حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٣

صدقة مَن عرق فيها جبينه ، وأغبر فيها وجهه» (١).

الوعظ والإرشاد :

وعنى الإمام (عليه السّلام) بوعظ الناس وإرشادهم كما عنى أبوه من قَبله ، مستهدفين من ذلك تنمية القوى الخيّرة في النفوس ، وتوجيه الناس نحو الحقّ والخير ، وإبعادهم عن نزعات الشرّ من الاعتداء والغرور والطيش وغير ذلك ، ونعرض فيما يلي لبعض ما أثر عنه :

١ ـ قال (عليه السّلام) : «اُوصيكم بتقوى الله ، واُحذّركم أيّامه ، وأرفع لكم أعلامه ؛ فكأن المخوف قد أقل بمهول وروده ونكير حلوله وبشع مذاقه ، فاغتلق مهجكم ، وحال بين العمل وبينكم ، فبادروا بصحة الأجسام ومدّة الأعمار ، كأنكم نبعات طوارقه ، فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها ، ومن علوّها إلى سفلها ، ومن اُنسها إلى وحشتها ، ومن روحها وضوئها إلى ظلمتها ، ومن سعتها إلى ضيقها ؛ حيث لا يُزار حميم ، ولا يُعاد سقيم ، ولا يُجاب صريخ ، أعاننا الله وإيّاكم على أهوال ذلك اليوم ، ونجّانا وإيّاكم من عقابه ، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه.

عباد الله ، فلو كان ذلك قصر مرماكم ومدى مضعنكم ، كان حسب العامل شغلاً يستفرغ عليه أحزانه ، ويذهله عن دنياه ، ويكثر نصبه لطلب الخلاص منه ، فكيف وهو بعد ذلك مرتهن باكتسابه ، مستوقف على حسابه ، لا وزير له يمنعه ، ولا ظهير عنه يدفعه ، ويومئذ : (لاَ يَنفَعُ نَفْسًا

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ / ٢٩٢.

١٦١

إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) (١).

اُوصيكم بتقوى الله ؛ فإنّ الله قد ضمن لمَن اتّقاه أن يحوله عمّا يكره إلى ما يحب ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فإيّاك أن تكون ممّن يخاف على العباد بذنوبهم ، ويأمن العقوبة من ذنبه ؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لا يخدع عن جنّته ، ولا ينال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاء الله» (٢).

وحفل هذا الكلام بما يقرّب الناس إلى الله ، وبما يبعدهم عن معاصيه ويجنّبهم عن دواعي الهوى ونزعات الشرور.

٢ ـ كتب إليه رجل يطلب منه أن يعظه بحرفين أي يوجز القول ، فكتب (عليه السّلام) له : «مَن حاول أمراً بمعصية الله تعالى كان أفوت لِما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر» (٣).

٣ ـ قال (عليه السّلام) : «عباد الله ، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ؛ فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء ، وأولى بالرضاء ، وأرضى بالقضاء ، غير أنّ الله خلق الدنيا للبلاء ، وخلق أهلها للفناء ؛ فجديدها بال ، ونعيمها مضمحل ، وسرورها مكفهر ، والمنزلة بلغة ، والدار قلعة ؛ فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى» (٤).

٤ ـ كتب إليه رجل يسأله عن خير الدنيا والآخرة فأجابه (عليه السّلام) : «أمّا بعد ، فإنّ مَن طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله اُمور

__________________

(١) سورة الأنعام / ١٥٨.

(٢) الأنوار البهيّة / ٤٥.

(٣) اُصول الكافي ٢ / ٢٧٣.

(٤) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٣.

١٦٢

الناس ، ومَن طلب رضى الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس ، والسّلام» (١).

٥ ـ قال (عليه السّلام) : «إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها ، بحرها وبرّها ، سهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظِلال» (٢).

وأضاف يقول : «ألا حرٌّ يدع هذه اللماظة ـ يعني الدنيا ـ لأهلها ، ليس لأنفسكم ثمّ إلاّ الجنّة ، فلا تبيعوها بغيرها ؛ فإنه مَن رضى الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس».

٦ ـ قال له رجل : كيف أصبحت يابن رسول الله؟ فقال (عليه السّلام) : «أصبحت ولي ربّ فوقي ، والنار أمامي ، والموت يطلبني ، والحساب محدق بي ، وأنا مرتهن بعملي ، لا أجد ما أحب ، ولا أدفع ما أكره ، والاُمور بيد غيري ، فإن شاء عذّبني ، وإن شاء عفا عنّي ، فأيّ فقير أفقر منّي؟» (٣).

٧ ـ قال (عليه السّلام) : «يابن آدم ، تفكّر وقل : أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمّروا خرابها ، واحتفروا أنهارها ، وغرسوا أشجارها ، ومدّنوا مدائنها؟ فارقوها وهم كارهون ، وورثها قوم آخرون ، ونحن بهم عمّا قليل لاحقون.

يابن آدم ، اذكر مصرعك ، وفي قبرك مضجعك بين يدي الله ، تشهد جوارحك عليك يوم تزول فيه الأقدام ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وتبيّض وجوه ، وتبدو السرائر ، ويُوضع الميزان القسط.

__________________

(١) مجالس الصدوق / ١٢١.

(٢) البحار.

(٣) البحار.

١٦٣

يابن آدم ، اذكر مصارع آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيث حلّوا ، وكأنّك عن قليل قد حللت محلّهم ، وصرت عبرة المعتبر ...». ثمّ أنشد هذه الأبيات :

أين الملوكُ التي عن حفظها غفلتْ

حتّى سقاها بكأسِ الموت ساقيها

تلك المدائنُ في الآفاق خاليةً

عادت خراباً وذاق الموتُ بانيها

أموالنا لذوي الورّاث نجمعُها

ودورنا لخراب الدهرِ نبنيها (١)

هذه بعض ما أثر عنه من المواعظ الهادفة إلى صلاح النفوس وتهذيبها ، وإبعادها عن نزعات الهوى والشرور.

من خُطبه :

وللإمام (عليه السّلام) مجموعة كبيرة من الخطب الرائعة التي تجسّدت فيها صلابة الحق وقوّة العزم ، وروعة التصميم على الجهاد في سبيل الله ، وقد ألقاها الإمام في وقت كان الجو ملبّداً بالمشاكل السياسية ، وقد شجب فيها سياسة الحكم الاُموي ، ودعا المسلمين إلى الانتفاضة عليه ، وسنذكر جملة منها في مواضعها الخاصة ، ونذكر هنا خطبة واحدة منها :

صعد (عليه السّلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ صلّى على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فسمع رجلاً يقول : مَن هذا الذي يخطب؟ فأجابه (عليه السّلام) : «نحن حزب الله الغالبون ، وعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الأقربون ، وأهل بيته الطيّبون ، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثاني كتاب الله تبارك وتعالى ، الذي فيه تفصيل كل شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعوّل علينا في تفسيره ، ولا يبطئنا تأويله ،

__________________

(١) الإرشاد للديلمي.

١٦٤

بل نتبع حقائقه ، فأطيعونا ؛ فإنّ طاعتنا مفروضة إذا كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة ، قال الله عزّ وجلّ : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً).

واُحذّركم الإصغاء إلى هتاف الشيطان بكم ؛ فإنه لكم عدو مبين ، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم : (لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ). فتقلون للسيوف ضرباً ، وللرماح ورداً ، وللعمد حطماً ، وللسهام غرضاً ، ثمّ لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيراً» (١).

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى التمسّك بعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولزوم طاعتهم والانقياد لهم ، وحذّرهم من الدعايات المضللة التي ثبتها أجهزة الإعلام الاُموي الداعية إلى إبعاد الناس عن أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم مصدر الوعي والنور في الأرض.

أدعيته :

وحفلت الأدعية التي أثرت عن الحسين (عليه السّلام) بالدروس التربوية الهادفة إلى بناء صروح العقيدة والإيمان بالله ، وتنمية الخوف والرهبة من الله في أعماق نفوس الناس ؛ لتصدّهم عن الاعتداء وتمنعهم عن الظلم والطغيان. وقد كان اهتمام أهل البيت (عليهم السّلام) بهذه الجهة اهتماماً بالغاً ، ولم يُؤثَر عن أحد من أئمة المسلمين وخيارهم من الأدعية مثل ما أثَرَ عنهم ، وإنها

__________________

(١) البحار ٩ / ٢٤٧.

١٦٥

لتعد من أروع الثروات الفكرية والأدبية في الإسلام ، فقد حوت اُصول الأخلاق وقواعد السلوك والآداب ، كما ألمّت بفلسفة التوحيد ومعالم السياسة العادلة ، وغير ذلك ، ونلمع لبعض أدعيته (عليه السّلام) :

١ ـ دعاؤه من وقاية الأعداء :

كان (عليه السّلام) يدعو بهذا الدعاء يستجير بالله من شرور أعدائه ، وهذا نصّه : «اللّهمّ يا عدّتي عند شدّتي ، ويا غوثي عند كربتي ، احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يرام ، وارحمني بقدرتك عليّ ، فلا أهلك وأنت رجائي. اللّهمّ إنّك أكبر وأجلّ وأقدر مما أخاف وأحذر. اللّهمّ بك أدرأ في نحره ، وأستعيذ من شرّه ، إنّك على كل شيء قدير».

ودعا بهذا الدعاء الشريف الإمام الصادق (عليه السّلام) حينما أمر الطاغية المنصور بإحضاره مخفوراً لينكل به ، فأنقذه الله من شرّه ، وفرّج عنه ، فسئل عن سبب ذلك ، فقال : إنّه دعا بدعاء جدّه الحسين (ع) (١).

٢ ـ دعاؤه للاستسقاء :

كان (عليه السّلام) يدعو بهذا الدعاء إذا خرج للاستسقاء : «اللّهمّ اسقنا سقياً واسعة وادعة ، عامة نافعة غير ضارّة ، تعمّ بها حاضرنا وبادينا ، وتزيد بها في رزقنا وشكرنا. اللّهمّ اجعله رزق إيمان ، وعطاء إيمان ؛ إنّ عطاءك لم يكن محظوراً. اللّهمّ أنزل علينا في أرضنا سكنها ، وأنبت فيها زيتها ومرعاها» (٢).

__________________

(١) نور الأبصار / ١٣٣.

(٢) عيون الأخبار.

١٦٦

٣ ـ دعاؤه يوم عرفة :

وهو من أجلّ أدعية أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، وأكثرها استيعاباً لألطاف الله ونعمه على عباده ، وقد روى هذا الدعاء الشريف بشر وبشير الأسديان قالا : كنّا مع الحسين بن علي (عليه السّلام) عشيّة عرفة ، فخرج (عليه السّلام) من فسطاطه متذللاً خاشعاً ، فجعل يمشي هوناً هوناً حتّى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت ، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين ، وقال : «الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ، ولا لعطائه مانع ، ولا كصنعه صانع ، وهو الجواد الواسع ، فطر أجناس البدائع ، وأتقن بحكمته الصنائع ، لا تخفى عليه الطلائع ، ولا تضيع عند الودائع ، ورأيش كل قانع ، وراحم كل ضارع ، منزل المنافع ، والكتاب الجامع بالنور الساطع ، وهو للدعوات سامع ، وللكُربات دافع ، وللدرجات رافع ، وللجبابرة قامع ، فلا إله غيره ، ولا شيء يعدله ، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، اللطيف الخبير ، وهو على كل شيء قدير.

اللّهمّ إنّي أرغب إليك وأشهد بالربوبية لك ، مقرّاً بأنّك ربّي وإليك مردّي ، ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً ، وخلقتني من التراب ، ثم أسكنتني الأصلاب آمناً لريب المنون ، واختلاف الدهور والسنين ، فلم أزل ظاعناً من صلب إلى رحم ، في تقادم من الأيام الماضية والقرون الخالية ، لم تخرجني ـ لرأفتك بي ولطفك لي (أو بي) وإحسانك إليّ ـ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذبوا رسلك ، لكنك أخرجتني رأفة منك وتحنناً (ـ علي خ ل ـ) للذي سبق لي من الهدى الذي

١٦٧

له يسّرتني ، وفيه أنشأتني ، ومن قبل ذلك رؤفت بي بجميل صنعك وسوابغ نعمك ، فابتدعت خلقي من يمني ، وأسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم ودم وجلد ، لم تشهدني خلقي (لم تشهرني بخلقي ـ خ ل ـ) ، ولم تجعل إليّ شيئاً من أمري ، لم ترضَ لي يا إلهي نعمة دون اُخرى ، ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنّك العظيم الأعظم عليّ ، وإحسانك القديم إليّ. حتّى إذا أتممت عليّ جميع النعم ، وصرفت عنّي كل النقم ، لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني إلى (على ـ خ ل ـ) ما يقرّبني إليك ، ووفّقتني لِما يزلفني لديك فإن دعوتك أجبتني ، وأن أطعتك شكرتني ، وإن شكرتك زدتني (١) ، كل ذلك إكمال (لا ـ خ ل ـ) لأنعمك عليّ ، وإحسانك إليّ ، فسبحانك سبحانك من مبدئ معيد حميد مجيد ، تقدّست أسماؤك ، وعظمت آلاؤك ، فأي نعمك أحصي عدداً!

ثمّ أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تامّاً سوياً ، وحفظتني في المهد طفلاً صبياً ، ورزقتني من الغذاء لبناً مريّاً ، وعطفت عليّ قلوب الحواضن الاُمّهات ، وكفلتني الاُمّهات الرواحم (الرحائم ـ خ ل ـ) ، وكلأتني من طوارق الجان ، وسلمتني من الزيادة والنقصان ، فتعاليت يا رحيم يا رحمن.

حتّى إذا استهللت ناطقاً بالكلام أتممت عليّ سوابغ الإنعام ، وربّيتني زائداً في كل عام ، حتّى إذا اكتملت فطرتي ، واعتدلت مِرّتي (٢) أوجبت عليّ حجّتك بأن ألهمتني معرفتك ، وروعتني بعجائب حكمتك ، وأيقظتني لِما ذرأت في سمائك وأرضك من بدائع خلقك ، ونبّهتني لشكرك وذكرك ، وأوجبت عليّ طاعتك وعبادتك ، وفهّمتني ما جاءت به رسلك ، ويسّرت لي تقبّل مرضاتك ، ومننت عليّ في جميع ذلك بعونك ولطفك، ثمّ إذ

__________________

(١) يشير (عليه السّلام) إلى قوله تعالى في سورة إبراهيم / ٧ : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ).

(٢) المِرة (بكسر الميم) : قوة الخلق وشدته ، أصالة العقل.

١٦٨

خلقتني من خير الثرى يا إلهي فأيّ نعمك أحصى عدداً وذكراً؟ أم أيّ عطاياك أقوم بها شكراً وهي يا ربِّ أكثر من أن يحصيها العادون ، أو يبلغ علماً بها الحافظون؟! ثمّ ما صرفت ودرأت (١) عنّي الّلهمّ من الضر والضراء أكثر مما ظهر لي من العافية والسرّاء.

وأنا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني ، وعقد عزمات يقيني ، وخالص صريح توحيدي ، وباطن مكنون ضميري ، وعلائق مجاري نور بصري ، وأسارير صفحة جبيني (٢) ، وخرق مسارب (٣) نفسي ، وخذاريف (٤) مارن عريني ، ومسارب سماخ (٥) (صماخ ـ خ ل ـ) سمعي ، وما ضمّت وأطبقت عليه شفتاي ، وحركات لفظ لساني ، ومغرز (٦) حنك فمي وفكّي ، ومنابت (٧) أضراسي ومساغ (٨) مطعمي ومشربي ، وحمالة (٩) اُمّ رأسي ، وبلوغ فارغ حبائل (وبلوغ حبائل) عنقي ، وما اشتمل عليه تامور (١٠) صدري ، وحمائل

__________________

(١) الدرأ : الدفع.

(٢) أسارير (أسرار) : وهي جمع السر (بالكسر والضم) ، خطوط الجبهة.

(٣) مسارب النفس : مجاريها في العروق والأعضاء ، وخرقها : منافذها.

(٤) خذاريف : جمع خذروف ، القطعة. والمارن : ما لانَ من الأنف.

(٥) مسارب الصماخ : ملتوياتها وقنواتها التي تصل منها الهواء إلى السامعة.

(٦) المغرز : موضع الغرز ، ومغرز الفكين : محل اتصالهما بالجسم.

(٧) المنابت : جمع منبت محل النبت. والأضراس : جمع ضِرس (بالكسر) ، الأسنان الخمسة أو الأربعة من كل جانب من جوانب الفك.

(٨) مساغ : مصدر ميمي ، الذي سهل ولانَ وهنأ.

(٩) الحمالة : علاقة السيف ؛ لأنها تحمله. وحمالة اُمّ الرأس : الرابطة التي تربط اُمّ الرأس ـ وهو المخ ـ بالبدن حتّى لا يتزحزح عن محله.

(١٠) التامور : الوعاء.

١٦٩

حبل وتيني (١) ، ونياط حجاب قلبي (٢) ، وأفلاذ حواشي كبدي (٣) ، وما حوته شراسيف أضلاعي (٤) ، وحقاق مفاصلي (٥) ، وقبض عواملي ، وأطراف أناملي ولحمي ودمي ، وشعري وبشري ، وعصبي وقصبي (٦) ، وعظامي ومخّي ، وعروقي وجميع جوارحي ، وما انتسج على ذلك أيّام رضاعي ، وما أقلّت الأرض منّي (٧) ، ونومي ويقظتي (٨) وسكوني ، وحركات ركوعي وسجودي : أن لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب (٩) ـ لو عمّرتها ـ أن اُؤدّي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلاّ بمنّك الموجب

__________________

(١) الوتين : عرق في القلب يجري منه الدم إلى كافة العروق. وحمائله : مواضع اتصاله بالجسم.

(٢) نياط القلب : عرقه الغليظ الذي إذا قُطع مات الشخص.

(٣) الأفلاذ : جمع فلذة (بالكسرة) ، القطعة ، أي قطع أطراف الكبد التي تعمل لأخذ الغذاء ، وتقسيمه إلى الأخلاط الأربعة.

(٤) شراسيف : جمع شرسوف (بالضم) ، طرف الضلع المشرف على البطن ؛ وهو القلب والرئتان وما إليهما من الأعضاء الرئيسة.

(٥) الحِقاق (بالكسر) : جمع الحُق (بالضم) ، النقر التي هي الأقفال للقبض والبسط.

(٦) العصب : الأطناب المنتشرة في الجسم الذي بها يتحرك الإنسان. والقصب : كل شيء مجوف مثل الاُنبوب ، ومنه القصب الذي يخرج منه النفس.

(٧) أقل : رفع.

(٨) اليقظة (بالتحريك) : خلاف النوم.

(٩) الأحقاب : جمع الحقب (بضمّتين) ، الدهر ، السنة أو السنون ، ثمانون سنة أو أكثر.

١٧٠

عليّ به شكرك أبداً جديداً ، وثناءً طارفاً عتيداً (١). أجل ولو حرصت أنا والعادون من أنامك أن نحصي مدى إنعامك سالفة (لفة ـ خ ل ـ) وآنفة ما حصرناه عدداً ، ولا أحصيناه أمداً ، هيهات أنّى ذلك! وأنت المخبر في كتابك الناطق والنبأ الصادق : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (٢). صدق كتابك اللّهمّ وأنباؤك ، وبلّغتْ أنبياؤك ورسلك ما أنزلت عليهم من وحيك ، وشرّعت لهم وبهم من دينك ، غير أنّي يا إلهي أشهد بجهدي وجدّي ، ومبلغ طاعتي ووسعي ، وأقول مؤمناً موقناً : الحمد لله الذي لم يتّخذ ولداً فيكون موروثاً ، ولم يكن له شريك في ملكه فيضادّه فيما ابتدع ، ولا ولي من الذلّ فيرفده فيما صنع (٣) ، فسبحانه سبحانه (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) وتفطّرتا (٤)! سبحان الله الواحد الأحد ، الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد! الحمد لله حمداً يعادل حمد ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين ، وصلّى الله على خيرته محمد خاتم النبيِّين ، وآله الطيبين الطاهرين المخلصين وسلّم».

وأخذ الحسين (عليه السّلام) يدعو الله وقد جرت دموع عينيه على سحنات وجهه الشريف وهو يقول :

«اللّهمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك ، وأسعدني بتقواك ، ولا تشقني بمعصيتك ، وخر لي في قضائك (٥) ، وبارك لي في قدرك حتّى لا اُحبّ تعجيل ما أخّرت ، ولا تأخير ما عجّلت. اللّهمّ اجعل غناي في نفسي ، واليقين

__________________

(١) الطارف : المستحدث. العتيد : الجسيم.

(٢) سورة إبراهيم / ٣٤.

(٣) رفده ، وأرفده : أعطاه.

(٤) تفطّر : انشق.

(٥) «اللّهمّ خر لي» : أي اختر لي أصلح الأمرين.

١٧١

في قلبي ، والإخلاص في عملي ، والنور في بصري ، والبصيرة في ديني ، ومتّعني بجوارحي ، واجعل سمعي وبصري الوارثين منّي ، وانصرني على مَن ظلمني ، وأرني فيه ثاري ومآربي (١) ، وأقرّ بذلك عيني. اللّهمّ اكشف كربتي ، واستر عورتي ، واغفر لي خطيئتي ، واخسأ شيطاني (٢) ، وفكّ رهاني ، واجعل لي يا إلهي الدرجة العليا في الآخرة والاُولى. اللّهمّ لك الحمد كما خلقتني فجعلتني سميعاً بصيراً ، ولك الحمد كما خلقتني فجعلتني خلقاً (حيا ـ خ ل ـ) سوياً ؛ رحمة بي وقد كنت عن خلقي غنياً. ربّ بما برأتني فعدلت فطرتي ، ربّ بما أنشأتني فأحسنت صورتي ، ربّ بما أحسنت إليّ وفي نفسي عافيتي ، ربّ بما كلأتني ووفّقتني ، ربّ بما أنعمت عليّ فهديتني ، ربّ بما أوليتني ومن كلِّ خير أعطيتني ، ربّ بما أطعمتني وسقيتني ، ربّ بما أغنيتني وأفنيتني ، ربّ بما أعنتني وأعززتني ، ربّ بما ألبستني من سترك الصافي ويسّرت لي من صنعك الكافي ، صلِّ على محمد وآل محمد ، وأعنّي بوائق الدهور (٣) ، وصروف الليالي والأيّام ، ونجّنا من أهوال الدنيا وكربات الآخرة ، واكفني شرّ ما يعمل الظالمون في الأرض.

اللّهمّ ما أخاف فاكفني ، وما أحذر فقني ، وفي نفسي وديني فاحرسني ، وفي سفري فاحفظني ، وفي أهلي ومالي فاخلفني (٤) ، وفيما رزقتني فبارك لي ، وفي نفسي فذلّلني ، وفي أعين الناس فعظّمني ، ومن شرِّ الجن والإنس فسلّمني ، وبذنوبي فلا تفضحني ، وبسريرتي فلا تخزني ، وبعملي

__________________

(١) الثار ، من ثأر من باب منع الدم ، والمآرب جمع مأرب بتثليث الراء : الحاجة.

(٢) خسأ ، من باب منع : طرد.

(٣) بوائق : جمع بائقة ، الشر والغائلة.

(٤) أي عوضني.

١٧٢

فلا تبتلني ، ونعمك فلا تسلبني ، وإلى غيرك فلا تكلّني (١). إلهي إلى مَن تكلّني؟ إلى قريب فيقطعني ، أم إلى بعيد فيتجهمني (٢) ، أم إلى المستضعفين لي وأنت ربّي ومليك أمري؟ أشكو إليك غربتي وبُعد داري ، وهواني على مَن ملكته أمري. إلهي فلا تحلل عليّ غضبك ؛ فإن لم تكن غضبت عليّ فلا اُبالي سواك. سبحانك! غير أنّ عافيتك أوسع لي ، فأسألك يا ربّ بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات ، وكشف به الظلمات ، وصلح به أمر الأوّلين والآخرين أن لا تميتني على غضبك ، ولا تنزل بي سخطك ، لك العتبى (٣) حتّى ترضى قبل ذلك ، لا إله إلاّ أنت ربّ البلد الحرام والمشعر الحرام ، والبيت العتيق الذي أحللته البركة وجعلته للناس أمناً.

يا مَن عفا عن عظيم الذنوب بحلمه ، يا مَن أسبغ النعماء بفضله (٤) ، يا مَن أعطى الجزيل بكرمه ، يا عدّتي في شدّتي (٥) ، يا صاحبي في وحدتي ، يا غياثي في كربتي ، يا وليي في نعمتي ، يا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، وربّ محمد خاتم النبيين وآله المنتجبين ، منزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ومنزل كهيعص وطه ويس القرآن الحكيم ، أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها (٦) وتضيق بي الأرض برحبها ، ولولا رحمتك لكنتُ من الهالكين ،

__________________

(١) من وكل يكل ، من باب ضرب : التفويض والتسليم إلى الغير.

(٢) تجهمه : استقبله بوجه كريه عبوس.

(٣) العتبى (بالضم) : الرضى.

(٤) أسبغ عليه النعم : وسع وأتمّ عليه جميع ما يحتاجه.

(٥) العدة (بالضم) : ما يستعد به الإنسان من مال أو سلاح.

(٦) الكهف (بالفتح) : الملجأ. والعي : العجز.

١٧٣

وأنت مقيل عثرتي (١) ، ولولا سترك إيّاي لكنت من المفضوحين ، وأنت مؤيّدي بالنصر على أعدائي ، ولولا نصرك إيّاى (لي ـ خ ل ـ) لكنت من المغلوبين.

يا مَن خصّ نفسه بالسموّ والرفعة فأولياؤه بعزّه يعتزّون ، يا مَن جعلت له الملوك نير المذلّة على أعناقهم (٢) فهم من سطواته خائفون ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور ، يا مَن لا يعلم كيف هو إلاّ هو ، يا مَن لا يعلم ما هو إلاّ هو ، يا مَن لا يعلمه إلاّ هو (يا مَن لا يعلم ما يعلمه إلاّ هو ـ خ ل ـ) ، يا مَن كبس الأرض على الماء (٣) وسدّ الهواء بالسماء (٤) ، يا مَن له أكرم الأسماء ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً.

يا مقيض الركب ليوسف في البلد القفر ومخرجه من الجب (٥) وجاعله بعد العبودية ملكاً ، يا رادّه على يعقوب بعد أن ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم ، يا كاشف الضرّ والبلوى عن أيوب ، وممسك يدي إبراهيم عن ذبح ابنه بعد كبر سنّه وفناء عمره ، يا مَن استجاب لزكريا فوهب له يحيى ، ولم يدعه فرداً وحيداً ، يا مَن أخرج يونس من بطن الحوت ، يا مَن فلق البحر لبني إسرائيل فأنجاهم ، وجعل فرعون وجنوده من المغرقين ، يا مَن أرسل الرياح مبشّرات بين يدي رحمته ، يا مَن لم يعجل على مَن عصاه من خلقه ، يا مَن استنقذ السحرة من بعد طول الجحود ،

__________________

(١) مقيل العثرة : الذي يصفح عن الذنوب ، ومنه الحديث : «مَن أقال مؤمناً أقاله الله يوم القيامة».

(٢) النير : الخشبة التي توضع على عنق الثور.

(٣) الكبس على الشيء : الشد والضغط عليه.

(٤) وهو الغلاف الجوّي الذي يمنع من تسرّب الهواء من الأرض.

(٥) الجب : البئر والحفرة العميقتين.

١٧٤

وقد غدوا في نعمته يأكلون رزقه ، ويعبدون غيره وقد حادوه ونادوه (١) وكذبوا رسله ، يا الله يا الله. يا بدئ يا بديع لا ندّ لك ، يا دائماً لا نفاد لك (٢) يا حيّاً حين لا حي ، يا محي الموتى ، يا مَن هو قائم على كل نفس بما كسبت ، يا مَن قلّ له شكري فلم يحرمني ، وعظمت خطيئتي فلم يفضحني ، ورآني على المعاصي فلم يشهرني ، يا مَن حفظني في صغري ، يا مَن رزقني في كبري ، يا مَن أياديه عندي لا تحصى ونعمه لا تجازى ، يا مَن عارضني بالخير والإحسان وعارضته بالإساءة والعصيان ، يا مَن هداني للإيمان من قبل أن أعرف شكر الامتنان ، يا مَن دعوته مريضاً فشفاني ، وعرياناً فكساني ، وجائعاً فأشبعني ، وعطشانَ فأرواني ، وذليلاً فأعزّني ، وجاهلاً فعرّفني ، ووحيداً فكثّرني ، وغائباً فردّني ، ومقلاًّ فأغناني ، ومنتصراً فنصرني ، وغنيّاً فلم يسلبني ، وأمسكت عن جميع ذلك فابتدأني فلك الحمد والشكر.

يا مَن أقال عثرتي ونفّس كربتي ، وأجاب دعوتي ، وستر عورتي ، وغفر ذنوبي ، وبلغني طلبتي ، ونصرني على عدويّ ، وإن أعدّ نعمك ومننك وكرائم منحك لا أحصيها ، أنت الذي أجملت ، أنت الذي أفضلت ، أنت الذي أكملت ، أنت الذي رزقت ، أنت الذي وفّقت ، أنت الذي أعطيت ، أنت الذي أغنيت ، أنت الذي أقنيت (٣) ، أنت الذي آويت ، أنت الذي كفيت ، أنت الذي هديت ، أنت الذي عصمت أنت الذي سترت ، أنت الذي غفرت ، أنت الذي أقلت ، أنت

__________________

(١) حاده : غضبه وأظهر العداوة له ، نادوه : أي جعلوا له ندّاً وشريكاً.

(٢) النفاد : الفناء والانقطاع.

(٣) أقناه الله : أي أعطاه بقدر ما يكفيه.

١٧٥

الذي مكّنت ، أنت الذي أعززت ، أنت الذي أعنت ، أنت الذي عضدت أنت الذي أيّدت ، أنت الذي نصرت ، أنت الذي شفيت ، أنت الذي عافيت ، أنت الذي أكرمت ، تباركت وتعاليت فلك الحمد دائماً ، ولك الشكر واصباً أبداً ، ثمّ أنا يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي.

أنا الذي أسأت ، أنا الذي أخطأت ، أنا الذي هممت ، أنا الذي جهلت ، أنا الذي غفلت ، أنا الذي سهوت ، أنا الذي اعتمدت ، أنا الذي تعمّدت ، أنا الذي وعدت ، أنا الذي أخلفت ، أنا الذي نكثت ، أنا الذي أقررت أنا الذي اعترفت بنعمتك عليّ وعندي ، وأبوء بذنوبي فاغفرها لي (١). يا مَن لا تضرّه ذنوب عباده وهو الغني عن طاعتهم ، والموفّق مَن عمل صالحاً منهم بمعونته ورحمته ، فلك الحمد إلهي وسيّدي.

إلهي أمرتني فعصيتك ، ونهيتني فارتكبت نهيك ، فأصبحت لا ذا براءة (لي ـ خ ل ـ) فاعتذر ، ولا ذا قوة فانتصر ، فبأي شيء استقبلك (استقيلك ـ خ ل ـ) يا مولاي؟! أبسمعي أم ببصري أم بلساني أم بيدي أم برجلي؟ أليس كلها نعمك عندي وبكلها عصيتك؟! يا مولاي فلك الحجة والسبيل عليّ.

يا مَن سترني من الآباء والاُمّهات أن يزجروني ، ومن العشائر والإخوان أن يعيروني ، ومن السلاطين أن يعاقبوني ، ولو اطّلعوا يا مولاي على ما اطّلعت عليه منّي إذاً ما أنظروني ، ولرفضوني وقطعوني ، فها أنا ذا يا إلهي بين يديك يا سيّدي خاضع ذليل حصير حقير ، لا ذو براءة فأعتذر ، ولا ذو قوة فأنتصر ، ولا حجة فاحتجّ بها ، ولا قائل لَم اجترح (٢) ولم أعمل سوءاً ، وما عسى الجحود ولو جحدت يا مولاي ينفعني! كيف وأنّى ذلك وجوارحي كلّها شاهدة عليّ بما قد عملت ، وعلمت يقيناً غير ذي شكّ أنّك سائلي من عظائم الأمور ،

__________________

(١) باء ، يبوء بالذنب : اعترف وتكلم به.

(٢) الاجتراح : الارتكاب والاكتساب.

١٧٦

وأنّك الحكم العدل الذي لا تجور ، وعدلك مهلكي ، ومن كل عدلك مهربي ؛ فإن تعذّبني يا إلهي فبذنوبي بعد حجّتك عليّ ، وإن تعفُ عنّي فبحلمك وجودك وكرمك ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الوجلين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الراجين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الراغبين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من المهلّلين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من السائلين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من المسبّحين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من المكبّرين ، لا إله إلاّ أنت سبحانك ربّي وربّ آبائي الأوّلين.

اللّهمّ هذا ثنائي عليك ممجّداً ، وإخلاصي لذكرك موحداً ، وإقراري بآلائك معدداً ، وإن كنت مقرّاً أنّي لم أحصها لكثرتها وسبوغها ، وتظاهرها وتقادمها إلى حادث ما لم تزل تتعهّدني به معها منذ خلقتني ، وبرأتني من أوّل العمر من الإغناء بعد الفقر ، وكشف الضر ، وتسبيب اليسر ، ودفع العسر ، وتفريج الكرب ، والعافية في البدن ، والسلامة في الدين. ولو رفدني على قدر ذكر نعمتك جميع العالمين من الأوّلين والآخرين ما قدرت ، ولا هم على ذلك ، تقدّست وتعاليت من ربّ كريم ، عظيم رحيم لا تحصى آلاؤك ، ولا يبلغ ثناؤك ، ولا تُكافى نعماؤك ، صلِّ على محمد وآل محمد ، وأتمم علينا نعمك ، وأسعدنا بطاعتك ، سبحانك لا إله إلاّ أنت.

اللّهمّ إنّك تجيب المضطر وتكشف السوء ، وتغيث المكروب ، وتشفي السقيم وتغني الفقير ، وتجبر الكسير ، وترحم الصغير ، وتعين الكبير ، وليس دونك ظهير ، ولا فوقك قدير ، وأنت العلي الكبير. يا مطلق المكبل الأسير ، يا رازق الطفل الصغير ، يا عصمة الخائف المستجير ، يا مَن لا شريك له ولا وزير صلّ على محمد وآله محمد ، وأعطني في هذه العشيّة أفضل ما أعطيت وأنلت

١٧٧

أحداً من عبادك ، ومن نعمة توليها ، وآلاء تجددها ، وبلية تصرفها ، وكربة تكشفها ، ودعوة تسمعها ، وحسنة تتقبّلها ، وسيّئة تتغمّدها ، إنّك لطيف بما تشاء خبير وعلى كل شيء قدير.

اللّهمّ انك أقرب مَن دعي ، وأسرع مَن أجاب ، وأكرم مَن عفا ، وأوسع مَن أعطى ، وأسمع مَن سُئل ، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، ليس كمثلك مسؤول ، ولا سواك مأمول ؛ دعوتك فأجبتني ، وسألتك فأعطيتني ، ورغبت إليك فرحمتني ، ووثقت بك فنجّيتني ، وفزعت إليك فكفيتني ، اللّهمّ فصلّ على محمد عبدك ورسولك ونبيّك ، وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين ، وتمّم لنا نعماءك ، وهنّئنا عطاءك ، واكتبنا لك شاكرين ، ولآلائك ذاكرين آمين آمين رب العالمين.

اللّهمّ يا مَن ملك فقدر ، وقدر فقهر وعصي فستر ، واستغفر فغفر يا غاية الطالبين الراغبين ، ومنتهى أمل الراجين. يا مَن أحاط بكل شيء علماً ، ووسع المستقيلين رأفةً ورحمةً وحلماً. اللّهمّ إنّا نتوجّه إليك في هذه العشيّة التي شرّفتها وعظّمتها بمحمد نبيّك ورسولك ، وخيرتك من خلقك ، وأمينك على وحيك البشير النذير ، السراج المنير الذي أنعمت به على المسلمين ، وجعلته رحمة للعالمين ، اللّهمّ فصلّ على محمد وآله محمد ، كما محمد أهلٌ لذلك منك يا عظيم ، فصلّ عليه وعلى آله المنتجبين الطيبين الطاهرين أجمعين ، وتغمدنا بعفوك عنّا ، فإليك عجّت (١) الأصوات بصنوف اللغات فاجعل لنا اللّهمّ في هذه العشيّة نصيباً من كل خير تقسمه بين عبادك ، ونوراً تهدي به ، ورحمة تنشرها وبركة تنزلها ، وعافية تجللها ورزقاً تبسطه يا أرحم الراحمين.

اللّهمّ اقبلنا في هذا الوقت منجحين مفلحين ، مبرورين غانمين (٢) ،

__________________

(١) عج : صاح وارتفع صوته.

(٢) البر (بالكسر) : الصلاح والطاعة. والغانم : هو الذي يفوز وينال الغنيمة.

١٧٨

ولا تجعلنا من القانطين (١) ولا تخلنا من رحمتك ، ولا تحرمنا ما نؤمله من فضلك ، ولا تجعلنا من رحمتك محرومين ولا لفضل ما نؤمله من عطائك قانطين ولا تردّنا خائبين ، ولا من بابك مطرودين ، يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ، إليك أقبلنا موقنين ، ولبيتك الحرام آمّين قاصدين (٢) ، فأعنّا على مناسكنا ، وأكمل لنا حجّنا واعف عنّا ، وعافنا فقد مددنا إليك أيدينا ، فهي بذلّة الاعتراف موسومة.

اللّهمّ فأعطنا في هذه العشيّة ما سألناك ، واكفنا ما استكفيناك ، فلا كافي لنا سواك ، ولا ربّ لنا غيرك ، نافذ فينا حكمك ، محيط بنا علمك ، عدل فينا قضاؤك ، اقض لنا الخير ، واجعلنا من أهل الخير. اللّهمّ أوجب لنا بجودك عظيم الأجر وكريم الذخر ودوام اليسر ، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين ، ولا تهلكنا مع الهالكين ولا تصرف عنّا رأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين. اللّهمّ اجعلنا في هذا الوقت ممّن سألك فأعطيته وشكرك فزدته ، وتاب إليك فقبلته ، وتنصّل (٣) إليك من ذنوبه كلّها فغفرتها له يا ذا الجلال والإكرام.

اللّهمّ ونقنا (وفقنا ـ خ ل ـ) وسددنا (واعصمنا ـ خ ل ـ) وأقبل تضرّعنا ، يا خير مَن سُئل ، ويا أرحم مَن استرحم ، يا مَن لا يخفى عليه إغماض الجفون ولا لحظ العيون ، ولا ما استقرّ في المكنون ولا ما انطوت عليه مضمرات القلوب ، ألا كل ذلك قد أحصاه علمك ووسعه حلمك ، سبحانك وتعاليت عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً! تسبّح لك السموات السبع والأرضون ومَن فيهن ، وإن من شيء إلاّ يسبح بحمدك ، فلك الحمد والمجد وعلو الجد ، يا ذا الجلال والإكرام ، والفضل والإنعام ، والأيادي الجسام ، وأنت

__________________

(١) القنوط (بالضم) : اليأس.

(٢) آمين (بالتشديد) : قاصدين.

(٣) تنصّل : خرج وتبرّأ.

١٧٩

الجواد الكريم ، الرؤوف الرحيم. اللّهمّ أوسع عليّ من رزقك الحلال ، وعافني في بدني وديني ، وآمن خوفي ، واعتق رقبتي من النار. اللّهمّ لا تمكر بي ، ولا تستدرجني (١) ولا تخدعني ، وادرأ عنّي شرّ فسقة الجن والإنس».

ثمّ رفع بصره إلى السماء وقال برفيع صوته : «يا أسمع السامعين ، يا أبصر الناظرين ويا أسرع الحاسبين ، ويا أرحم الراحمين ، صلّ على محمد وآل محمد السادة الميامين (٢) وأسألك اللّهمّ حاجتي التي إن أعطيتنيها لم يضرنّي ما منعتني ، وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني ، أسألك فكاك رقبتي من النار ، لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ، لك الملك ولك الحمد ، وأنت على كل شيء قدير يا رب يا رب».

وأثّر هذا الدعاء تأثيراً عظيما في نفوس مَن كان مع الإمام ، فاتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحوه يستمعون دعاءه ، وعلت أصواتهم بالبكاء معه ، وذهلوا عن الدعاء لأنفسهم في ذلك المكان الذي يستحب فيه الدعاء ، ويقول الرواة : إنّ الإمام استمرّ يدعو حتّى غربت الشمس ، فأفاض إلى (المزدلفة) وفاض الناس معه (٣).

جوامع الكلم :

ومنح الله الإمام الحسين أعنة الحكمة ، وفصل الخطاب فكانت تتدفّق

__________________

(١) الاستدراج من الله للعبد أن يفعل شيئاً بالنسبة إلى العبد حتّى لا يوفّق أن يتوب ويرجع إلى خالقه.

(٢) الميامين جمع ميمون : ذو اليمين والبركة.

(٣) زاد المعاد للمجلسي ، البلد الأمين للكفعمي ، بلاغة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، الإقبال لابن طاووس وفيه زيادة على هذا الدعاء.

١٨٠