وقعة الطّف

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]

وقعة الطّف

المؤلف:

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]


المحقق: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

[مبأهلة بُرير ومقتله]

وخرج يزيد بن معقل [من عسكر عمر بن سعد] ، فقال :

يا بُرير بن حُضير (١) ، كيف ترى الله صنع بك؟

قال [بُرير] : صنع الله والله ، بي خيراً ، وصنع الله بك شرّاً.

قال [يزيد بن معقل] : كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّاباً ، هل تذكر ـ وأنا أُماشيك في بني لوذان ـ وأنت تقول إنّ عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفاً ، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالّ ، وإنّ إمام الهدى والحقّ علي بن أبي طالب (ع).

فقال له بُرير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي.

فقال له يزيد بن معقل : فإنّي أشهد أنّك من الضالّين.

فقال له بُرير بن حُضير : هل لك ، فلأباهلك (٢) ولندع الله أنْ يلعن الكاذب وأنْ يقتل المبطل ، ثمّ أخرج فلأ بارزك.

فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أنْ يلعن الكاذب ، وأن يقتل المحقّ المبطل.

ثمّ برز كلّ واحد منهما لصحابه فاختلفا ضربتين ، فضرب يزيد بن معقل بُرير بن حُضير ضربة خفيفةً لمْ تضرّه شيئاً ، وضربه بُرير بن حُضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدّماغ ، فخرّ كأنّما هوى من حالق [مرتفع] وإنّ سيف ابن حُضير لثابت في رأسه ، فكأنّي انظر إليه ينضنضه من رأسه (٣).

وحمل عليه رضيّ بن مُنقذ العبدي [من عسكر عمر بن سعد] فاعتنق

_________________

(١) مضت ترجمته من قبل في حوادث عشيّة التاسع من المحرم.

(٢) المبأهلة : الملاعنة ، بأنْ يدعو الله كلّ من الطرفين ، أنْ يلعن المبطل الظالم.

(٣) يُنضنضه : يُحرّكه.

٢٢١

بُريراً ، فاعتركا ساعةً ، ثمّ إنّ بُريراً قعد على صدره ، فقال رضيّ : أين أهل المصاع والدفاع؟ (١).

فحمل عليه كعب بن جابر الأزدي بالرمح حتّى وضعه في ظهر [بُرير] ، فلمّا وجد [بُرير] مسّ الرمح برك على [رضيّ بن مُنقذ العبدي] فعضّ بوجهه وقطع طرف أنفه ، فطعنه كعب بن جابر حتّى ألقاه عن [العبدي] ، وقد غيّب السّنان في ظهر [بُرير] ، ثمّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله [رحمة الله عليه] (٢) و (٣).

_________________

(١) المصاع : الصراع.

(٢) حدّثني يوسف بن يزيد ، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس ، وكان قد شهد مقتل الحسين (عليه السّلام) ٥ / ٤٣١. وتمام الخبر في : الهامش رقم / ٣.

(٣) فلمّا رجع كعب بن جابر الأزدي ، قالت له امرأته أو أخته النّوّار ، بنت جابر : أعنت على ابن فاطمة (عليها السّلام) وقتلت سيّد القرّاء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر ، والله ، لا كلّمك من رأسي كلمة أبداً. وقال كعب بن جابر :

سلي تخبري عنّي ، وأنت ذميمة

غداة حسين والرّماح شوارع

الم آت اقصى ما كرهت ، ولم يخل

علىّ غداة الرّوع ما أنا صانع

معي يزنى لم تخنه كعوبه

وأبيض مخشوب الغرارين قاطع (١)

فجردته في عصبة ليس دينهم

بديني ، واني بابن حرب لقانع

ولم ترعيني مصلهم في زمأنّهم

ولا قبلهم في النّاس اذ أنا يافع

اشدّ قراعاً بالسّيوف لدى الوغى

ألكل من يحمى الذمار مقارع

وقد صبروا للطعن والضرب حسّراً

وقد نازلوا ، لو أن ذلك نافع

فابلغ (عبيد الله) امّا لقيته

بأنّى مطيع للخليفة سامع

قتلت بُريراً ثمّ حمّلت نعمة

أبا مُنقذ لما دعى من يماصع (٢)

_________________

(١) يزنيّ : رمح منسوب إلى سيف بن ذي يزن اليمنّي. محشوب : مفعول من الخشب ، أي : مغمد بالخشب ، ولا يكون ذلك إلاّ للسيف القاطع الحادّ. الغرارين : الحدّين.

(٢) يُماصع : يُناصح ، ويخلص في النّصرة والإمداد والإغاثة. وأبو مُنقذ : هو الذي صارعه بُرير فدعا النّاس إلى إنقاذه كعب بن جابر الأزدي.

٢٢٢

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يُقاتل دون حسين (عليه السّلام) ، وهو يقول :

قد علمت كتيبة الأنصار

أني سأحمى حوزة الذمار

ضرب غلام غير نكس شاري

دون حسين مهجتى وداري (١).

فقُتل [رحمة الله عليه].

وكان أخوه علي [بن قرظة] مع عمر بن سعد ، فنادى : يا حسين ، يا كذّاب ابن الكذّاب! أضَلَلت أخي وغَررته حتّى قتلته؟ قال [الحسين (عليه السّلام)] : «إنّ الله لمْ يُضلّ لأخاك ، ولكنّه هدى أخاك وأضلّك». قال : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك أو أموت دونك. [و] حمل على [الإمام (عليه السّلام)].

فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه ، فحمله أصحابه فاستنقذوه (٢).

[وكان] النّاس يتجاولون ويقتتلون ، و [فيهم] الحرّ بن يزيد [الرياحي] يحمل على القوم ويتمثل قوله :

ما زلت أرميهم بثُغرة نحره

ولَبانه حتّى تسربل بالدم (٣)

وإنّ فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبه ، ودماؤه تسيل.

[وكان] يزيد بن سفيان [التميمي يقول] : أمَا والله ، لو إنّي رأيت الحرّ بن

_________________

قال أبو مِخْنف فأجابه رضيّ بن مُنقذ العبدي :

ولو شاء ربّي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النّعمّاء عندي ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عاراً وسبّة

يعيره إلأبناء بعد المعاشر

فياليت أني كنت من قبل قتله

ويوم حسين ، كنت في رمس قابر

(١) حدّثنى ، عبد الرحمن بن جندب ، قال ٥ / ٤٣٣.

(٢) عن ثابت بن هبيرة ٥ / ٤٣٤.

(٣) اللبان : الصدر. والشِعر من : عنترة.

٢٢٣

يزيد حين خرج لا تَبعتُه السّنان ، فقال [له] الحصين بن تميم (١) : هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى. قال : نعم. فخرج إليه ، فقال له : هل لك يا حرّ بن يزيد في المبارزة؟ قال : نعم ، قد شئت. فبرز له ، فكأنّما كانت نفسه في يده ، ما لبث الحرّ حتّى خرج إليه أنْ قتله (٢).

[وكان] نافع بن هلال [المرادي الجملي] يُقاتل ، وهو يقول : أنا الجملي ، أنا على دين علي (عليه السّلام).

فخرج إليه رجل ، يُقال له : مزاحم بن حريث. فقال : أنا على دين عثمان. فقال له : أنت على دين شيطان. ثمّ حمل عليه فقتله.

فصاح عمرو بن الحجّاج [الزبيدي] : يا حمقى ، أتدرون مَن تقاتلون؟! فرسان المصر ، قوماً مستميتين ، لا يبرزنّ لهم منكم أحد ، فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، والله ، لو لمْ تَرموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم.

فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت.

وأرسل إلى النّاس يعزم عليهم ، أنْ لا يُبارز رجل منكم رجلاً منهم (٣).

[الحملة الثانية]

[ثمّ] دنا عمر بن الحجّاج من أصحاب الحسين (ع) ، [وهو] يقول :

يا أهل الكوفة! ألزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتأبوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «يا عمرو بن الحجّاج ، أعليّ تحرّض النّاس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتّم عليه! أمَا والله ، لتعلمنّ ـ لو قد قُبضت أرواحكم

_________________

(١) وكان على شرطة عبيد الله بن زياد ، فبعثه مع عمر بن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) ، فولاّه عمر على الشرطة المجفّقة ، وهم اللاّبسون التجفاف ، وهي : آلة للوقاية.

(٢) حدّثنى ، أبو زهير النّضر بن صالح العبسي ٥ / ٤٣٤.

(٣) حدّثني يحيى بن هانئ بن عروة المرادي ٥ / ٤٣٥.

٢٢٤

ومُتّم على أعمالكم ـ أيّنا مرق من الدين؟ ومَن هو أولى بصلّي النّار؟»

ثمّ إنّ عمرو بن الحجّاج حمل على الحسين (عليه السّلام) في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعةً.

فصرع [جماعة من أصحاب الحسين (عليه السّلام) منهم] :

[مسلم بن عوسجة] (١)

[قتله من أصحاب عمرو بن الحجّاج] عبد الرحمن البجلي ومسلم بن عبد الله الضَبّابي ، فنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي. ثمّ انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه وارتفعت الغبرة ، فإذا هم به صريع.

فمشى إليه الحسين (عليه السّلام) فإذا به رَمق ، فقال : (ع) «رحمك ربّك يا مسلم بن عوسجة : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢).

ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة.

فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير.

_________________

(١) جاء في هذا الخبر : فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أوّل أصحاب الحسين (ع) ، بينما ذكر قبله مقتل : بُرير وعمرو بن قرظة بالمبارزة ، ثمّ توقيف المبارزة وبدء الحملات ، فهو أوّل مَن قُتل في الحملة الأولى. كان يُبايع لحسين (عليه السّلام) ومن طريقه دخل معقل على مسلم بن عقيل ٥ / ٣٦٢ ، وعقد له مسلم بن عقيل على ربع مذحج وأسد ٥ / ٣٦٩. وهو الذي قام بعد خطبة الإمام (عليه السّلام) ليلة عاشوراء ، فقال : أنحن نخلّي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أمَا والله ، حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولا أفارقك ، ولو لمْ يكن معي سلاح اقتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك ٥ / ٤١٩.

وهو الذي استأذن الإمام (عليه السّلام) ليرمي شمراً ، وقال : يابن رسول الله جُعلت فداك ، ألاَ أرميه بسهم ؛ فإنّه من أعظم الجبّارين؟ فقال له الحسين (عليه السّلام) : «لا ترمه ؛ فإنّي أكره أنْ أبدأهم». ٥ / ٤٢٤.

ولا يُدرى كيف لحق بالحسين (عليه السّلام) من الكوفة ، فلمْ يذكر التاريخ شيئاً عنه.

(٢) سورة الأحزاب / ٢٣.

٢٢٥

فقال له حبيب : لو لا إنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه ، لأحببت أنْ توصيني بكل ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك ، بما أنت أهل له في القرابة والدّين.

قال [مسلم] : بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله ـ وأهوى بيده إلى الحسين (ع) ـ أنْ تموت دونه.

قال [حبيب] : أفعل وربّ الكعبة.

فما كان بأسرع من أنْ مات في أيديهم [رحمه الله].

فصاحت جارية له : يابن عوسجتاه! يا سيّداه! (١).

[الحملة الثالثة]

وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة [من أصحاب الحسين (عليه السّلام)] ، فثبتوا له [و] طاعنوه وأصحابه ، فحمل هانئ بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حيّ التيمى [على عبد الله بن عمير] الكلبي ، فقتلاه [رحمه الله] (٢).

_________________

(١) فتنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي.

فقال شبث بن ربعى التميمي لبعض من حوله من أصحابه : ثكلتكم اُمّهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتُذلّلون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أنْ يُقتل مثل مسلم بن عوسجة! أمَا والذي أسلمتُ له ، لربّ موقف له قد رأيته ـ في المسلمين ـ كريم! لقد رأيته يوم سلق (*) آذربايجان ، قتل ستة من المشركين قبل تتامِّ خيول المسلمين. أفيُقتل منكم مثله وتفرحون؟ ٥ / ٤٣٦.

(٢) جاء في هذا الخبر : وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين (ع) ، وهو وهم.

_________________

* سلق : هي جبال في حدود آذربايجان إلى الموصل ، في شمال العراق وغربي إيران ، كما في القمقام / ٤٩٤.

٢٢٦

[حملات أصحاب الحسين ومبارزاتهم]

وقاتل أصحاب الحسين (عليه السّلام) قتالاً شديداً ، وأخذت خيلهم تحمل وإنّما هم : اثنان وثلاثون فارساً (١) ؛ وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلاّ كشفته.

فلمّا رأى عزرة بن قيس [التميمي] ـ وهو على خيل أهل الكوفة ـ أنْ خيله تنكشف من كلّ جانب ، بعث عبد الرحمن بن حصن إلى عمر بن سعد ، [يقول] : أمَا ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة! ابعث إليهم الرجّال والرّماة.

فقال لشبت بن ربعي [التميمي] : ألاَ تقدم إليهم؟

فقال : سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر ، وأهل المصرعامّة تبعثه في الرّماة! لمْ تجد غيري مَن تندب لهذا ويجزئ عنك؟

[فـ] ـدعا عمر بن سعد : الحُصين بن تميم ، فبعث معه المجفّفة ، وخمسمئة من المرامية ، فأقبلوا [فما] دنوا من الحسين (ع) وأصحابه رشقوهم بالنّبل ، فلمْ يلبثوا أنْ عقروا خيولهم وصاروا رجّالة كلّهم (٢).

[وعقر فرس الحرّ بن يزيد الرياحي] ، فما لبث أنْ أرعد الفرس واضطرب وكبا ، فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث والسّيف في يده ، وهو يقول :

_________________

(١) لعلّ هذا ما تبقّى من فرسان أصحابه (عليه السّلام) ، وإلاّ فالمسعودي يقول : إنّه (عليه السّلام) عدل إلى كربلاء وهو في مقدار خمسمئة فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مئة راجل. ثمّ هو يقول : وكان جميع من قُتل مع الحسين (ع) في يوم عاشوراء بكربلاء : سبعة وثمانين ٣ / ٧٠ ـ ٧١. وروى السّيّد ابن طأووس في الملهوف / ٨٨ ، عن الإمام الباقر (عليه السّلام) : «إنّهم كانوا خمسة وأربعين فارساً ، ومئة راجل». وكذلك ذكر سبط ابن الجوزي / ٢٤٦ ـ ٢٥١. والعجيب ، أنّه نُقل عن المسعودي أنّه ذكرهم : ألف رجل ، وليس في مروج الذهب هذا.

(٢) حدّثنى ، الحسين بن عقبة المرادي ، قال الزبيدي ٥ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦.

٢٢٧

إن تعقروا بي فانا ابن الحرّ

اشجع من ذي لبد هزبر (١).

وقاتلوهم حتّى انتصف النّهار أشدّ قتال ، و [هم] لا يقدرون على أنْ يأتوهم إلاّ من وجه واحد ، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض.

فلمّا رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالاً يقوّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليُحيطوا بهم ، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين (عليه السّلام) يتخلّلون البيوت فيشدّون على الرّجل ، وهو يقوّض فيقتلونه ويرمونه ويعقرونه.

[فـ] ـعند ذلك أمر بها عمر بن سعد ، فقال : أحرقوها بالنّار.

فقال حسين (عليه السّلام) : «دعوهم ، فليحرّقوها ؛ فإنّهم لو حرّقوها لمْ يستطيعوا أنْ يجوزوا إليكم منها». وكان كذلك. [فـ] ـأخذوا لا يُقاتلونهم إلاّ من وجه واحد.

[الحملة الرابعة]

وحمل [فيمَن حمل] شمر بن ذي الجوشن حتّى طعن فسطاط الحسين (عليه السّلام) برمحه ونادى : عليّ بالنّار حتّى أحرّق هذا البيت على أهله.

فصاح النّساء وخرجنَ من الفسطاط.

وصاح به الحسين (عليه السّلام) : «يابن ذي الجوشن ، أنت تدعو بالنّار لتحرّق بيتي على أهلي؟ حرّقك الله بالنّار» (٢).

_________________

(١) هزبر : كلمة فارسيّة أصلها : هژبر ، بمعنى : أسد. ولا يُخفى أنْ الرجز يقول : أنا ابن الحرّ. والنّقل عن الحرّ نفسه ، ولمْ يعقّبه أبو مِخْنَف ولا الكلبي ولا الطبري وغيره بشيء. ولعلّ مَن قال بحضور ابن الحرّ وتوبته ، وقتله مع الحسين (عليه السّلام) ؛ أخذه من هنا. ولعلّ الحرّ : اسم جدّه أو أحد أجداده ، أو قصد معناه. وكذلك ذكر الرجز المفيد ، ولمْ يعقّبه بشيء / ٢٣٧.

(٢) ٥ / ٤٣٧. قال أبو مِخْنَف ، حدّثنى نمير بن وعلة : أنّ أيّوب بن مشرّخ الخيواني كان يقول.

٢٢٨

قال حميد بن مسلم [الأزدي فـ] ـقلت لشمر : سبحان الله! إنّ هذا لا يصلح لك ، أتريد أنْ تجمع على نفسك خصلتين : تُعذّب بعذاب الله ، وتقتل الولدان والنّساء؟ والله ، إنّ في قتلك الرّجال لما تُرضي به أميرك (١).

(و) جاءه شبث بن ربعيّ [التميمي] ، فقال : ما رأيت مقالاً أسوأ من قولك ، ولا موقفاً أقبح من موقفك ، أمُرعباً للنساء صرت؟

وحمل عليه زهير بن القين في عشرة رجال من أصحابه فشدّ على شمر وأصحابه ، فكشفهم عن البيوت حتّى ارتفعوا عنها.

(ثمّ) تعطّف النّاس عليهم فكثروهم ، فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين (عليه السّلام) يُقتل ، فإذا قُتل منهم الرجّل والرجلان تبيّن فيهم ، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يُقتل منهم.

[الاستعداد لصلاة الظهر]

فلمّا رأى ذلك أبو ثُمامة عمرو بن عبد الله الصائدي (٢) قال للحسين (ع) :

يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفداء ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله ، لا تُقتل حتّى أُقتل دونك ـ إنْ شاء الله ـ وأحبّ أنْ ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.

فرفع الحسين (عليه السّلام) رأسه ، ثمّ قال :

«ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين! نعم ، هذا أوّل وقتها».

_________________

(١) فقال : مَن أنت؟ فخشيت أنْ لو عرفني أنْ يضرّنى عند السّلطان. فقلت : لا أخبرك مَن أنا.

(٢) الهمداني كان بالكوفة يقبض ما يُعين به الشيعة مسلم بن عقيل ، ويشتري لهم السّلاح بأمر مسلم ٥ / ٣٦٤. وعقد له مسلم يوم خروجه على ربع تميم وهمدان ٥ / ٣٦٩ ، وهو الذي عرّف رسول عمر بن سعد في كربلاء إلى الإمام (عليه السّلام) ، عزرة بن الأحمسي ، فقال للإمام (ع) : يا أبا عبد الله ، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه. ومنعه عن الوصول إليه خوفاً منه على الإمام (عليه السّلام) ٥ / ٤١٠.

٢٢٩

ثم قال (ع) : «سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نُصلّي».

فقال لهم الحُصين بن تميم : إنّها لا تُقبل.

فقال له حبيب بن مظاهر : زعمت [أنّ] الصلاة من آل رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) لا تُقبل ، وتُقبل منك يا حمار!

[مقتل حبيب بن مظاهر] (١)

فحمل عليهم الحُصين بن تميم [التميمي] وخرج إليه حبيب بن مظاهر [الأسدي] ، فضرب وجه فرسه بالسّيف فشبّ ووقع عنه ، وحمله أصحابه فاستنقذوه.

وأخذ حبيب ، يقول :

أنا حبيب وأبي مظاهر

فارس هيجاءو حرب تسعر

أنتم أعدّ عدّة وأكثر

ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

حقاً وأتقى منكم وأعذر

_________________

(١) كان ممّن كتب إلى الإمام (عليه السّلام) من زعمّاء الشيعة من أهل الكوفة ٥ / ٣٥٢. وكان ممّن أجاب مسلم بن عقيل للبيعة للإمام (عليه السّلام) ، قائلاً : أنا والله ، الذي لا إله إلاّ هو على مثل ما هذا عليه ـ مشيراً إلى عابس بن أبي شبيب الشاكري ـ ٥ / ٣٥٥. وقال لقرّة بن قيس الحنظلي التميمي ـ رسول عمر بن سعد إلى الإمام (عليه السّلام) ـ بكربلاء : ويحك يا قرّة بن قيس! أنّى ترجع إلى القوم الظالمين! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة وإيّانا معك ٥ / ٤١١. ولمّا نهض ابن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) عشيّة التاسع من المحرم ، وزحف نحوهم بعد صلاة العصر ، فاستقبلهم العبّاس بن علي (عليه السّلام) في نحو من عشرين فارساً كان منهم حبيب بن مظاهر. فلمّا ذهب العبّاس إلى الإمام (عليه السّلام) يخبره الخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ، قال حبيب : أمَا والله ، لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرّيّة نبيّه وعترته وأهل بيته ، وعبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالسّحر والذاكرين الله كثيراً! ٥ / ٤١٦. وجعله الإمام (عليه السّلام) على ميسرة أصحابه ٥ / ٤٣٦. ولمّا وقف مسلم بن عوسجة فأوصاه مسلم بنصرة الإمام (ع) ، قال : أفعل وربّ الكعبة ٥ / ٤٣٦. وتفاخر بقتله الحُصين بن تميم فعلّق رأسه بلبان فرسه ، وقتل ابنه القاسم بن حبيب ، قاتله بديل بن ُصريم التميمي قصاصاً ، وهما في عسكر مصعب بن الزبير في غزو باجميرا ٥ / ٤٤٠.

٢٣٠

ويقول :

أقسم لو كنّا لكم أعدادا

أو شطركم وليّتم أكتادا (١)

يا شرّ قوم حسباً وآدا (٢)

وقاتل قتالاً شديداً ، فحمل عليه رجل من بني تميم ، يُقال له : بديل بن صُريم فطعنه ، فوقع فذهب ليقوم فضربه الحُصين بن تميم [التميمي] على رأسه بالسّيف ، فوقع ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه (٣) و (٤).

ولمّا قُتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسيناً (ع) وقال : «احتسب نفسي وحماة أصحأبي».

[مقتل الحرّ بن يزيد الرياحي]

[وبرز الحرّ] فأخذ يرتجز ، ويقول :

_________________

(١) أكتادا : جماعات.

(٢) آدا : أصلاً.

(٣) حدّثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم ٥ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

(٤) فقال له الحُصين : أبي لشريك في قتله. فقال الآخر : والله ، ما قتله غيري. فقال الحُصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيْما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله. ثمّ خُذه أنت بعد فامضِ به إلى عبيد الله بن زياد ، فلا حجّة لي فيما تعطاه على قتلك إيّاه. فأبى عليه فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر ، فجال به في العسكر ـ قد علّقه في عنق فرسه ـ ، ثمّ دفعه بعد ذلك إليه. فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلّقه في لبان فرسه ، فأقبل به إلى ابن زياد في القصر.

فبصر به القاسم بن حبيب بن مظاهر ، وهو يومئذٍ قد راهق فأقبل مع الفارس لا يُفارقه فارتاب به ، فقال : مالك يا بني ، تتبعني؟ قال : إنّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتّى أدفنه؟ قال : يا بني ، لا يرضى الأمير أنْ يُدفن ، وأنا أُريد أنْ يُثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً. فقال له الغلام : لكنّ الله لا يُثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب ، أمََا والله ، لقد قتلت خيراً منك ، وبكى.

ولمّا غزا مصعب بن الزبير باجميرا ، دخل القاسم بن حبيب عسكر مصعب ، فوجد قاتل أبيه في فسطاط فدخل عليه نصف النّهار وهو قائل ، فضربه بالسّيف حتّى برد ٥ / ٤٤٠.

٢٣١

[اني أنا الحرّ ومأوى الضيّف]

أضرب في أعراضهم بالسّيف

عن خير من حلّ منى والخيف

[أضربهم ولا أرى من حيف]

ويقول أيضاً :

آليت لا أقتل حتّى أقتلا

ولن أصاب اليوم إلا مقبلا

أضربهم بالسّيف ضرباً مقصلا

لا نكلا عنهم ولا مهلّلا

[وخرج معه زهير بن القين فـ] ـقاتلا قتالاً شديداً ، فكان إذا شدّ أحدهما ـ فإنْ استلحم (١) ـ شدّ الآخر حتّى يخلّصه ففعلا ذلك ساعة ، ثمّ شدّت رجّالة على الحرّ بن يزيد فقُتل [رحمة الله عليه].

[صلاة الظهر]

ثمّ صلّى بهم الحسين (عليه السّلام) صلاة الخوف (٢) فاستقدم [سعيد بن عبد الله الحنفي] أمامه ، فاستهدف لهم يرمونه بالنّبل يميناً وشمالاً ، فما زال يُرمى قائماً بين يديه حتّى سقط [رحمة الله عليه].

[مقتل زهير بن القين]

[وخرج زهير بن القين فـ] ـأخذ يضرب على منكب حسين (عليه السّلام) ، ويقول :

أقدم هديت هادياً مهديا

فاليوم تلقى جدّك النّبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

_________________

(١) أي : اشتدّ القتال وتداخل.

(٢) هذا ، ولعلّه صلّى قصراً لا خوفاً. وروى الصلاة المفيد / ٢٣٨ ، والسّبط / ٢٥٢ ـ ٢٥٦.

٢٣٢

وقاتل قتالاً شديداً ، [وهو] يقول :

أنا زهير وانا ابن القين

اذودهم بالسّيف عن حسين (١)

فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس ، فقتلاه [رحمة الله عليه].

[مقتل نافع بن هلال الجملي] (٢)

وكان نافع بن هلال الجمليّ قد كتب اسمه على أفواق نبله ، فجعل يرمي بها مسوّمة ، وهو يقول : أنا الجملي ، أنا على دين علي (ع) ، فقتل اثنى عشر من أصحاب عمر بن سعد ، سوى مَن جُرح.

[وجُرح و] كُسرت عضداه فأخذه شمر بن ذي الجوشن ، ومعه أصحاب له أسيراً يسوقون [ـه] حتّى أتى به عمر بن سعد ، والدماء تسيل على لحيته.

فقال له عمر بن سعد : ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟

قال : إنّ ربّي يعلم ما أردت ، والله ، لقد قتلت منكم اثنى عشر سوى مَن جرحتُ ، وما ألوم نفسي على الجهد ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني.

فقال له شمر : أقتله أصلحك الله؟

قال : إنْ شئت فاقتله. فانتضى شمر سيفه.

فقال له نافع : أمَا والله ، أنْ لو كنت من المسلمين ، لعظم عليك أنْ تلقى الله

_________________

(١) رواها السّبط / ٢٥٣ ، ط النّجف.

(٢) هو الذي كان قد بعث فرسه مع الطرمّاح بن عَدي إلى الإمام (عليه السّلام) في طريقه إلى الكوفة ٥ / ٤٠٥. ولمّا اشتدّ العطش بالإمام (عليه السّلام) وأصحابه دعا أخاه العبّاس بن علي (عليه السّلام) ، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، واستقدم أمامهم نافع بن هلال ورحّب به عمرو بن الحجّاج ، وقال : اشرب هنيئاً. فقال : لا والله ، لا اشرب منه قطرة وحسين (ع) عطشان ٥ / ٤١٢. ولمّا خرج علي بن قرظة أخو عمرو بن قرظة الأنصاري ، فحمل على الحسين (عليه السّلام) اعترضه نافع بن هلال المرادي ، فطعنه فصرعه ٥ / ٤٣٤.

٢٣٣

بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه.

فقتله [رحمة الله عليه].

[الأخوان الغفاريّان]

فلمّا رأى أصحاب الحسين (عليه السّلام) أنّهم لا يقدرون على أنْ يمنعوا حسيناً (ع) ولا أنفسهم ، تنافسوا في أنْ يُقتلوا بين يديه.

فجاءه عبد الله وعبدالرحمن ابنا عزرة الغفاريّان ، فقالا :

يا أبا عبد الله ـ عليك السّلام ـ حازنا العدوّ إليك ، فأحببنا أنْ نُقتل بين يديك ، نمنعك وندفع عنك.

قال (عليه السّلام) : «مرحباً بكما ، أدْنيا منّي».

فَدَنيا منه. فجعلا يُقاتلان وأحدهما ، يقول :

قد علمت حقاً بنو غفار

وخندف بعد بنينزار

لنضربنّ معشر الفجار

بكل عضب صارم بتّار

يا قوم ذودوا عن بني الأحرار

بالمشرّفي والقنا الخطّار

[فقاتلا بين يديه قتالاً شديداً حتّى قُتلا رحمهما الله].

[الفتيان الجابريّان]

وجاء الفتيان الجابريّان : سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عمٍّ وأخوانِ لأمٍّ ، فأتيا حسيناً (ع) فدَنَيا منه ، وهما يبكيان.

فقال (عليه السّلام) : «أي ، ابني أخي ، ما يُبكيكما؟ فوالله ، أنا لأرجو أنْ تكونا قريري عين عن ساعة».

قالا : جعلنا الله فداك ، لا والله ، ما على أنفسنا نبكي ولكنّا نبكي عليك ، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على أنْ نمنعك.

٢٣٤

فقال (عليه السّلام) : «فجزاكما الله ـ يا ابني أخي ـ بوجد كما من ذلك ومواساتكما إيّاي بأنفسكما ، أحسن جزاء المتّقين».

ثمّ استقدم الفتيان الجابريّان يلتفتان إلى حسين (عليه السّلام) ، ويقولان : السّلام عليك يابن رسول الله. فقال (ع) : «وعليكما السّلام ورحمة الله». فقاتلا حتّى قُتلا [رحمهما الله].

[مقتل حنظلة بن أسعد الشبامي]

وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي ، فقام بين يدي حسين (عليه السّلام) : فأخذ ينادي : (يَا قَوْمِ إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُريد ظُلْماً لِلْعِبَادِ * وَيَاقَوْمِ إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنَادِ * يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (١). يا قوم لا تقتلوا حسيناً (ع) ، فيُسحتكم الله بعذاب : (وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى) (٢).

فقال له حسين (عليه السّلام) : «يابن أسعد ـ رحمك الله! ـ إنّهم قد استوجبوا العذاب حيث ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ ، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا أخوانك الصالحين؟».

قال : صدقت ، جُعلت فداك! أنت أفقه منّي وأحقّ بذلك ، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟

فقال (ع) : «رُح إلى خير من الدّنيا وما فيها ، وإلى مُلك لا يُبلى».

فقال : السّلام عليك أبا عبد الله ، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك ،

_________________

(١) سورة غافر / ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) سورة طه / ٦١.

٢٣٥

وعرّف بيننا وبينك في جنّته.

فقال [عليه السّلام] : «آمين ، آمين».

فاستقدم [حنظلة الشبامي] فقاتل حتّى قُتل [رحمة الله عليه].

[مقتل عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذب مولاه] (١)

وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ، ومعه شوذب مولى شاكر ، فقال [له] : يا شوذب ، ما في نفسك أنْ تصنع؟

قال : ما أصنع ، أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) حتّى أُقتل.

قال : ذلك الظنّ بك ، أمّا لا (٢) ، فتقدّم بين يدي أبي عبد الله (ع) حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه وحتّى احتسبك أنا ؛ فإنّه لو كان معي السّاعة أحد ، أنا أولى به منّي بك ، لسرّني أنْ يتقدّم بين يديّ حتّى أحتسبه ، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أنْ نطلب الأجر بكل ما قدرنا عليه ؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم وإنّما هو الحساب.

فتقدم [شوذب] فسلّم على الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ مضى فقاتل حتّى قُتل [رحمة الله عليه].

_________________

(١) عابس : هو الذي قام في الكوفة بعد ما قرأ عليهم مسلم بن عقيل كتاب الإمام (عليه السّلام) ، فحمد الله واثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّي لا أخبرك عن النّاس ولا أعلم ما في أنفسهم ، وما أغرّك منهم ، والله ، لأحدّثنّك عمّا أنا موطّن نفسي عليه ، والله ، لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله.

فقال له حبيب بن مظاهر : رحمك الله! قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ٥ / ٣٥٥. وحيث تحوّل مسلم بن عقيل إلى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفاً ، قدّم كتاباً إلى الحسين (عليه السّلام) مع عابس بن أبي شبيب الشاكري : أن عجّل الإقبال ٥ / ٣٧٥.

(٢) أي : أمّا إنْ كنت تأبى الانصراف ، وتقول : إنّك لا تنصرف ...

٢٣٦

ثمّ قال عابس بن أبي شبيب : يا أبا عبد الله ، أمَا والله ، ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك ، ولو قدرت على أنْ أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لعملته ، السّلام عليك يا أبا عبد الله ، أشهد الله أنّي على هديك وهدي أبيك.

ثمّ مشى بالسّيف مصلتاً نحوهم وبه ضربة على جبينه (١).

قال ربيع بن تميم [الهمداني] : لمّا رأيته مقبلاً عرفته ، فقلت :

أيّها النّاس ، هذا أسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجنّ إليه أحد منكم.

فأخذ ينادي : ألاَ رجل لرجل؟

فقال عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة.

فرُمي بالحجارة من كلّ جانب.

فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ، ثمّ شدّ على النّاس ، فوالله ، لرأيته يكرد (٢) أكثر من مئتين من النّاس.

ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب ، فقُتل [رحمة الله عليه] (٣) و (٤).

[مقتل يزيد بن زياد أبي الشعثاء الكندي]

وكان يزيد بن زياد بن المهاصر ـ وهو أبو الشعثاء الكندي ـ ممّن خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) ، فلمّا ردّوا الشروط على الحسين (ع) مال إليه

_________________

(١) حدّثني نمير بن وعلة ، عن رجل من بني عبد من همدان شهد ذلك اليوم ٥ / ٤٤٤.

(٢) يكرد ، أي : يطرد.

(٣) حدّثني محمّد بن قيس ، قال ٥ / ٤٤٠.

(٤) فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة ، هذا يقول : أنا قتلته. وهذا يقول : أنا قتلته. فأتوا عمر بن سعد ، فقال : لا تختصموا ، هذا لمْ يقتله سنان واحد. ففرّق بينهم بهذا القول.

٢٣٧

فقاتل [معه]. وكان رجزه يومئذٍ :

أنا يزيد وأبي مهاصر

أشجع من ليث بغيل خادر (١)

يا ربّ اني للحسين ناصر

ولابن سعد تارك وهاجر (٢)

وكان رامياً ، [فـ] ـجثا على ركبته بين يدي الحسين (عليه السّلام) ، فرمى بمئة سهم ما سقط منها إلاّ خمسة أسهم. فكلّما رمى ، قال : أنا ابن بهدلة ، فرسان العرجلة. ويقول حسين (عليه السّلام) : «اللهمّ ، سدّد رميته ، واجعل ثوابه الجنّة». [ثمّ] قاتل حتّى قُتل [رحمة الله عليه].

[الرجال الاربعة]

[الرجال الأربعة الذين جاؤوا مع الطرمّاح بن عدي إلى الحسين (عليه السّلام) ، وهم] : جابر بن الحارث السّلماني ومجمّع بن عبد الله العائذي (٣) ، وعمر بن خالد الصيدأوي وسعد مولى عمر بن خالد ، فشدّوا مُقدمين بأسيافهم على النّاس ، فلمّا وغلوا ، عطف عليهم النّاس يحوزونهم وقطعوهم من أصحابهم ،

_________________

(١) الغيل : الشجر الكثير الملتف. وخادر ، أي : نائم.

(٢) هذه رواية فضيل بن خديج الكندي ، ولعلّه استنتج تركه وهجره لابن سعد ونصرته للإمام (عليه السّلام) بعد ردّ الشروط عليه من رجزه هذا. وقد سبقت رواية عبد الرحمن بن جندب عن عقبة بن سمعان : أنّ رسول ابن زياد بكتابه إلى الحرّ في كربلاء ، كان المالك بن النّسير البَدّيّ الكندي. فقال له يزيد بن زياد : ثكلتك اُمّك! ماذا جئت فيه؟ قال : وما جئت فيه ، أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له أبو الشعثاء : عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، كسبت العار والنّار ، قال الله عزوجل : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إلى النّار وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ) [القصص / ٤١]. فهو إمامك ٥ / ٤٠٨. فهذه الرواية : تدلّ على كونه مع الإمام (عليه السّلام) قبل نزوله بكربلاء ، بل قبل لقائه بالحرّ (ره). والطبري وأبو مِخْنَف ، لم يلتفتا لذلك.

(٣) هو الذي قال للحسين (عليه السّلام) : أمّا أشراف النّاس ، فقد أُعظمت رشوتهم ومُلئت غرائزهم ، يُستمال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم ، فهم ألب واحدٍ عليك ؛ وأمّا سائر النّاس ـ بعد ـ ، فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك ٥ / ٤٠٥.

٢٣٨

فحمل عليهم العبّاس بن علي (ع) فاستنقذهم ، [ثمّ] شدّوا بأسيافهم ، فقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد (١) [رحمهم الله].

[سويد الخثعمي وبشير الحضرمي]

[و] كان آخر من بقي مع الحسين (ع) من أصحابه : سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي (٢) وبشير بن عمر الحضرمي [؛ فأمّا بشير ، فقد تقدّم وقاتل حتّى قُتل (رحمه الله) ؛ وأمّا سويد ، فقد تقدّم وقاتل حتّى أُثخن فصُرع] (٣) ، فوقع بين القتلى مُثخناً وأُخذ سيفه. [فلمّا] قُتل الحسين (عليه السّلام) سمعهم ، يقولون : قُتل الحسين (ع). وجد إفاقة ، ومعه سكّين فقاتلهم بسكّينه ساعةً [حتّى] قتله زيد بن رقاد الجنبي (٤) وعروة بن بطار التغلبي.

وكان آخر قتيل (٥) و (٦).

_________________

(١) حدّثني فضيل بن خديج الكندي أنّ ٥ / ٤٤٥.

(٢) حدّثني زهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي ، قال ٥ / ٤٤٦.

(٣) حدثني عبد الله بن عاصم ، عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي ، قال ٥ / ٤٤٤.

(٤) هو : قاتل العابس بن علي (عليه السّلام) ٥ / ٤٦٨ ، وهو الرامي عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم. وكان يقول : لقد رميت فتى منهم بسهم. وإنّه لواضع كفّه على جبهته يتّقي النّبل فأثبت كفّه في جبهته ، فما استطاع أنْ يُزيل كفّه عن جبهته. ثمّ إنّه رمى الغلام بسهم آخر ، فقتله. وكان يقول : جئته ميّتاً ، فلمْ أزل انضنض السّهم من جبهته حتّى نزعته ، وبقي النّصل في جبهته مثبتاً ما قدرتُ على نزعه.

وبعث المختار إليه : عبد الله بن كامل الشاكري ، فأتى داره وأحاط بها واقتحم الرجال عليه ، فخرج مصلتاً بسيفه ، فقال ابن كامل : ارموه بالنّبل وارجموه بالحجارة ، ففعلوا ذلك به حتّى سقط فدعا بنار فحرّقه بها ، وهو حيّ لمْ تخرج روحه ٦ / ٦٤. وهو رجل من جنب ٦ / ٦٤. وفي غير الطبري يُذكر : الجهني ، والحنفي.

(٥) حدّثني زهير بن عبد الرحمن الخثعمي ، أنّ ٥ / ٤٥٣.

(٦) قال أبو مِخْنَف : حدّثني عبد الله بن عاصم ، عن الضحّاك بن عبد الله المشرّقي ، قال : لمّا رأيت أصحاب الحسين (عليه السّلام) قد أُصبوا وقد خلص إليه وإلى أهل بيته ، ولمْ يبقَ معه غير سويد بن عمرو

٢٣٩

..................................................................................

_________________

بن أبي المطاع الخثعمي ، وبشر بن عمرو الحضرمي ، فأقبلت إلى فرسي ـ وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقر ، أقبلت بها حتّى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت ، وأقبلت أقاتل راجلاً فقتلت يومئذٍ بين يدي الحسين (عليه السّلام) رجلين ، وقطعت يد آخر. وقال لي الحسين (ع) يومئذٍ مِراراً : «لا تشلل ، لا يقطع الله يدك ، جزاك الله خيراً من أهل بيت نبيّك (صلّى الله عليه [وآله]». ـ فقلت له : يابن رسول الله ، قد علمت ما كان بيني وبينك ، قلت لك : أقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً ، فإذا لمْ أرَ مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف؟ فقلت لي : «نعم». فقال (عليه السّلام) : «صدقت ، وكيف بالنّجاء! إنْ قدرت على ذلك ، فأنت في حلّ».

فلمّا أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط ، ثمّ استويت على متنها ثمّ ضربتها حتّى إذا قامت على السّنابك رميت بها عرض القوم ، فأُخرجوا لي واتبعني منهم خمسة عشر رجلاً حتّى انتهيت إلى شفيّة ـ قرية قريبة من شاطئ الفرات ـ فلمّا لحقوني عطفت عليهم ، فعرفني كثير بن عبد الله الشعبي وأيّوب بن مشرح الخيواني ، وقيس بن عبد الله الصائدي فقالوا : هذا الضحّاك بن عبد الله المشرّقي ، هذا ابن عمّنا ، ننشدكم الله لمّا كففتم عنه. فقال ثلاثة نفر من بني تميم ، كانوا معهم : بلى والله ، لنجيبنّ أخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبهم. فلمّا تابع التميميّون أصحأبي كفّ الآخرون فنجّاني الله ٥ / ٤٤٥.

٢٤٠