الأعقاب ، وما تصاب به من الانحراف بدينها وعقيدتها ، وأنها ستواجه أمواجاً رهيبة من الفتن والضلال تعصف بها إلى مجاهل سحيقة من هذه الحياة ، والتفت (صلّى الله عليه وآله) إلى أبي مويهبة قائلاً له : «يا أبا مويهبة ، إنّي قد اُوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثمّ الجنّة ، فخُيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنّة».

__________________

(١) الصواعق المحرقة.

٢٠٣

فبهر أبو مويهبة وانطلق قائلاً : بأبي أنت واُمّي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثمّ الجنّة. فقال (صلّى الله عليه وآله) : «لا والله ، لقد اخترت لقاء ربي والجنّة».

واستغفر (صلّى الله عليه وآله) لأهل البقيع ثمّ انصرف إلى منزله (صلّى الله عليه وآله) (١) فاستقبله عائشة وكانت تشكو صداعاً في رأسها وهي تقول : وا رأساه!

ـ «بل أنا والله يا عائشة أقول وا رأساه! ما ضرّك لو متّ قبلي فقمت عليك ، وكفّنتك وصلّيت عليك ودفنتك؟». فأثار ذلك حفيظتها ، واندفعت تقول : والله لكأنّي بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك.

فتبسّم النبي (ص) (٢) وجعل يطوف بأزواجه ، وقد رأى نفسه أنّه في حاجة إلى التمريض ، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة فأذنّ له في ذلك ، فخرج عاصباً رأسه معتمداً على علي بن أبي طالب وعمّه العباس ، وقدماه لا تكادان تحملانه من المرض حتّى دخل بيت عائشة.

سريّة اُسامة :

واستبانت التيارات الحزبية للرسول (صلّى الله عليه وآله) وأيقن أنّها جادّة في

__________________

(١) البداية والنهاية / ٢٢٤ ، سيرة ابن هشام ٣ / ٩٣ ، تاريخ الطبري ٣ / ١٩٠ ، وذكرت المصادر الشيعية : إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لمّا أحسّ بالمرض أخذ بيد علي وتبعه الناس فتوجّه إلى البقيع واستغفر لأهله.

(٢) البداية والنهاية ٥ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

٢٠٤

مخططاتها الرامية لصرف الخلافة عن أهل البيت (عليهم السّلام) فرأى أنّ خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يبعث بجميع أصحابه لغزو الروم ؛ حتّى تخلو عاصمته منهم ، ليتمّ الأمر إلى ولي عهده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بسهولة ويسر ، فأمر أعلام المهاجرين والأنصار بذلك ، وكان منهم ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة الجراح ، وبشير بن سعد (١) ، وأمّر عليهم اُسامة بن زيد وهو شاب حدث السّن ، وكانت هذه البعثة سنة إحدى عشرة للهجرة لأربع ليال بقين من صفر.

وقال (صلّى الله عليه وآله) لاُسامة : «سر إلى موضع قتل أبيك فاوطئهم الخيل فقد وليّتك هذا الجيش ؛ فاغز صباحاً على أهل اُبْنى (٢) وحرّق عليهم ، وأسرع السير لتسبق الأخبار ، فإن أظفرك الله عليهم فأقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاّء ، وقدّم العيون والطلائع معك».

وفي اليوم التاسع والعشرين من صفر رأى جيشه قد مُني بالتمرّد فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم العسكرية فساءه ذلك ، وخرج مع ما به من المرض الشديد فحثّهم على المسير ، وعقد بنفسه اللواء لاُسامة وقال له : «اغزُ بسم الله ، وفي سبيل الله ، وقاتل مَن كفر بالله». فخرج اُسامة بلوائه معقوداً ودفعه إلى بريدة ، وعسكر بـ (الجرف).

وتثاقل فريق من الصحابة من الالتحاق بالمعسكر ، وأظهر الطعن والاستخفاف بالقائد العام للجيش ، يقول له عمر :

__________________

(١) كنز العمال ٥ / ٣١٢ ، طبقات ابن سعد ٤ / ٤٦ ، تاريخ الخميس ٢ / ٤٦.

(٢) اُبْنى ، بضم الهمزة وسكون الباء ثمّ نون مفتوحة بعدها ألف مقصورة : ناحية بالبلقاء من أرض سوريا بين عسقلان والرملة ، تقع بالقرب من مؤتة التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب.

٢٠٥

مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنت عليّ أمير؟!

وانتهت كلماته إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقد ازدادت به الحمّى وأخذ منه الصداع القاسي مبلغاً عظيماً ، فغضب (صلّى الله عليه وآله) وخرج وهو معصب الرأس قد دثّر بقطيفته ، وقد برح به الأسى والحزن ، فصعد المنبر وأظهر سخطه على عدم تنفيذ أوامره قائلاً : «أيها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة! ولئن طعنتم في تأميري اُسامة ، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله. وايم الله ، إنه كان لخليقاً بالإمارة ، وإنّ ابنه من بعده لخليق بها».

ثمّ نزل عن المنبر ودخل بيته (١) وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق باُسامة وهو يقول لهم : «جهّزوا جيش اُسامة». «نفذوا جيش اُسامة». «لعن الله مَن تخلّف عن جيش اُسامة».

ومن المؤسف أنّه لم تثِر هذه الأوامر المشددة حفائظ نفوسهم ، ولم يرهف عزائمهم هذا الاهتمام البالغ من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش واعتذروا للرسول (صلّى الله عليه وآله) بشتّى المعاذير ، وهو لم يمنحهم العذر وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضى ، وقد حلّلنا أبعاد هذه الحادثة المؤلمة ودلّلنا على مقاصد القوم في الجزء الأوّل من كتابنا حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السّلام).

__________________

(١) السيرة الحلبية ٣ / ٣٤.

٢٠٦

إعطاء القصاص من نفسه :

وألم المرض بالنبي (صلّى الله عليه وآله) فكان يعاني منه أشدّ العناء ، فاستدعى الفضل بن عباس فقال له : «خذ بيدي يا فضل». فأخذ بيده حتّى أجلسه على المنبر ، وأمره أن ينادي بالناس الصلاة جامعة ، فنادى الفضل بذلك فاجتمعت الناس فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أيها الناس ، إنّه قد دنا منّي خلوف من بين أظهركم ، ولن تروني في هذا المقام فيكم ، وقد كنت أرى أنّ غيره غير مغنٍ عنّي حتّى أقومه فيكم.

ألا فمَن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد ، ومَن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ، ومَن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد ، ولا يقولنّ قائل أخاف الشحناء من قِبَل رسول الله ، ألا وإنّ الشحناء ليست من شأني ولا من خُلقي ، وإنّ أحبّكم إليّ مَن أخذ حقّاً إن كان له عليّ ، أو حللني فلقيت الله عزّ وجلّ وليس لأحد عندي مظلمة».

وقد أسس (صلّى الله عليه وآله) بذلك معالم العدل ، ومعالم الحقّ بما لم يؤسسه أيّ مصلح في العالم ، فقد أعطى القصاص من نفسه ليخرج من هذه الدنيا وليس لأيّ أحد حقّ أو مال أو تبعة عليه ، فانبرى إليه رجل فقال له : يا رسول الله ، لي عندك ثلاثة دراهم.

فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أمّا أنا فلا اُكذّب قائلاً ، ولا مستحلفه على يمين ، فبم كانت لك عندي؟».

قال الرجل : أما تذكر أنه مرّ بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم.

٢٠٧

فأمر (صلّى الله عليه وآله) الفضل أن يعطيها له ، وعاد (صلّى الله عليه وآله) في خطابه فقال :

«أيها الناس ، مَن عنده من الغلول شيء فليردّه». فقام إليه رجل فقال له : يا رسول الله ، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «لِمَ غللتها؟».

ـ كنت إليها محتاجاً.

فأمر (صلّى الله عليه وآله) الفضل أن يأخذها منه فأخذها ، وعاد (صلّى الله عليه وآله) في مقالته فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أيها الناس ، مَن أحسّ من نفسه شيئاً فليقم أدع الله له».

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، إنّي لمنافق ، وإنّي لكذوب ، وإنّي لشؤوم. فزجره عمر فقال له : ويحك أيها الرجل! لقد سترك الله لو سترت على نفسك. فصاح به النبي (صلّى الله عليه وآله) : «صه يابن الخطاب ، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة».

ودعا للرجل فقال : «اللّهمّ ارزقه صدقاً وإيماناً ، واذهب عنه الشؤم» (١).

وانبرى إليه رجل من أقصى القوم يسمّى سوادة بن قيس فقال له : يا رسول الله ، إنك ضربتني بالسوط على بطني ، وأنا أريد القصاص منك فأمر (صلّى الله عليه وآله) بلالاً أن يحضر السوط ليقتصّ منه سوادة ، وانطلق بلال وهو مبهور ، فراح يجوب في أزقّة يثرب وهو رافع عقيرته قائلاً : أيها الناس ، أعطوا القصاص من أنفسكم في دار الدنيا ، فهذا رسول الله قد أعطى القصاص من نفسه.

ومضى إلى بيت النبي فأخذ السوط وجاء به إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فأمر أن

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ / ٢٣١.

٢٠٨

يناوله إلى سوادة ليقتصّ منه ، فأخذه سوادة وأقبل نحو رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد اتّجه المسلمون بقلوبهم إلى هذا الحادث الرهيب ، فالرسول (صلّى الله عليه وآله) قد فتك به المرض وألمّ به الدّاء وهو يعطي القصاص من نفسه.

ووقف سوادة على رسول الله فقال له : يا رسول الله ، اكشف لي عن بطنك. فكشف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن بطنه ، فقال له سوادة بصوت خافت حزين النبرات : يا رسول الله ، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له رسول الله ، فوضع سوادة فمه على بطن رسول الله يوسعها تقبيلاً ودموعه تتبلور على خديه قائلاً : أعوذ بموضع القصاص من رسول الله من النار يوم النار.

فقال له رسول الله : «أتعفو يا سوادة أم تقتص؟».

ـ بل أعفو يا رسول الله.

فرفع النبي (صلّى الله عليه وآله) يديه بالدعاء قائلاً : «اللّهمّ اعفو عن سوادة كما عفا عن نبيّك» (١).

وذهل المسلمون وهاموا في تيارات من الهواجس والأفكار ، وأيقنوا بنزول القضاء من السماء ، فقد انتهت أيّام نبيّهم ، ولم يبقَ بينهم إلاّ لحظات هي أعزّ عندهم من الحياة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٦ / ١٠٣٥.

٢٠٩

التصدّق بما عنده :

وكانت عند النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل مرضه سبعة دنانير أو ستة فخاف (صلّى الله عليه وآله) أن يقبضه الله وهي عنده فأمر أهله بالتصدّق بها ، ولكن انشغالهم بتمريضه أنساهم ذلك ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يفكر بها فسألهم عنها فأجابوه : إنها لا تزال باقية عندهم ، فطلب منهم أن يحضروها ، فلمّا جيء بها إليه وضعها في كفه وقال : «ما ظنّ محمد بربّه لو لقى الله وعنده هذه».

ثمّ تصدّق بها ، ولم يبقَ عنده أي شيء من حطام الدنيا (١) ، وقد تحرّج (صلّى الله عليه وآله) في حياته عن جميع ملاذ هذه الحياة ، فكان فيما يقول الرواة : إنّه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير (٢) ، وقد توفّي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (٣) ، وكانت وسادته من أدم حشوها ليف (٤) ، وكان يجلس على حصير حتّى أثر في جنبه فقال له أصحابه : يا رسول الله ، لو اتخذنا لك وطاء. فقال لهم : «ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظلّ تحت شجرة ثمّ راح وتركها» (٥).

وقد جاءته فاطمة بكسرة خبز ، فقال لها : «ما هذه الكسرة يا فاطمة؟». قالت : «قرص خبز

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ١٠٤.

(٢) صحيح البخاري ـ كتاب الأطعمة.

(٣) مسند أحمد ٤ / ١٠٥.

(٤) صحيح مسلم ـ كتاب اللباس والزينة.

(٥) صحيح الترمذي ٦ / ٦٠.

٢١٠

لم تطب نفسي حتّى أتيتك بها». فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أما أنه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام» (١).

وكان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء (٢).

وروت عائشة عن زهده فقالت : ظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صائماً ثمّ طوى ، ثمّ ظلّ صائماً ثمّ طوى ، ثمّ ظلّ صائماً ، فقال : «يا عائشة ، إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمد وآل محمد. يا عائشة ، إنّ الله لم يرضَ من اُولي العزم من الرسل إلاّ بالصبر على مكروهها ، والصبر عن محبوبها ، ثمّ لم يرضَ منّي إلاّ أن يكلّفني ما كلّفهم ، فقال : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ) ، وإنّي والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلاّ بالله» (٣).

وظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على هذه الحالة زاهداً في الدنيا غير حافل بجميع ما فيها من المتع والنعم حتّى توفّاه الله واختاره إليه.

رزية يوم الخميس :

واستشفّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) من التحرّكات السياسية التي صدرت من أعلام صحابته أنهم يبغون لأهل بيته الغوائل ، ويتربّصون بهم الدوائر ، وإنهم مجمعون على صرف الخلافة عنهم ، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يصون اُمّته من الزيغ ، ويحميها من الفتن فقال (صلّى الله عليه وآله) :

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ١ القسم ٢ / ١١٤.

(٢) صحيح الترمذي ٢ / ٥٧.

(٣) الدر المنثور للسيوطي ، نصّ عليه في تفسيره لقوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ).

٢١١

«ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» (١). وهل هناك نعمة على المسلمين أعظم من هذه النعمة؟ إنّه ضمان من سيّد الأنبياء ـ الذي لا ينطق عن الهوى ـ أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها ، وتواكب الحقّ وتهتدي إلى سواء السبيل.

إنّه صيانة لتوازن الاُمّة واستقامتها ، وضمان لرخائها وأمنها ، وتطور لحياتها.

إنه التزام من سيّد الكائنات بأن لا تصاب اُمّته بنكسة أو أزمة في ميادينها السياسية والاقتصادية.

حقاً إنها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تاريخ هذه الاُمّة ، ولكن القوم لم يستغلوها ، فقد علموا قصد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأنه سينصّ على باب مدينة علمه وأبي سبطيه ، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم ، فردّ عليه أحدهم : حسبنا كتاب الله.

ولو كان هذا القائل يحتمل أن النبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على الشؤون الدينية لَما ردّ عليه بهذه الجرأة ، ولكنه علم قصده من النصّ على خلافة أمير المؤمنين.

وكثر الخلاف بين القوم فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به الرسول ، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها خوفاً على فوات مصالحها ، وانطلقت النسوة من وراء الستر فأنكرن عليهم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في ساعاته الأخيرة من حياته ، فقلن لهم : ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟!

فثار عمر وصاح فيهنّ خوفاً على الأمر أن يفلت منهم ، فقال لهنّ :

__________________

(١) الرواية أخرجها الطبراني في الأوسط ، والبخاري ، ومسلم وغيرهم.

٢١٢

إنكنّ صويحبات يوسف ؛ إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ ، وإذا صحّ ركبتنّ عنقه.

فرمقه الرسول وصاح به : «دعوهنّ فإنهنّ خير منكم».

وبدأ صراع رهيب بين القوم ، وكادت أن تفوز الجبهة التي أرادت تنفيذ ما أمر به الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فانبرى أحدهم فسدّد سهماً لِما رامه النبي (صلّى الله عليه وآله) وأفسد عليه ما أراد ، قائلاً : إنّ النبي ليهجر (١).

لقد أنستهم الأطماع السياسية مقام النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي زكّاه الله وعصمه من الهجر وغيره مما ينقص الناس. ألم يسمعوا كلام الله يتلى عليهم في اناء الليل وأطراف النهار ، وهو يعلن تكامل النبي (صلّى الله عليه وآله) وتوازن شخصيته ، قال تعالى : (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى). وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم ٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).

لقد وعى القوم آيات الكتاب في حقّ نبيّهم لم يخامرهم شكّ في عصمته وتكامل شخصيته ، ولكن الأطماع السياسية دفعتهم إلى هذا الموقف الذي يحزّ في نفس كل مسلم ، وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب

__________________

(١) نصّ على الحادثة المؤلمة جميع المؤرّخين في الإسلام ، وذكرها البخاري في صحيحه عدّة مرّات في ٤ / ٦٨ و ٦٩ ، ٦ / ٨ ، إلاّ أنه كتم اسم القائل ، وفي نهاية غريب الحديث ، وشرح النهج المجلد الثالث / ١١٤ تصريح باسمه.

٢١٣

يبكي حتّى تسيل دموعه على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، وهو يصعد آهاته ويقول : يوم الخميس ، وما يوم الخميس؟! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً». فقالوا : إنّ رسول الله يهجر (١).

حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى ، فقد حيل بين المسلمين وبين سعادتهم وتقدّمهم في ميادين الحق والعدل.

فجيعة الزهراء (عليها السّلام) :

ونخب الحزن قلب بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، وبرح بها الألم وأضناها الأسى حينما علمت أنّ أباها مفارق لهذه الحياة ، فقد جاءت إليه تتعثّر بخطاها وهي مذهولة كأنها تعاني آلام الاحتضار ، فجلست إلى جانبه وهي محدقة بوجهه وسمعته يقول : «وا كرباه!».

ويمتلئ قلبها الطاهر بالأسى والحزن والحسرات فتسرع إليه قائلة : «وا كربي لكربك يا أبتي!». فأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) حينما رأى حبيبته كأنها صورة جثمان قد فارقته الحياة فقال لها مسلّياً : «لا كرب على أبيك بعد اليوم» (٢).

فكانت هذه الكلمات أشدّ على نفسها من هول الصاعقة ، فقد علمت أنّ أباها سيفارقها ، ورأها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي ولهى حائرة ، قد خطف

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٥٥ ، وغيره.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ١١٢.

٢١٤

الحزن لونها وهامت في تيارات مذهلة من الأسى ، فأراد أن يسلّيها فأمرها بالدنو إليه وأسرّ إليها بحديث فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع ، ثمّ أسرّ إليها ثانية فقابلته ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور ، وعجبت عائشة من ذلك وراحت تقول : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن!

وسألتها عائشة عمّا أسرّ إليها أبوها فأشاحت بوجهها عنها وأبت أن تخبرها ، ولمّا انصرمت الأيّام أخبرت (سلام الله عليها) عن ذلك فقالت أخبرني : «إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرّة ، وإنه عارضني في هذا العام به مرّتين ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي».

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها ، وأمّا سبب سرورها وابتهاجها فتقول أخبرني : «إنك أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ، ونِعم السلف أنا لك ... ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة؟» (١).

لقد كان السبب في إخماد لوعتها إخباره لها أنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به ، وأخذ (صلّى الله عليه وآله) يخفّف عنها لوعة المصاب قائلاً لها : «يا بنية لا تبكي ، وإذا متّ فقولي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ؛ فإنّ فيها من كل ميت معوضة».

وقالت له بصوت خافت حزين النبرات : «ومنك يا رسول الله؟».

ـ «نعم ومنّي» (٢).

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ١١٣.

(٢) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٣٣.

٢١٥

واشتدّ الوجع برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فجعلت تبكي وتقول لأبيها : «أنت والله كما قال القائل :

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ

ثِمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ

وأفاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لها : «هذا قول عمّك أبي طالب». وقرأ قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

وروى أنس بن مالك قال : جاءت فاطمة ومعها الحسن والحسين إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه فانكبّت عليه ، وألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء ، فنهاها النبي عن ذلك فانطلقت إلى بيتها والنبي تسبقه دموعه ، وهو يقول : «اللّهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كل مؤمن».

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرات وهو مثقل بالهمّ ؛ لعلمه بما سيجري عليهم من المحن والخطوب.

ميراث النبي (صلّى الله عليه وآله) لسبطيه (عليهما السّلام) :

ولمّا علمت سيّدة النّساء أنّ لقاء أبيها بربّه قريب خفّت إلى دارها وصحبت معها ولديها الحسن والحسين ، وهي تذرف الدموع ، وتطلب منه أن يورثهما شيئاً من مكارم نفسه التي عطّر شذاها العالم بأسره قائلة : «أبَه ، هذان ولداك فورّثهما منك شيئاً».

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٣٣.

٢١٦

ويفيض عليهما الرسول ببعض خصائصه وذاتيّاته التي امتاز بها على سائر النبيين قائلاً : «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي ؛ وأمّا الحسين فإنّ له جرأتي وجودي» (١).

ويقومان الحسنان من عند جدّهما وقد ورثا منه الهيبة والسؤدد والجرأة والجود ، وهل هناك مما تحويه هذه الأرض أثمن وأعزّ من هذا الميراث؟ الذي لا صلة له بعالم المادة وشؤونها ، وإنّما يحوي كمالات النبوّة وخصائصها.

وصيّة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالسّبطين (عليهما السّلام) :

وأوصى النبي (صلّى الله عليه وآله) الإمام علي (عليه السّلام) برعاية سبطيه ، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيّام ، فقد قال له : «يا أبا الريحانتين ، اُوصيك بريحانتَيَّ من الدنيا ، فعن قليل ينهدم ركناك ، والله خليفتي عليك».

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٤٦٥ ، وفي نظم درر السّمطين / ٢١٢ : إنّ فاطمة (عليها السّلام) قالت : «يا رسول الله ، انحل ابني الحسن والحسين». فقال : «أنحل الحسن المهابة والحلم ، وأنحل الحسين السماحة والرحمة». وفي رواية : «نحلت هذا الكبير المهابة والحلم ، ونحلت الصغير المحبة والرضى». وفي ربيع الأبرار / ٣١٥ : جاءت فاطمة بابنيها إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقالت : «يا رسول الله ، انحلهما». قال : «فداكِ أبوك! ما لأبيك مال فينحلهما». ثمّ أخذ الحسن فقبّله وأجلسه على فخذه اليمنى ، وقال : «أمّا ابني هذا فنحلته خلقي وهيبتي». وأخذ الحسين فقبّله ووضعه على فخذه اليسرى ، وقال : «نحلته شجاعتي وجودي».

٢١٧

ولمّا قبض الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال علي (عليه السّلام) : «هذا أحد ركني الذي قال لي رسول الله». فلمّا ماتت فاطمة (عليها السّلام) قال علي (عليه السّلام) : «هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)» (١).

لوعة النبي (صلّى الله عليه وآله) على الحسين (عليه السّلام) :

وخفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) حينما كان يعاني آلام المرض وشدائد الاحتضار ، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وذهل عن آلام مرضه ، وجعل يقول : «ما لي وليزيد ، لا بارك الله فيه ، اللّهمّ يزيد ...».

ثمّ غشي عليه طويلاً ، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً ، وعيناه تفيضان بالدموع ، وهو يقول : «أما أنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ» (٢).

لقد تمثّلت كارثة الحسين (عليه السّلام) أمام جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو في ساعاته الأخيرة فزادته آلاماً وأحزاناً.

إلى جنّة المأوى :

وآن الوقت لتلك الروح العظيمة ، التي لم يخلق الله نظيراً لها فيما مضى

__________________

(١) أمالي الصدوق / ١١٩.

(٢) نفس المهموم ـ للشيخ عباس القمي / ٢٩ ـ ٣٠ ، نقله عن مثير الأحزان لابن نما الحلي.

٢١٨

من سالف الزمن وما هو آت ، أن تفارق هذه الحياة لتنعم بجوار الله ولطفه ، وجاء ملك الموت فاستأذن بالدخول على الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فأخبرته الزهراء بأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه ، فانصرف وعاد بعد قليل يطلب الإذن ، فأفاق الرسول (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه ، وقال لابنته : «أتعرفيه؟».

ـ «لا يا رسول الله».

ـ «إنّه معمّر القبور ، ومخرّب الدور ، ومفرّق الجماعات».

وقُدَّ قلب الزهراء (عليها السّلام) وأحاط بها الذهول وأخرسها الخطب ، واندفعت تقول : «وا ويلتاه لموت خاتم الأنبياء! وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولانقطاع سيّد الأصفياء! وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء! فقد حُرمت اليوم كلامك».

وتصدّع قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) وأشفق على بضعته فقال لها : «لا تبكي فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي» (١).

وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) بالدخول لملك الموت ، فلمّا مثل أمامه قال له : يا رسول الله ، إنّ الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمرني ؛ إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها ، وإن أمرتني أن أتركها تركتها.

فبهر النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال له : «أتفعل يا ملك الموت ذلك؟».

ـ بذلك اُمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني.

وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له :

__________________

(١) درّة الناصحين / ٦٦.

٢١٩

يا أحمد ، إنّ الله قد اشتاق إليك (١).

واختار النبي (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه ، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة ، ولمّا علم أهل البيت (عليهم السّلام) أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) سيفارقهم في هذه اللحظات خفّوا إلى توديعه ، وجاء السبطان فألقيا بأنفسهما عليه وهما يذرفان الدموع ، والنبي (صلّى الله عليه وآله) يوسعهما تقبيلاً ، فأراد أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن ينحّيهما عنه ، فأبى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال له : «دعهما يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما ، فستصيبهما بعدي إثرة».

ثمّ التفت إلى عوّاده فقال لهم : «قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (٢).

وقال لوصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) : «ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله ، فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة وتولّى أمري ، وصلِّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزّ وجلّ».

وأخذ أمير المؤمنين (عليه السّلام) رأس النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعه في حجره ، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه ، وقد شرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة ، والرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني آلام الموت وشدّة الفزع حتّى فاضت روحه الزكية ، فمسح بها الإمام (عليه السّلام) وجهه (٣).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ / ٤٨.

(٢) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي ١ / ١١٤.

(٣) المناقب ١ / ٢٩ ، وتضافرت الأخبار : بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) توفّي ورأسه في حجر علي. انظر كنز العمال ٤ / ٥٥ ، طبقات ابن سعد وغيرهما.

٢٢٠