وقعة الطّف

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]

وقعة الطّف

المؤلف:

لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي [ أبي مخنف ]


المحقق: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام على أشرف بريّته وخاتم رسله ، محمّد وآله الأنجبين الأطهرين.

إنّ قضية سيّد الشهداء أبي عبد الله (عليه السّلام) لهي من أعظم الأحداث التاريخيّة والذكريات الخالدة التي أنارت الطريق للبشريّة كافّةً ، وعلّمتهم بأنّ العزّة والحياة الواقعيّة في المقابلة مع الطغاة والجبابرة ، وإنْ أدّت إلى تضحيّة النّفوس وإراقة الدماء بيد الظلمة ، كما نادى بها صاحب هذه الذكرى الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) ، حيث قال : «فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادةً ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً» (١).

فعلى جميع طالبي السّعادة الأبديّة أنْ يجعلوا هذه الذكرى نصب أعينهم ، ويعاملوا الطغاة وفراعنة زمانهم كما عاملهم هو (عليه السّلام) ؛

ولأهميّة هذه الحادثة العظمى ألّفت كُتب كثيرة في مقتل سيّد الشهداء (عليه السّلام) من قبل المحققين ، وأوّلهم لوط بن يحيى بن سعيد ، أبو مِخْنف ، حيث ألّف كتاباً في ذلك عرض فيه الحوادث التي جرت على الحسين وأولاده وإخوانه وأصحابه (سلام الله عليهم أجمعين) بصورة تفصيليّة. وقد عرّفة الشيخ النّجاشي في رجاله بأنّه : شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم (٢).

وقد قام سماحة العلاّمة الحاجّ الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي بتحقيقه وتنقيحه ؛ ولأجل إفادة روّاد العلم والفضيلة من هذا الكتاب المبارك اهتمّت المؤسّسة ـ والحمد الله ـ بطبعه ونشره شاكرة الله سبحانه على ما وفّقها في هذا المضمار. كما وتشكر فضيلة المحقّق على مساعيه الوافرة ، سائلةً المولى جلّ وعلا التوفيق له ولها ؛ لبثّ المعارف الإسلاميّة ، إنّه سميع مجيب.

مؤسّسة النّشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بـ (قُم المشرّفة)

_________________

(١) انظر : النّص في هذا المقتل بهذه الصورة.

(٢) انظر : ترجمته في مقدّمته هذا الكتاب.

٣

«إنْ لمْ يكن لكم دين وكنتم لا تخافون

يوم المَعاد ، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً».

سيّد الشهداء

الإمام الحسين (عليه السّلام)

٤

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

تعلّم الإنسان الكتابة ، فكتب ما فعل وفعل الآخرون ؛ فكان التاريخ ... وكان التاريخ في العرب عند ظهور الإسلام يقتصر على أناس يحفظون أنساب العرب وأيّام الجاهليّة ؛ فيسمّونه : علاّمة (١).

فمن هؤلاء : النّضر بن الحارث بن كلدة ، حيث كان يسافر إلى بلاد العجم ، فكان يشتري منها كُتباً فيها أحاديث الفرس من حديث رستم وغيره ، فكان يلهي النّاس بذلك ؛ ليصدّهم عن سماع القرآن الكريم ، فنزلت فيه الآية المباركة : (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّى‏ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٢).

ومن هؤلاء ـ من أهل المدينة ـ مَن تلقّى ممّا عند أهل الكتاب من اليهود بعض

_________________

(١) عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، قال : «دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المسجد ، فإذا جماعة قد أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟ فقِيل : علاّمة. فقال : وما العلاّمة؟ فقالوا له : أعلم النّاس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيام الجاهليّة ، والأشعار العربيّة. قال ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : ذاك علم لا يضرّ مَن جهله ، ولا ينفع مَن علمه ، ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة ، وما خلاهنّ فهو فضل». الكافي ١ / ٢.

(٢) سورة لقمان / ٦ ـ ٧ ، تفسير القمي ٢ / ١٦١ ، ط النّجف ، وتفسير ابن عبّاس / ٤٤ ، ط مصر.

٥

قصص الأنبياء والمرسلين ، سويد بن الصامت ، فإنّه قدم مكّة بعد بعثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حاجّاً أو معتمراً ، فبلغه أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلقيه ، فدعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الله ، فقال له سويد : إنّ معي مجلّة لقمان. قال (صلّى الله عليه وآله) : «فاعرضها عليّ». فعرضها عليه ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «إنّ هذا لكلام حسن ، والذي معي أحسن منه ، قرآن أنزله الله عليّ هدىً ونور» (١).

ومن هذه الأحاديث : أحاديث ما قبل الإسلام من قصص الأنبياء والاُمم السّالفة التي رواها الطبري ومحمّد بن إسحاق ، والتي تنتهي أسنادها إلى عبارة : بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأوّل.

وجاء الإسلام وأتى بالقرآن كتاباً وقرآناً يُتلى آناء اللّيل وأطراف النّهار ... ؛ فاحتاج إلى كتّاب يكتبونه ، بالإضافة إلى حفّاظ يحفظونه ... فكُتب القرآن الكريم على عهد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، وحفظه آخرون على ظهر القلب.

وأمّا أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تفسير القرآن وأخبار الشرائع والأديان ، وتفصيل المسائل والأحكام الشرعيّة ، وسيرته وسنّته وأخباره ومغازيه ... ، فإنّها بقيت هكذا غير مدوّنة حتّى ارتحل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى ... وإنّما كان يحفظها ويُحدّث بها عن ظهر الغيب صحابته ممّن رآه وسمع حديثه.

وارتدّ عن الإسلام بعد وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) جماعة ممّن كان قد استسلم له أيّام حياته ، فخرج أصحابه في الحروب والمغازي حتّى قُتل منهم يوم اليمامة أكثر من ثلثمئة رجل (٢) ، فأحسّوا بعد هذا بالحاجة إلى تدوين

_________________

(١) الطبري ٢ / ٥ ، ط دار المعارف ، واليعقوبي ٢ / ٠ ، ط النّجف.

(٢) الطبري ٣ / ٢٦٩ ، ط دار المعارف.

٦

الحديث.

ولكنّهم اختلفوا فيه ، فمنهم : مَن أجازه ، ومنهم : مَن منعه ... وترجّح جانب المنع بنهي الخليفة الأوّل (١) والثاني (٢) والثالث (٣) عنه ... واستمر أثر هذا النّهي والكراهيّة إلى أوائل المئة الثانية للهجرة حتّى أجمع على إباحته المسلمون.

وأباحه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسّلام). وأوّل شيء سجّله أمير المؤمنين (عليه السّلام) كتاب الله العزيز ؛ فإنّه بعد الفراغ من أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) آلى على نفسه أنْ لا يرتدي إلاّ للصلاة أو يجمعه ، فجمعه مرتّباً على حسب ترتيبه في النّزول. وأشار إلى : عامّه خاصّه ، ومطلقه ومقيّده ، ومجمله ومبيّنه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وآدابه وسننه. ونبّه على أسباب النّزول في آياته ، وأوضح ما عساه يُشكل من بعض الجهات.

وبعد فراغه من الكتاب العزيز ، ألّف كتاباً في الدّيات كان يومئذٍ يعرف بـ : (الصحيفة). أوردها ابن سعيد في آخر كتابه المعروف بـ : (الجامع). ويروي عنها البخاري في مواضع من صحيحه ، منها في : أوّل كتاب العلم من الجزء الأوّل.

واقتدى به في جمع الحديث في ذلك العصر جماعة من شيعته ، منهم : أبو رافع إبراهيم القبطي وابناؤه ، علي بن أبي رافع وعبيد الله بن أبي رافع.

ولهذا الأخير كتاب في تسمية مَن شهد الجمل وصفّين والنّهروان (٤) ،

_________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٣ ، ٥.

(٢) المصدر السّابق ١ / ٣ ، ٤ ، ٧ ، والبخاري / ٦ باب : الاستيذان ، وطبقات ابن سعد ٢ / ٢٠٦.

(٣) مسند أحمد ١ / ٦٣ ـ ، وراجع في ذلك كتاب : السنّة قبل التدوين.

(٤) رجال النّجاشي / ١ ـ ٥ ، ط الهند ، والفهرست / ١٢٢ ، ط النّجف.

٧

فيكون هذا أوّل كتاب في التاريخ من شيعته (عليه السّلام).

وهكذا سبق الشيعة سائر المسلمين في كتابة التاريخ أيضاً ، فكان محمّد بن السّائب الكلبي (١٤٦ هـ) وأبو مِخْنف لوط (١٥٨ هـ) ، وهشام الكلبي (٢٠٦ هـ) وغيرهم من مصادر التاريخ الإسلامي (١).

كربلاء :

وفي كربلاء وقعت تلك الحادثة التي خلّدها التاريخ ، والتي أتت فيما أتت عليه على حياة الإمام العظيم سبط الرسول الكريم ، سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين (عليه الصلاة والسّلام).

وكذلك بقيت هذه الحادثة الأليمة في سنة (٦١ هـ) ، أحاديث شجون تتناقلها الألسن نقلاً عن الذين كانوا قد شهدوا المعركة ، أو الحوادث السّابقة عليها أو التالية لها ، كسائر أحاديث المغازي والحروب في الإسلام ... حتّى انبرى لها في أوائل المئة الثانية للهجرة أبو مِخْنف ، لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخْنف بن سليم الأزدي الغامدي الكوفي (ت ١٥٨ هـ) (٢) ، فجمعها من أفواه الرواة وأودعها كتاباً أسماه : (كتاب مقتل الحسين) (عليه السّلام) كما في قائمة كُتبه. فكان أوّل كتاب في تاريخ هذه الحادثة العظمى على الإطلاق.

وتتلمذ على يد أبي مِخْنف في أحاديث تاريخ الإسلام كوفي آخر ، هو : هشام بن محمّد بن السّائب الكلبي الكوفي ، النسّابة المتوفّى (٢٠٦ هـ) (٣). فقرأ على

_________________

(١) راجع للزيادة : مؤلّفو الشيعة في الإسلام ، والشيعة وفنون الإسلام ، وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام / ٩١ ـ ٢٨٧ ، وأعيان الشيعة ١ / ٨ ـ ١٤٨ ، والغدير ٦ / ٢٩٠ ـ ٢٩٧.

(٢) فوات الوفيات ٢ / ١٤٠ ، والأعلام للزركلي ٣ / ٨٢١.

(٣) مروج الذهب ٤ / ٢٤ ، ط مصر.

٨

شيخه الكوفي أبي مِخْنف كُتبه ، ثمّ كتبها وحدّث بها عنه ، يقول : حدّثني أبو مِخْنف لوط بن يحيى الأزدي عن ...

وممّا كتب من كُتبه وقرأه عليه وحدّث به عنه كتابه في مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ كما نراه في قائمة كتبه ـ إلاّ أنّه لمْ يقتصر في كتابه في المقتل على آحاديث شيخه أبي مِخْنف فقط ، بل جمع إليها أحاديث أخرى عن شيخه الآخر ـ في التاريخ ـ عوانة بن الحكم (١٥٨ هـ).

ولا يخفى على مَن يراجع تاريخ صدر الإسلام ، أنّه يجد المؤرخين بأسرهم عيالاً على هذين العلمين العالمين المتقدّمين ، ولا سيّما أبي مِخْنف ؛ ولقد كان هذا بسبب قرب زمنه ، ينقل القضايا والحوادث بجميع حذافيرها ويُوردها على وجهها.

واختصر كثير من المؤرخين كُتبه في مؤلّفاتهم في التاريخ ، ممّا يدلّ على وجود كُتبه لديهم إلى عهدهم ، كـ : محمّد بن عمر الواقدي (٢٠٧ هـ) ، والطبري (٣ ـ ١٠ هـ) ، وابن قتيبة في كتابه الإمامة والسّياسة (٣ ـ ٢٢ هـ) ، وابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد ـ حيث أتى على ذكر السّقيفة (٣ ـ ٢٨ هـ) ، وعلي بن الحسين المسعودي ـ في قضية اعتذار عروة بن الزبير عن أخيه عبدالله في تهديد بني هاشم بالإحراق ، حيث تخلّفوا عن بيعته (٣ ـ ٤٥ هـ) ، والشيخ المفيد في الإرشاد في مقتل الحسين (عليه السّلام) (٤١٣ هـ) ، وفي كتاب النّصرة في حرب البصرة ، والشهرستاني في الملل والنّحل ـ عند ذكر الفرقة النّظاميّة (٥٤٨ هـ) ، وابن الأثير الجزري في الكامل في التاريخ (٦٣ ـ ٠ هـ) ، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخوّاص (٦٥٤ هـ) ... وآخر مَن نراه من المؤرخين يسند في كتابه إلى أبي مِخْنف بلا إسناد إلى محدّث أو كتاب آخر ، ممّا ظاهره مباشرة النّقل عن كتابه هو : أبو الفداء في تاريخه (٥٣ ـ ٢ هـ).

٩

ولا علم لنا الآن بما يوجد من كُتب أبي مِخْنف عامّة ، وكتابه في المقتل خاصّة والظاهر أنّها مفقودة لا توجد إلاّ في مطاوي هذه الكُتب بصورة أحاديث متفرقة.

وأقدم نصّ معروف لدينا ممّن نقل أحاديث هشام الكلبي في كتابه عن أبي مِخْنف هو : تاريخ أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (٣ ـ ١٠ هـ) ، وهو لمْ يُفرد لها تأليفاً خاصّاً ، وإنّما ذكر الوقعة في أثناء تاريخه لحوادث سنة (٦٠ ـ ٦١ هـ) (١).

وهو لا يُرويها عنه بالتحدّث مباشرة ، وإنّما يُرويها عن كُتبه معزّزة بقوله : حدّثت عن هشام بن محمّد ، ثمّ لا يُعيّن مَن حدّثه عنه ... ويدلّنا على عدم دركه لهشام وعدم مباشرته السّماع عنه ، قياس تاريخ ولادة الطبري (٢٢٤ هـ) بوفاة الكلبي (٢٠٦ هـ) ... وقد صرّح بنقله عن كُتبه عند ذكره لوقعة الحرّة إذ يقول : هكذا وجدته في كتابي ... (٢).

وأقدم نصّ بعد الطبري ممّن يروي عن كتاب هشام الكلبي بلا واسطة ، هو كتاب : الإرشاد للشيخ المفيد (ت ٤١٣ هـ) ؛ فإنّه قال ـ قبل نقله أخبار كربلاء في كتابه ـ ما نصُّه : فمن مختصر الأخبار ... ما رواه الكلبي ... (٣).

ثم كتاب : تذكرة الأمّة بخصائص الأئمة لسبط ابن الجوزي (٦٥٤ هـ) ؛ فإنّه أيضاً نقل كثيراً ممّا ذكره في أخبار الإمام الحسين (عليه السّلام) عن هشام الكلبي مصرّحاً بذلك.

وعند مقابلة ما نقله الطبري بما نقله الشيخ المفيد (ره) والسّبط ، يظهر التوافق

_________________

(١) الطبري ٥ / ٣٣٨ ـ ٤٦٧ ، ط دار المعارف.

(٢) الطبري ٥ / ٤٨٧.

ويدلّ على هذا أيضاً اختلاف الطبري في بعض الأعلام ، ممّا يدلّ على أنّه لمْ يسمعها روايةً ، كما في اسم مسلم بن المسيّب ، حيث ذكره في موضعين : مسلم بن المسيّب ، وفي آخرين : سلم بن المسيّب. وهو شخص واحد كما في خبر المختار.

(٣) الإرشاد / ٢٠٠ ، ط النّجف.

١٠

الكثير بين نصوص النّقول إلاّ ما شذّ من بعض الحروف أو الكلمات ، كـ (الواو بدل الفاء) ، أو العكس أو ما شابه هذا ، كما سترى ذلك في طيّات الكتاب.

أبو مِخْنف :

لمْ تذكر لنا التواريخ مولده ، إلاّ أنّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) عدّه في رجاله في طبقة مَن روى عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، نقلاً عن الكشّي (رحمه الله) ثمّ قال : وعندي أنّ هذا غلط ؛ لأنّ لوط بن يحيى لمْ يلقِ أميرالمؤمنين (عليه السّلام) ، بل كان أبوه يحيى من أصحابه (١). ثمّ لمْ يذكر أباه يحيى في أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وإنّما ذكر جدّه مِخْنف بن سليم الأزدي ، وقال : إبن خالة عائشة ، عربي كوفي (٢).

والشيخ (رحمه الله) إنّما نقل هذا عن كتاب الكشّي (رحمه الله) لا عنه مباشرة؛ فإنّ الكشّي من المئة الثالثة ، وقد وُلد الشيخ الطوسي سنة (٣٨٥ هـ).

وكان اسم هذا الكتاب للكشّي : معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين ، على ما ذكره ابن شهر آشوب في : معالم العلماء (٣) وهو الآن مفقود ، وإنّما الموجود منه هو ما اختاره الشيخ الطوسي منه سنة (٤٥٦ هـ) على ما ذكره السيّد ابن طاووس في فرج المهموم. وليس في مختار الشيخ ـ هذا ـ ما نقله عنه مَن عدّ أبي مِخْنف في أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام).

وذكره الشيخ (رحمه الله) في رجاله في طبقة أصحاب الإمام الحسن بن علي

_________________

(١) رجال الشيخ / ٥٧ ، ط النّجف.

(٢) المصدر السّابق / ٥٨.

(٣) معالم العلماء / ١٠٢ ، ط النّجف.

(٤) فرج المهموم / ١٣ ، ط النّجف.

١١

(عليه السّلام) (١) ، ثمّ في طبقة أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) (٢) ، ثمّ في طبقة أصحاب الإمام الصادق (عليه السّلام) (٣) ، ولمْ يذكره في طبقة أصحاب الإمام علي بن الحسين ، ولا في طبقة أصحاب الإمام الباقر (عليهما السّلام).

ونقل الشيخ في : الفهرست أيضاً ما زعمه الكشّي ، ثمّ قال : والصحيح أنّ أباه كان من أصحاب عليّ (عليه السّلام) ، وهو لمْ يلقه (٤). ثمّ ذكر طريقه إليها عن هشام بن محمّد بن السّائب الكلبي ونصر بن مزاحم المنقري.

وذكره الشيخ النّجاشي في رجاله ، فقال : لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخْنف بن سالم (٥) الأزدي الغامدي ، أبو مِخْنف ، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم. وكان يسكن إلى ما يرويه. روى عن جعفر بن محمّد (عليه السّلام).

وقِيل روى عن أبي جعفر (ع) ، ولمْ يصحّ (٦) ، ثمّ عدّ كُتبه وعدّ منها كتاب : مقتل الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ ذكر طريقه إليها عن هشام بن محمّد بن السّائب الكلبي عنه.

وبهذه النّصوص لحدّ الآن نكون قد أتينا على ما في ثلاثة من الأصول الأربعة في الرجال عندنا في صاحبنا ، أبي مِخْنف من غير ذكر لمولده ولا وفاته.

ما يرويه الطبري في آل أبي مِخْنف :

وذكر الطبري في كتابه : ذيل المذيّل فيمَن توفّي من الصحابة سنة

_________________

(١) رجال الشيخ الطوسي / ٧٠.

(٢) المصدر السّابق / ٧٩.

(٣) المصدر السّابق / ٢٧٩.

(٤) الفهرست للطوسي / ١٥٥ ، ط النّجف.

(٥) من الغريب أنّه ذكره هكذا ، ثمّ ذكر له كتاب : أخبار آل مِخْنف بن سليم! فالمرجّح أنْ يكون من تحريف النسّاخ.

(٦) رجال النّجاشي / ٢٢٤ ، ط الحجريّة ـ الهند.

١٢

(٨٠ هـ) : مِخْنف بن سليم بن الحارث ... بن غامد بن الأزد ... ؛ أسلم مِخْنف وصحب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وهو بيت الأزد بالكوفة ، وكان له إخوة ثلاثة ، يقال لأحدهم : عبد شمس ـ قُتل يوم النّخيلة ـ ، والصقعب ـ قُتل يوم الجمل ـ ، وعبدالله ـ قُتل يوم الجمل ـ ... وكان من وُلد مِخْنف بن سليم ، أبو مِخْنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخْنف بن سليم ، يُروى عنه أيّام النّاس (١).

وذكره في أخبار البصرة عن غير أبي مِخْنف ، فقال : وعلى سبع بجيلة وأنمار وخثعم والأزد ، مِخْنف بن سليم الأزدي (٢).

وهذان النّقلان ليس فيهما ما يدلّ على أنّ مِخْنف بن سليم قُتل يوم الجمل ، ولكنّه روى في أخبار الجمل أيضاً رواية أخرى عن أبي مِخْنف ، عن عمّه محمّد بن مِخْنف قال : حدّثني عدّة من أشياخ الحيّ كلهم شهدوا الجمل ، قالوا : كانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مِخْنف بن سليم ، فقتل يومئذٍ فتناول الراية من أهل بيته الصقعب وأخوه عبدالله بن سليم فقتلوهم (٣).

وهذا يشترك مع ما ذكره في : ذيل المذيّل في مقتل أخوي مِخْنف الصقعب وعبدالله ، فلعلّه إنّما نقله فيه من تاريخه ، ويختلف معه في مقتل مِخْنف بن سليم ، إذ تقول هذه الرواية ، أنّه : قُتل يوم الجمل. وهذا ينافي ما رواه الطبري عن الكلبي عن أبي مِخْنف قال : حدّثني أبي يحيى بن سعيد ، عن عمّه محمّد بن مِخْنف ، قال : كنت مع أبي مِخْنف بن سليم يومئذٍ ، وأنا ابن سبع عشرة سنة ... (٤).

وكذلك روى عنه ، قال : حدّثني الحارث بن حصيرة الأزدي ، عن أشياخ

_________________

(١) المطبوع مع التاريخ ط دار القاموس ١٣ / ٦ ، وط دار سويدان ١١ / ٥٤٧.

(٢) الطبري ٤ / ٥٠٠ ، ط دار المعارف.

(٣) المصدر السّابق ٤ / ٥٢١.

(٤) المصدر السّابق ٤ / ٢٤٦.

١٣

من النّمر والأزد : أنّ مِخْنف بن سليم لمّا نُدبت الأزد للأزد [كره ذلك ...] (١).

وكذلك روى عن المدائني (٢٢٥ هـ) ، وعوانة بن الحكم (١٥٨ هـ) ، وهو بإسناده إلى شيخ من بني فزارة ، قال : بعث معاوية النّعمان بن بشير [الأنصاري] في ألفين ، فأتو (عين التمر) فأغاروا عليها ، وبها عامل لعلي (عليه السّلام) ، يقال له : [مالك بن كعب] الأرحبي في ثلثمئة ، فكتب إلى علي (عليه السّلام) يستمدّه. وكتب إلى مِخْنف بن سليم ـ وهو قريب منه ـ يسأله أنْ يمدّه ... فوجّه إليه مِخْنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلاً ، فانتهوا إلى مالك وأصحابه ... ، فلمّا رآهم أهل الشام ظنّوا أنّ لهم مدداً ، فانهزموا ومضوا على وجوههم (٢).

فهذه الأحاديث كلها تصرّح بحياة جدّه مِخْنف بن سليم بعد الجمل ، بل حتّى بعد صفّين ، فإنّ غارات معاوية ؛ إنّما كانت سنة (٣ ـ ٩ هـ) ، بعد وقعة صفّين (٣ ـ ٧ هـ) ، بينما تنفرد تلك الرواية بأنّه : قتل يوم الجمل كما سلف آنفاً ، ولمْ يفطن الطبري ؛ لذلك فلمْ يعلّق عليه بشيء مع تصريحه في ذيل المذيّل بحياته إلى سنة (٨٠ هـ) (٣).

ما يرويه نصر بن مزاحم المنقري في آل أبي مِخْنف :

على أنّ في غير الطبري أيضاً ما يدلّ على حياة مِخْنف بن سليم بعد الجمل وصفّين ؛ فيما يرويه نصر بن مزاحم المنقري (٢١٢ هـ) ، في كتابه وقعة صفّين :

عن يحيى بن سعيد عن محمّد بن مِخْنف ، قال : نظر علي (عليه السّلام) إلى أبي

_________________

(١) المصدر السّابق ٥ / ٢٦.

(٢) الطبري ٥ / ١٣٣ ، ط دار المعارف.

(٣) ذيل المذيّل / ٥٤٧ ، ط دار سويدان ، ج / ١١ من تاريخ الطبري.

١٤

ـ بعد رجوعه من البصرة ـ فقال (ع) : «لكن مِخْنف بن سليم وقومه لمْ يتخلّفوا ...» (١).

وقال ، قال أصحابنا : وبُعث مِخْنف بن سليم على إصبهان وهمذان ، وعُزل عنها جرير بن عبدالله البجلي ... (٢).

وقال : لمّا أراد المسير إلى الشام كتب إلى عمّاله ، فكتب إلى مِخْنف بن سليم كتاباً ، كتبه عبيد الله بن أبي رافع (سنة ٣ ـ ٧ هـ) ، فاستعمل مِخْنف على عمله رجلين من قومه وأقبل حتّى شهد مع علي صفّين (٣).

وقال : وكان مِخْنف بن سليم عن الأزد وبجيلة والأنصار وخزاعة (٤).

وقال : وكان مِخْنف يُساير عليّ (عليه السّلام) ببابل (٥).

وروى عن أشياخ من الأزد : إنّ مِخْنف بن سليم لمّا ندب أزد العراق إلى أزد الشام عظم عليه ذلك وكره ، وخطب فعظّمه وكرّهه إليهم (٦).

ولنا في حديث أبي مِخْنف عن عمّ أبيه محمّد بن مِخْنف ، حيث قال : كنت مع أبي مِخْنف بن سليم يومئذٍ ، وأنا ابن سبع عشرة سنة (٧) ـ استفادة كبرى : ـ فانّ ظاهر هذا الخبر أنّ سعيداً كان أصغر من أخيه محمّد فلمْ يشهد صفّين ، وإنّما نقل خبره عن أخيه محمّد ، وهذا الخبر يدلّ على أنّ محمّد بن مِخْنف وُلد سنة (٢٠ هـ) ، فيكون أخوه سعيد جدّ لوط أيضاً قريباً منه ، فيكون الذي من أصحاب علي (عليه السّلام) جدّ لوط : سعيد ، وليس حتّى أبوه يحيى ... فنقول ـ على أقلّ

_________________

(١) وقعة صفّين / ٨ ، ط المدنى.

(٢) المصدر السّابق / ١١.

(٣) المصدر السّابق / ١٠٤.

(٤) صفّين / ١١٧.

(٥) المصدر السّابق / ١٣٥.

(٦) المصدر السّابق / ٢٦٢. وفي تقريب التهذيب : أنّه استشهد بعين الوردة مع التوّابين سنة (٦٤ هـ) ، وهو غلط.

(٧) الطبري ٤ / ٢٤٦.

١٥

تقدير ـ : ليكن سعيد قد تزوّج وأنجب ابنه يحيى في العشرين من عمره ـ أي : في سنة ٤٠ هـ (١) ـ فلا مجال بعدُ لوجود لوط قطعاً ، ولا مجال لعدّ يحيى في أصحاب علي (عليه السّلام) ، ولنفترض أنّ يحيى أبا لوط أيضاً تزوّج وأنجب في العشرين من عمره ـ أي : في سنة ٦٠ هـ هذا أقلّ ما يكون ... ، ولنفترض أنّه بدأ بسماع الحديث في العشرين من عمره ـ أي : في سنة ٨٠ هـ وأنّه جمع أحاديث كتابه هذا في غضون عشرين سنة ـ أي : فرغ من تأليفه قرب المئة الأولى للهجرة ... ـ ولكن يبعد جدّاً أن يكون قد كتبه وأملاه على النّاس إذ ذاك ؛ وتدوين الحديث بعدُ مكروه جدّاً ، بل ممنوع فضلاً عن التاريخ والسّلطة بعدُ مروانيّة اُمويّة ، والظروف للشيعة وأخبارهم ظروف خوف وتقيّة.

ولنا في إشارة أبي مِخْنف في خبر دخول مسلم بن عقيل (عليه السّلام) إلى الكوفة إلى دار المختار بن أبي عبيد الثقفي ـ بقوله : وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب ـ إفادة : أنّه ألّف كتابه في المقتل في حدود الثلاثينات بعد المئة من الهجرة ، حيث إنّ مسلم بن مسيّب هذا كان في سنة (١٢٩ هـ) ، عامل ابن عمر

_________________

(١) فكيف يكون يحيى أبو أبي مِخْنف من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، كما ذكر الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في كتابيه؟ وقد سبقنا إلى هذا القول ، الفاضل الحائري في كتابه : منتهى المقال ، فاستدلّ على عدم ملاقاة أبي مِخْنف لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وضعّف قول الشيخ الطوسي في كتابيه بدرك يحيى (أبي لوط) له (عليه السّلام) ؛ بدليل أنّ جدّ أبيه مِخْنف بن سليم كان من أصحابه (عليه السّلام) ، كما صرح به الشيخ وغيره ، قائلاً : إنّ ذلك ممّا يشهد للشيخ بعدم درك لوط إيّاه (عليه السّلام) ، بل لعلّه يضعّف درك أبيه يحيى أيضاً إيّاه ، إنتهى.

فكون أبي مِخْنف من أصحاب الأمير (عليه السّلام) ـ كما ذكره الكشّي ـ غير ممكن ، ولا موجب لِمَا صدر من الشيخ الغفاري في مقدّمة مقتله من الاستدلال لإمكان اجتماع أبي مِخْنف حتّى مع جدّ أبيه مِخْنف بن سليم ، بكون عمر لوط خمس عشرة وعمر أبيه يحيى خمساً وثلاثين ، وعمر جدّه سعيد خمساً وخمسين وجدّ أبيه مِخْنف بن سليم خمساً وسبعين سنة ؛ فإنّ فيه ما عرفت من خبر أبي مِخْنف عن عمّ أبيه محمّد بن مِخْنف أنّه : كان له يوم صفّين سبع عشرة سنة ، وأنّ أخاه سعيداً لمْ يكن أكبر منه ، بل أصغر ؛ ولذلك لمْ يشهد صفّين وإنّما نقل خبره عن أخيه محمّد ، فيكون عمره زهاء خمس عشرة سنة ، لا خمساً وخمسين.

١٦

على شيراز ـ كما في : ٧ / ٧٢ وهو عهد ضعف الاُمويّين وقيام العباسيّين بالدعوة إلى الرضا من أهل البيت (عليه السّلام) ، والطلب بثارات الحسين وأهل بيته (عليه السّلام) ، ومن يدري لعلّ دعاة العباسيّين دعوا أبا مِخْنف إلى تأليف أخبار مقتل الحسين (عليه السّلام) ؛ لتأييد دعوتهم ، ثمّ لمّا بلغوا ما أرادوا تركوه ومقتله كما تركوا أهل البيت (عليه السّلام) ، بل حاربوهم.

مصنّفاته :

ذكر الشيخ النّجاشي له من المصنّفات :

كتاب المغازي ، كتاب الردّة ، كتاب فتوح الإسلام ، كتاب فتوح العراق ، كتاب فتوح خراسان ، كتاب الشورى ، كتاب قتل عثمان ، كتاب الجمل ، كتاب صفّين ، كتاب الحكمين ، كتاب النّهروان ، كتاب الغارات ، كتاب أخبار محمّد بن أبي بكر ، كتاب مقتل محمّد بن أبي بكر ، كتاب مقتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، كتاب أخبار زياد ، كتاب مقتل حجر بن عدي ، كتاب مقتل الحسن (عليه السّلام) ، كتاب مقتل الحسين (عليه السّلام) ، كتاب أخبار المختار ، كتاب أخبار ابن الحنفيّة ، كتاب أخبار الحجّاج بن يوسف الثقفي ، كتاب أخبار يوسف بن عمير ، كتاب أخبار شبيب الخارجي ، كتاب أخبار مطرّف بن مغيره بن شعبة ، كتاب أخبار الحريث بن الأسدي النّاجي ، كتاب أخبار آل مِخْنف بن سليم ... ثمّ ذكر طريقه إليه ، عن تلميذه : هشام الكلبي (١).

وذكر له الشيخ الطوسي في الفهرست بعض هذه الكتب ، ثمّ أضاف :

وله كتاب خطبة الزهراء (عليها السّلام) ، ثمّ ذكر طريقه إليه (٢).

_________________

(١) رجال النّجاشي / ٢٢٤ ، ط الحجرية ـ الهند.

(٢) الفهرست / ١٥٥ ، ط النّجف.

١٧

وذكر له ابن النّديم في الفهرس بعض هذه الكتب وعدّ ، منها : مقتل الحسين (عليه السّلام).

ومن الملاحظ عليه في قائمة كتبه : أنّه كان جلّ جهده موجّهاً إلى التصنيف في أخبار الشيعة ، وفي أخبار الكوفة بالخصوص ، وليس فيها كتاب في أخبار بني أميّة أو بني مروان ، ولا فيها كتاب عن قيام أبي مسلم الخراساني والدولة العبّاسيّة ، مع أنّه توفّي بعد كلّ هذا بخمس وعشرين سنة (١٥٨ هـ) ، بل آخر ما نرى في قائمة كتبه من تواريخه : كتاب أخبار الحجاج بن يوسف الثقفي ، وأخباره تنتهي بموته سنة (٩٥ هـ) ، إلاّ أنّ الطبري يروي عنه في تاريخه أخباراً إلى أواخر أيام الاُمويّين ، وبالتعيين إلى حوادث سنة (١٣٢ هـ) (١).

والملاحظ في أخباره المتناثرة في الكتب ولا سيّما في الطبري : أنّه يروي كثيراً منه ، عن أبيه أو عمّه أو أحد بني عمومته ، أو أشياخه من حيّ الأزد من الكوفيّين ؛ وهذا يدلّنا على أنّ كثرة وجود الأخبار في قومه هو الذي بعثه على جمعها وتأليف الكتب منه ؛ ولهذا نراه قد اقتصر على أخبار الكوفيّين حتّى أنّه عُدّ فيها أعلم من غيره بها.

مذهبه ووثاقته :

والملاحظ في أخباره عامّة أيضاً أنّه لمْ يروِ عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) (ت ٩٥ هـ) ، ولا عن الإمام الباقر (عليه السّلام) (ت ١١٥ هـ) ، مباشرةً ولا خبراً واحداً ، بل روى عن الإمام الباقر (عليه السّلام) بواسطة (٢) ، وعن الإمام علي بن الحسين (عليهما السّلام) بواسطتين (٣) ، وله بضع روايات عن الإمام

_________________

(١) انظر : ٧ / ٤١٧ ، خروج محمّد بن خالد بالكوفة سنة (١٣٢ هـ).

(٢) انظر : ٥ / ٤٤٨ ، خبر مقتل الرضيع في الطبري.

(٣) انظر : ٥ / ٤٨٨ ، خبر ليلة عاشوراء.

١٨

الصادق (عليه السّلام) (ت ١٤٨ هـ) ، بلا واسطة (١) ، وهذا ممّا يؤيده النّجاشي ـ ره ـ إذ قال ، وقِيل : إنّه روى عن أبي جعفر (عليه السّلام) ، ولمْ يصح (٢) ، ولمْ يروِ عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السّلام) ، مع أنّه عاش بعد الإمام الصادق (عليه السّلام) (ت ١٤٨ هـ) معاصراً للإمام الكاظم (عليه السّلام) عشر سنين ؛ ولهذا لمْ يعدّه أحد من أصحابه.

وهذا ممّا قد يدلّنا على أنّّه لمْ يكن شيعيّاً ، ومن صحابة الأئمة (عليه السّلام) بالمعنى المصطلح الشيعي الإمامي الذي يعبّر عنه العامّة ، بـ (الرافضي) ، وإنّما كان شيعيّاً في الرأي والهوى كأكثر الكوفيّين ، غير رافض لمذهب عامّة المسلمين آنذاك.

وقد يكون ممّا يؤيد هذا : أنّ أحداً من العامّة لمْ يرمه بالرفض ، كما هو المعروف من مصطلحهم : أنّهم لا يقصدون بالتشيّع سوى الميل إلى أهل البيت (عليه السّلام) ، وأمّا من علموا منه اتّباع أهل البيت (عليه السّلام) في مذهبه ؛ فإنّهم يرمونه بالرفض لا التشيّع فحسب ، وهذا هو الفارق في مصطلحهم بين الموردين. قال فيه الذهبي : أخباري تالف لا يُوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره. وقال ابن معين : ليس بثقة. وقال مرّة : ليس بشيء. وقال ابن عدي : شيعي محترق صاحب أخبارهم (٣) ، فلمْ يرمه أحد منهم بالرفض ، بينما نراهم يرمون مَن ثبت أنّه على مذهب أهل البيت (عليه السّلام) بالرفض.

ويصرّح ابن أبي الحديد بهذا ، فيقول : وأبو مِخْنف من المحدّثين ، وممّن يرى صحّة الإمامة بالإختيار ، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجاله (٤).

_________________

(١) انظر : ٥ / ٤٥٣ ـ ، خبر مصرع الحسين (عليه السّلام).

(٢) ص / ٢٢٤ ، ط الحجرية ـ الهند.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ / ٤٢٠ ، ط الحلبي. والمحترق بمعنى : المتعصب ، كما جاء في الميزان بشأن الحارث بن حصيرة ، هو من : المحترقين ، وليس المخترق كما قد يتوهم.

(٤) تأسيس الشيعة / ٢٣ ٥ ، ط بغداد. وقد عدّدت موارد رواية الطبري عن أبي مِخْنف ، فكان زهاء

١٩

نقل هذا السيّد الصدر في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ، ثمّ علّق عليه يقول ، قلت : لا يرمونه بغير التشيّع ، وهو عند أهل العلم منهم لا ينافي الوثاقة ، وقد اعتمد عليه أئمة السنّة كأبي جرير الطبري وابن الأثير ، خصوصاً ابن جرير قد شحن تاريخه الكبير من رواية أبي مِخْنف (١).

وقد عقد الإمام شرف الدين (رحمه الله) في كتابه : المراجعات ، فصلاً خاصاً عدّ فيه مئة من رجال الشيعة في أسناد السنّة ، بل حتّى صحاحهم ، وعيّن مواضعه (٢).

وخلاصة القول فيه : أنّه لا ينبغي التأمّل في كونه شيعيّاً لا إماميّ ، كما صرّح به ابن أبي الحديد فهو كلام متين ، وإنّما عدّه بعض العامّة شيعيّاً على ما تعوّدوا عليه بالنّسبة إلى من يميل إلى أهل البيت (عليه السّلام) بالمودّة والمحبّة والهوى ، ولمْ يصرّح أحد من علماء الشيعة السّابقين بتشيّعه ، وإنّما وصفه النّجاشي (رحمه الله) وهو خرّيت هذا الفن بأنّه : كان شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ، لا شيخ أصحابنا ، أو حتّى شيخ أصحاب أخبارنا. ولا عجب في تصريح ابن أبي الحديد بذلك ، وهو يروي عنه أرجازاً في وقعة الجمل في وصاية علي (عليه السّلام) لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فإنّ نقله لهذه الأراجيز لا يشهد بأكثر من تشيّعه في الرأي والهوى لا العقيدة بالإمامة ، كما يروي ذلك كثير من أهل السنّة.

والخلاصة : أنّ كون الرجل شيعيّاً ممّا لا ينبغي الريب فيه ، أمّا كونه إماميّاً فلا دليل عليه.

_________________

(٤٠٠) مورداً ، كما في فهرس الأعلام ٧ / ٤١٧ ، ط دار المعارف ، آخرها في خروج محمّد بن خالد بالكوفة سنة (١٣٢ هـ).

(١) تأسيس الشيعة / ٢٣٥ ، ط بغداد.

(٢) المراجعات / ١٦ ـ ١٧ ، ٥٢ ـ ١١٨ ، ط دار الصادق.

٢٠