وقعة الطّف

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]

وقعة الطّف

المؤلف:

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]


المحقق: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وأمّا محمّد بن الأشعث ، فقال : قد رضينا بما رأى الأمير لنا كان أمْ علينا ، إنّما الأمير مؤدّب (١).

وقام إلى عبيد الله بن زياد ، فكلمه وقال : إنّك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أنّي وصاحبي سقناه إليك فأنشدك الله لمّا وهبته لي ؛ فإنّي أكره عداوة قومه ، هم أعزّ أهل المصر وعدد أهل اليمن (٢). فوعده أنْ يفعل (٣).

وبلغ عمرو بن الحجّاج أنْ هانئاً قد قُتل ، فأقبل في مذحج ومعه جمع عظيم حتّى أحاط بالقصر ، ثمّ نادى : أنا عمرو بن الحجّاج ، هذه فرسان مذحج ووجوهها لمْ تخلع طاعة ، ولم تفارق جماعة وقد بلغهم أنّ صاحبهم يُقتل فأعظموا ذلك!

فقِيل لعبيد الله : هذه مذحج بالباب.

فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثمّ اخرج فأعلمهم ، أنّه حيّ لمْ يُقتل وأنّك قد رأيته (٤).

قال [شريح] : دخلت على هانئ ، لمّا رآني قال : يا لله يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين وأين أهل المصر ، تفاقدوا ويخلّوني وعدوّهم وابن عدوّهم ـ والدماء تسيل على لحيته ـ؟ إذ سمع الرجّة على باب القصر ، وخرجت واتبعني فقال : يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي

_________________

(١) ٥ / ٣٦٧. قال ابو مِخْنف : حدثني غير بن وعلة ، عن أبي الودّاك ، قال ...

(٢) لأنّ كندة كانت من قبائل اليمن بالكوفة ؛ ومراد : ومذحج من قبائل كندة.

(٣) قال أبو مِخْنف : حدّثني الصقعب بن زهير ، عن عون بن أبي جحيفة ، قال ... ٥ / ٣٧٨. الإرشاد / ٢١٠ ، والخوارزمي / ٢٠٥.

(٤) ٥ / ٣٦٧. قال ابو مِخْنف : حدثني نمير بن وعلة ، عن أبي الودّاك ، قال ... الإرشاد / ٢١٠ ، والخوارزمي / ٢٠٥.

١٢١

من المسلمين ، إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني.

قال : فخرجت إليهم ، ومعي حميد بن بكير الأحمري (١) أرسله معي ابن زياد ، وكان من شرطته ممّن يقوم على رأسه ، فلمّا خرجت إليهم ، قلت : إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني الدخول إليه فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أنْ ألقاكم وأنْ أعلمكم : أنّه حيّ ، وأنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلاً.

فقال عمرو [بن الحجّاج] وأصحابه : فأمَا إذ لمْ يقتل فالحمد لله ، ثمّ انصرفوا (٢).

[خطبة ابن زياد بعد القبض على هانئ]

وخشي عبيد الله أنْ يثب النّاس به فخرج ، ومعه أشراف النّاس وشرطه وحشمه فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

أمّا بعد ، أيها النّاس فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا ، وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، إنّ أخاك مَن صدّقك ، وقد أعذر من أنذر (٣).

[خروج مسلم (عليه السّلام)]

وأرسل مسلم بن عقيل عبد الله بن خازم رسولاً إلى القصر لينظر إلى ما

_________________

(١) كان مع زياد ، وكان تبيع العمّال ـ أي : من يتتبّع أثرهم ـ ، فبعثه زياد في أناس من أصحابه في طلب أصحاب حجر بن عدي ، وهو ضارب ابن عقيل على شفته العليا وقاتله ٥ / ٣٧٣ ـ ٣٧٨ ، وكان عبداً شاميّاً.

(٢) قال ابو مِخْنف : فحدثني الصقعب بن زهير ، عن عبد الرحمن بن شريح ، قال : سمعته يحدّث إسماعيل بن طلحة ، قال ... ٥ / ٣٦٧.

(٣) قال ابو مِخْنف : حدّثني الحجّاج بن علي ، عن محمّد بن بشر الهمداني ، قال ... ٥ / ٣٦٨.

١٢٢

صار أمر هانئ. قال فلمّا ضُرب وحُبس ركبت فرسي وكنت أوّل أهل الدار ، دخل على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ، ينادين : يا عشيرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر فأمرني أنْ أنادي في أصحابه : يا منصور أمتْ. وقد ملأ الدور حوله وقد بايعه ثمانية عشر ألفاً ، وفي الدور أربعة الآف رجل ، فناديت : يا منصور أمت ، وتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه.

فعقد مسلم (عليه السّلام) لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال : سر أمامي في الخيل. ثمّ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وقال : انزل في الرجال فأنت عليهم. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد لعبّاس بن جعدة الجدلي (١) على ربع المدينة ، وأقبل مسلم يسير في النّاس من مراد.

[اجتماع الأشراف بابن زياد]

وأقبل أشراف النّاس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين (٢).

ودعا عبيد الله [ابن زياد] كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي (٣) ، فأمره

_________________

(١) نرى : على ميسرة جيش المختار المبعوث إلى المدينة لقتال ابن الزبير ، مَن يُدعى : عيّاش بن جعدة الجدلي ، وعند انهزامهم أمام أصحاب ابن الزبير لمْ يدخل في راية أمانه هو وثلثُمئة معه ، فلمّا وقعوا في أيديهم ، قُتلوا إلاّ نحواً من مئتي رجل مات أكثرهم في الطريق ٦ / ٧٤.

وحيث لمْ نجد لعبّاس أو عيّاش الجدلي أيّ ذكر غير هذا ، وبقرينة وفائه للمختار يستعبد أنْ يكونا شخصين ، ويرجح أنْ يكون شخصاً واحداً ، إمّا باسم : العبّاس أو : العيّاش. بقي بعد مسلم حتّى خرج مع المختار فقُتل أو مات هناك.

(٢) من هنا يُعلم : أنّ دار الروميّين كان يلي خلف دار الإمارة ، وحيث كانوا مع أهل الذمة تستّربهم ابن زياد للخروج والولوج إلى القصر ، وفات أصحاب مسلم (عليه السّلام) أنْ يسدّوا ذلك الوجه والمنفذ.

(٣) كان ممّن كتبت شهادته على حجر بن عدي ٥ / ٢٦٩ وحمل حجر وأصحابه إلى معاوية

١٢٣

أنْ يخرج فيمَن طاعه من مذحج ، فيسير بالكوفة ويخذّل النّاس عن ابن عقيل ، ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السّلطان.

وأمر محمّد بن الأشعث أنْ يخرج فيمَن طاعه من كندة وحضرموت ، فيرفع راية أمان لمَن جاءه من النّاس.

وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي (١) وشيث بن ربعي التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلى وشمر بن ذي الجوشن العامري (٢) ، (٣).

وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه [و] قال : أشرفوا على النّاس ، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ،

_________________

٥ / ٢٧٠ ، وهو أوّل مَن عُقد له ابن زياد ، وأشرف على النّاس يُخذّلهم عن مسلم (عليه السّلام) ٥ / ٣٧٠.

(١) كان ممّن كتبت شهادته على حجر بن عدي ٥ / ٢٦٩ ، وحارب مسلماً (عليه السّلام) (٥ / ٢٧٠ ٣٨١).

(٢) ٥ / ٣٦٨. قال ابو مِخْنف : حدثنى يوسف بن يزيد ، عن عبد الله بن خازم ، قال ...

(٣) كان مع علي (عليه السّلام) بصفّين ٥ / ٢٨ ، وفيمَن كُتبت شهادته على حجر بن عدي ٥ / ٢٧٠.

وهو الذي حرّض ابن زياد على قتل الحسين (عليه السّلام) ٥ / ٤١٤ وحضر كربلاء ودعا بني اُمّ البنين ، إخوة العبّاس (عليه السّلام) إلى أمان ابن زياد ، وخذلان الإمام (عليه السّلام) ٥ / ٤١٥. واستشاره ابن سعد لإمهال الحسين (عليه السّلام) ليلة عاشوراء ، فلمْ يجبه بشيء ٥ / ٤١٧. وكان على ميسرة ابن سعد ٥ / ٤٢٢ وأجاب خطبة الإمام الحسين (عليه السّلام) بكلام بذيء فشتمه ابن مظاهر ٥ / ٤٢٥ ، وأجاب خطبة زهير بن القين بسهم رماه به فشتمه ابن القين ٥ / ٤٣٦ وحمل في ميسرة ابن سعد على أهل ميسرة الحسين (عليه السّلام) ٥ / ٤٣٦ وطعن فسطاط الحسين برمحه ونادى بالنّار ليحرق الخباء على أهله ، فصاح النّساء وخرجن من الفسطاط فدعا عليه الإمام ٥ / ٤٣٨. وهو الذي قتل نافع بن هلال الجملي ٥ / ٤٤٢ ، وأراد قتل الإمام السجّاد (عليه السّلام) فمنعه النّاس ٥ / ٤٥٤. وكان فيمَن قدم بالرؤوس على ابن زياد (٥ / ٤٥٦) وبها السّبايا إلى يزيد (٥ / ٤٦٠ ـ ٤٦٣) ، وكانت الرؤوس معه عشرون رأسا مع هوازن ٥ / ٤٦٨ وبعثه ابن مطيع على جبانة سالم بالكوفة ؛ لحرب المختار ٦ / ١٨ ومعه ألفان ٦ / ٢٩. وكان ممّن ثار مع أشراف الكوفة لقتال المختار ٦ / ٤٤ وفرّ من الكوفة منهزماً ٦ / ٥٢ وقتله منهزماً عبد الرحمن بن أبي الكنود سنة (٦٦ هـ) ٦ / ٥٣ ، وكلمة (شَمِر) عبرية أصلها : شامر ، بمعنى : سامر ، كما يقال اليوم : إسحاق شآمير.

قال أبو مِخْنف : وحدّثني يونس بن إسحاق ، عن عبّاس الجدلي ، قال ... ٥ / ٣٦٩.

١٢٤

وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم (١).

[خروج الأشراف برايات الأمان للتخذيل عن مسلم]

فتكلّم كثير بن شهاب أوّل النّاس ... فقال : أيها النّاس ، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولمْ تنصرفوا من عشيّتكم أنْ يحرّم ذرّيتك العطاء ، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع ، وأنْ يأخذ البرئ بالسّقيم والشاهد بالغائب حتّى لا يبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية ، إلاّ أذاقها وبال ما جرّت أيديها.

وتكلّم الأشراف بنحو من كلام هذا.

فلمّا سمع مقالتهم النّاس أخذوا يتفرّقون ... (٢) [و] إنّ المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها ، فتقول : انصرف النّاس يكفونك ؛ ويجيء الرجل ابنه أو أخيه ، فيقول : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف ، فيذهب به (٣).

وخرج محمّد بن الأشعث حتّى وقف عند دور بني عمارة ، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي عليه سلاحه وهو يريد ابن عقيل ، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه. فبعث ابن عقيل إليه من المسجد [لقتاله] عبد الرحمن بن شريح الشبامي (٤) [ومعه ناس كثير ، وجال القعقاع بن شور الذهلي على مسلم وأصحابه

_________________

(١) قال أبو مِخْنف : فحدّثنى أبو الجناب الكلبي ٥ / ٣٦٩.

(٢) قال أبو مِخْنف : حدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن عبد الله بن خازم الكثيري من الأزد ، قال ... ٥ / ٣٧٠.

(٣) قال أبو مِخْنف : فحدّثني المجالد بن سعيد ٥ / ٣٧١.

(٤) قال ابو مِخْنف : فحدّثني أبو حاب الكلبي ٥ / ٣٦٩.

١٢٥

من موضع بالكوفة ، يقال له : العرار] (١) وأرسل إلى محمّد بن الأشعث : قد جلت على ابن عقيل من العرار ، فتأخّر عن موقفه (٢) [وقاتلهم شبث بن ربعي ، ثمّ جعل يقول : انتظروا بهم اللّيل يتفرّقوا. فقال له القعقاع بن شور : إنّك سددت على النّاس وجه مصيرهم ، فأخرج لهم ينسربوا] (٣).

[غربة مسلم (عليه السّلام)]

قال عبّاس الجدلي : خرجنا مع ابن عقيل أربعة الآف ، فما بلغنا القصر إلاّ ونحن ثلثُمئة (٤) ، فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون حتّى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفساً في المسجد ، فما صلّى مع ابن عقيل إلاّ ثلاثون نفساً ، فلمّا رأى [ذلك] خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة وبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ، ثمّ خرج وإذا ليس معه إنسان والتفت ، فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق ولا يدلّه على منزل ، ولا يواسيه بنفسه إنْ عرض له عدوّ. فمضى على وجهه يتلدّد في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب حتّى خرج إلى دور بني جبلة من كندة ، فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأة ، يقال لها : (طوعة) اُمّ ولد ، كانت للأشعث بن قيس (٥)

_________________

(١) ذكره هارون بن مسلم ، عن علي بن صالح ، عن عيسى بن يزيد ٥ / ٣٨١ ، وحيث لمْ يكن من أخبار أبي مِخْنف ؛ لذلك جعلناه بين : معقوفين.

(٢) راجع : الهامش رقم / ٢ من الصفحة السّابقة.

(٣) راجع : الهامش رقم / ٣ من الصفحة السّابقة.

(٤) قال أبو مِخْنف : وحدّثني يونس بن أبي إسحاق ٥ / ٣٦٩.

(٥) وفد الأشعث بن قيس في ستّين راكباً من كندة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سنة (١٠ هـ) وانتسب إلى كلّ المرار من قبل اُمّه ، إذ كانوا ملوكاً. وأراد أنْ يُنسب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لذلك ، فانتسب (صلّى الله عليه وآله) إلى النّضر بن كنانة فلمْ يُعجب ذلك الأشعث ٣ / ١٣٧. وتزوّج رسول لله (صلّى الله عليه وآله) أخته : (قتيلة) ، فتوفّي قبل أنْ يدخل بها ، فارتدّت عن الإسلام مع أخيها الأشعث ٣ / ١٦٨ ، وارتد بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحارب فهُزم ٣ / ٣٣٥ وطلب الأمان فآمنوه ٣ / ٣٣٧ ،

١٢٦

فأعتقها ، فتزوّجها سيّد الخضرمي (١) فولدت له بلالاً ، وكان بلال قد خرج مع النّاس واُمّه قائمة تنتظره ، فسلّم عليها ابن عقيل فردّت عليه ، فقال لها : يا أمة الله ، أسقيني ماء. فدخلت فسقته ، فجلس وأدخلت الإناء ثمّ خرجت.

فقالت : يا عبد الله ، ألمْ تشرب! قال : بلى. قالت : فاذهب إلى أهلك ،

_________________

ثمّ سرّحوا به مع الأسارى والسّبايا إلى أبي بكر. وكان قد خطب أخته : (أمّ فروة) فزوّجه ولمْ يدخل بها ، ثمّ ارتدّ فأطلق أبوبكر أساره وأقلّه عثرته ، وقبل إسلامه وردّ عليه أهله ٣ / ٣٣٩. وعند وفاته ، قال : لوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ؛ فإنّه تخيّل إليّ أنّه لا يرى شرّاً إلاّ أعان عليه ٣ / ٤٣٠.

ولحق الأشعث بن قيس بجيش القادسيّة في ألف وسبعمئة من أهل اليمن ٣ / ٤٨٧ ورآه سعد فيمَن لهم منظر لأجسامهم وعليهم مهابة ولهم آراء ، فبثهم دُعاة إلى ملك الفرس ٣ / ٤٩٦.

وكان يحرّض قومه على حرب الفرس في القادسيّة لأسوة العرب ، وليس فيه كلام لله ٣ / ٥٣٩ ، ٥٦٠. وزحف في سبعمئة من كندة ، وقتل قائد فيلق الفرس : تُرك. الطبري ٣ / ٥٦٣. وطمع فيما أصاب خالد بن الوليد من الغنائم والأنفال فانتجعه ـ أي : طلب منه شيئاً ـ فأجازه بعشرة الآف ٤ / ٦٧.

واشترك في وقعة نهاوند ٤ / ١٢٩ ، واشترى سنة ثلاثين من عثمان ما كان من الأنفال في طيرناباد بالعراق بمال له في حضرموت ٤ / ٢٨٠ ، وبعثه سعيد بن العاص من الكوفة والياً على آذربايجان سنة (٣٤ ه) ٤ / ٣٣١ ، فمات عثمان وهو على آذربايجان ٤ / ٤٢٢ ، فدعاه علي (عليه السّلام) إلى بيعته والانصراف إليه لنصرته فبايعه ، وانصرف إليه ٤ / ٥٦١. وانتدب في صفّين لاسترجاع الماء من أصحاب معاوية ٤ / ٥٦٩ ، وهو الذي عصى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فرضي بالتحكيم ورشّح الأشعري ، وأبى من رضي به الأمير (عليه السّلام) من ابن عبّاس أو الأشتر ، مصرّاً على الأشعري متبرّماً من القتال ٤ / ٥١. وهو أوّل من كُتبت شهادته على صحيفة التحكيم ، ودعا الأشتر للإمضاء فأبى الأشتر وشتمه وسبّه ، وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على النّاس ٥ / ٥٥.

وأبى على عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد النّهروان التوجّه إلى معاوية ، وأصرّ على الرجوع إلى الكوفة بحجّة الاستعداد ٥ / ٨٩.

وكان عثمان قد طعمه خراج آذربايجان مئة ألف كلّ سنة ٥ / ١٣٠ ، وكان قد بنى مسجداً بالكوفة ٥ / ٢٢.

(١) هو سيّد بن مالك الحضرمي ، قِيل : هو الذي قتل عبد الله بن مسلم في كربلاء ، وابنه بلال دلّ على موضع مسلم بمنزلهم فأدّى إلى قتله (عليه السّلام).

١٢٧

فسكت ، ثمّ عادت فقال مثل ذلك فسكت ، ثمّ قالت له : فيّ الله (١) سبحان الله! ياعبد الله ، فمرّ إلى أهلك عافاك الله ؛ فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ، ولا أحلّه لك.

فقام ، فقال : يا أمَة الله ، مالي في المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر ومعروف ، ولعلّي مكافؤك به بعد اليوم؟

فقالت : يا عبد الله وما ذاك؟

قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني.

قالت : أنت مسلم!

قال : نعم.

قالت : ادخل ، فأدخلته بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلمْ يتعشَّ.

ولمْ يكن بأسرع من أنْ جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال : والله ، إنّه ليُريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ اللّيلة وخروجك منه! إنّ لك لشأناً؟ قالت : يا بني ، ألْهُ عنه هذا. قال : لها والله ، لتخبرنّي؟ قالت : أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء. فألحّ عليها ، فقالت : يا بنيّ ، لا تحدّثنّ أحداً من النّاس بما أخبرك به ، وأخذت عليه الإيمان ، فحلف لها فأخبرته فاضطجع وسكت (٢).

_________________

(١) يقال : فيّ الله ، أي : اتّق فيّ الله.

(٢) قال أبو مِخْنف : فحدّثني المجالد بن سعيد ٥ / ٣٧١ ، وفي : الإرشاد / ٢١٢ ، والخوارزمي / ٢٠٨.

وروى الطبري ، عن عمار الدهني ، عن الإمام الباقر (عليه السّلام) أنّه قال : «فلمّا رأى مسلم أنّه قد بقي وحده يتردّد في الطرق ، أتى باباً فنزل عليه فخرجت إليه امرأة ، فقال لها : استقيني. فسقته ، ثمّ دخلت فمكثت ما شاء الله ، ثمّ خرجت فإذا هو على الباب ، قالت : يا عبد الله ، إنّ مجلسك مجلس ريبة ، فقم. قال : إنّي أنا مسلم بن عقيل ، فهل عندك مأوى؟ قالت : نعم ، ادخل.

١٢٨

[موقف ابن زياد]

ولمّا طال على ابن زياد وأخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمعه قبل ذلك ، قال لأصحابه : أشرفوا ، فانظروا هل تَرون منهم أحداً؟ فأشرفوا فلمْ يروا أحداً. قال : فانظروا لعلّهم تحت الظلال (١) قد كمنوا لكم ، ففزعوا بحابح المسجد (٢) وجعلوا يخفضون شعل النّار في أيديهم ، ثمّ ينظرون هل في الظلال أحد. وكانت أحياناً تُضيء لهم وأحياناً لا تُضيء لهم كما يُريدون ، فدلّوا القناديل وأنصاف الطّنان (٣) تشدّ بالحبال ، ثمّ تجعل فيها النيران ثمّ تدلّى حتّى تنتهي إلى الأرض ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها ، حتّى فعلوا ذلك بالظلّة التي فيها المنبر ، فلمّا لمْ يروا شيئاً أعلموا ابن زياد ، [فـ] ـأمر [كاتبه] عمرو بن نافع (٤) فنادى : ألاَ برءت الذمّة من رجل من : الشرطة والعرفاء أو ، المناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلاّ في المسجد.

فلمْ يكن إلاّ ساعة حتّى امتلأ المسجد من النّاس.

فقال [له] الحصين بن تميم [التميمي] ، وكان على شرطته (٥) : إنْ شئت

_________________

وكان ابنها مولى لمحمّد بن الأشعث ، فلمّا علم به الغلام انطلق إلى محمّد فأخبره فانلطق محمّد إلى عبيد الله فأخبره ، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي إليه ، وكان صاحب شرطه ، ومعه عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث ، فلمْ يعلم مسلم حتّى أحيط بالدار» ٥ / ٣٥٠. ويأتي قريباً ، أنّ صاحب شرطته كان الحصين بن تميم.

(١) الظلال جمع : الظلّة ، وهي : السّقيفة.

(٢) جمع بحبوحة : السّاحة الفسيحة وأفنيتها.

(٣) الطنّان جمع : الطنّ ، وهو : الحزمة من القصب.

(٤) هو كاتبه الذي كتب له كتابه إلى يزيد بقتل مسلم (عليه السّلام) ، وكان أوّل مَن أطال في الكتب فكرهه ابن زياد ٥ / ٣٨٠.

(٥) بعثه ابن زياد إلى القادسيّة ؛ لينظّم الخيل ما بينها إلى خفّان والقطقطانة ، ولعلع ٥ / ٣٩٤. وهو

١٢٩

صلّيت بالنّاس أو يصلّي بهم غيرك ، فإنّي لا آمن أنْ يغتالك بعض أعدائك.

فقال : مُر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون ، ودُرفيهم. ففتح باب السّدة التي في المسجد ، ثمّ خرج وخرج أصحابه معه ... فصلّى بالنّاس.

[خطبة ابن زياد بعد غربة مسلم]

ثمّ صعد المنبر [و] قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

أمّا بعد ، فإنّ ابن عقيل السّفيه الجاهل ، قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرءت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره ومَن جاء به ، فله ديّته.

اتّقوا الله عباد الله وألزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً.

يا حصين بن تميم ، ثكلتك أمّك! إنْ صاح باب سكّة من سكك الكوفة ، أو خرج هذا الرجل ولمْ تأتني به ، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصدةً على أفواه السّكك.

وأصبح غداً واستسبر الدور وجس (١) خلالها حتّى تأتيني بهذا الرجل!

_________________

الذي بعث رسول الحسين (عليه السّلام) ، قيس بن مسهر الصيداوي إلى ابن زياد فقتله ٥ / ٣٩٥ وكذلك عبد الله بن يقطر ٥ / ٣٩٨ ، وهو الذي قدّم الحرّ بين يديه في ألف من بني تميم من القادسيّة ؛ ليستقبل الحسين (عليه السّلام). وكان في كربلاء على الشرطة ويحرّض على قتل الحرّ ٥ / ٤٣٤ ، وبعث معه ابن سعد خمسمئة من المرامية فبعثهم ليرشقوا أصحاب الحسين (ع) ، فدنوا ورشقوهم بالنبال فعقروا خيولهم ٥ / ٤٣٧ وحمل على أصحاب الحسين (عليه السّلام) وهم يتأهّبون للصلاة ، فخرج إليه حبيب بن مظاهر وضرب وجه فرسه بالسّيف فشبّ ووقع عنه ، فحمل على حبيب بديل بن صريم العقفاني التميمي فضرب حبيباً بالسّيف على رأسه ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه بالرمح ، ثمّ رجع إليه الحصين بن تميم فضربه على رأسه بالسّيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاحتزر رأسه ودفعه إلى الحصين ، فعلّقه في عنق فرسه وجال به في العسكر ، ثمّ دفعه إلى قاتله ٥ / ٤٤٠. ورمى الحسين (ع) بسهم ، وقد دنا ليشرب ماء فوقع السّهم في فمه (عليه السّلام) فدعا عليهم ٥ / ٤٤٩.

(١) من قولهم : سبر غوره ، أي : تعمّق فيه. وجس ، أي : تجسّس.

١٣٠

[ابن زياد في طلب مسلم]

ثمّ نزل ابن زياد فدخل ، وعقد لعمرو بن حريث (١) راية وأمره على النّاس (٢) ، وأمره أنْ يقعد لهم في المسجد.

[و] جاء المختار بن أبي عبيد خبر ابن عقيل ، أنّه قد ظهر بالكوفة والمختار في قريه له بخطرنية ، تدعى : لقفا. [وكان] فيمَن بايع [مسلم] من أهل الكوفة وناصحه ودعا إليه من طاعه ، فأقبل في موال له حتّى انتهى إلى باب الفيل بعد الغروب ، وقد عقد عبيد الله بن زياد لعمرو بن حريث راية على جميع النّاس.

فلمّا كان المختار على باب الفيل ، مرّ به هانئ بن أبي حيّة الوداعي (٣) ، فقال

_________________

(١) المحزومي : هو الذي اشترى من السّائب بن الأقرع الثقفي الكاتب الحاسب في جيش المسلمين في فتح نهاوند ، سفطين عظيمين من الغنائم ، فيهما : اللؤلؤ والزبرجد والياقوت بألفي ألف ، ثمّ خرج بهما إلى أرض العجم فباعها بأربعة الآف ألف ـ أربعة ملايين ـ فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً سنة (٢١ هـ) ٥ / ١١٧. وكان خليفة سعيد بن العاص على الكوفة ، ويُسكّن النّاس عن عثمان سنة (٣٤ هـ) ٤ / ٣٣٢. وكان خليفة زياد بن سميّة على الكوفة سنة (٥١ هـ) فحصبه أصحاب حجر ٥ / ٢٥٦. وكان على ربع أهل المدينة ، وشهد على حجر وأصحابه ٥ / ٢٦٨. وكان خليفة ابن زياد على الكوفة سنة (٦٤ هـ) ، فلمّا هلك يزيد ودعا ابن زياد النّاس إلى نفسه تبعه ابن حريث ودعا النّاس إليه ، فحصبه أهل الكوفة ٥ / ٥٢٤ وأخرجوه من القصر ٥ / ٥٦٠. واعتزل النّاس ونزل في البرّ في نهضة المختار سنة (٦٦ هـ) ٦ / ٣٠. وكان له حمّام بالكوفة ٦ / ٤٨ وقرّبه عبد الملك وأدناه سنة (٧١ هـ) ٦ / ١٦٧. وكان خليفة بشر بن مروان على الكوفة سنة (٧٣ هـ) ٦ / ١٩٤ ولمْ يأتِ بالماء لمسلم بن عقيل ٥ / ٣٦٧ ، ولمْ يشفع لزينب عند ابن زياد ٥ / ٤٥٧ إلاّ حميّة قرشيّة ومات سنة (٨٥ هـ). وكان عمره يوم وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) اثنتي عشرة سنة ، كما في ذيل المذيل / ٥٢٧ ، طبعة سويدان.

(٢) قال أبو مِخْنف : فحدثنى المجالد بن سعيد ٥ / ٣٧١ ـ ٣٧٣.

(٣) كان ممّن كُتبت شهادتهم على حجر وأصحابه ٥ / ٢٧٠ ، وممّن ذهب برأس مسلم وهانئ إلى يزيد ٥ / ٣٨ ، والتقى بالمختار في مكّة على عهد ابن الزبير سنة (٦٤ هـ) ، وعلم من المختار أنّه يُريد الرجوع إلى الكوفة والوثوب بها ، فحذّره من فتنة الضلال ٥ / ٥٧٨.

١٣١

المختار : ما وقوفك ها هنا ، لا أنت مع النّاس ولا أنت في رحلك؟ قال : أصبح رأيي مرتجّاً لعظم خطيئتكم. فقال له : أظنّك والله ، قاتلاً نفسك. ثمّ [أقبل إلى] عمرو بن حريث فأخبره [خبره] (١).

[موقف المختار]

قال عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي (٢) كنت جالساً عند عمرو بن حريث حين بلّغه هانئ بن أبي حيّة عن المختار هذه المقالة ، فقال لي [ابن حريث] : قم إلى عمّك فأخبره أنّ صاحبه [يعني : مسلم بن عقيل (عليه السّلام)] لا يدرى أين هو؟ فلا يجعلنّ على نفسه سبيلاً. فقمت لآتيه.

ووثب إليه زائدة بن قدامة بن مسعود (٣) فقال له : يأتيك على أنّه آمن؟

فقال له عمرو بن حريث : أمّا منّي فهو آمن ، وإنْ رقّى إلى الأمير عبيد الله بن زياد شيء من أمره ، أقمت له بمحضره الشهادة وشفعت له أحسن الشفاعة.

فقال له زائدة بن قدامه : لا يكوننّ مع هذا إنْ شاء الله إلاّ خيراً.

قال عبد الرحمن : فخرجت ، وخرج معي زائدة إلى المختار فأخبرناه وناشدناه بالله ، أنْ لا يجعل على نفسه سبيلاً.

_________________

(١) ٥ / ٥٦٩. قال أبو مِخْنف ، قال : النّضر بن صالح ...

(٢) كان مع المختار في نهضته سنة (٦٧ هـ) ٦ / ٩٨. والظاهر : أنّه هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي ، ابن أخت معاوية اُمّ الحكم الذي استعمله معاويه على الكوفة سنة (٥٨ هـ) بعد الضحّاك ابن قيس. وكان على شرطته زائدة بن قدامة الثقفي ٥ / ٣١٠ وقبل ذلك كان عامل الموصل لمعاوية سنة (٥١ هـ). وهو الذي قتل عمرو بن الحمق الخزاعي ، يزعم قصاصاً لعثمان ، وكان مريضاً ٥ / ٢٦٥.

وأساء السّيرة في أهل الكوفة فطردوه فلحق بمعاوية خاله ، فولاّه مصراً فطردوه عنها ، فرجع إلى معاوية ٥ / ٣١٢ ، ولو لا قرابته من يزيد لمَا نفعه ابن حريث.

(٣) سبقت ترجمته في المقدّمة ، فراجع.

١٣٢

فنزل إلى ابن حريث فسلّم عليه وجلس تحت رايته حتّى أصبح (١).

وإنّ كثير [بن شهاب الحارثي] ألفى رجلاً في بني فتيان [موضع بالكوفة] من كلب ، يقال له : عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يُريد ابن عقيل ، فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره ، فقال [الكلبي لابن زياد] : إنما أردتك. قال [ابن زياد] : وكنت وعدتني ذلك من نفسك. فأمر به فحُبس (٢).

[ولمّا أصبح ابن زياد]

فلمّا أصبح جلس مجلسه وأذن للنّاس فدخلوا عليه.

وأقبل محمّد بن الأشعث ، فقال : مرحباً بمَن لا يستغشّ ولا يتّهم ، ثمّ أقعده إلى جنبه.

وأصبح ابن تلك العجوز [التي] آوت ابن عقيل ، وهو بلال بن سيّد فغدا إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند اُمّه ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه فسارّه وهو عند ابن زياد ، فقال له ابن زياد : ما قال لك؟ قال : أخبرني أنّ ابن عقيل في دار من دورنا ، فنخس بالقضيب في جنبه ، ثمّ قال : قُم فأتني به السّاعة (٣).

[خروج محمّد بن الأشعث لقتال مسلم]

[و] بعث [ابن زياد] إلى عمرو بن حريث ، وهو خليفته على النّاس في المسجد : أنْ ابعث مع ابن الأشعث ستّين أو سبعين رجلاً من قيس. وإنّما كره

_________________

(١) قال أبو مِخْنف : فأخبرني النّضر بن صالح ، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي ، قال ٥ / ٥٧٠.

(٢) قال أبو مِخْنف : فحدّثني أبو جناب الكلبي ٥ / ٣٦٩.

(٣) قال أبو مِخْنف : فحدّثني المجالد بن سعيد ٥ / ٣٧١ ـ ٣٧٣ ، وفي الإرشاد / ٢١٣ ، والخواص / ٢٠٨.

١٣٣

أنْ يبعث معه قومه (١) ؛ لأنّه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أنْ يُصادف فيهم مثل : ابن عقيل. فبعث معه [عمرو بن حريث] ، عمرو بن عبيد الله بن عبّاس السلمي في ستّين أو سبعين من قيس حتّى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل.

[خروج مسلم (عليه السّلام) لقتال الأشعث]

فلمّا سمع [مسلم (عليه السّلام)] وقع خوافر الخيل وأصوات الرجال ، عرف أنّه قد أتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك.

فضرب بُكيُر [بن حمران الأحمري الشامي] فمَ مسلم فقطع شفته العليا ، وأشرع السّيف في السّفلى وفصلت ثنيّتاه ، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرةً ، وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت أنْ تطلع على جوفه.

[قصبات النيران والحجّارة ، والأمان]

فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت فأخذوا يرمونه بالحجّارة ، ويلهبون النّار في طنان القصب ، ثمّ يقلبونها عليه من فوق البيت.

فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكّة فقاتلهم ...

فاقبل عليه محمّد بن الأشعث ، فقال : يا فتى ، لك الأمان ، لا تقتل نفسك. فأقبل يُقاتلهم ، وهو يقول :

أقسمت لا أقتل إلاّ حرّا

وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

كل امرئ يوماً ملاق شرّا

ويخلط البارد سخناً مرّاً

_________________

(١) أمّا نفس ابن الأشعث ، فلعلّه كان يبرّر ذلك بأنّه إنّما يخرج مسلماً من بيت مولاتهم طوعة وابنها بلال. ومن هنا يُعلم : كيف كان ابن زياد بصيراً بأمور العشائر خبيراً بها ، يرعاها ويستخدمها في أهدافه.

١٣٤

ردّ شعاع النّفس (١) فاستقرّا

أخاف أن أكذب أو أغرّا

[أسر مسلم (عليه السّلام) بحيلة الأمان]

فقال له محمّد بن الأشعث : إنك لا تُكّذب ولا تُخدع ولا تّغرّ ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك. وأُثخن بالحجّارة وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار ، فدنا محمّد بن الأشعث ، فقال : لك الأمان. فقال [مسلم] : آمن أنا؟ قال : نعم ، وقال القوم : [نعم] ، أنت آمن. وقال ابن عقيل : أمَا لو لمْ تؤمّنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، [فعلم أنّه استسلم للأمان].

وأُتي ببغلة فحُمل عليها ، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه ، فكأنّه آيس من نفسه فدمعت عيناه ، ثمّ قال : هذا أوّل الغدر.

قال محمّد بن الأشعث : أرجو أنْ لا يكون عليك بأس.

قال : ما هو إلاّ الرجاء ، أين أمانكم! إنّا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى.

فقال له عمرو بن عبيد الله بن عبّاس [السلمى الذي كان على الرجال المبعوثين إليه] : إنّ مَن يطلب مثل الذي تطلب ، إذا نزل به مثل الذي نزل بك لمْ يبك.

قال : إنّي والله ، ما لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي ، وإنْ كنت لمْ أحبّ له طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ ، أبكي لحسين وآل

_________________

(١) فيما بأيدينا من نسخ الطبري وغيره من الكتب ، جاء شعاع النّفس : شعاع الشمس. وذكر الشيخ السّماوي في إبصار العين / ٤٩ : إنّ ذلك تصحيف ممّن لمْ يفهم شعاع النّفس ، فرأى : أنّ الشعاع بالشمس أليق ؛ والمراد بشعاع النّفس : خوف النّفس ، يقال : مارت نفسه شعاعاً ، أي : تفرقت نفسه كلشعاع الدقيق من الخوف ، فإنّ الشعاع هو المتفرق من الشيء تفرقاً دقيقاً ، وقد جاء في الشعر :

أقول لها وقد طارت شعاعاً

من الأبطال ويحك لا تراعى

فالمعنى في الرجز : أنّ النّفس استقرت بعدما خافت.

١٣٥

الحسين (عليه السّلام).

[وصيّة مسلم إلى ابن الأشعث]

ثمّ أقبل (عليه السّلام) على محمّد بن الأشعث ، فقال : يا عبد الله ، إنّي أراك والله ، ستعجز عن أماني فهل عندك خير؟ تستطيع أنْ تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلغ حسيناً (ع) ؛ فإنّي لا أراه إلاّ قد خرج إليكم اليوم مقبلاً أو هو خارج غداً ، هو وأهل بيته ؛ وإنْ ما ترى من جزعي لذلك. فيقول [الرسول] : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو في أبدي القوم أسير لا يرى أنْ يمشي حتّى يُقتل ، وهو يقول : ارجع بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة ؛ فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إنّ أهل الكوفة كذبوك وكذبوني ، وليس لمكذّب رأي. فقال ابن الأشعث : والله ، لأفعلنّ ولا علمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك (١).

[مسلم على باب القصر]

وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن ، منهم : عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو وكثير بن شهاب (٢).

[وكانت] قلّة باردة موضوعة على الباب.

فقال ابن عقيل : اُسقوني من هذا الماء.

_________________

(١) قال أبو مِخْنف : فحدّثني قدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي ٥ / ٣٧٢ ، عن جدّه زائدة. انظره في : المقدمة.

(٢) قال أبو مِخْنف : فحدّثني جعفر بن حذيفة الطائي ، وعرف سعيد بن شيبان الحديث ٥ / ٣٧٥.

١٣٦

فقال له مسلم بن عمرو [الباهلي] : أتراها ما أبردها! لا والله ، لا تذوق منها قطرة أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم.

قال له ابن عقيل : ويحك مَن أنت؟!

قال أنا ابن (١) مَن عرف الحقّ إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل : لأمّك الثكل! ما أجفاك وما أفظّك ، وأقسى قلبك أغلظك ، أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي.

ثمّ جلس متسانداً إلى الحائط.

[فـ] ـبعث عمرو بن حريث [المخزومي] غلاماً له ، يُدعى : سليمان فجاءه بماء في قلّة (٢) عليها منديل ومعه قدح ، فصبّ فيه ماء ثمّ سقاه ، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً ، فلمّا ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب ؛ ليشرب فسقطت ثناياه فيه ، فقال : الحمد لله! لو كان لي من الرزق المقسوم شربته (٣).

_________________

(١) هكذا النص ، والصحيح : أنا مَن عرف ، وليس : ابن مَن عرف.

(٢) يقطع أبو مِخْنف هنا حديثه عن قدامة بن سعيد ؛ ليحدّث عن سعيد بن مدرك بن عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، أنّه هو الذي بعث غلامه قيساً فجاءه بقلّة ... ويرجع الحديث في الظاهر إلى حديث قدامة ، ونحن رجّحنا حديث قدامة بن سعيد ، عن جدّه زائدة بن قدامة الثقفي إذ اتّهمنا سعيد بن مدرك ، أنّه وضع الحديث كفضيلة لجدّه عمارة ، بينما لا يرد مثل هذا على حديث قدامة إذ لمْ ينسب ذلك لجدّه زائدة مع حضوره هناك ، بل نسبه إلى عمرو بن حريث ؛ ولعمرو بن حريث موقفان آخران : يتسامح في أوّلهما للمختار ، فيشهد له عند ابن زياد بما ينجو به من القتل ؛ ويشفع في الثاني لزينب عند ابن زياد إذ همّ بها أنْ يضربها ، وإنْ كان كلّ ذلك بحميّة قرشيّة.

أمّا عمارة بن عقبة بن أبي معيط الاُمّوي ، فهو من أعداء آل البيت (عليهم السّلام) وقد سبقت ترجمته في المقدمة ، فراجع.

واختاره الشيخ في الإرشاد / ٢١٥ ، والخوارزمي / ٢١٠. وجمع السّماوي بين الخبرين بالعطف ، أي : أنّ كليهما بعثا للماء ، وهو خطأ. انظر : السّماوي / ٤٥.

(٣) قال أبو مِخْنف : فحدّثني قدامة بن سعيد ٥ / ٣٧٥.

١٣٧

فاستأذن [ابن الأشعث] فأُذن له (١) ، وأدخل مسلم على ابن زياد ، فلمْ يسلّم عليه بالأمرة.

فقال له الحرسي : ألاَ تُسلّم على الأمير؟

فقال له : إنْ كان يُريد قتلي ، فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يُريد قتلى ، فلعمري ليكثرنّ سلامي عليه.

فقال له ابن زياد : فلعمري لتقتلنّ.

قال : كذلك؟

قال : نعم.

قال : فدعني أوص إلى بعض قومي.

[وصيّة مسلم إلى عمر بن سعد]

فنظر إلى جلساء عبيد الله ، وفيهم عمر بن سعد ، فقال : يا عمر ، إنّ بيني وبينك قرابة (٢) ولي إليك حجّة وقد يجب لي عليك نجح حاجتي وهو سرّ ، فأبى أنْ يمكّنه من ذكرها.

فقال له عبيد الله : لا تمتنع أنْ تنظر في حجّة ابن عمّك.

فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد ، فقال له : إنّ عليّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة ، سبعمئة درهم فاقضها عنّي ، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى حسين (عليه السّلام) مَن يردّه ؛ فإنّي كتبت إليه أعلمه أنّ النّاس معه ولا أراه إلاّ مقبلاً (٣).

_________________

(١) ٥ / ٣٧٥. حدثنى جعفر بن حذيفة الطائي ، قال ...

(٢) والقرابة بينه وبين ابن سعد ، هي : القرابة القرشيّة ، ومن طرف الاُمّ إلى بني زهره عشيرة ابن سعد.

(٣) كرّر الوصيّة بهذا إلى ابن سعد بعد ابن الأشعث تأكيداً للأمر ؛ عسى ولعلّ أحدهما يفعل ذلك.

١٣٨

[مسلم أمام ابن زياد]

ثمّ قال ابن زياد : إيه يابن عقيل! أتيت النّاس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة ؛ لتشتتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضهم على بعض.

قال : كلا ، لست أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.

قال : وما أنت وذاك يا فاسق ، أوَلمْ نكن نعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال : أنا أشرب الخمر! والله ، إنّ الله ليعلم أنّك غير صادق وأنّك قلت بغير علم ، وإنّي لست كما ذكرت ، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النّفس التي حرّم الله قتلها ، ويقتل النّفس بغير النّفس ويسفك الدم الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ ، وهو يلهو ويلعب كأنّ لمْ يصنع شيئاً.

قال له ابن زياد : يا فاسق! إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ، ولمْ يرَك أهله.

قال : فمَن أهله يابن زياد؟

قال : أمير المؤمنين يزيد.

فقال : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

قال : كأنّك تظنّ أنّ لكم بها شيئاً؟

قال : والله ، ما هو بالظنّ ولكنّه اليقين.

قال : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لمْ يقتلها أحد في الإسلام.

قال : أمَا إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة ، وخبث السّيرة ولؤم الغلبة ، ولا أحد من النّاس أحقّ بها منك.

١٣٩

وأقبل ابن سميّة (١) يشتمه ويشتم حسيناً وعليّاً وعقيلاً.

[مقتل مسلم (عليه السّلام)]

ثمّ قال : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ، ثمّ أتبعوا جسده رأسه.

فقال [مسلم لابن الأشعث] : يابن الأشعث ، أمَا والله ، لولا أنّك آمنتني ما استسلمت ؛ قم بسيفك دوني فقد اُخفرت ذمّتك (٢).

وأقبل محمّد بن الأشعث ... فأخبر عبيد الله خبر ابن عقيل ، وضرب بكير [بن حمران] إيّاه ، [و] أخبره بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه.

فقال عبيد الله : ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك تؤمّنه ، إنّما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت (٣).

ثمّ قال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسّيف وعاتقه؟ فدُعى ، فقال : اصعد ، فكن أنت الذي تضرب عنقه.

فصعد به ، وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله ، ويقول : اللهمّ ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلّون.

وأشرف به [بكير الأحمري] على موضع الجزّارين اليوم (٤) فضربت عنقه ،

_________________

(١) سميّة : أمّ زياد ، ذات علم بالفحشاء بالجاهليّة ؛ زنى بها أبو سفيان وغيره فولدت زياداً فاقترعوا عليه بسهام الأزلام ، فخرج أبو سفيان فادّعاه ، ولكنّه عُرف بزياد بن سميّة باسم اُمّه حتّى ألحقه معاوية بأبيه ، فكان مَن أنكر منكراته في الدين والعرف.

(٢) قال ابو مِخْنف : وحدّثني سعيد بن مدرك بن عمارة ٥ / ٣٧٦ ، عن جدّه عمارة بن عقبة بن أبي معيط.

(٣) قال أبو مِخْنف : فحدّثني جعفر بن جذيفة الطائي ، وعرف سعيد بن شيبان ، الحديث ٥ / ٣٧٥.

(٤) وفي الإرشاد / ٢١٦ : الحذائيين ، وفي الخوارزمي / ٢١٥ : سوق القصّابين ، وفي ص / ٢١٤ : في موضع يُباع فيه الغنم ، وهذا يرجّح نصّ الطبري. والمراد (باليوم) : على عهد الراوي أبي مِخْنف.

١٤٠