حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٣

ـ «نعم وهذه تربته» (١).

٨ ـ روى أنس بن الحارث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «إنّ ابني هذا ـ وأشار إلى الحسين ـ يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء ، فمَن شهد ذلك منكم فلينصره». ولمّا خرج الحسين إلى كربلاء خرج معه أنس ، واستشهد بين يديه (٢).

٩ ـ روت اُمّ سلمة قالت : كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي في بيتي ، فنزل جبرئيل فقال : يا محمد ، إنّ اُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ، وأشار إلى الحسين. فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وضمّه إلى صدره ، وكان بيده تربة فجعل يشمّها وهو يقول : «ويح كرب وبلاء». وناولها اُمّ سلمة فقال لها : «إذا تحوّلت هذه التربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قُتل». فجعلتها اُمّ سلمة في قارورة ، وجعلت تتعاهدها كل يوم وهي تقول : إنّ يوماً تتحوّلين دماً لَيوم عظيم (٣).

١٠ ـ رأى النبي (صلّى الله عليه وآله) في منامه كأنّ كلباً أبقع يلغ في دمه ، فأوّله بأنّ رجلاً يقتل ولده الحسين ، فكان شمر بن ذي الجوشن الأبرص هو الذي قتل الإمام (ع) (٤).

١١ ـ روت اُمّ سلمة قالت : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «يُقتل الحسين بن علي على رأس ستين من مهاجرتي» (٥).

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٨٩.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٣) المعجم الكبير للطبراني في ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام).

(٤) تاريخ الخميس ٢ / ٣٣٤.

(٥) المعجم الكبير للطبراني.

١٠١

١٢ ـ روى معاذ بن جبل قال : خرج علينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال : «أنا محمد ، اُوتيت فواتح الكلام وخواتمه ، فأطيعوني ما دمتُ بين أظهركم. فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله عزّ وجلّ ؛ أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه. أتتكم الموتة ... أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلمّا ذهب رسل جاءت رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكاً ، رحم الله مَن أخذها بحقّها وخرج منها كما دخلها. أمسك يا معاذ وأحصِ».

قال معاذ : فأحصيت خمسة ـ يعني من الخلفاء ـ ، فقال النبي (ص) : «يزيد ، لا بارك الله في يزيد». ثمّ ذرفت عيناه بالدموع ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «نُعي إليّ الحسين ، واُتيت بتربته ، واُخبرت بقاتله ، لا يُقتل بين ظهراني قوم لا يمنعوه إلاّ خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلّط عليهم أشرارهم ، وألبسهم شيعاً».

ثمّ قال (ص) : «وآهاً لفراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خَلَفي وخَلَف الخَلَف! أمسك يا معاذ». فلمّا بلغت عشرة ـ أي عشرة أشخاص من الذين يتولّون الحكم من بعده ـ قال : «الوليد (١) اسم فرعون هادم شرايع الإسلام ، يبوء بدمه رجل من أهل بيته ، يسلّ الله سيفه فلا غماد له ، واختلف الناس

__________________

(١) الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الملك الفاسق الذي انتهك جميع حرمات الله ، أراد الحجّ لشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ، وهو أشدّ على هذه الاُمّة من فرعون على قومه ، كما في الحديث ، وهو الذي رشق المصحف بالسهام. وقد نقم عليه المسلمون لِما أظهره من الإلحاد والبدع والاستهتار بالفسق ، وقد ثاروا عليه وقتلوه. جاء ذلك في تاريخ الخلفاء / ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

١٠٢

وكانوا هكذا». وشبك بين أصابعه ، ثمّ قال : «بعد العشرين ومئة موت سريع ، وقتل ذريع ، ففيه هلاكهم ، ويلي عليهم رجل من ولد العباس» (١).

لقد استشفّ النبي (صلّى الله عليه وآله) من وراء الغيب ما تُمنى به اُمّته من بعده من الكوارث والفتن ؛ من جرّاء ما يحدث فيما بينها من الصراع الرهيب على الحكم ، حتّى يؤول أمر المسلمين إلى فراعنة الشر ، وجبابرة الكفر من بني أميّة فيمعنون في قتل المسلمين وإذلالهم ، كما أخبر بما سيجري على سبطه من القتل والتنكيل من يزيد بن معاوية ، وأخبره (صلّى الله عليه وآله) عن زوال الحكم الاُموي وانتقاله إلى بني العباس ، وعمّا تعانيه الاُمّة في تلك الفترات العصبية من القتل والجور والظلم ، وقد تحقق جميع ذلك على مسرح الحياة كما أخبر الصادق الأمين.

١٣ ـ روى ابن عباس قال : لمّا أتت على الحسين سنتان من مولده خرج النبي (صلّى الله عليه وآله) في سفر له ، فلمّا كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ، ودمعت عيناه ، فسئل عن ذلك؟ فقال : «هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشاطئ الفرات يُقال لها كربلاء ، يُقتل بها ولدي الحسين بن فاطمة». فانبرى إليه نفر من أصحابه فقالوا له : مَن يقتله يا رسول الله؟!

فاندفع يجيبهم بنبرات متقطعة حزينة قائلاً : «رجل يُقال له يزيد ، لا بارك الله في نفسه. وكأنّي أنظر إلى مصرعه ومدفنه بها ، وقد أهدى برأسه. والله ما ينظر أحد إلى رأس ولدي الحسين فيفرح إلاّ خالف الله بين قلبه ولسانه».

ولمّا قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) من سفره كان مغموماً ، فصعد المنبر ووعظ المسلمين وقد حمل حفيديه وريحانتيه ، فرفع رأسه صوب السماء وقال :

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني في ترجمة الإمام الحسين ، مجمع الزوائد ٩ / ١٩٠.

١٠٣

«اللّهمّ إنّي محمد عبدك ونبيّك ، وهذا أطايب عترتي ، وخيار ذرّيتي وأرومتي ، ومَن اُخلّفهم في اُمّتي. اللّهمّ وقد أخبرني جبريل بأنّ ولدي هذا ـ وأشار إلى الحسين ـ مقتول مخذول. اللّهمّ فبارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، إنّك على كل شيء قدير. اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله».

وانقلبت ساحة الجامع إلى صرخة مدويّة من البكاء والعويل ، فقال لهم النبي : «أتبكون ولا تنصرونه؟! اللّهمّ فكن أنت ولياً وناصراً».

قال ابن عباس : وبقي النبي (صلّى الله عليه وآله) متغيّر اللون محمرّ الوجه ، فصعد المنبر مرة اُخرى وخطب الناس خطبة بليغة موجزة ، وعيناه تهملان دموعاً ، ثمّ قال : «أيها الناس ، إنّي قد خلّفت فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي وأرومتي ومراح مماتي (١) وثمرتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم المودّة في القربى ، فانظروا أن لا تلقوني غداً على الحوض وقد أبغضتم عترتي.

ألا وإنّه سيرد عليّ في القيامة ثلاث رايات من هذه الاُمّة : راية سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة ، فتقف عليّ ، فأقول : مَن انتم؟ فينسون ذكري ، ويقولون : نحن من أهل التوحيد من العرب. فأقول : أنا أحمد نبي العرب والعجم. فيقولون نحن من اُمّتك يا أحمد. فأقول لهم : كيف خلّفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون : أمّا الكتاب فضيّعنا ومزّقنا ، وأمّا عترتك فحرصنا على أن يندهم (٢) من جديد الأرض

__________________

(١) هكذا في الأصل ، والصحيح (ومزاج مائي).

(٢) هكذا في الأصل ، والصحيح على أن نبيدهم.

١٠٤

فأولّي عنهم وجهي ، فيصدرون ظماء عطاشى مسودّة وجوههم. ثمّ ترد عليّ راية اُخرى أشدّ سواداً من الاُولى ، فأقول لهم : مَن أنتم؟ فيقولون كما تقول الاُولى : إنّهم من أهل التوحيد نحن من اُمّتك. فأقول لهم : كيف خلّفتموني في الثقلين الأصغر والأكبر ؛ في كتاب الله وفي عترتي؟ فيقولون : أمّا الأكبر فخالفنا ، وأمّا الأصغر فخذلنا ومزّقناهم كل ممزّق. فأقول : إليكم عنّي. فيصدرون ظماء عطاشى مسودّة وجوههم.

ثمّ ترد عليّ راية اُخرى تلمع نوراً ، فأقول لهم : مَن أنتم؟ فيقولون : نحن كلمة التوحيد ، نحن اُمّة محمد ، ونحن بقية أهل الحقّ الذي حملنا كتاب ربّنا ؛ فأحللنا حلاله ، وحرّمنا حرامه ، وأحببنا ذرّيّة نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله) فنصرناهم بما نصرنا أنفسنا ، وقاتلنا معهم ، وقاتلنا مَن ناواهم. فأقول لهم : أبشروا فأنا نبيّكم محمد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويِّين. ألا وإنّ جبرئيل قد أخبرني بأنّ اُمّتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء ، ألا فلعنة الله على قاتله وخاذله إلى آخر الدهر». ثمّ نزل عن المنبر ، ولم يبقَ أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ واستيقن أنّ الحسين (عليه السّلام) مقتول (١).

هذه بعض الأخبار التي أعلن بها النبي (صلّى الله عليه وآله) عن مقتل سبطه وريحانته ، ويلمس فيها ذوب روحه أسى وحزناً عليه ، وقد تأكّد المسلمون من هذه الأخبار بقتل الإمام ولم يخالجهم فيه أدنى شكّ ، كما آمن بها الحسين (عليه السّلام) ، وأعلن ذلك في كثير من المواقف التي سنتعرض لها في غضون هذا الكتاب.

__________________

(١) الفتوح ٤ / ٢١٦ ـ ٢١٩.

١٠٥

احتفاء الصحابة بالحسين (عليه السّلام) :

واحتفت الصحابة بالإمام الحسين احتفاءً بالغاً ، وقابلوه بمزيد من التكريم والتعظيم ، وأحلّوه محلّ جدّه العظيم (صلّى الله عليه وآله) ، وقد وجدوا فيه ما يرومونه من العلم والتقوى والحريجة في الدين ، ويقول المؤرّخون : إنّه كان يحنو عليهم ويحدب على ضعفائهم ، ويشاركهم في البأساء والضراء ، ويصفح عن مسيئهم ، ويتعهّد جميع شؤونهم كما كان يصنع معهم جدّه الأعظم (صلى الله عليه وآله).

وتسابق أعلام الصحابة ووجوههم للقيام بخدمته وخدمة أخيه الزكي الإمام أبي محمد الحسن (عليه السّلام) ، وكانوا يرون أنّ أيّة خدمة تسدى لهما فإنّما هي شرف ومجد لمَن يقوم بها ، فهذا عبد الله بن عباس حبر الاُمّة ، على جلالة قدره وعظيم مكانته بين المسلمين ، كان إذا أراد الحسن والحسين أن يركبا بادر فأمسك لهما الركاب ، وسوى عليهما الثياب معتزّاً بذلك. وقد لامه على ذلك مدرك بن زياد أو ابن عمارة ، فزجره ابن عباس وقال له : يا لكع ، أو تدري مَن هذان؟ هذان ابنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو ليس مما أنعم الله به عليّ أن أمسك لهما الركاب ، واُسوي عليهما الثياب؟ (١).

وبلغ من تعظيم المسلمين ، وتكريمهم لهما أنّهما لمّا كانا يَفِدان إلى بيت الله الحرام ماشيين يترجّل الركب ـ الذي يجتازان عليه ـ تعظيماً لهما ، حتّى شَقَ المشي على كثير من الحجّاج فكلّموا أحد أعلام الصحابة ، وطلبوا منه أن يعرض عليهما الركوب أو التنكّب عن الطريق ، فعرض عليهما ذلك ،

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٢١٢ ، مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ١٤٣.

١٠٦

فقالا : لا نركب ، ولكن نتنكّب عن الطريق. وسلكا طريقاً آخر.

وكانا إذا طافا بالبيت الحرام يكاد الناس أن يحطموهما من كثرة السّلام عليهما ، والتبرّك بزيارتهما (١).

ومن ألوان ذلك التقدير أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) اجتاز في مسجد جدّه على جماعة فيهم عبد الله بن عمرو بن العاص فسلّم عليهم فردّوا عليه السّلام ، فانبرى إليه عبد الله فردّ عليه السّلام بصوت عالٍ ، وأقبل على القوم فقال لهم : ألا أخبركم بأحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟

ـ بلى.

ـ هذا الماشي ـ وأشار إلى الحسين ـ ما كلّمني كلمة منذ ليالي صفّين ، ولئن يرضى عنّي أحبّ إليّ من أن يكون لي حمر النِعم.

وانبرى إليه أبو سعيد الخدري ، فقال : ألا تعتذر إليه؟ فأجابه إلى ذلك. وخفّا إلى بيت الإمام ، فاستأذنا منه فأذن لهما ، ولمّا استقرّ بهما المجلس أقبل الإمام على عبد الله فقال له : «أعلمت يا عبد الله أنّي أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟».

فأسرع عبد الله مجيباً : أي وربّ الكعبة.

ـ «ما حملك على أن قاتلتني وأبي يوم صفّين ، فوالله لأبي كان خيراً منّي؟!».

وألقى عبد الله معاذيره قائلاً :

أجل ، ولكن عمرو ـ يعني أباه ـ شكاني إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ،

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٣٧.

١٠٧

قال له : إنّ عبد الله يقوم الليل ويصوم النهار ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «صلِّ ونَم ، وصُم وأفطر ، وأطع عمرواً». فلمّا كان يوم صفّين أقسم عليّ فخرجت. أما والله ما اخترطت سيفاً ، ولا طعنت برمح ، ولا رميت بسهم ، وما زال يتلطّف بالإمام حتّى رضي عنه (١). وقد كان عذره في طاعة أبيه في محاربة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لا يحمل طابعاً من المشروعية ؛ فإنّ طاعة الأبوين لا تشرع في معصية الله حسب ما جاء في القرآن.

وعلى أيّ حال فقد كان الإمام الحسين موضع عناية المسلمين وإجلالهم ، ويقول المؤرّخون : إنّه حضر تشييع جنازة فسارع أبو هريرة فجعل ينفض بثوبه التراب والغبار عن قدمه (٢) ، وقد أوصى المقداد بن الأسود صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحد السابقين الأوّلين للإسلام أن تدفع للحسين ستة وثلاثون ألفاً من تركته بعد وفاته (٣).

لقد رأت الصحابة أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) هو بقية الله في أرضه والمثل الأعلى لجدّه ، فأوْلَته المزيد من حبّها وتقديرها ، وراحت تتسابق للتشرّف بخدمته وزيارته.

__________________

(١) اُسد الغابة ٢ / ٣٤ ، كنز العمال ٦ / ٨٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ١٩٣ ، وفي كفاية الطالب / ٤٢٥ عن أبي المهزام قال : كنّا في جنازة امرأة ومعنا أبو هريرة ، فجيء بجنازة رجل فجعلها بين المرأة فصلّى عليهما ، فلمّا أقبلنا أعيا الحسين فقعد في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه ، فقال الحسين : «أتفعل هذا؟!». فقال أبو هريرة : دعني منك ، فوالله لو علم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم.

(٣) سير أعلام النبلاء ١ / ٢٨٠.

١٠٨

لمحات

من مُثل الإمام الحسين (عليه السّلام)

١٠٩
١١٠

وتجسّدت في شخصية أبي الأحرار جميع القِيَم الإنسانية والمثُل العليا ، والتقت به عناصر النبوّة والإمامة ، فكان بحكم مثُله وتهذيبه فذّاً من أفذاذ التكامل الإنساني ، ومثلاً رائعاً من أمثلة الرسالة الإسلامية ، فهو ـ بحق ـ الاُطروحة الخالدة للإسلام بجميع طاقاته ومقوّماته.

إنّ أيّة صفة من صفات أبي الشهداء أو نزعة من نزعاته الكريمة لترفعه عالياً على جميع عظماء العالم ، وتدفع إلى القول ـ بلا مغالاة ـ : إنّه نسخة لا ثاني لها في تاريخ البشرية على الإطلاق ما عدا جدّه وأبيه ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض خصائصه وذاتيّاته.

إمامته :

الإمام الحسين أحد الكواكب المشرقة من أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين استكملت فيهم الصفات الإنسانية ، وبلغوا ذروة الكمال المطلق ، وأقاموا منار هذا الدين ، ورفعوا شعار الحق والعدل في الأرض ، وتبنّوا القضايا المصيرية للإسلام ، وعانوا في سبيله جميع ألوان الكوارث والخطوب ، ولاقوا كل جهد وضيق من جبابرة عصورهم الذين اتّخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً.

وقد نظر النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ وهو يوحى إليه ـ من خلال الأحقاب المترامية إلى الأئمة الطاهرين من أهل بيته فعرّفهم بأسمائهم وصفاتهم ، ودلّل بنصوصه العامّة والخاصّة على أنّهم خلفاؤه وأوصياؤه ، وأنّهم سفن النجاة وأمن العباد ، وقرنهم بكتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد ألمعنا إلى الكثير من تلكم النصوص في البحوث

١١١

السابقة فلم تعُد هنا ضرورة لذكرها ، كما أنّا بحثنا بصورة موضوعية وشاملة عن الإمامة وضرورتها ، وواجبات الإمام وصفاته في كتابنا (حياة الإمام الحسن) فلا حاجة لإعادة البحث هنا.

مظاهر شخصيّته :

أمّا الظاهر الفذّة التي اتّصفت بها شخصية أبي الأحرار ، وكانت من عناصره ومقوّماته فهي :

١ ـ قوّة الإرادة :

من النزعات الذاتية لأبي الشهداء (عليه السّلام) قوّة الإرادة ، وصلابة العزم والتصميم ، وقد ورث هذه الظاهرة الكريمة من جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي غيّر التاريخ ، وقلب مفاهيم الحياة ، ووقف صامداً وحده أمام القوى الهائلة التي هبّت لتمنعه من أن يقول كلمة الله ، فلم يعنِ بها وراح يقول لعمّه أبي طالب مؤمن قريش : «والله ، لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بيساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى أموت أو يظهره الله».

بهذا الإرادة الجبارة قابل قوى الشرك ، واستطاع أن يتغلّب على مجريات الأحداث ، وكذلك وقف سبطه العظيم في وجه الحكم الاُموي فأعلن بلا تردّد رفضه لبيعة يزيد ، وانطلق مع قلّة الناصر إلى ساحات الجهاد ليرفع كلمة الحق ، ويدحض كلمة الباطل ، وقد حشدت عليه الدولة

١١٢

الاُمويّة جيوشها الهائلة ، فلم يحفل بها ، وأعلن عن عزمه وتصميمه بكلمته الخالدة قائلاً : «لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما».

وانطلق مع الاُسرة الكريمة من أهل بيته وأصحابه إلى ميدان الشرف والمجد ليرفع راية الإسلام ، ويحقّق للاُمّة الإسلامية أعظم الانتصارات والفتح حتّى استشهد سلام الله عليه ، وهو من أقوى الناس إرادة ، وأمضاهم عزيمة وتصميماً ، غير حافل بما عاناه من الكوارث التي تذهل العقول وتحيّر الألباب.

٢ ـ الإباء عن الضيم :

والصفة البارزة من نزعات الإمام الحسين (عليه السّلام) الإباء عن الضيم ، حتّى لقّب (بأبي الضيم) ، وهي من أعظم ألقابه ذيوعاً وانتشاراً بين الناس ؛ فقد كان المثل الأعلى لهذه الظاهرة ، فهو الذي رفع شعار الكرامة الإنسانية ورسم طريق الشرف والعزّة ، فلم يخنع ولم يخضع لقرود بني اُميّة ، وآثر الموت تحت ظلال الأسنة. يقول عبد العزيز بن نباتة السعدي :

والحسينُ الذي رأى الموتَ في العـ

ـزِ حياةً والعيشَ في الذلِّ قتلا

ووصفه المؤرّخ الشهير اليعقوبي بأنّه شديد العزّة (١). يقول ابن أبي الحديد :

سيّد أهل الإباء الذي علّم الناس الحميّة ، والموت تحت ظلال السيوف اختياراً على الدنيّة ، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) عرض عليه الأمان هو وأصحابه فأنف من الذل ، وخاف ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله ، فاختار الموت على ذلك. وسمعت النقيب

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٩٣.

١١٣

أبا زيد يحيى بن زيد العلوي يقول : كأنّ أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلاّ في الحسين :

وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ

إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ

وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ

هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ

فَأَثبَتَ في مُستَنقَعِ المَوتِ رِجلَهُ

وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ

تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما بدا

لَها اللَيلُ إِلاّ وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ (١)

لقد علّم أبو الأحرار الناس نبل الإباء ونبل التضحية ، يقول فيه مصعب ابن الزبير : واختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة (٢) ، ثمّ تمثّل :

وإن الاُلى بالطفِّ من آل هاشم

تآسوا فسنّوا للكرام التآسيا

وقد كات كلماته يوم الطفِّ من أروع ما أثر من الكلام العربي في تصوير العزّة والمنعة والاعتداد بالنفس يقول : «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبّية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

ووقف يوم الطفِّ كالجبل الأشم ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة من جيوش الردّة الاُمويّة ، وقد ألقى عليهم وعلى الأجيال أروع الدروس عن الكرامة وعزّة النفس وشرف الإباء قائلاً :

«والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد ، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ».

وألقت هذه الكلمات المشرقة الأضواء على مدى ما يحمله الإمام العظيم

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٧٣.

١١٤

من الكرامة التي التي لا حدّ لأبعادها ، والتي هي من أروع ما حفل به تاريخ الإسلام من صور البطولات الخالدة في جميع الآباد.

وتسابق شعراء أهل البيت (عليهم السّلام) إلى تصوير هذه الظاهرة الكريمة ، فكان ما نظموه في ذلك من أثمن ما دوّنته مصادر الأدب العربي ، وقد عنى السّيد حيدر الحلّي إلى تصوير ذلك في كثير من روائعه الخالدة التي رثى بها جدّه الحسين ، يقول :

طمعتْ أن تسومَهُ القومُ ضيماً

وأبى الله والحسامُ الصنيعُ

كيف يلوي على الدنيةِ جيداً

لسوى اللهِ ما لواه الخضوعُ

ولديه جأشٌ أردُّ من الدرع

لضمأى القنا وهنَّ شُروعُ

وبه يرجعُ الحفاظُ لصدرٍ

ضاقت الأرضُ وهي فيه تضيعُ

فأبى أن يَعيشَ إلاَّ عزيزاً

أو تجلَّى الكفاحُ وهو صريعُ (١)

ولم تصوّر منعة النفس وإباؤها بمثل هذا التصوير الرائع ، فقد عرض حيدر إلى ما صممت عليه الدولة الاُمويّة من إرغام الإمام الحسين (عليه السّلام) على الذل والهوان ، وإخضاعه لجورهم واستبدادهم ، ولكن يأبى له الله ذلك ، وتأبى له نفسه العظيمة التي ورثت عزّ النبوة أن يقرّ على الضيم ؛ فإنّه سلام الله عليه لم يلو جيده خاضعاً لأيّ أحد إلاّ لله ، فكيف يخضع لأقزام بني اُميّة؟! وكيف يلويه سلطانهم عن عزمه الجبار الذي هو أرد من الدرع للقنا الضامئة ، وما أروع قوله :

وبه يرجعُ الحفاظُ لصدرٍ

ضاقت الأرضُ وهي فيه تضيعُ

وهل هناك أبلغ أو أدقّ وصفاً لإباء الإمام الحسين (عليه السّلام) وعزّته من هذا الوصف؟ فقد أرجع جميع طاقات الحفّاظ والذمام لصدر الإمام (عليه السّلام) التي ضاقت الأرض من صلابة عزمه وتصميمه ، بل إنّها على سعتها تضيع فيه

__________________

(١) ديوان السّيد حيدر / ٨٧.

١١٥

ومن الحقّ أنّه قد حلّق في وصفه لإباء الإمام ، ويضاف لذلك جمال اللفظ فليس في هذا الشعر كلمة غريبة أو حرف ينبو على السمع. وانظر إلى هذه الأبيات من رائعته الاُخرى التي يصف بها إباء الحسين (عليه السّلام) ، يقول :

لقد مات لكنْ ميتةً هاشميّةً

لهمْ عُرفت تحت القنا المتقصّدِ

كريمٌ أبى شمّ الدنيةِ أنفُهُ

فأشمَمهُ شوكَ الوشيج المُسدّدِ

وقال قفي يا نفسُ وقفةَ واردٍ

حياضَ الردى لا وقفة المتردّدِ

رأى أنّ ظهرَ الذلِّ أخشن مركباً

من الموتِ حيثُ الموتُ منه بمرصدِ

فآثر أن يسعى على جمرةِ الوغى

برجلٍ ولا يعطي المقادةَ عن يدِ (١)

لا أكاد أعرف شعراً أدقّ ولا أعذب من هذا الشعر ، فهو يمثّل أصدق تمثيل منعة الإمام العظيم ، وعزّة نفسه التي آثرت الموت تحت ظلال الأسنة على العيش الرغيد بذلٍّ وخنوع ، ناهجاً بذلك منهج الشهداء من أسرته الذين تسابقوا إلى ساحات النضال ، واندفعوا بشوق إلى ميادين التضحية والفداء لينعموا بالكرامة والعزّة.

ومضى السيد حيدر في تصويره لإباء الإمام الشهيد فوصفه بأنّه أبى شمّ الدنيّة والضيم ، وعمد إلى شمّ الرماح والسيوف ؛ لأن بها طعام الإباء وطعم الشرف والمجد ... وعلى هذا الغرار من الوصف الرائع يمضي حيدر في تصويره لمنعة الإمام ، تلك المنعة التي ملكت مشاعره وعواطفه كما ملكت عواطف غيره ، ومن المقطوع به أنّه لم يكن متكلّفاً بذلك ولا منتحلاً ، وإنما وصف الواقع وصفاً صادقاً لا تكلّف فيه.

ويقول السيد حيدر في رائعة اُخرى يصف بها إباء الإمام وسموّ ذاته ،

__________________

(١) ديوان السّيد حيدر / ٧١.

١١٦

ولعلّها من أجمل ما رثى به الإمام (عليه السّلام) ، يقول :

وسامتهُ يركبُ إحدى اثنتينْ

وقد صرّت الحربُ أسنانَها

فإمّا يُرى مُذعناً أو تموت

نفسٌ أبى العزُّ إذعانَها

فقال لها اعتصمي بالإباءِ

فنفسُ الأبيّ وما زانَها

إذا لم تجد غيرَ لبسِ الهوانِ

فبالموتِ تنزع جثمانَها

رأى القتل صبراً شعارَ الكرامِ

وفخراً يُزينُ لها شأنَها

فشمَّر للحرب في مَعركٍ

به عرك الموتُ فرسانَها (١)

إنّ مراثي حيدر للإمام تعدّ بحقٍّ طغراء مشرقاً في تراث الاُمّة العربية ، فقد فكّر فيها تفكيراً جادّاً ، ورتّب أجزاءها ترتيباً دقيقاً حتّى جاءت بهذه الروعة ، وكان ـ فيما يقول معاصروه ـ ينظم في كل حول قصيدة خاصّة في الإمام (عليه السّلام) ويعكف طيلة عامه على إصلاحها ، ويمعن إمعاناً دقيقاً في كل كلمة من كلماتها ، حتّى جاءت بمنتهى الروعة والإبداع.

٣ ـ الشجاعة :

ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التاريخ أشجع ، ولا أربط جأشاً ، ولا أقوى جناناً من الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فقد وقف يوم الطفِّ موقفاً حيّر فيه الألباب ، وأذهل فيه العقول ، وأخذت الأجيال تتحدّث بإعجاب وإكبار عن بسالته وصلابة عزمه ، وقدّم الناس شجاعته على شجاعة أبيه التي استوعبت جميع لغات الأرض.

وقد بهر أعداؤه الجبناء بقوّة بأسه ؛ فإنه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي أخذت تتواكب عليه ، وكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلمّا ازداد

__________________

(١) ديوان السّيد حيدر.

١١٧

الموقف بلاءً ومحنة ؛ فإنّه بعد ما فَقَد أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره وكان عدده ـ فيما يقول الرواة ـ ثلاثين ألفاً ، فحمل عليهم وحده وقد ملك الخوف والرعب قلوبهم ، فكانوا ينهزمون أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير الرواة ـ ، وبقي صامداً كالجبل يتلقّى الطعنات من كل جانب ، ولم يوهَ له ركن ، وإنّما مضى في أمره استبسالاً واستخفافاً بالمنيّة.

يقول السّيد حيدر :

فتلقّى الجموعَ فرداً ولكنْ

كلّ عضوٍ في الروع منه جموعُ

رمحهُ من بَنانهِ وكأنّ من

عزمهِ حدُّ سيفِهِ مطبوعُ

زوّج السّيفَ بالنفوسِ ولكنْ

مهرها الموتُ والخضابُ النجيعُ

ويقول في رائعة اُخرى :

ركينٌ وللأرض تحت الكماة

رجيفٌ يزلزل ثهلانَها

أقرّ على الأرض من ظهرها

إذا ململ الرعبُ أقرانَها

تزيد الطلاقةُ في وجههِ

إذا غيّر الخوفُ ألوانَها

ولمّا سقط أبي الضيم على الأرض جريحاً ـ وقد أعياه نزف الدماء ـ تحامى الجيش بأسره من الإجهاز عليه ؛ رعباً وخوفاً منه. يقول السّيد حيدر :

عفيراً متى عاينتهُ الكماة

يختطفُ الرعبُ ألوانَها

فما أجلت الحربُ عن مثلهِ

صريعاً يُجبّن شجعانَها

وتغذّى أهل بيته وأصحابه بهذه الروح العظيمة ، فتسابقوا إلى الموت بشوق وإخلاص لم يختلج في قلوبهم رعب ولا خوف ، وقد شهد لهم عدوّهم بالبسالة ورباطة الجأش ، فقد قيل لرجل شهد يوم الطفِّ مع عمر بن سعد : ويحك! أقتلتم ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فاندفع قائلاً :

عضضت بالجندل ، إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ؛ ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية ، تحطم

١١٨

الفرسان يميناً وشمالاً ، وتلقي أنفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ، ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة والاستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيره ، فما كنّا فاعلين لا اُمّ لك؟! (١).

ووصف بعض الشعراء هذه البسالة النادرة بقوله :

فلو وقفتْ صُمّ الجبالِ مكانهمْ

لمادتْ على سهلٍ ودكّت على وعرِ

فمِن قائمٍ يستعرض النبلُ وجههُ

ومن مقدمٍ يرمي الأسنّة بالصدرِ

وما أروع قول السّيد حيدر :

دكّوا رباها ثمّ قالوا لها

وقد جثوا نحنُ مكان الرّبا

لقد تحدّى أبو الأحرار ببسالته النادرة الطبيعة البشرية ، فسخِر من الموت وهزأ من الحياة ، وقد قال لأصحابه حينما مطرت عليه سهام الأعداء : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم».

لقد دعا أصحابه إلى الموت كأنّما هو يدعوهم إلى مأدبة لذيذة ، ولقد كانت لذيذة عنده حقّاً ؛ لأنّه هو ينازل الباطل ويرتسم له برهان ربّه الذي هو مبدؤه (٢).

٤ ـ الصراحة :

من صفات أبي الأحرار الصراحة في القول والصراحة في السلوك ، ففي جميع فترات حياته لم يوارب ولم يخادع ، ولم يسلك طريقاً فيه أيّ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٦٣.

(٢) الإمام الحسين / ١٠١.

١١٩

التواء ، وإنّما سلك الطريق الواضح الذي يتجاوب مع ضميره الحي ، وابتعد عن المنعطفات التي لا يقرّها دينه وخلقه ، وكان من ألوان ذلك السلوك النيّر أنّ الوليد حاكم يثرب دعاه في غلس الليل ، وأحاطه علماً بهلاك معاوية ، وطلب منه البيعة ليزيد مكتفياً بها في جنح الظلام ، فامتنع (عليه السّلام) وصارحه بالواقع قائلا : «يا أمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله».

وكشفت هذه الكلمات عن مدى صراحته وسموّ ذاته ، وقوة العارضة عنده في سبيل الحق.

ومن ألوان تلك الصراحة التي اعتادها وصارت من ذاتيّاته أنّه لمّا خرج إلى العراق وافاه النبأ المؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل سفيره مسلم بن عقيل ، وخذلان أهل الكوفة ، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحقِّ : «قد خذَلَنا شيعتنا ، فمَن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ، ليس عليه ذمام». فتفرّق عنه ذوو الأطماع ، وبقي معه الصفوة من أهل بيته (١).

لقد تجنّب (عليه السّلام) في تلك الساعات الحرجة التي يتطلّب فيها إلى الناصر الإغراء والخداع ، مؤمناً أنّ ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربّها والمؤمنة بعدالة قضيّتها.

ومن ألوان تلك الصراحة أنّه جمع أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم ، فأحاطهم علماً بأنّه يُقتل في غد ، ويُقتل جميع مَن كان معه. صارحهم بذلك ليكونوا على بصيرة وبيّنة من أمرهم ، وأمرهم بالتفرّق

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١.

١٢٠