وقعة الطّف

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]

وقعة الطّف

المؤلف:

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]


المحقق: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

العرب ، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي (١) وهو نازل ها هنا ، فلمّا رأى الحسين (عليه السّلام) قام إليه ، فقال : بأبي أنت وأمّي يابن رسول الله ، ما أقدمك؟! فقال له الحسين (عليه السّلام) : «كتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم». فقال له عبد الله بن مطيع : أذكّرك الله ، يابن رسول الله وحرمة السّلام أنْ تنتهك ، أنشدك الله في حرمة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله ، لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهأبون بعدك أحداً أبداً (٢). والله ، أنّها الحرّمة السّلام تنتهك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأتِ الكوفة ، ولا تعرض لبني اُميّة. فأبى إلاّ أنْ يمضي.

[منزل قبل زرود وهي الخزيميّة] (٣)

فأقبل الحسين (عليه السّلام) حتّى كان بالماء فوق زرود (٤) ، [وهي : الخزيميّة].

[لحوق زهير بن القين بالإمام الحسين (عليه السّلام)]

عن رجل من بني فزارة ، قال : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين (عليه السّلام) ، فلمْ يكن شيء أبغض إلينا من أنْ نسايره

_________________

(١) مضت ترجمته في إسناد الكتاب.

(٢) لمْ تنتهك حرمة السّلام ولا رسول الله (ص) ، ولا العرب ولا قريش بفعل الإمام (عليه السّلام) ، بل بفعل أعداء السّلام. ولقد أخطأ ابن مطيع ، إذ قال : ولئن قتلوك لا يهأبون بعدك أحداً أبداً ، بل تجرّأ عليهم مَن لمْ يكن يتجرّأ قبل ذلك من أهل مكّة والمدينة والكوفة ، بما فيهم نفس ابن مطيع إذ ولى الكوفة من قبل ابن الزبير ، بل إنْ لمْ يكن يخرج الحسين (عليه السّلام) لمْ يكن يجرأ على بني أمية أحد ، فكانوا يفعلون ما يشاؤون من هدم السّلام.

(٣) تقع قبل زرود من مكّة ، وبعدها للذاهب من الكوفة ، كما في معجم البلدان. وقِيل : بينها وبين الثعلبيّة اثنان وثلاثون ميلاً ، وهو من منازل الحجّاج بعد الثعلبيّة من الكوفة.

(٤) ٥ / ٣٩٤. قال أبو مِخْنف : حدثني محمّد بن قيس ، ولعلّه ابن قيس بن مسهر.

١٦١

في منزل ، فإذا سار الحسين (ع) تخلّف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين (ع) تقدّم زهير حتّى نزلنا في منزل لمْ نجد بدّاً من أنْ ننازله فيه. فنزل الحسين (عليه السّلام) في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين حتّى سلّم ثمّ دخل ، فقال : يا زهير بن القين ، إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي (عليهما السّلام) بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلّ انسان ما في يده حتّى كأنّ على رؤوسنا الطير (١). قالت دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين ، فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول الله (ع) ثمّ لا تأتيه سبحان الله! لو أتيته فسمعت كلاُمّه ، ثمّ انصرفت. فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أنْ جاء مستبشراً قد أسفر وجهه.

ثمّ قال لأصحابه : من أحبّ منكم أنْ يتبعني ، وإلاّ فإنّه آخر العهد ، إنّي سأحدّثكم حديثاً : غزونا بلنجر (٢) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم. فقال سلمان الباهلي (٣) : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا : نعم. فقال لنا : إذا أدركتم شباب آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم

_________________

(١) قال أبو مِخْنف : فحدّثني الأسدي ، عن رجل من بني فزارة ، قال الأسدي : لمّا كان زمن الحجّاج بن يوسف ، كنّا مختبئين في دار زهير بن القين الجبلي ، وكان أهل الشام لا يدخلونها. فقلت للفزاري حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي؟ قال ٥ / ٣٩٦. والإرشاد / ٢٢١ ، والخوارزمي / ٣٢ ٥.

(٢) مدينة الخزر عند باب الأبواب ، فُتحت سنة (٣٣) على يد سلمان بن ربيعة الباهلي ، على عهد عثمان بن عفّان ، كما في معجم البلدان.

(٣) وفي الطبري ٤ / ٣٠ ٥ : إنّ سلمان الفارسي وأبو هريرة كانا معهم. ونصّ ابن الأثير في الكامل ٤ / ١٧ : أنّ الذي حدّثهم هو سلمان الفارسي وليس الباهلي ، في حين أنّ ابن الأثير إنّما أراد بكتابه الكامل في التاريخ أنْ يُكمل تاريخ الطبري ، فهو في أكثر أخباره ناقل عنه. ونصّ على أنّه الفارسي أيضاً الشيخ المفيد في الإرشاد ، والفتال في روضة الواعظين / ١ ٥ ٣ ، وابن نما في مثير الأحزان / ٢٣ ، والخوارزمي في المقتل ١ / ٢٢ ٥ ، والبكري في المعجم ممّا استعجم ١ / ٣٧٦.

ويؤيّد هذا نصّ الطبري على وجود سلمان الفارسي في هذه الغزوة. ولكن الظاهر أنّ سلمان الفارسي كان والياً على المدائن بعد فتحها سنة (١٧ هـ) حتّى توفّي بها بدون أنْ يخرج منها إلى غزو ، وأنّه توفّى قبل هذا على عهد عمر.

١٦٢

معهم منكم بما أصبتم من الغنائم ؛ فأمّا أنا ، فإنّي استودعكم الله.

ثمّ قال لامرأته : أنت طالق إلحقي بأهلك ؛ فإنّي لا أحبّ أنْ يصيبك من سبي إلاّ خير (١) و (٢).

وسرّح الحسين (عليه السّلام) عبد الله بن يقطر الحميري (٣) من بعض الطريق إلى مسلم بن عقيل (٤) ، فتلقّاه خيل الحصين بن تميم بالقادسيّة ، فسرّح به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال : اصعد فوق القصر فالعن الكذّاب ابن الكذّاب ، ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي. فصعد ، فلمّا أشرف على النّاس ، قال : أيّها النّاس ، إنّي رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) ، لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سميّة الدّعي. فأمر به عبيد الله [ابن زياد] فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض فكسرت عظاُمّه ، و [كان] به رمق فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي (٥) فذبحه.

_________________

(١) قال أبو مِخْنف : فحدّثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين ، قالت ٥ / ٣٩٦. وفي الإرشاد / ٢٢١.

(٢) وسيُعلم من خطبة زهير بكربلاء ، أنّه كان ناقماً من قبل على استلحاق معاوية زياداً وقتله حجر بن عدي.

(٣) كانت اُمّه حاضنة للحسين (عليه السّلام) ؛ فلذلك قِيل فيه : أنّه أخوه من الرضاعة. وجاء : (بقطر) في الطبري بالباء الموحدّة ، وكذلك ضبطه الجزري في الكامل ، إلاّ أنّ مشايخنا ضبطوه بالياء المثنّاة ، كما في إبصار العين للسماوي / ٥٢.

(٤) قال أبو مِخْنف : حدّثني أبو علي الأنصاري ، عن بكر بن مصعب المزني ٥ / ٣٩٨. والإرشاد / ٢٢٠ ، وخلط خبره بخبر قيس بن مسهر الصيداوي.

(٥) ولي القضاء في الكوفة بعد الشعبي ، توفّي سنة (١٣٦ هـ) ، عن مئة وثلاث سنين ، كما في ميزان الاعتدال ١ / ١ ٥ ١ ، وتهذيب السّماء / ٣٠٩.

وسيأتي : أنّ خبر شهادته بلغ الإمام (عليه السّلام) بمنزل زبالة ، قبل خبر الصيداوي ، فالظاهر أنّ ابن يقطر كان مبعوثاً قبل الصيداوي.

١٦٣

زرود (١).

عن عبد الله بن سليم والمذري بن المُشمَعلّ الأسديين ، قالا : لمّا قضينا حجّنا لمْ يكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين (عليه السّلام) في الطريق ، لننظر ما يكون من أمره وشأنّه ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقنا بزرود (٢) ، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (عليه السّلام) ، فوقف الحسين (ع) كأنّه يُريده ، ثمّ تركه ومضى ، فقال (ع) : «أحدنا لصاحبه ، اذهب بنا إلى هذا فلنسأله ، فإنْ كان عنده خبر الكوفة علمناه». فمضينا حتّى انتهينا إليه فقلنا : السّلام عليك. قال : وعليكم السّلام ورحمة الله. ثمّ قلنا : فمَن الرجل؟ قال : أسدي. فقلنا : فنحن أسديّان ، فمَن أنت؟ قال : أنا بكير بن المثعبة. فانتسبنا له ، ثمّ قلنا أخبرنا عن النّاس وراءك؟ قال : نعم ، لمْ أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السّوق. قالا : فأقبلنا حتّى لحقنا بالحسين (عليه السّلام) فسايرناه حتّى نزل.

[الثعلبيّة] (٣)

الثعلبيّة ممسيّاً ، فجئناه حين نزل فسلّمنا عليه فردّ علينا. فقلنا له : يرحمك

_________________

(١) بين الخزيميّة والثعلبيّة بطريق الكوفة ، كما في معجم البلدان ٤ / ٣٢٧.

(٢) وهذ ممّا يتنافى مع ما مرّ عنهما من خبر الفرزدق في منزل الصفاح ، قبل زرود بعدّة منازل ، إذ ظاهر هذا الخبر ـ بل نصّه ـ أنّهما إنّما لحقا به في زرود ، وليس قبل ذلك ، بل لا يمكن ذلك مع أدائهما الحجّ ؛ فان منزل الصفاح في أوائل الطريق وقد خرج الإمام (عليه السّلام) يوم التروية ، فلو لحقا به لمْ يمكنهما الحجّ. والعجب أنّ الرواة هم الرواة في الخبرين ، ولمْ يتنبّهوا لذلك ، لا أبو جناب ولا أبو مِخْنف ولا الطبري. اللهمّ ، ، إلاّ أنْ يكونا لقياه في الصفاح قبل حجّهما ، ثمّ لحقابه بعد حجّهما بزرود.

(٣) هي بعد الشقوق للذاهب إلى مكّة من الكوفة ، نسبةً إلى ثعلبة ، رجل من بني أسد كما في المعجم.

١٦٤

الله ، إنّ عندنا خبراً فإنْ شئت حدّثنا علانية ، وإنْ شئت سرّاً. فنظر إلى أصحابه ، وقال (ع) : «ما دون هؤلاء سرّ». فقلنا له : أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ قال (ع) : «نعم ، وقد أردت مسألته». فقلنا : قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ من أسد منّا ، ذو رأي وصدق وفضل وعقل ، وأنّه حدّثنا أنّه لمْ يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحتّى رآهما يُجرّان في السّوق بأرجلهما. فقال (ع) : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما!». فردّد ذلك مراراً (١).

فقلنا : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا ؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوّف أنْ تكون عليك. فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب (٢).

[و] قالوا : لا والله ، لا نبرح حتّى ندرك ثارنا ، أو نذوق ما ذاق أخونا (٣).

قالا : فنظر إلينا الحسين (عليه السّلام) ، فقال (ع) : «لا خير في العيش بعد هؤلاء». فعلمنا أنّه قد عزم له رأيه على المسير ، فقلنا : خار الله لك. فقال (ع) : «رحمكما الله».

ثمّ انتظر حتّى إذا كان السّحر ، قال (ع) لفتيانه وغلمأنّه : «أكثروا من الماء». فاستقوا وأكثروا ، ثمّ ارتحلوا وساروا حتّى انتهوا إلى :

_________________

(١) ظاهر هذه الرواية : أنّ خبر مقتل مسلم بن عقيل هنا كان عامّاً ، وسيأتي أنّ الإمام (عليه السّلام) أعلن ذلك لأصحابه بكتاب أخرجه للنّاس في منزل زبالة ، ومن هنا يترجّح أنْ يكون قوله (عليه السّلام) : «مادون هؤلاء». سرّ ، يعني : أمّا دون هؤلاء الحاضرين ، فليكن الخبر سرّاً ، وكذلك بقي الخبر سرّاً حتّى زبالة ؛ وأمّا اليعقوبي ، فقد قال : إنّ خبر قتل مسلم أتى الإمام بالقطقطانة ٢ / ٢٣٠ ، ط النّجف.

(٢) قال أبو مِخْنف حدّثني أبو جناب الكلبي عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبد الله ٥ ٣٩٧ وفي الإرشاد ٢٢٢ روى عبد الله بن سليمان ... ، ط النّجف.

(٣) قال أبو مِخْنف : حدّثني عمر بن خالد ـ هكذا والصحيح عمرو بن خالد ـ ، عن زيد بن علي بن الحسين (ع) ، وعن داود بن علي بن عبد الله بن عبّاس : أن بني عقيل ، قالوا ٥ / ٣٩٧. والإرشاد / ٢٢٢ ، والمسعودي ٣ / ٧٠ ، والخواص / ٢٤ ٥ ، ط النّجف.

١٦٥

[زبالة] (١)

زبالة (٢) [فـ] ـسقط إليه [خبر] مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر (٣) ، فأخرج للنّاس كتاباً [ونادى] : «بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد : فقد أتانا خبر فضيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا (٤) فمَن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ، ليس عليه منّا ذمام».

فتفرّق النّاس عنه تفرّقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة.

وإنّما فعل ذلك ؛ لأنّه إنّما تبعه الأعراب ، لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أنْ يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون ، وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لمْ يصحبه إلاّ مَن يُريد مواساته والموت معه (٥).

فلمّا كان من السّحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا ، ثمّ سار حتّى مرّ بـ :

_________________

(١) تقع قبل الشقوق للذاهب إلى مكّة من الكوفة ، وفيها : حصن وجامع لبني أسد. وزبالة : اسم امرأة من العمالقة ، كما في معجم البلدان.

(٢) قال أبو مِخْنف : عن أبي جناب الكلبي ، عن عدي بن حرملة ، عن عبد الله بن سليم ٥ / ٣٩٨. والإرشاد / ٢٢٢ ، ط النّجف.

(٣) سبقت ترجمته ، وإنّ اُمّه كانت حاضنة للحسين (عليه السّلام) ؛ فلذلك قِيل فيه : أنّه أخوه.

(٤) هذا تصريح من الإمام (عليه السّلام) بخذلان شيعته بالكوفة ، وهو أوّل إعلان بأخبار الكوفة ومقتل مسلم (عليه السّلام) ، وإنْ كان بلغه الخبر قبل هذا في منزل زرود ، ولكن الظاهر : أنّه بقي سرّاً ما دون الحاضرين بمجلس الخبر إذ ذاك بأمر الإمام (عليه السّلام) حتّى أعلنه لهم هنا.

(٥) هذا تمام الكلام في أنّ الإمام (عليه السّلام) لماذا كان يأذن لهم بالانصراف عنه ، وفيه الكفاية عن كلّ كلام؟

١٦٦

[بطن العقبة] (١)

بطن العقبة ، فنزل بها (٢) [فسأله أحد بني عكرمة] : إنّي أنشدك الله لمّا انصرفت ، فوالله ، لا تقدم إلاّ على السّنة وحدّ السّيوف ، فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّئوا لك الأشياء ، فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ؛ فأمّا على هذه الحال التي تذكرها ، فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل.

فقال (ع) : «له يا عبد الله ، إنّه ليس يخفى عليّ الرأي ما رأيت ، ولكنّ الله لا يغلب على أمره» (٣). ثمّ ارتحل منها (٤).

[شراف] (٥)

[و] أقبل الحسين (عليه السّلام) حتّى نزل شراف. فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثمّ ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النّهار.

ثمّ إنّ رجلاً ، قال : الله أكبر. فقال الحسين (عليه السّلام) : «الله أكبر ، ممّ كبّرت؟». قال : رأيت النّخل. فقال له الأسديان [عبد الله بن سليم والمذري بن المُشمَعلّ] : إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط. فقال الحسين (عليه السّلام) : «فما

_________________

(١) منزل في طريق مكّة بعد واقصة وقبل القاع لمّن يُريد مكّة.

(٢) قال أبو مِخْنف : حدّثني أبو علي الأنصاري ، عن بكر بن مصعب المزني ، قال ٥ / ٣٩٨. والإرشاد / ٢٢٢ ، ط النّجف.

(٣) وفي الإرشاد / ٢٢٣ ، ثمّ قال (ع) : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقه من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الأمم». وكذلك عنه في إعلامَ الورى / ٢٣٢.

(٤) قال أبو مِخْنف : فحدّثنى لوذان أحد بني عكرمة أنّ أحد عمومته حدّثه ٥ / ٣٩٩.

(٥) بينها وبين واقصة ميلان ، وهي قبل العراق ، نزل بها سعد قبل القادسيّة ، منسوبة إلى رجل يُدعى : شراف استخرج بها عيناً ، ثمّ أحدثت آبار كبار كثيرة عذبة ، كما في معجم البلدان.

١٦٧

بريانه رأى». قلنا : نراه رأى هوادي الخيل [، أي : رؤوسه]. فقال [الرجل] : وأنا والله ، أرى ذلك.

[ذوحسم] (١)

فقال الحسين (عليه السّلام) : «أمَا لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد؟». فقلنا له : بلى ، هذا ذوحسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإنْ سبقت القوم إليه ، فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه ، فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه ، فلمّا رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا ، فنزل الحسين (عليه السّلام) فأمر بأبنيته فضربت.

فما كان بأسرع من أنْ طلعت علينا هوادي الخيل ، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السّلام) في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدون أسيافهم.

فقال الحسين (عليه السّلام) لفتيانه : «اسقوا القوم وأرووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً».

فقام فتيانه ، وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم ، وأقبلوا يملأون القصاع والطساس والأتوار (٢) من الماء ، ثمّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيه ثلاثاً أو

_________________

(١) بضم ففتح ، اسم جبل. كان النّعمان يصطاد فيه ، كما في معجم البلدان. وبينه وبين عذيب الهجانات إلى الكوفة ثلاث وثلاثون ميلاً ، كما في الطبري. وروى سبط ابن الجوزي عن علماء السّير : أنّ الإمام (عليه السّلام) لمْ يكن له علم بما جرى على مسلم بن عقيل ، حتّى إذا كان بينه وبين القادسيّة ثلاثة أميال تلقّاه الحرّ بن يزيد الرياحي ، فاخبره بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، وقدوم ابن زياد الكوفة واستعداده لهم ، وقال له : ارجع. ٢٤ ٥ ، ط النّجف.

(٢) القصاع : جمع القصعة ، والطساس : جمع الطاس ، والأتوار : جمع تور ، وهو إناء من صفر أو حجارة.

١٦٨

أربعاً أو خمساً (١) عزلت عنه ، وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها (٢) (٣).

(٤) [وحضرت الصلاة صلاة الظهر ، فأمر الحسين (ع) الحجّاج بن مسروق الجُعفي أنْ يؤذن فأذّن ، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين (عليه السّلام) في إزار ورداء ونعلين.

فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أيّها النّاس ، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجل وإليكم ، إنّي لمْ آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ، أنْ أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فان تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإنْ لمْ تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم».

فسكتوا عنه ، وقالوا للمؤذّن : أقم. فأقام للصلاة.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «للحرّ أتريد أن تصلّي بأصحابك؟». قال : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين (عليه السّلام). ثمّ إنّه

_________________

(١) وهذا هو معنى : الترشيف.

(٢) قال الطبري : حدّثت عن هشام ، عن أبي مِخْنف ، قال : حدّثني أبو جناب ، عن عدي بن حرملة ، عن عبد الله بن سليم والمذري ٥ / ٤٠٠. والإرشاد / ٢٢٣ ، وأبو الفرج / ٧٣.

(٣) قال الطبري ، قال هشام : حدّثني لقيط عن علي بن الطعان المحاربي ، [قال] : كنت مع الحرّ بن يزيد [الرياحي] ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين (عليه السّلام) ما بي وبفرسي من العطش ، قال (ع) «أنخ الراوية». ـ والراوية عندي السّقاء ـ ثمّ قال (ع) : «يابن أخ ، أنخ الجمل». فانخته ، فقال (ع) : «اشرب». فجعلت ، كلّما شربت سال الماء من السّقاء ، فقال الحسين (عليه السّلام) : «أخنث السّقاء» ـ أي : أعطفه ـ قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل. فقام الحسين (عليه السّلام) فخنثه فشربت وسقيت فرسي ٥ / ٤٠١. والإرشاد ٢٢٤ ، والخوارزمي / ٢٣٠.

(٤) هنا تصاب سلسلة أخبار أبي مِخْنف بالانقطاع ، فلمْ يكن لنا بدّ من أنْ نسدّ الخلّة بخبر هشام الكلبي ، عن لقيط ، عن علي بن طعان المحاربي ٥ / ٤٠١. والإرشاد / ٢٢٤ ، والخواص / ٢٣١.

١٦٩

دخل ، واجتمع إليه أصحابه.

وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به ، فدخل خيمة قد ضربت له فاجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السّلام) أنْ يتهيّئوا للرحيل ، ثمّ خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين (عليه السّلام) فصلّى بالقوم ، ثمّ سلّم وانصرف إلى القوم بوجهه.

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أمّا بعد : أيّها النّاس ، فانّكم إنْ تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت (عليهم السّلام) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسّائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإنْ أنتم كرهتمونا وجهلتهم حقّنا ، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم ، انصرفت عنكم».

فقال له الحرّ بن يزيد : إنّا والله ، ، ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين (١) اللذين فيهما كتبهم إليّ».

فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين أيديهم.

فقال الحرّ : فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «الموت أدنى إليك من ذلك».

_________________

(١) مثنى الخرج ، وهو : جوال ذو أذنين كما في مجمع البحرين. وسيأتي عن سبط ابن الجوزي : أنّ الإمام (عليه السّلام) حينما خطب القوم يوم عاشوراء ، فناشدهم أنّهم كتبوا إليه ، قالوا : ماندري ما تقول. فقال الحرّ : بلى والله ، لقد كاتبناك ونحن الذين أقدمناك ، فأبعد الله الباطل وأهله ، والله ، لا أختار الدنيا على الآخرة. ثمّ ضرب فرسه ودخل في عسكر الحسين (عليه السّلام) / ٢ ٥ ١.

١٧٠

ثمّ قال (ع) لأصحابه : «قوموا فاركبوا».

فركبو ، وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم.

فلمّا ذهبوا لينصرفوا ، حال القوم بينهم وبين الانصراف.

فقال الحسين (عليه السّلام) للحر : «ثكلتك اُمّك! ما تريد؟».

قال : أمَا والله ، لو غيرك من العرب يقولها لي ، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل أنْ أقوله كائناً مَن كان ، ولكن والله ، ، ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يُقدر عليه (١).

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «فما تريد؟».

قال الحرّ : أريد والله ، ، أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد.

قال له الحسين (عليه السّلام) : «إذن والله ، لا اتّبعك».

فقال له الحرّ : إذن والله ، لا أدعك.

ولمّا كثر الكلام بينهما ، قال له الحرّ : إنّي لمْ أؤمر بقتالك ، وإنّما أمرت ألاّ أفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة ، تكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد ، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إنْ أردت أنْ تكتب إليه ، أو إلى عبيد الله بن زياد إنْ شئت ، فلعلّ الله إلى ذلك أنْ يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أنء ابتلى بشيء من أمرك ، فخذ ها هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة [كان هذا وهم بذي حسم] وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً ، [فـ] سار الحسين (ع) في أصحابه والحرّ يسايره] (٢).

* * *

_________________

(١) ونقله في مقاتل الطالبيّين أبو الفرج ، عن أبي مِخْنف / ٧٤ ، ط النّجف.

(٢) انتهى ما نقلناه عن هشام ، والإرشاد / ٢٢ ٥ ، والخواص / ٢٣٢.

١٧١

[البيضة] (١)

[و] بالبيضة خطب الحسين (عليه السّلام) أصحابه وأصحاب الحرّ :

فحمد الله وأثني عليه ، ثمّ قال : «أيّها النّاس ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) ، قال : مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلمْ يُغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألاَ وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركو طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلال الله ، وأنا أحقّ مَن غيّر.

قد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإنْ تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) ، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ أسوة ، وإنْ لمْ تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم! والمغرور من اغتّربكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (٢) وسيُغني الله عنكم ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (٣).

وأقبل الحرّ يسايره ، وهو يقول له : يا حسين ، إني أذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ ، ولئن قُوتلت لتهلكنّ فيما أرى.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب

_________________

(١) ما بين واقصة إلى عذيب الهجانت ، كما في معجم البلدان.

(٢) سورة الفتح / ١٠.

(٣) قال أبو مِخْنف : عن عقبة بن أبي العيزار ٥ / ٤٠٣.

١٧٢

أنْ تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول : كما قال أخو الأوس لابن عمّه ، ولقيه وهو يُريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله]) ، فقال له : أين تذهب ، فإنّك مقتول؟ فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

ممّا وفارق مثبوراً يغش ويُرغما (١)

فلمّا سمع ذلك الحرّ منه تنحّى عنه. وكان يسير بأصحابه في ناحية ، وحسين (عليه السّلام) في ناحية أخرى ، حتّى انتهوا إلى :

[عذيب الهجانات] (٢)

عذيب الهجانات ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم ، يجنبون فرساً لنافع بن هلال ، ومعهم دليلهم الطرّماح بن عدي على فرسه ، فلمّا انتهوا إلى الحسين (عليه السّلام) انشدوه هذه الأبيات :

يا ناقتي لا تُذعري من زجري

وشمّري قبل ط لوع الفجر

بخير ركبان وخير سفر

حتّى تَحُلّي بكريم النجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر

أتى به الله لخير أمر

ممّا ثمّة أبقاه بقاء الدهر

_________________

(١) ونقلها ابن الأثير في الكامل ، والمفيد في الإرشاد / ٢٢ ٥ بزيادة :

فان عشت لم آندم وإن مت لم ألم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

(٢) العُذيب ـ بالتصغير ـ : واد لبني تميم ، وهو حدّ السّواد ، أي : العراق. وكانت فيه مسلحة للفرس ، بينه وبين القادسيّة ستّ أميال. وكانت خيل النّعمان ملك الخيرة تُرعى فيه ، فقِيل : عُذيب الهجانات جمع : الهجين ، بمعنى : ذي الدم الخليط.

١٧٣

فقال [الحسين (عليه السّلام)] : «أمَا والله ، إنّي لأرجو أنْ يكون خيراً ما أراد الله بنا ، قُتلنا أمْ ظفرنا».

وأقبل الحرّ بن يزيد ، فقال [للإمام (عليه السّلام)] : إنّ هؤلاء النّفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك ، وأنا حابسهم أو رادّهم.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «لأمنعنّهم ممّا أمنع منه نفسي ، إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني ، وقد كنت أعطيتني أنْ لا تعرض لي بشيء حتّى يأتيك كتاب من ابن زياد».

فقال [الحرّ] : أجل ، لكن لمْ يأتوا معك.

قال [الحسين (عليه السّلام)] : «هم أصحابي ، وهم بمنزلة مَن جاء معي ، فإنّ تممت عليّ ما كان بيني وبينك وإلاّ ناجزتك». فكفّ عنهم الحرّ.

ثمّ قال لهم الحسين (عليه السّلام) : «أخبروني خبر النّاس وراءكم؟».

فقال له مجمّع بن عبد الله العائذي ، وهو أحد النّفر الأربعة الذين جاؤوه (١) : أمّا ، أشراف النّاس ، فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائزهم ، يستمال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم ، فهم ألب (٢) واحد عليك ؛ وأمّا سائر النّاس بعد ، فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك.

قال (ع) : «أخبروني ، فهل لكم برسولي إليكم؟». قالوا : مَن هو؟ قال : «قيس بن مسهر الصيداوي». قالوا : نعم ، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره ابن زياد أنْ يلعنك ويلعن أباك فصلّى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه ، ودعا إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك ، فأمر به ابن زياد فأُلقي من طمار (٣) القصر.

_________________

(١) لعلّهم جابر بن الحرّث السّلماني ، وعمر بن خالد الصيداوي وسعد مولاه الذين ذكرهم أبو مِخْنف : أنّهم قاتلوا معاً في أوّل القتال حتّى قُتلوا في مكان واحد ٥ / ٤٤٦.

(٢) أي : اجتماع.

(٣) أي : أعلاه.

١٧٤

فترقرقت عينا الحسين (عليه السّلام) ولمْ يملك دمعه ، ثمّ قال : «مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (١) اللهمّ ، اجعل لنا ولهم الجنّة نزلاً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك» (٢).

[ثمّ إنّ] الطرّماح بن عدي دنا من الحسين (ع) ، فقال له : إنّي والله ، لأنظر فما أرى معك أحداً ، ولو لمْ يُقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم ، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة ، وفيه من النّاس ما لمْ ترَ عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم ، فقِيل : اجتمعوا ليعرضوا ثمّ يسرّحون إلى الحسين (ع). فأنشدك إنْ قدرت على أنْ لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت ، فانْ أردت أنْ تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى مَن رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسرْ حتّى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى (أجأ) (٣) فأسير معك حتّى أنزلك (القريّة) (٤).

فقال له [الحسين (عليه السّلام)] : «جزاك الله وقومك خيراً! أنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ، ولا ندري عَلامَ تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة».

قال الطرمّاح بن عدي فودّعته وقلت له دفع الله عنك شرّ الجنّ والأنس (٥).

_________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

(٢) قال أبو مِخْنف ، وقال : عقبة بن أبي العيزار ٥ / ٤٠٣ ، والإرشاد / ٢٢ ٥ ، ط النّجف.

(٣) على وزن فعل ، اسم رجل سُمّي : جبل طئ باسمه ، وهو غربي فيه عن يسار جبل سميراء.

(٤) وهو تصغير : القرية ، من مواضع طيء.

(٥) قال أبو مِخْنف : حدّثني جميل بن مريد عن الطرمّاح ٥ / ٤٠٦. وتمام الخبر : إنّي قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة ومعي نفقة لهم ، فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثمّ أقبل إليك إنْ شاء الله ، فإنّ الحقك فوالله ، لأكوننّ من أنصارك.

قال الحسين (عليه السّلام) : «فإنْ كنت فاعلاً فعجّل ، رحمك الله».

قال : فلمّا بلغت أهلي ، وضعت عندهم ما يصلحهم وأوصيت وأخبرتهم بما أريد ، وأقبلت حتّى إذا

١٧٥

ومضى الحسين (عليه السّلام) حتّى انتهى إلى.

[قصر بني مقاتل] (١)

قصر بني مقاتل فنزل به ، فإذا هو بفسطاط مضروب (٢).

[فـ] ـقال (ع) : لمَن هذا الفسطاط؟ فقِيل : لعبيد الله بن الحرّ الجُعفي (٣). قال (ع) : «أدعوه لي». وبعث إليه [رسول] ، فلمّا أتاه الرسول ، قال [له] : هذا الحسين بن علي (عليه السّلام) يدعوك. قال عبيد الله بن الحرّ : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ، ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهة أنْ يدخلها الحسين (ع) وأنا بها ، والله ، ما أريد أنْ أراه ولا يراني.

فأتاه الرسول فأخبره ، فأخذ الحسين (عليه السّلام) نعليه فانتعل ثمّ قام ، فجاءه حتّى دخل عليه فسلّم وجلس ، ثمّ دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد ابن الحرّ تلك المقالة ، فقال (عليه السّلام) : «فإنْ لا تنصرنا ، فاتّق الله أنْ تكون ممّن يُقاتلنا ، فوالله ، لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلاّ هلك». ثمّ قام من عنده (٤).

قال عقبة بن سمعان : لمّا كان في آخر اللّيل أمر الحسين (عليه السّلام) بالاستقاء من الماء ، ثمّ أمرنا بالرحيل ففعلنا. فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين (عليه السّلام) برأسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين». ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً.

فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين (عليه السّلام) على فرس له ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين ، يا أبتِ جُعلت فداك ممّ حمدت الله

_________________

دنوت من عذيب الهجانات ، استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إليّ ، فرجعت ٥ / ٤٠٦.

(١) في المعجم : يقع بين القرّيات والقطقطانة وعين التمر.

(٢) قال أبو مخنف : ٥ / ٤٠٧.

(٣) ستأتي ترجمته في آخر الكتاب.

(٤) قال أبو مخنف : حدّثنى المجالد بن سعيد عن عامر الشعبي ٥ / ٤٠٧ ، والإرشاد / ٢٢٦.

١٧٦

واسترجعت؟

قال (عليه السّلام) : «يا بنيّ ، إنّي خفقت برأسي خفقة فعنّ لي فارس على فرس ، فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم. فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا».

قال له : يا أبت ـ لا أراك الله سوءاً ـ ألسّنا على الحقّ؟

قال (عليه السّلام) : «بلى ، والذي إليه مرجع العباد».

قال : يا أبت ، إذاً لا نُبالي ، نموت محقّين.

فقال له (ع) : «جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده».

فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة ، ثمّ عجّل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يُريد أنْ يفارقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّهم ، فإذا ردّهم إلى الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا ، فلمْ يزالوا يتياسرون حتّى انتهوا إلى :

[نينوى] (١)

نينوى المكان الذي نزل به الحسين (عليه السّلام) فإذا راكب على نجيب له وعليه السّلاح ، متنكّباً قوساً مقبل من الكوفة ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه ، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ بن يزيد وأصحابه ولمْ يسلّم على الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ، فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد ، فإذا فيه :

أمّا بعد ، فجعجع (٢) بالحسين (ع) حين يبلغك كتأبي ويقدم عليك رسولي ، فلا تُنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أنْ يلزمك ولا يُفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسّلام.

فلمّا قرأ الكتاب ، قال لهم الحرّ : هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني

_________________

(١) كانت من قرى الطفّ العامرة حتّى أواخر القرن الثاني.

(٢) نقل ابن منظور في لسان العرب ، عن الأصمعي ، جعجع به ، أي : احبسه. وقال ابن فارس في مقاييس اللغة ١ / ٤١٦ : أي : ألجئه إلى مكان خشن.

١٧٧

فيه أنْ أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه ، وهذا رسوله ، وقد أمره أنْ لا يُفارقني حتّى أنفذ رأيه وأمره.

فنظر الشعثاء ، يزيد بن زياد المهاصر الكندي البهدلي (١) إلى رسول عبيد الله [ابن زياد] فعنّ له ، فقال : أمالك بن النّسير البدّي (٢) [من كندة]؟ قال : نعم. فقال له يزيد بن زياد : ثكلتك اُمّك! ماذا جئت فيه؟ قال : وما جئت فيه أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له أبو الشعثاء : عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك كسبت العار والنّار ، قال الله عزّ وجلّ : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إلى النّار وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ) (٣) فهو إمامك.

وأخذ الحرّ بن يزيد القوم بالنّزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في

_________________

(١) من رماة أصحاب الحسين (عليه السّلام) ، وكان في أوائل مَن قُتل ، رمى بمئة سهم وقام ، فقال : ما سقط منها إلاّ خمسة أسهم ، وقد تبيّن لي أنّي قد قتلت خمسة نفر.

وقد روى أبو مخنف ـ أيضاً ـ ، عن فضيل بن خديج الكندي : أنّ يزيد بن زياد كان ممّن خرج مع عمر بن سعد ، فلمّا ردّوا الصلح على الحسين (عليه السّلام) مال إليه فقاتل حتّى قُتل ، ولكنّه لا يتّفق مع هذا الخبر هنا.

(٢) مالك بن النّسير من بني بدّاء ، حضر كربلاء فضرب رأس الإمام (عليه السّلام) بالسّيف فقطع البرنس وأصاب رأسه وأدماه ، فقال له الحسين (عليه السّلام) : «لا أكلت بها ولا شَربت ، وحشرك الله مع الظالمين». وأخذ مالك برنس الإمام (عليه السّلام) ، فلمْ يزل فقيراً حتّى مات ٥ / ٤٤٨ عن أبي مخنف. والبرنس : كلمة غير عربية ، وهو : قلنسوة طويلة من قطن كان يلبسها عبّاد النّصارى ، فلبسها عبّاد المسلمين في صدر السّلام ، كما في مجمع البحرين.

وروي ـ أيضاً ـ أنْ عبد الله بن دبّاس دلّ المختار على نفر ممّن قتل الحسين (عليه السّلام) منهم مالك بن النّسير البدّي ، فبعث إليهم المختار مالك بن عمرو النّهدي ، فأتاهم وهم بالقادسيّة ، فأخذهم وأقبل بهم حتّى أدخلهم على المختار عشاء ، فقال المختار للبدّي : أنت صاحب برنسه؟ فقال عبد الله بن كامل : نعم ، هو هو. فقال المختار : اقطعوا يدي هذا ورجليه ودعوه فليضطرب حتّى يموت. ففُعل به ذلك وتُرك ، فلمْ يزل ينزف الدم حتّى مات سنة (٦٦ هـ) ٦ / ٥٧.

(٣) سورة القصص / ٣٢.

١٧٨

قرية (١) ، فقالوا : دعنا ننزل في هذه القرية ـ يعنون : نينوى ـ أو هذه القرية ـ يعنون : الغاضريّة ـ (٢) أو هذه الأخرى ـ يعنون : شفيّة ـ (٣). فقال : لا والله ، لا أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بُعث إليّ عيناً.

فقال له زهير بن القين : يابن رسول الله ، إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال مَن يأتينا من بعدهم ، فلعمري ، ليأتينا من بعد مَن ترى ما لا قبل لنا به.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «ما كنت لأبدأهم بالقتال».

فقال له زهير بن القين : سربنا إلى هذه القرية حتّى تنزلها ؛ فإنّها حصينة ،

_________________

(١) ويظهر من هذا : أنّ كربلاء لمْ تكن اسم قرية ، بل اسم المنطقة وهي : كور بابل ، أي : قراها ـ كما في كتاب الدلائل والمسائل للسيّد هبة الدين الشهرستاني (قده) ـ. وقال سبط ابن الجوزي ، ثمّ قال الحسين (ع) : «ما يُقال لهذه الأرض؟». قالوا : كربلاء ، ويُقال لها نينوى ، وهي قرية بها. فبكى وقال (ع) : «كرب وبلاء». ثمّ قال (ع) : «أخبرتني اُمّ سلمة ، قالت : كان جبرئيل عند رسول الله ، وأنت معي فبكيت ، فقال رسول الله : دعي ابني. فتركتك فأخذك ووضعك في حجره ، فقال جبرئيل : تحبّه؟ قال (ص) : نعم. قال : فإنّ اُمّتك ستقتله ، وإنْ شئت أنْ أريك تربة أرضه التي يُقتل فيها؟ قال (ص) : نعم. قالت : فبسط جبرئيل جناحه على أرض كربلاء ، فأراه أيّها. ثمّ شمّها ، وقال : هذه والله ، هي الأرض التي أخبر بها جبرائيل رسول الله (ص) وإنّني أُقتل فيها». ثمّ قال : وذكر ابن سعد في الطبقات عن الواقدي بمعناه ، قال : وذكر ابن سعد أيضاً عن الشعبي ، قال : لمّا مرّ علي (عليه السّلام) بكربلاء في مسيره إلى صفّين وحاذى نينوى ـ قرية على الفرات ـ وقف ونادى صاحب مطهرته : «أخبرني أبا عبد الله ، ما يُقال لهذه الأرض؟». فقال : كربلاء. فبكى حتّى بلّ الأرض من دموعه ، ثمّ قال (ع) : «دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يبكي ، فقلت له : ما يُبكيك؟ فقال (ص) : كان عندي جبرئيل آنفاً ، وأخبرني : أنّ ولدى الحسين يُقتل بشط الفرات بموضع ، يُقال له : كربلاء. ثمّ قبض جبرئيل قبضة من تراب فشمنّي إيّاها ، فلمْ أملك عينيّ أنْ فاضتا».

قال : وقد روى الحسن بن كثير وعبد خير ، قالا : لمّا وصل علي (عليه السّلام) إلى كربلاء وقف وبكى ، وقال (ع) : «بأبي أُغيلمة يُقتلون ها هنا ، هذا مناخ ركابهم ، هذا موضع رحالهم ، هذا مصرع الرجال» .. ثمّ ازداد بكاؤه / ٢٥٠ ، ط النّجف. ورواه ابن مزاحم بأربعة طرق ، صفّين / ١٤٠ ـ ١٤٢ ، ط هارون.

(٢) الغاضريّة : منسوبة إلى غاضرة من بني أسد ، وهي : أراضي حوالي قبر عون الآن على فرسخ من كربلاء ، وبها آثار قلعة تعرف اليوم ، بـ : (قلعة بني أسد).

(٣) هي أيضاً : آبار لبني أسد قرب كربلاء.

١٧٩

وهي على شاطئ الفرات ، فإنْ منعونا قاتلناهم ، فقتالهم أهون علينا من قتال مَن يجيء من بعدهم.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «وأيّة قرية هي؟». قال : هي العقر (١). فقال الحسين (عليه السّلام) : «اللهمّ ، إنّي أعوذ بك من العقر». ثمّ نزل ، وذلك يوم الخميس ، وهو اليوم الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.

فلمّا كان من الغد ، قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص (٢) من الكوفة في أربعة آلاف.

_________________

(١) كانت بها منازل نبوخذ نصر من كور بابل التي صحفت ، فقِيل : كربلاء.

(٢) سبقت ترجمته في ص / ١٠٢.

١٨٠