وقعة الطّف

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]

وقعة الطّف

المؤلف:

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]


المحقق: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

[خروج ابن سعد إلى الحسين (عليه السّلام)]

وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) ، أنّ عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفه يسير بهم إلى دستبى (١) ، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها ، فكتب إليه ابن زياد عهده على الري وأمره بالخروج.

فخرج معسكراً بالنّاس بحمّام أعين (٢) ، فلمّا كان من أمر الحسين (عليه السّلام) ما كان وأقبل إلى الكوفة ، دعا ابن زياد عمر بن سعد ، فقال : سر إلى الحسين (ع) ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك. فقال له عمر بن سعد : إن رأيت ـ رحمك الله ـ أنْ تعفيني فافعل. فقال له عبيد الله : نعم ، على أنْ تردّ لنا عهدنا. فلمّا قال له ذلك ، قال عمر بن سعد : أمهلني اليوم حتّى أنظر.

فانصرف عمر [ابن سعد] يستشير نصحاءه ، فلمْ يكن يستشير أحداً إلاّ نهاه.

وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة (٣) ـ وهو ابن أخته ـ فقال : أنشدك الله

_________________

(١) كورة كبيرة بين همدان والري ، ثمّ أضيفت إلى قزوين ـ كما في معجم البلدان ٤ / ٥٨ ـ وهي معرب دشتبه يعنّي : الواحة الحسناء.

(٢) كورة من كور الكوفة ، فيها : حمّام لعمر بن سعد بيد مولاه أعين ، سمّي باسمه ، كما في القمقام / ٤٨٦.

(٣) استعمله الحجّاج بن يوسف الثقفي على همذان سنة (٧٧ هـ) ٥ / ٢٨٤. وكان أخوه مطرّف بن المغيرة على المدائن فخرج على الحجّاج ، فأمدّه حمزة بالمال والسّلاح سرّاً ٥ / ٢٩٢ ، فبعث الحجّاج إلى قيس بن

١٨١

ـ ياخالُ ـ أنْ تسير إلى الحسين (ع) فتأثم ـ بربّك ـ وتقطع رحمك ، فوالله ، لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها ـ لو كان لك ـ خير لك من أنْ تلقى الله بدم الحسين (ع). فقال له عمر بن سعد : فإنّي أفعل إنْ شاء الله (١).

وتصاب سلسلة أخبار أبي مخنف هنا في رواية الطبري بالانقطاع والانتقال إلى نزول ابن سعد بكربلاء ، ويملأ الطبري هذا الفراغ بخبر عن عوانة بن الحكم ، لابدّ لنا منه لوصل الحلقات :

قال هشام : حدّثني عوانة بن الحكم ، عن عمّار بن عبد الله بن يسار الجهني ، عن أبيه قال :

دخلت على عمر بن سعد وقد أمر بالمسير إلى الحسين (عليه السّلام) ، فقال لي : إنّ الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين (ع) فأبيت ذلك عليه ، فقلت له : أصاب الله بك ، أرشدك الله أحِلْ ، فلا تفعل ولا تسر إليه.

قال : فخرجت من عنده فأتاني آتٍ وقال : هذا عمر بن سعد يندب النّاس إلى الحسين (ع). قال : فأتيته ، فإذا هو جالسّ ، فلمّا رآني أعرض بوجهه ، فعرفت أنّه قد عزم على المسير إليه ، فخرجت من عنده.

قال ، فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زياد ، فقال : أصلحك الله! إنّك ولّيتني هذا العمل وكتبت لي العهد وسمع النّاس به [يعنّي : عهد الري] ، فإنْ رأيت أنْ تنفّذ لي ذلك فافعل ، وابعث إلى الحسين (ع) في هذا الجيش من أشراف الكوفة ، من لست بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرّب منه ، فسمّى له أناساً.

_________________

سعد العجلي ـ وهو يومئذٍ على شرطة حمزة بن المغيرة ـ بعهده على همذان ، وأنْ يُوثق حمزة بن المغيرة في الحديد ويحبسه ، فأوثقه وحبسه ٥ / ٢٩٤.

(١) قال أبو مخنف : حدّثني عبد الرحمن بن جندب ، عن عقبة بن سمعان قال ٥ / ٤٠٧. وبنفس السّند أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين / ٧٤. ذكر عقبة : عتبة بن سمعان الكلبي ، وروى المفيد الخبر في الإرشاد / ٢٢٦.

١٨٢

فقال له ابن زياد : لا تعلّمنّي بأشراف أهل الكوفة ، ولست أستأمرك فيمَن أريد أنْ أبعث ، إنْ سرت بجندنا وإلاّ فابعث إلينا بعهدنا. فلمّا رآه قد لجّ ، قال : فإنّي سائر.

قال : فأقبل في أربعة آلاف (١) حتّى نزل بالحسين (ع) من الغد من يوم نزل الحسين (ع) نينوى.

قال : فبعث عمر بن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) عزرة بن قيس الأحمسي (٢) ، فقال : ائته فسله ما الذي جاء به؟ وماذا يُريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين (ع) ، فاستحيا منه أنْ يأتيه.

قال : فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه فكلّهم أبى وكرهه.

قال : وقام إليه كثير بن عبد الله الشعبي ـ وكان فارساً شجاعاً لا يردّ وجهه شيء ـ فقال : أنا أذهب إليه ، والله ، لئن شئت لأفتكنّ به (٣). فقال عمر بن سعد : ما أريد أنْ يُفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟

_________________

(١) وكذلك الإرشاد / ٢٢٧. ونقل عن مقتل محمّد بن أبي طالب ما حاصله : أنّ ابن زياد سيّر ابن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) في تسعة الآف ، ثمّ يزيد بن ركاب الكلبي في ألفين ، والحصين بن تميم السّكوني في أربعة الآف ، وفلان المازني في ثلاثة الآف ، ونصر بن فلان في ألفين ، فذلك عشرون ألفاً مأبين فارس وراجل. وذكر الشافعي في كتابه مطالب السّؤول : أنّهم كانوا اثنين وعشرين ألفاً. وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسنده عن الصادق (عليه السّلام) : أنّهم ثلاثون ألف. الأمالي / ١٠١ ، ط بيروت.

ألفاً ... وروى سبط ابن الجوزي عن محمّد بن سيرين أنّه كان يقول : وقد ظهرت كرامة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في هذا ، فإنّه لقي عمر بن سعد يوماً وهو شاب ، فقال (ع) : «ويحك يابن سعد! كيف بك إذا قمت يوماً مقاماً تُخيّر فيه بين الجنّة والنّار ، فتختار النّار؟!». ٢٤٧ ، ط النّجف.

(٢) وذكره المفيد في الإرشاد : عروة بن قيس. وقد مضت ترجمته فيمَن كتب إلى الإمام (عليه السّلام) من أهل الكوفة من المنافقين الاُمويّين.

(٣) شهد مقتل الحسين (عليه السّلام) وروى خطبة زهير بن القين ٥ / ٤٢٦.

وهو الذي شرك مع المهاجر بن أوس في قتله ٥ / ٤٤١ ، وهو الذي تبع الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني ليقتله ، فلمّا عرفه أنّه من همدان قال : هذا ابن عمّنا ، فكفّ عنه ٥ / ٤٤٥.

١٨٣

قال : فأقبل إليه ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائدي (١) قال للحسين (عليه السّلام) : أصلحك الله أبا عبد الله! قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه ، فقام إليه فقال : ضع سيفك. قال : لا والله ولا كرامة ، إنّما أنا رسول فإنْ سمعتم منّي أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، وإنْ أبيتم انصرفت عنكم. فقال له : فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك. قال : لا والله ، لا تمسسه. فقال له : أخبرني ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه ؛ فإنّك فاجر. فاستبّا ، ثمّ انصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر.

قال : فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلي ، فقال له : ويحك يا قرّة! ألقِ حسيناً (ع) فسله ما جاء به؟ وماذا يُريد؟

قال : فأتاه قرّة بن قيس ، فلمّا رآه الحسين مقبلاً قال (ع) : «أتعرفون هذا؟». فقال حبيب بن مظاهر (٢) : نعم ، هذا رجل من حنظلة تميمي ، وهو ابن أختنا ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد (٣).

قال : فجاء حتّى سلّم على الحسين (عليه السّلام) وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، له.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «كتب إليّ أهل مصركم هذا : أن أقدم ، فأمّا

_________________

(١) سبقت ترجمة صفحة / ١١٥.

(٢) هذا أول ذكره في أخبار كربلاء ، ولمْ يذكر كيف وصل إليها؟ وقد مضت ترجمته في زعمّاء الشيعة الذين كتبوا إلى الإمام (عليه السّلام) من الكوفة ، وسيأتي في مقتله ذكر جوانب من حياته.

(٣) كان مع الحرّ بن يزيد الرياحي ، فيروى عنه عدي بن حرملة الأسدي أنّه كان يقول : والله ، لو أنّه أطلعنّي على الذي يُريد لخرجت معه إلى الحسين (عليه السّلام) ٥ / ٤٢٧. ويروي عنه أبو زهير العبسى خبره عن مرور نساء الحسين (عليه السّلام) على مقتله وأهل بيته ، ورثاء زينب لأخيها (عليهما السّلام) ٥ / ٤٥٦.

وقد دعاه حبيب بن مظاهر إلى نصرة الإمام (عليه السّلام) وأنْ لا يرجع إلى الظالمين ، فقال له قرّة : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي. ولكنّه إلى عمر بن سعد فلمْ يرجع عنه إلى الحسين حتّى قُتل (عليه السّلام) ٥ / ٤١١ ، والإرشاد / ٢٢٨.

١٨٤

إذ كرهوني ، فأنا أنصرف عنهم».

قال : فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر.

فقال له عمر بن سعد : إنّي لأرجو أنْ يُعافيني الله من حربه وقتاله [وكتب إلى ابن زياد بذلك. وهذه نهاية التتمّة من رواية غير أبي مخنف].

[كتاب عمر بن سعد إلى ابن زياد]

جاء كتاب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد ، فإذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد : فإنّي حيث نزلت بالحسين (ع) بعثت إليه رسولي ، فسألته عمّا أقدمه ، وماذا يطلب ويسأل؟ فقال (ع) : «كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت ، فأمّا إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني رسلهم ، فأنا منصرف عنهم».

فلمّا قُرئ الكتاب على ابن زياد ، قال :

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النّجاة ولات حين مناص

[كتاب ابن زياد إلى ابن سعد جواب]

وكتب إلى عمر بن سعد :

بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد : فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أنْ يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا ، والسّلام.

فلمّا أتى عمر بن سعد الكتاب ، قال : قد حسبت أنْ لا يقبل ابن زياد العافية (١).

_________________

(١) قال أبو مخنف : حدّثني النّضر بن صالح بن حبيب بن زهير العبسي ، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي ، قال : أشهد أنّ كتاب عمر بن سعد جاء ٥ / ٤١١ ، والإرشاد / ٢٢٨.

١٨٥

[لقاء ابن سعد مع الإمام (عليه السّلام)]

[و] بعث الحسين (عليه السّلام) إلى عمر بن سعد : عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري (١) : «أنْ ألقني اللّيل بين عسكري وعسكرك».

فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارساً ، وأقبل حسين (عليه السّلام) في مثل ذلك ، فلمّا التقوا أمر حسين (عليه السّلام) أصحابه ، أنْ يتنحّوا عنه ، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك.

فتكلّما فأطالا حتّى ذهب من اللّيل هزيع ، ثمّ انصرف كلّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه.

وتحدّث النّاس فيما [دار] بينهما ظنّاً ، يظنّون أنّ حسيناً (عليه السّلام) قال لعمر بن سعد : «أخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين». قال عمر : إذن ، تُهدم داري. قال (ع) : «أنا ابنيها لك». قال : إذن ، تؤخذ ضياعي. قال (ع) : «إذن ، أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز». فتكرّه ذلك عمر.

تحدّث النّاس بذلك وشاع فيهم ، من غير أنْ يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً ولا علّموه (٢).

[و] قالوا : أنّه قال (ع) : «اختاروا منّي خصالاً ثلاثاً :

_________________

(١) كان مع الحسين (عليه السّلام) ، وكان أخوه علي بن قرظة مع عمر بن سعد ، فلمّا قُتل أخوه عمرو حمل على أصحاب الحسين (عليه السّلام) لينتقم لأخيه ، فطعنه نافع بن هلال المرادي فصرعه فحمله أصحابه ، ودُووي بعد فبرأ ٥ / ٤٣٤.

(٢) حدّثني أبو جناب : عن هانئ بن ثبيت الحضرمي ، وكان قد شهد قتل الحسين (ع) مع عمر بن سعد ، ويظهر من نفس هذا الخبر ، أنّه كان من الفرسان العشرين الذين خرجوا مع عمر بن سعد في اللّيل للقاء الإمام (عليه السّلام). قال : فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما ٥ / ٤١٣ ، والإرشاد / ٢٢٩.

وقال سبط ابن الجوزي : إنّ عمر هو الذي بعث إليه يطلب الاجتماع به ، فاجتمعا خلوة / ٢٤٨ ، ط النّجف.

١٨٦

١ ـ إمّا ، أنْ أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه.

٢ ـ وإمّا ، أنْ أضع يدي في يدي يزيد بن معاوية ، فيرى فيما بيني وبينه رأيه.

٣ ـ وإمّا ، أنْ تسيّروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم ، فأكون رجلاً من أهله لي ما لهم وعليّ ما عليهم» (١).

[و] قال عقبة بن سمعان : صحبت حسيناً (ع) فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ، ومن مكّة إلى العراق ولمْ أفارقه حتّى قُتل. وليس من مخاطبة النّاس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكره إلى يوم مقتله إلاّ سمعتها ، ألاَ والله ، ما أعطاهم ما يتذاكر النّاس وما يزعمون : من أنْ يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أنْ يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال (ع) : «دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر النّاس» (٢).

[كتاب عمر بن سعد إلى ابن زياد ثانياً]

فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد :

أمّا بعد : فانّ الله قد أطفأ النّائرة ، وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمّة ، هذا حسين (ع) قد أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أنْ نسيّره إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا ، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أنْ يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده ، فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لكم رضاً وللاُمّة صلاح.

فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب ، قال : هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على

_________________

(١) ما عليه جماعة المحدّثين ، وحدّثنا به المجالد بن سعيد والصقعب بن زهير الأزدي ، وغيرهما قالوا ٥ / ٤١٣ ، وأبو الفرج / ٧٥ ، ط النّجف.

(٢) فأمّا عبد الرحمن بن جندب ، فحدّثني عن عقبة بن سمعان ، قال ٥ / ٤١٣ ، والخواص / ٢٤٨ مختصراً.

١٨٧

قومه نعم ، قد قبلت.

فقام إليه شمر بن ذي الجوشن (١) ، فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك؟ والله ، لئن رحل من بلدك ولمْ يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّة ، ولكتوننّ أولى بالضعف والعجز ، فلا تعطِ هذه المنزلة فإنّها من الوهن ، ولكن ينزل على حكمك (٢) هو وأصحابه ، فإنْ عاقبت فأنت وليّ العقوبة ، وإنْ غفرت كان ذلك لك ، والله ، لقد بلغني أنّ حسيناً وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة اللّيل.

فقال له ابن زياد : نعم ما رأيت! الرأي رأيك (٣).

[كتاب ابن زياد إلى ابن سعد وجوابه ثانياً]

ثم كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد :

أما بعد : فإنّي لمْ أبعثك إلى حسين (عليه السّلام) لتكفّ عنه ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعاً ... ، انظر : فإنْ نزل حسين (ع) وأصحابه على الحكم واستسلموا ، فابعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقون ، فإنْ قُتل حسين (ع) فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم! وليس دهري في هذا أنْ يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قول : لو قد قتلته فعلت هذا به إنْ أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع ، وإنْ أبيت فاعتزل عملنا وجندنا ، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بأمرنا ،

_________________

(١) مضت ترجمته فيمَن كان من الأشراف مع ابن زياد في القصر.

(٢) ورواه السّبط مختصراً / ٢٤٨ ، وزاد : أنّه كتب في أسفل الكتاب :

الآن حين تعلقته حبالنّا

يرجو النّحاة ، ولات حين ماص

(٣) حدّثني المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير ٥ / ٤١٤ ، والإرشاد / ٢٢٩.

١٨٨

والسّلام (١).

ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن ، فقال له : اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد ، فليعرض على الحسين (ع) وأصحابه النّزول على حكمي ، فإنْ فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ هم أبوا فليُقاتلهم ، فإنْ فعل فامسع له وأطع ، وإنْ هو أبى فقاتلهم فأنت أمير النّاس ، وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه (٢) [يعنّي : ابن سعد].

[و] لمّا قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل بن حزام (الكلبي) ، فقال عبد الله :

أصلح الله الأمير! إنّ بني أختنا [اُمّ البنين : العبّاس وعبد الله ، وجعفراً وعثمان] مع الحسين (عليه السّلام) فإنْ رأيت أنْ تكتب لهم أماناً فعلت.

قال [ابن زياد] : نعم ، ونعمة عين!

فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً ...

فبعث به عبد الله بن أبي المحل [بن حزام الكلبي] مع مولى له ، يُقال له : كزُمان.

[قدوم شمر بالكتاب إلى ابن سعد]

[و] أقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد ، فلمّا قدم به عليه [و] قرأه ، قال له عمر : ويلك مالك! لا قرّب الله دارك ، وقبّح الله ما قدمت به عليّ! والله ، لأظنّك أنت ثنيته أنْ يقبل ما كتبت به إليه ، أفسدت علينا أمراً كنّا رجونا أنْ يصلح ، لا يستسلم والله ، حسين (ع) إنّ نفساً أبية

_________________

(١) حدّثني أبو جناب الكلبي ، قال ٥ / ٤١٥ ، والإرشاد / ٢٢٩ ، والخواص / ٢٤٨.

(٢) حدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم ، قال ٥ / ٤١٤ ، والإرشاد / ٢٢٩.

١٨٩

لبين جنبيّه.

فقال له شمر : أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه! وإلاّ فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر.

قال : لا ، ولا كرامة لك ، وأنا أتولّى ذلك ، فدونك وكن أنت على الرّجال.

[أمان ابن زياد للعبّاس وأخوته]

قال : وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين (عليه السّلام) ، فقال : أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو علي (عليه السّلام) ، فقالوا : مالك وما تريد؟

قال : أنتم يا بنو أُختي ، آمنون.

قال له الفتية : لعنك الله ولعن أمانك ـ لئن كنت خالنّا ـ أتؤمّنُنا وابن رسول الله (ص) لا أمان له؟

[و] لمّا قدم عليهم كزُمان مولى عبد الله بن أبي المحل [بن حزام الكلبي] دعاهم ، فقال : هذا أمان بعث به خالكم.

فقال له الفتية : اقرئ خالنّا السّلام ، وقل له : أنْ لا حجّة لنا في أمانكم ، أمان الله خير من أمان ابن سميّة (١).

[منع الامام واصحابه عن الماء]

[و] جاء كتاب من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد :

أما بعد : فحلْ بين الحسين (ع) وأصحابه وبين الماء ، ولا يذوقوا منه قطرة كما

_________________

(١) وفي الإرشاد / ٢٣٠ ، والتذكرة / ٢٤٩.

١٩٠

صنع بالتقيّ الزكيّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان.

قال : فبعث عمر بن سعد : عمرو بن الحجّاج (١) على خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين (ع) وأصحابه وبين الماء أنْ يسقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (عليه السّلام) بثلاث.

قال : ولمّا اشتدّ على الحسين (ع) وأصحابه العطش دعا العبّاس بن علي بن أبي طالب (ع) ، أخاه فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وبعث معهم بعشرين قربة. فجأوا حتّى دنوا من الماء ليلاً ، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي (٢) ، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيديّ : مَن الرّجل؟ [فقال : نافع بن هلال].

فقال : ما جاء بك؟ قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأ تمونا عنه. قال : فاشرب هنيئاً. قال : لا والله ، لا أشرب منه قطرة وحسين (ع) عطشان ومَن ترى من أصحابه [ـ وأشار إلى أصحابه ـ] فطلعوا عليه. فقال : لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء.

(و) لمّا دنا من [نافع الرّجّالة من] أصحابه قال [لهم] : املأوا قربكم. فشدّ الرّجّالة فملأوا قربهم.

وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، فحمل عليهم العبّاس بن علي ونافع بن هلال ، فكفّوهم ثمّ انصرفوا إلى رجالهم. فقالوا [لهم] : امضوا ، ووقفوا

_________________

(١) مضت ترجمته فيمَن كان من الأشراف ، مع ابن زياد في القصر.

(٢) كان قد بعث بفرسه مع الأربعة نفراً من الكوفة إلى الامام (عليه السّلام) في الطريق مع الطرّماح بن عدي ، وهذا أول خبر يُعلم منه وصوله إلى الامام (عليه السّلام) في كربلاء ، وهو الذي طعن علي بن قرظة الأنصاري ـ أخا عمرو بن قرظة ـ. وكان مع عمر بن سعد ٥ / ٤٣٤. وكان قد كُتب اسمه على أفواق نبله ، فقتل بسهامه اثنى عشر رجلاً منهم حتّى كُسرت عضداه ، وأخذه شمر أسيراً ثمّ قتله بعد أنْ مضى به إلى ابن سعد ٥ / ٤٤٢.

١٩١

دونهم ، فعطف عليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه واطّردوا قليلاً ، وجاء أصحاب حسين (عليه السّلام) بالقرب فأدخلوها عليه.

وطعن نافع بن هلال [في تلك اللّيلة] رجلاً من أصحاب عمرو بن الحجّاج [و] انتقضت [الطعنة] بعد ذلك فمات منها (١) [، فهو أول قتيل من القوم جُرح تلك اللّيلة].

_________________

(١) حدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم الأزدي قال ٥ / ٤١٢. وأبو الفرج ، عن أبي مخنف بنفس السّند / ٧٨. والمفيد في الإرشاد / ٢٢٨ : عن حميد بن مسلم.

١٩٢

[زحف ابن سعد إلى الحسين (عليه السّلام)]

قال : ثمّ إنّ عمر بن سعد نادى بعد صلاة العصر : يا خيل الله اركبي وأبشري! فركب النّاس ، ثمّ زحف نحو [الحسين وأصحابه (عليه السّلام)].

و [كان] حسين (عليه السّلام) جالسّا أمام بيته محتبياً بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبته.

وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها ، فقالت : يا أخي أمَا تسمع الأصوات قد اقتربت؟

فرفع الحسين (عليه السّلام) رأسه ، فقال (ع) : «إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) في المنام ، فقال لي : إنّك تروح إلينا». فلطمت أخته وجهها ، وقالت : يا ويلتا! فقال (ع) : «ليس لك الويل يا أُخيّة ، أسكتي رحمك الرّحمن!».

وقال العبّاس بن علي (عليه السّلام) : يا أخي : أتاك القوم.

فنهض [الحسين (عليه السّلام)] ثمّ قال (ع) : «يا عبّاس ، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم؟ وما بدالكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟».

فاستقبلهم العبّاس في نحو من عشرين فارساً فيهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر (١) ، فقال لهم العبّاس : ما بدالكم؟ وماذا تريدون؟

_________________

(١) مضت ترجمته فيمَن كتب إلى الإمام (عليه السّلام) من شيعته من أهل الكوفة.

١٩٣

قالوا : جاء أمر الأمير ، بأنْ نعرض عليكم أنْ تنزلوا على حكمه أو نُنازلكم.

قال : فلا تعجلوا حتّى ارجع إلى أبي عبد الله (ع) فأعرض عليه ما ذكرتم.

فوقفوا [و] ، قالوا : ألقه فأعلمه ذلك ، ثمّ ألقنا بما يقول.

فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين (ع) يُخبره بالخبر. ووقف أصحابه يخاطبون القوم ... ، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلّم القوم إنْ شئت ، وإنْ شئت كلّمتهم. فقال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم.

فقال له حبيب بن مظاهر : أمَا والله ، لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيّه (عليهم السّلام) وعترته وأهل بيته (صلّى الله عليه [وآله]) ، وعبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالسّحر والذاكرين الله كثيراً. [قال هذا لزهير بن القين بحيث يسمعه القوم ، فسمعه منهم عزرة بن قيس].

فقال له عزرة بن القيس (١) : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت.

فقال له زهير : يا عزرة ، إنّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتّق الله يا عزرة ؛ فإنّي لك من النّاصحين ، أنشدك الله يا عزرة ـ أنْ تكون ممّن يُعين الضلاّل على قتل النّفوس الزكية.

قال [عزرة بن قيس] : يا زهير ، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنّما كنت عثمانيّاً (٢).

قال : أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا إنّي منهم؟ أمَا والله ، ما كتبت إليه كتاباً قط ، ولا أرسلت إليه رسولاً قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) ومكانه منه ،

_________________

(١) مضت ترجمته فيمَن كتب إلى الإمام (عليه السّلام) من أهل الكوفة من المنافقين.

(٢) هذا أول مرّة يرد فيه هذا اللقب لزهير بن القين في حديث كربلاء ، وهو أوّل عنوان للتفرقة بين المسلمين في الاختلاف في عثمان بن عفّان ، أهو على الحقّ أو الباطل؟ فكان ، يُقال : لمََن يتولّى عليّاً (عليه السّلام) : علوي أو شيعي. ولمَن يتولّى عثمان ـ ويقول أنّه كان على حقّ وقُتل مظلوماً ـ يُقال له : عثماني.

١٩٤

وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم فرأيت أنْ انصره وأنْ أكون في حزبه ، وأنْ أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله (عليه السّلام).

وحين أتى العبّاس بن علي حسيناً (عليهما السّلام) بما عرض عليه عمر بن سعد ، قال [له الحسين (عليه السّلام)] : «ارجع إليهم ، فإنْ استطعت أنْ تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشّية ، لعلّنا نصلّي لربّنا اللّيلة وندعوه نستغفره ، فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار». وإنّما أراد بذلك أنْ يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويُوصي أهله.

وأقبل العبّاس بن علي (عليه السّلام) يركض [فرسه] حتّى انتهى إليهم ، فقال :

يا هؤلاء ، إنّ أبا عبد الله يسألكم أنْ تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لمْ يجرِ بينكم وبينه فيه منطق ، فإذا أصبحنا التقينا إنْ شاء الله ؛ فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهنا فرددناه. وإنّما أراد بذلك أنْ يرّدّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويُوصي أهله.

[فـ] قال عمر بن سعد : يا شمر ما ترى؟

قال : ما ترى أنت ، أنت الأمير والرأي رأيك.

قال : أردت أنْ لا أكون. ثمّ أقبل على النّاس ، فقال : ماذا تَرون؟

فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي : سبحان الله! والله ، لو كانوا من الدّيلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليها.

وقال قيس بن الأشعث (١) : أجبهم إلى ما سألوك ، فلعمري ليصبحنّك

_________________

(١) كان يوم عاشوراء على ربع ربيعة وكندة ٥ / ٤٢٢ ، وهو الذي أخذ قطيفة الإمام الحسين (عليه السّلام) وكانت من خزّ ، فكان يُلقّب بعد ذلك : قيس قطيفة ٥ / ٤٥٣. وكان مع شمر بن ذي

١٩٥

بالقتال غدوة.

فقال : والله ، لو أعلم أنْ يفعلوا ما أخرتهم العشيّة (١).

قال علي بن الحسين (عليه السّلام) : «[فـ] ـأتانا رسول من قبل عمر بن سعد ، فقام حيث يسمع الصوت ، فقال : إنّا قد أجّلناكم إلى غد ، فإنْ استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد ، وإنْ أبيتم فلسنا بتاركيكم» (٢).

_________________

الجوشن وعمرو بن الحجّاج ، وعزرة بن قيس على حمل رؤوس الإمام (عليه السّلام) إلى الكوفة إلى ابن زياد ٥ / ٤٥٦ ، وهو على كندة يحملون ثلاثة عشر رأساً ٥ / ٤٦٨. وهو أخو محمّد بن الأشعث قاتل مسلم ، وأخو جعدة قاتلة الإمام الحسن (عليه السّلام).

(١) عن الحرّث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك العامري ، قال ٥ / ٤١٥. والإرشاد / ٢٣٠.

(٢) حدّثني الحرّث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك العامري عن علي بن الحسين (عليه السّلام) ٥ / ٤١٧.

١٩٦

[حوادث ليلة عاشوراء]

[خطبة الإمام (عليه السّلام) ليلة عاشوراء :]

عن علي بن الحسين (عليه السّلام) ، قال : «جمع الحسين (ع) أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد ، وذلك عنه قرب المساء ، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه :

أثني على الله ـ تبارك وتعالى ـ أحسن الثناء وأحمده على السّرّاء والضرّاء ، اللهمّ ، إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنّبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة لمْ تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحأبي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً.

ألاَ وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، ألاَ وإنّي قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حِل ، ليس عليكم منّي ذمام ، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً (١).

ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، [و] تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله ، فإنْ القوم إنّما يطلبوني ، ولو قد أصأبوني لهوا عن طلب غيري».

_________________

(١) حدّثني الحرّث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك العامري ، عن علي بن الحسين (عليه السّلام) ٥ / ٤١٨ ، وأبو الفرج / ٧٤ والإرشاد / ٢٣١ : عن الامام السّجاد (عليه السّلام).

١٩٧

[موقف الهاشميّين]

[فـ] ـبدأ القول العبّاس بن علي (عليه السّلام) ، فقال له :

لمْ نفعل [ذلك]؟ ألنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.

ثمّ إنّ أخوته وأبناء [الحسين (عليه السّلام)] وبنى أخيه [الحسن (عليه السّلام)] وابنى عبد الله بن جعفر [محمّد وعبد الله] تكلّموا بهذا ونحوه.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم».

قالوا : فما يقول النّاس؟ يقولون : إنّا تركنّا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير العمّام ، ولمْ نرمِ معهم بسهم ، ولمْ نطعن معهم برمح ، ولمْ نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله ، لا نفعل ، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونُقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك! (١).

[موقف الأصحاب]

[و] قام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي (٢) ، فقال :

أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمَا والله ، حتّى أكسّر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أفارقك ، ولو لمْ يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

_________________

(١) وأبو الفرج في مقاتل الطالبيّين / ٧٤ ، والإرشاد / ٢٣١ / ، والخواص / ٢٤٩.

(٢) مضت ترجمته في أشراف الشيعة من أهل الكوفة مع مسلم بن عقيل. وهذا أوّل مرّة يرد ذكره في أحاديث كربلاء من دون أنْ يذكر التاريخ شيئاً عن كيفيّة وصوله إليها.

١٩٨

وقال سعيد بن عبد الله الحنفي : والله ، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) فيك ، والله ، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أُذّرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقال زهير بن القين : والله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت ، حتّى أُقتل كذا ألف قتلةً ، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه ، فقالوا : والله ، لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا.

وتكلّم جماعة أصحابه في وجه واحد بكلام يُشبه بعضه بعضاً (١).

_________________

(١) حدّثني : عبد الله بن عاصم الفائشي ، عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني ، قال ٥ / ٤١٨. وأبو الفرج / ٧٤ ، ط النّجف ، واليعقوبي ٢ / ٢٣١ ، والإرشاد / ٢٣١.

١٩٩

[الإمام (عليه السّلام) ليلة عاشوراء]

عن علي بن الحسين بن علي (عليه السّلام) ، قال : «إنّي جالسّ في تلك العشيّة التي قُتل أبي صبيحتها ، وعمّتي زينب عندي تمرّضني ، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له ، وعنده حُوَيّ (١) مولى أبي ذرّ الغفاريّ ، وهو يعالج سيفه ويصلحه ، وأبي يقول (ع) :

يا دهر أفٍّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والاصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدّهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل

وكل حيّ سالك سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها فعرفت ما أراد ، فخنقتني عبرتي ، فرددت دمعي ولزمت السّكون ، فعلمت أنّ البلاء قد نزل.

فأمّا عمتّي ، فإنّها سمعتْ ما سمعتُ ـ وهي امرأة ، وفي النّساء الرقّة والجزع ـ فلمْ تملك نفسها أنْ وثبت تجرّ ثوبها ـ وأنّها لحاسرة ـ حتّى انتهت إليه ، فقالت : واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّي ، وعليّ أبي ، وحسن أخي ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي (٢).

فنظر إليها الحسين (عليه السّلام) ، فقال : يا أُخيّة ، لا يُذهبن بحلمك الشيطان.

قالت : بأبي أنت وأميّ يا أبا عبد الله ، أستقتلت؟ نفسي فداك ...

_________________

(١) في الإرشاد / ٢٣٢ : جوين ، وفي مقاتل الطالبيّين / ٧٥ : جون ، وكذلك في مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢١٨ ، وفي تذكرة الخواص ١٩ / ٢ ، والخوارزمي ١ / ٢٣٧. ولا ذكر له في الطبري قبل هذا ولا بعده ، لا كيفيّة مقتله مع الإمام (عليه السّلام).

(٢) وفي الإرشاد / ٢٣٢ : يا خليفة الماضين وثمال الباقين ، وكذلك التذكرة بزيادة : ثمّ لطمت وجهها / ٢٥٠ ، ط النّجف.

٢٠٠