حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٣

على لسانه سيول من الموعظة والآداب ، والأمثال السائرة ، وفيما يلي بعض حِكمه القصار.

١ ـ قال (عليه السلام) : «العاقل لا يحدّث مَن يخاف تكذيبه ، ولا يسأل مَن يخاف منعه ، ولا يثق بمَن يخاف غدره ، ولا يرجو مَن لا يوثق برجائه» (١).

٢ ـ قال (عليه السّلام) لابنه علي بن الحسين : «أي بني ، إيّاك وظلم مَن لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله عزّ وجلّ» (٢).

٣ ـ قال (عليه السّلام) : «ما أخذ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعته ، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنه كلفته» (٣).

٤ ـ قال (عليه السّلام) : «إيّاك وما تعتذر منه ؛ فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر» (٤).

٥ ـ قال (عليه السّلام) : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنّ الكذب ريبة ، والصدق طمأنينة» (٥).

٦ ـ قال (عليه السّلام) : «اللّهمّ لا تستدرجني بالإحسان ، ولا تؤدّبني بالبلاء» (٦).

٧ ـ قال (عليه السّلام) : «خمس مَن لم تكن فيه ، لم يكن فيه كثير مستمتع العقل ، والدين والأدب ، والحياء ، وحسن الخلق» (٧).

__________________

(١) ريحانة الرسول / ٥٥.

(٢) و (٣) و (٤) تحف العقول / ٤٦.

(٥) أنساب الأشراف ١ ق ١.

(٦) كشف الغمة ٢ / ٢٤٣.

(٧) ريحانة الرسول / ٥٥.

١٨١

٨ ـ قال (عليه السّلام) : «البخيل مَن بخل بالسّلام» (١).

٩ ـ قال (عليه السّلام) : «مَن حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لِما يرجو وأسرع لِما يحذر» (٢).

١٠ ـ قال (عليه السّلام) : «من دلائل علامات القبول : الجلوس إلى أهل العقول ، ومن علامات الجهل المماراة لغير أهل الكفر ، ومن دلائل العالم انتقاده لحديثه ، وعلمه بحقائق فنون النظر» (٣).

١١ ـ قال (عليه السّلام) : «إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمته ، وقوله مرآته ؛ فمرّة ينظر في نعت المؤمنين ، وتارة ينظر في وصف المتجبّرين ، فهو منه في لطائف ، ومن نفسه في تعارف ، ومن فطنته في يقين ، ومن قدسه في على تمكين» (٤).

١٢ ـ قال (عليه السّلام) : «إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس فاجتهد أن لا يعرفك» (٥).

١٣ ـ قال (عليه السّلام) لرجل اغتاب عنده رجلاً : «يا هذا ، كف عن الغيبة ؛ فإنها أدام كلاب النار» (٦).

١٤ ـ تكلّم رجل عنده فقال : إنّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع ، فقال (عليه السّلام) : «ليس كذلك ، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر ؛ تصيب البر والفاجر» (٧).

__________________

(١) ريحانة الرسول / ٥٥.

(٢) و (٣) و (٤) تحف العقول / ٢٤٦ ـ ٢٤٨.

(٥) ريحانة الرسول / ٥٥.

(٦) البحار ، تحف العقول / ٢٤٥.

(٧) تحف العقول / ٢٤٥.

١٨٢

١٥ ـ سأله رجل عن تفسير قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١) ، فقال (عليه السّلام) : «أمره أن يحدّث بما أنعم الله به عليه في دينه» (٢).

١٦ ـ قال (عليه السّلام) : «موت في عزّ خير من حياة في ذل» (٣).

١٧ ـ قال (عليه السّلام) : «البكاء من خشية الله نجاة من النار» (٤).

١٨ ـ قال (عليه السّلام) : «مَن أحجم عن الرأي ، وأعيت له الحيل كان الرفق مفتاحه» (٥).

١٩ ـ قال (عليه السّلام) : «مَن قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم» (٦).

٢٠ ـ قال (عليه السّلام) : «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ، أيها الناس ، مَن كان له على الله أجر فليقم ، فلا يقوم إلاّ أهل المعروف» (٧).

٢١ ـ قال (عليه السّلام) : «ما من أعمال هذه الاُمّة من صباح إلاّ ويعرض على الله عزّ وجلّ» (٨).

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض ما أثر عنه من روائع الحكم والمواعظ والآداب ، ولم نحلّل مضامينها إيثاراً للإيجاز ، وابتعاداً عن الإطالة.

__________________

(١) سورة الضحى / ١١.

(٢) تحف العقول / ٢٤٦.

(٣) البحار.

(٤) نزهة الناظر في تنبيه الخاطر.

(٥) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٣.

(٦) و (٧) و (٨) البحار.

١٨٣

في حلبات الشعر :

وعرضت مصادر التاريخ والأدب العربي إلى بعض ما نظمه الإمام الحسين (عليه السّلام) من الشعر وما استشهد به في بعض المناسبات ، وإن كان بعضها ـ فيما نحسب ـ لا يخلو من الانتحال ، وهذه بعضها :

١ ـ دخل أعرابي مسجد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فوقف على الحسين بن علي وحوله حلقة مجتمعة من الناس فسأل عنه ، فقيل له : إنّه الحسين بن علي ، فقال : إيّاه أردت بلغتي ، إنّهم يتكلّمون فيعربون في كلامهم ، وإنّي قطعت بوادي وقفاراً ، وأودية وجبالاً ، وجئت لا طارحه الكلام وأسأله عن عويص العربية ، فقال له أحد جلساء الإمام : إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب ، وأومأ إلى الحسين.

فبادر إليه ، ووقف فسلّم عليه ، فردّ الإمام عليه السّلام ، فقال له :

ـ «ما حاجتك؟».

ـ جئتك من الهرقل ، والجعلل ، والأينم ، والهمهم.

فتبسّم الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وقال له : «يا أعرابي ، لقد تكلّمت بكلام ما يعقله إلاّ العالمون». فقال الأعرابي : وأقول أكثر من هذا ، فهل أنت مجيبي على قدر كلامي؟ فقال له الحسين (عليه السّلام) : «قل ما شئت ، فإنّي مجيبك».

ـ إنّي بدوي ، وأكثر مقالي الشعر ، وهو ديوان العرب.

ـ «قل ما شئت ، فإنّي مجيبك».

١٨٤

وأنشأ الأعرابي يقول :

هفا قلبي إلى اللهو

وقد ودّعَ شرخيهِ

وقد كان أنيقاً عصـ

ـر تجراريَ ذيليهِ

عيالاتٌ ولذّاتٌ

فيا سقياً لعصريهِ

فلمّا عمّم الشيبُ

من الرأس نطاقيهِ

وأمسى قد عناني منـ

ـه تجديد خضابيهِ

تسلّيت عن اللهو

وألقيت قِناعيهِ

وفي الدهر أعاجيبٌ

لمَنْ يلبسُ حاليهِ

فلو يُعمل ذو رأي

أصيلٍ فيه رأيَيهِ

لألفى عِبرة منه

له في كرِّ عصريهِ

فأجابه الإمام الحسين (عليه السّلام) ارتجالاً :

فما رسمٌ شجاني قد

محت آيات رسميهِ

سفورٌ درجت ذيلين

في بوغاء قاعيهِ (١)

هتوفٌ حرجفٌ تترى

على تلبيد ثوبيهِ (٢)

وولاّج من المُزنِ

دنا نوءُ سماكيهِ

أتى مثعنجر الودقِ

بجود من خلاليهِ

وقد أحمد برقاهُ

فلا ذمٌّ لبرقيهِ

وقد جلل رعداه

فلا ذمٌّ لرعديهِ

ثجيج الرعد ثجّاجٌ

اذا أرخى نطاقيهِ

__________________

(١) سفور : مأخوذ من سفرت الريح التراب أو الورق : أزالتهما وذهبت بهما كل مذهب. درجت : من نعوت الريح. البوغاء : التراب.

(٢) الهتوف : الريح ذات الصوت. والحرجف : الريح الباردة. التلبيد : التداخل.

١٨٥

فأضحى دارساً قفرا

لبينونة أهليهِ

فلمّا سمع الأعرابي ذلك بهر وانطلق يقول : ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاماً وأذرب لساناً ، ولا أفصح منه نطقاً!

فقال له الإمام الحسن (عليه السّلام) : «يا أعرابي ،

غلام كرّم الرحم نُ بالتطهير جدّيهِ

كساه القمر القمقا م من نور سناءيهِ

وقد أرصنت من شعري وقوّمت عروضيه»

فلمّا سمع الأعرابي قول الإمام الحسن (عليه السّلام) انبرى يقول : بارك الله عليكما ، مثلكما تجلّهما الرجال ، فجزاكما الله خيراً. وانصرف (١). ودلّت هذه البادرة على مدى ما يتمتع به الإمام (عليه السّلام) من قوة العارضة في الشعر ، ومقدرته الفائقة في الارتجال والإبداع ، إلاّ أنّ بعض فصول هذه القصة ـ فيما نحسب ـ لا يخلو من الانتحال ؛ وهو مجيء الأعرابي من بلد نائي قد تحمّل عناء السفر وشدّته من أجل اختبار الإمام ومعرفة مقدراته الأدبية.

٢ ـ نسبت له هذه الأبيات الحكمية :

إذا ما عضك الدهرُ

فلا تجنح إلى الخلقِ

ولا تسأل سوى الله

تعالى قاسم الرزقِ

فلو عشت وطوّفتَ

من الغرب إلى الشرقِ

لما صادفت من يقد

رُ أن يُسعد أو يشقي (٢)

وحثّ هذا الشعر على القناعة وإباء النفس ، وعدم الخنوع للغير ، وأهاب بالإنسان أن لا يسأل أحداً إلاّ ربّه الذي بيده مجريات الأحداث.

__________________

(١) مطالب السؤل في مناقب آل الرسول.

(٢) كشف الغمة ٢ / ٢٤٦ ، الفصول المهمة.

١٨٦

٣ ـ قال (عليه السّلام) :

اغنِ عن المخلوق بالخالقِ

تغن عن الكاذب والصادقِ

واسترزق الرحمن من فضلهِ

فليس غيرُ الله من رازقِ

مَن ظنَّ أن الناس يغنونهُ

فليس بالرحمن بالواثقِ

أو ظنّ أنّ المال من كسبهِ

زلّت به النعلان من حالقِ (١)

وفي هذه الأبيات دعوة إلى الالتجاء إلى الله خالق الكون وواهب الحياة ، والاستغناء عمّن سواه ؛ فإنّ مَن ركن لغيره فقد خاب سعيه وحاد عن الصواب.

٤ ـ زار الإمام الحسين (عليه السّلام) مقابر الشهداء بالبقيع ، فانبرى يقول :

ناديت سكّان القبور فأسكتوا

فأجابني عن صمتهم تربُ الحشا

قالت أتدري ما صنعت بساكني

مزّقتُ لحمَهمُ وخرّقت الكسا

وحشوت أعينهم تراباً بعدما

كانت تأذّى باليسير من القذا

أمّا العظام فإنني مزّقتها

حتّى تباينت المفاصل والشَّوى

قطّعت ذا من ذا ومن هذا كذا

فتركتها ممّا يطول بها البِلى (٢)

وحفلت هذه الأبيات بالدعوة إلى الاعتبار والعظة بمصير الإنسان ، وأنّه حينما يودَع في بطن الأرض لم يلبث أن يتلاشى وتذهب نضارته ويعود بعد قليل كتلة من التراب المهين.

٥ ـ ونسب الأعشى هذه الأبيات للإمام الحسين (عليه السّلام) :

كلّما زيد صاحب المال مالاً

زِيد في همّهِ وفي الاشتغالِ

قد عرفناك يا منغّصة العيـ

ـشِ ويا دارَ كلّ فانٍ وبالِ

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٤.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٢٠٨.

١٨٧

ليس يصفو لزاهد طلب الزه دِ إذا كان مثقلاً بالعيال (١)

وتحدّث الإمام بهذه الأبيات عن ظاهرة خاصّة من ظواهر الحياة : وهي أنّ الإنسان كلّما اتّسع نطاقه المادّي ازدادت آلامه وهمومه ، وازداد جهداً وعناءً في تصريف شؤون أمواله وزيادة أرباحه ، كما تحدّث الإمام عمّن يرغب في الزهد في الحياة فإنّه لا يجد سبيلاً إلى ذلك ما دام مثقلاً بالعيال ؛ فإنّ شغله بذلك يمنعه عن الزهد في الدنيا.

٦ ـ روى الأربلي أنّ الإمام قال هذه الأبيات في ذمّ البغي :

ذهب الذين أحبهمْ

وبقيت فيمن لا اُحبّهْ

فيمن أراه يسبّني

ظهر المغيب ولا أسبّهْ

يبغي فسادي ما استطا

ع وأمره مما أربّهْ (٢)

حنقاً يدبّ لي الضرا

ء وذاك ممّا لا أدبّهْ

ويرى ذباب الشرّ من

حولي يطنّ ولا يذبّهْ

وإذا خبا (٣) وغرُ الصدو

ر فلا يزال به يشبّهْ

أفلا يعيج بعقلهِ (٤)

أفلا يثوب إليه لبّهْ (٥)

أفلا يرى من فعلهِ

ما قد يسور إليه غبّهْ (٦)

حسبى بربّي كافياً

ما أختشي والبغي حسبهْ

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٤.

(٢) أربّه : أصلحه.

(٣) خبا : سكن.

(٤) يعيج : ينتفع.

(٥) اللب : العقل.

(٦) يسور : يرجع.

١٨٨

ولقلّ مَن يبغي عليـ

ـه فما كفاه الله ربه (١)

وتحدّث الإمام (عليه السّلام) بهذه الأبيات عن إحدى النزعات الشريرة في الإنسان وهي البغي ، فإنّ مَن يتلوّث به يسعى دوماً إلى سبّ أخيه والاعتداء عليه وإفساده أمره ، وإنه إذا سكن وغر الصدور فإنه يسعى لإثارتها ؛ انطلاقاً منه في البغي والاعتداء.

وقد وجّه (عليه السّلام) إليه النصح ، فإنه إذا رجع إلى عقله وفكر في أمره فإنّ غيّه على أخيه يرجع إليه وتلحقه أضراره وآثامه ، ومن الطبيعي أنه إذا أطال التفكير في ذلك فإنه يقلع عن نفسه هذه الصفة الشريرة حسب ما نصّ عليه علماء الأخلاق.

٧ ـ وزعم أبو الفرج الأصبهاني أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قال هذين البيتين في بنته سكينة واُمّها الرباب :

لعمرك أنني لاُحبّ داراً

تكون بها سكينة والربابُ

اُحبّهما وأبذل جُلّ مالي

وليس لعاتب عندي عتابُ (٢)

وزاد غيره هذا البيت :

فلستُ لهم وان غابوا مضيعاً

حياتي أو يُغيّبني الترابُ (٣)

وهذه الأبيات فيما نحسب من المنتحلات والموضوعات ؛ فإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) أجلّ شأناً وأرفع قدراً من أن يذيع حبّه لزوجته وابنته بين الناس ، فليس هذا من خلقه ولا يليق به ، إنّ ذلك ـ من دون شك ـ من المفتريات التي تعمّد وضعها للحطّ من شأن أهل البيت (عليهم السّلام).

٨ ـ ومما قاله :

الله يعلم أنّ ما

بيدي يزيد لغيرهِ

__________________

(١) كشف الغمة. ريحانة الرسول / ٤٨.

(٢) الأغاني.

(٣) ذكرى الحسين ١ / ١٣٩ ، البداية والنهاية ٨ / ٢٠٩.

١٨٩

وبأنه لم يكتسبْـ

ـهُ بخيره وبميرهِ

لو أنصف النفس الخؤو

ن لقصّرت من سيرهِ

ولكان ذلك منه أد

نى شرّه من خيرهِ (١)

وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض مثُل الإمام الحسين (عليه السّلام) ونزعاته التي كان بها فذّاً من أفذاذ العقل الإنساني ، ومثلاً رائعاً من أمثلة الرسالة الإسلامية بجميع قِيَمها ومكوّناتها.

__________________

(١) ريحانة الرسول / ٤٩.

١٩٠

مأساة الإسلام الكبرى

١٩١
١٩٢

عاش الإمام الحسين (عليه السّلام) وهو في ريعان الصبا وغضارة العمر في كنف جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وكان يغدق عليه بعطفه ، ويفيض عليه بحنانه ، ويعمل على توجيهه وتقويمه ، حتّى توسّعت مداركه ، ونمت ملكاته وهو في سنّه المبكّر.

وكانت هذه الفترة القصيرة التي عاش مع جدّه من أهمّ الفترات وأروعها في تاريخ الإسلام كلّه ؛ فقد وطّد الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيها أركان دولته ، وأقامها على أساس العلم والإيمان ، وهزم جيوش الشرك ، وفلّل قواعد الإلحاد ، وقام الإسلام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد ، وأخذت الانتصارات الرائعة تترى على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه ، فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً ، وامتدّ حُكم الإسلام على أغلب مناطق الجزيرة العربية.

وفي غمرات هذه الانتصارات الرائعة شعر الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأنّ حياته قد انطوت وأيّامه قد انتهت ؛ لأنّه أدّى ما عليه ، وأقام دينه العظيم يؤدّي فعالياته في توجيه الإنسان وإقامة سلوكه ، فإذاً لا بدّ له من الرحيل عن هذه الحياة ... ونتحدّث عن فصول هذه المأساة الكبرى التي مُني بها المسلمون وننظر إلى ما رافقها من الأحداث الخطيرة ، فإنها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بما نحن فيه ، فهي تكشف عن كثير من الأسباب التي أدّت إلى ما عاناه الإمام الحسين (عليه السّلام) مع أهل البيت من النكبات والخطوب.

طلائع الرحيل :

وبدت طلائع الوفاة ومفارقة الحياة للقائد والمنقذ والمعلّم الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقد كانت هناك إنذارات متوالية تدلل على ذلك ، وهي كما يلي :

١٩٣

١ ـ إنّ القرآن نزل على الرسول (صلّى الله عليه وآله) مرّتين فاستشعر (صلّى الله عليه وآله) بذلك حضور الأجل المحتوم (١) وأخذ ينعى نفسه ، ويذيع بين المسلمين مفارقته لهذه الحياة ، وكان يقول لبضعته سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) : «إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضني به العام مرّتين ، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي» (٢).

٢ ـ إنّه نزل عليه الوحي بهذه الآية : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ). وكانت هذه الآية إنذاراً له بمفارقة الحياة ، فأثارت كوامن التوجّس في نفسه ، وسمعه المسلمون يقول : «ليتني أعلم متى يكون ذلك؟!».

ونزلت عليه سورة (النصر) ، فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول : «سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه». وفزع المسلمون وذهلوا ، وانطلقوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الرهيبة ، فأجابهم (صلّى الله عليه وآله) : «إنّ نفسي قد نُعيت إليّ» (٣).

وفزع المسلمون وهاموا في تيّارات مذهلة من الهواجس والأفكار ، فقد كان وَقْع ذلك عليهم كالصاعقة ، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم إن خلت هذه الدنيا من النبي (صلّى الله عليه وآله).

حجّة الوداع :

ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بدنو الأجل المحتوم منه رأى أن يحجّ إلى

__________________

(١) الخصائص الكبرى ٢ / ٣٨٦.

(٢) تاريخ ابن كثير ٥ / ٢٢٣.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ١ / ١٦٧.

١٩٤

بيت الله الحرام ليلتقي بعامة المسلمين ، ويعقد هناك مؤتمراً عامّاً يضع فيه الخطوط السليمة لنجاة اُمّته ، ووقايتها من الزيغ والانحراف.

وحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) حجّته الأخيرة الشهيرة بحجّة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة ، فأشاع فيها بين الوافدين لبيت الله الحرام أنّ التقاءه بهم في عامهم هذا هو آخر عهدهم به قائلاً : «إنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً». وجعل يطوف على الجماهير ، ويعرّفهم بما يضمن لهم نجاحهم وسعادتهم قائلاً : «يا أيها الناس ، إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (١).

إنّ الركيزة الاُولى لسلامة الاُمّة وصيانتها عن أيّ زيغ عقائدي هو تمسّكها بكتاب الله ، والتمسّك بالعترة الطاهرة ، فهما أساس سعادتها ونجاحها في الدنيا والآخرة.

ولمّا انتهى (صلّى الله عليه وآله) من مراسيم الحج ، وقف عند بئر (زمزم) وأمر ربيعة بن اُميّة بن خلف فوقف تحت صدر راحلته ، وكان صبيّاً ، فقال : «يا ربيعة ، قل : يا أيها الناس ، إنّ رسول الله يقول لكم : لعلّكم لا تلقونني على مثل حالي هذه وعليكم هذا ، هل تدرون أي بلد هذا؟ وهل تدرون أي شهر هذا؟ وهل تدرون أي يوم هذا؟»

فقال الناس : نعم ، هذا البلد الحرام ، والشهر الحرام ، واليوم الحرام ، وبعدما أقرّوا بذلك قال (صلّى الله عليه وآله) :

«إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا ، وكحرمة

__________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨.

١٩٥

شهركم هذا ، وكحرمة يومكم هذا ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد ، واتقوا الله وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، فمَن كانت عنده أمانة فليؤدّها». ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : «الناس في الإسلام سواء ، الناس طفّ الصاع لآدم وحواء ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا عجمي على عربي إلاّ بتقوى الله ، ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد». ثمّ قال : «لا تأتوني بأنسابكم واتوني بأعمالكم ، فأقول للناس هكذا ولكم هكذا ، ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال : «اللّهمّ اشهد». ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : «كل دم كان في الجاهليّة موضوع تحت قدمي ، وأوّل دم أضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (١) ، ألا هل بلغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد ، وكل ربا كان في الجاهليّة موضوع تحت قدمي ، وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ، ألا هل بلغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد ، أيها الناس ، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ». ثمّ قال :

«اُوصيكم بالنساء خيراً ؛ فإنما هنّ عوار عندكم ، لا يملكن لأنفسهن شيئاً

__________________

(١) آدم بن ربيعة كان مسترضعاً في هذيل فقتله بنو سعد بن بكر.

١٩٦

وإنّما أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكتاب الله ، ولكم عليهنّ حقّ ، ولهنّ عليكم حقّ ؛ كسوتهنّ ورزقهنّ بالمعروف ، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فراشكم أحداً ، ولا يأذنّ في بيوتكم إلاّ بعلمكم وإذنكم ، فإن فعلنّ شيئاً من ذلك فاهجروهنّ في المضاجع ، واضربوهن ضرباً غير مبرح ، ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد ، فاُوصيكم بمَن ملكت أيمانكم فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، وإن أذنبوا فكالوا عقوباتهم إلى شراركم ، ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد». ثمّ قال : «إنّ المسلم أخو المسلم ؛ لا يغشّه ، ولا يخونه ، ولا يغتابه ، ولا يحلّ له دمه ، ولا شيء من ماله إلاّ بطيب نفسه ، ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال : «اللّهمّ اشهد».

ويستمر (صلّى الله عليه وآله) في خطابه الحافل بما تضمّنته الرسالة الإسلامية من البنود المشرقة في عالم التشريع ، ثمّ ختمه بقوله : «لا ترجعوا بعدي كفاراً مضللين يملك بعضكم رقاب بعض ، إنّي خلّفت فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ألا هل بلّغت؟».

قالوا : نعم.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «اللّهمّ اشهد». ثمّ التفت إليهم فطالبهم بالالتزام بما أعلنه وأذاعه فيهم قائلاً :

١٩٧

«إنّكم مسؤولون فليبلّغ الشاهد منكم الغائب» (١).

وبذلك انتهى خطابه الرائع الحافل بما تحتاجه الاُمّة في الصعيد الاجتماعي والسياسي ، كما عيّن لها القادة من أهل بيته الذين يعنون بالإصلاح العام ، وببلوغ أهداف الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية.

مؤتمر غدير خم :

ولمّا انتهى الرسول (صلّى الله عليه وآله) من حجّه قفل راجعاً إلى يثرب ، وحينما انتهى موكبه إلى غدير خم ، هبط عليه أمين الوحي يحمل رسالة من السماء بالغة الخطورة ، تحتّم عليه بأن يحطّ رحله ليقوم بأداء هذه المهمة الكبرى وهي نصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفةً ومرجعاً للاُمّة من بعده ، وكان أمر السماء بذلك يحمل طابعاً من الشدّة ولزوم الإسراع في إذاعة ذلك بين المسلمين ، فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ) (٢).

لقد أنذر النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه إن لم ينفذ إرادة السماء ذهبت أتعابه ، وضاعت جهوده وتبدّد ما لاقاه من العناء في سبيل هذا الدين ، فانبرى (صلّى الله عليه وآله) بعزم ثابت وإرادة صلبة إلى تنفيذ إرادة الله ، فوضع أعباء المسير وحطّ رحله في رمضاء الهجير ، وأمر القوافل أن تفعل مثل ذلك ، وكان الوقت قاسياً في حرارته حتّى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتّقي به من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩٠ ـ ٩٢.

(٢) سورة المائدة : نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول ، والرازي في تفسيره ، وغيرهما.

١٩٨

الحرّ ، وأمر (صلّى الله عليه وآله) باجتماع الناس فصلّى بهم ، وبعد ما انتهى من الصلاة أمر أن توضع حدائج الإبل لتكون له منبراً ، ففعلوا له ذلك ، فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين فيما يقول المؤرّخون : مئة ألف أو يزيدون. وأقبلوا بقلوبهم نحو الرسول (صلّى الله عليه وآله) ليسمعوا خطابه ، فأعلن (صلّى الله عليه وآله) ما لاقاه من العناء والجهد في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من الحياة الجاهليّة إلى الحياة الكريمة التي جاء بها الإسلام ، كما ذكر لهم كوكبة من الأحكام الدينية وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثمّ قال لهم : «انظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟».

فناداه مناد من القوم : ما الثقلان يا رسول الله؟

فقال (صلّى الله عليه وآله) : «الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ؛ فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليفرض ولايته على الناس جميعاً ، حتّى بان بياض إبطيهما ، ونظر إليهما القوم ، فرفع (صلّى الله عليه وآله) صوته قائلاً : «يا أيها الناس ، مَن أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»

فأجابوه جميعاً : الله ورسوله أعلم.

فقال (صلّى الله عليه وآله) : «إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمَن كنت مولاه فعليّ مولاه». قال ذلك ثلاث مرات أو أربع ، ثمّ قال :

«اللّهمّ وال مَن والاه ، وعاد مَن عاداه ، وأحبّ مَن أحبّه ، وابغض

١٩٩

مَن أبغضه ، وانصر مَن نصره ، واخذل مَن خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب».

وبذلك أنهى خطابه الشريف الذي أدّى فيه رسالة الله ، فنصّب أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفة ، وأقامه علماً للاُمّة ، وقلّده منصب الإمامة ، وأقبل المسلمون يهرعون وهم يبايعون الإمام بالخلافة ، ويهنّئونه بإمرة المسلمين ، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) اُمّهات المؤمنين أن يسرن إليه ويهنّئنّه ففعلن ذلك (١).

وأقبل عمر بن الخطاب فهنّأ الإمام وصافحه وقال له : هنيئاً يابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (٢).

وانبرى حسان بن ثابت فاستأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) بتلاوة ما نظمه ، فأذن له النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال :

يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهمْ

بخمٍّ واسمع بالرسول مناديا

فقال فمَنْ مولاكمُ ونبيُّكمْ؟

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهُكَ مولانا وأنت نبيُّنا

ولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليُّ فإنّني

رضيتكَ من بعدي إماماً وهاديا

فمَنْ كنت مولاه فهذا وليّهُ

فكونوا له أتباع صدقٍ مواليا

هناك دعا اللّهمّ والِ وليّه

وكن للذي عادى علياً مُعاديا (٣)

ونزلت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام هذه الآية الكريمة :

__________________

(١) الغدير ٢ / ٣٤.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٢٨١.

(٣) الغدير ١ / ٢٧١.

٢٠٠