المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٥

السبب في تأثيره على النفوس :

وبعد معرفة تلک الفوائد يبقي أن نسأل عن شيئين : (الاول) عن السبب في تأثير الشعر على النفس لاثارة تلک الانفعالات. و(الثاني) بماذا يکون الشعر شعرا أي مخيلا؟

والجواب على السؤال الاول ان نقول :

ان الشعر قوامه التخييل والتخييل من البديهي انه من أهم الاسباب المؤثرة على النفوس لان التخييل اساسه التصوير والمحاکاة والتمثيل لما يراد من التعبير عن معني والتصوير له من الوقع في النفوس ما ليس لحکاية الواقع بأداء مناه مجردا عن تصويره فان الفرق عظيم بين مشاهدة الشيء في واقعه وبين مشاهدة تمثيله بالصورة أو بمحاکاته بشيء آخر يمثله. اذ التصوير والتمثيل يثير في النفس التعجب والتخييل فتلتذ به وترتاح له وليس لواقع الحوادث المصورة والممثلة قبل تصويرها وتمثيلها ذلک الاثر من اللذة والارتياح لو شاهدها الانسان.

واعتبر ذلک فيمن يحاکون غيرهم في مشية أو قول أو انشاد او حرکة او نحو ذلک فانه يثير اعجابنا ولذتنا او ضحکنا مع انه لا يحصل ذلک الاثر النفسي ولا بعضه لو شاهدنا نفس المحکيين في واقعهم. وما سر ذلک الا التخييل والتصوير في المحاکاة.

وعلى هذا کلما کان التصوير دقيقا معبرا کان أبلغ أثرا في النفس. ومن هنا کانت السينما من اعظم المؤثرات على النفوس وهو سر نجاحها واقبال الجمهور عليها لدقة تعبيرها وبراعة تمثيلها عن دقائق الاشياء التي يراد حکايتها.

والخلاصة : ان تأثير الشعر في النفوس من هذا الباب لانه بتصويره يثير الاعجاب والاستغراب والتخييل فتلتذ به النفس وتتأثر به حسبما يقتضيه من التأثير. ولذا قالوا : ان الشاعر کالمصور الفنان الذي يرسم بريشته الصور المعبرة.

وحق ان نقول حينئذ : ان العر من الفنون الجميلة الغرض منه تصوير المعاني المراد التعبير عنها يکون مؤثرا في مشاعر الناس ولکنه تصوير بالالفاظ.

٤٠١

بماذا بكون الشعر شعرا

اذا عرفت ما تقدم فلنعد الى السؤال الثاني فنقول : بماذا يکون الشعر شعرا أي مخيلا؟ والجواب : ان التصوير في الشعر کما ألمعنا اليه في التمهيد يحصل بثلاثة اشياء :

١ ـ (الوزن) فان لکل وزن شأنا في التعبير عن حال من أحوال النفس ومحاکاته له ولهذا السبب يوجب انفعالا في النفس فمثلا بعض الاوزان يوجب الطيش والخفة وبعضها يقتضي الوقار والهدوء وبعضها يناسب الحزن والشجي وبعضها يناسب الفرح والسرور.

فالوزن على کل حال بحسب ما له من ايقاعات موسيقية يثير التخييل واللذة في النفوس. وهذا أمر غريزي في الانسان. واذا ادي الوزن بلحن ونغمة تناسبه مع صوت جميل کان أکثر ايقاعا وأشد تأثيرا في النفس لا سيما ان لکل نغمة صوتية ايضا تعبيرا عن حال : فالنغمة الغليظة مثلا تعبر عن الغضب والنغمة الرقيقة عن السرور وهيجان الشوق والنغمة الشجية عن الحزن. فاذا انضمت النغمة الى الوزن تضاعف أثر الشعر في التخييل ولذلک تجد الاختلاف الکثير في تأثير الشعر باختلاف انشاده بلحن وبغير لحن وباختلاف طرق الالحان وطريق الانشاد حتي قد يبلغ الى درجة النشوة والطرب فيثير عاطفة عنيفة عاصفة.

٢ ـ المسموع من القول يعني الالفاظ نفسها فان لکل حرف أيضا نغمة وتعبيرا عن حال کما ان تراکيبها لها ذلک الاختلاف في التعبير عن أحوال النفس والاختلاف في التأثير فيها فهناک مثلا ألفاظ عذبة رقيقة وألفاظ غليظة ثقيلة على السمع وألفاظ متوسطة.

ثم ان اللفظ المسموع ايضا تأثيرا في التخييل اما من جهة جوهره کأن يکون فصيحا جزلا أو من جهة حيلة بترکيبه کما في أنواع البديع المذکورة في علمه وکالتشبيه والاستعارة والتورية ونحوها المذکورة في علم البيان.

٣ ـ نفس الکلام المخيل أي معاني الکلام المفيدة للتخييل وهي القضايا

٤٠٢

المخيلات التي هي العمدة في قوام الشعر ومادته التي يتألف منها.

واذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة کان الشعر کاملا وحق أن يسمي (الشعر التام). وبها يتفاضل الشعراء وتسمو قيمته الى أعلي المراتب أو تهبط الى الحضيض. وبها تختلف رتب الشعراء وتعلو وتنزل درجاتهم : فشاعر يجري ولا يجري معه فيستطيع ان بتصرف في النفوس حتي يکاد تکون له منزلة الانبياء من ناحية التأثير على الجماهير وشاعر لا يستحق الا ان تصفعه وتحقره حتي يکاد يکون اضحوکة للمستهزئين وبينهما درجات لا تحصي.

أكذبه أعذبه

من المشهورات عند شعراء اللغة العربية فولهم : «الشعر اکذبه اعذبه» وقد استخف بعض الادباء المحدثين بهذا القول ذهابا الى ان الکذب من اقبح الاشياء فکيف يکون مستملحا مضافا الى ان القيمة للشعر انما هي بالتصوير المؤثر فاذا کان کاذبا فليس في الکذب تصوير لواقع الشيء.

وهذا النقد حق لو کان المراد من الشعر الکاذب مجرد الاخبار عن الواقع کذبا. غير ان مثل هذا الاخبار کما تقدم ليس من الشعر في شيء وان کان صادقا. وانما الشعر بالتصوير والتخييل. ولکن يجب ان نفهم أن تصوير الواقع تارة يکون بما له من الحقيقة الواقعة بلا تحوير ولا اضافة شيء لعي صورته ولا مبالغة فيه او حيلة في تمثيله. ومثل هذا يکون ضعيف التأثير على النفس ولا يوجب الالتذاذ المطلوب.

وتارة أخري يکون بصورة تخييلية على ما نوضحه فيما بعد بأن تکون کالرتوش التي تصنع للصورة الفوترغرافية اما بتحسين أو بتقبيح مع ان الواقع من ملامح ذي الصورة محفوظ فيها أو کالصورة الکاريکاتورية التي تحکي صورة الشخص بملامحه المميزة له مع مايفيض عليها المصور من خياله من تحريفات للتعبير عن بعض اخلاقه أو حالاته أو افکاره او نحو ذلک.

فهذا التعبير أو التصوير من جهة صادق ومن جهة أخري کاذب ولکنه في عين کونه کاذبا هو صادق. وهذا من العجيب. ولکن معناه ان المراد الجدي أي

٤٠٣

المقصود بيانه واقعا وجدّا من هذا التخييل صادق في حين ان نفس التخييل الذي ينبغي ان نسميه المراد الاستعمالي کاذب.

وليتضح لک هذا المعني تأمل نظيره في تصوير الصورة الکاريکاتورية فان المصور قد يضفي على الصورة ما يدل على الغضب أو الکبرياء من ملامح تخيلها المصور وليست هي حقيقية لصاحب الصورة بالشکل الذي تخيله المصور وهي مراد استعمالي کاذب. أما المراد الجدي وهو بيان أن الشخص غضوب أو متکبر فان التعبير عنه يکون صادقا لو کان الشخص واقعا کذلک أي غضوبا أو متکبرا. فاذن انما التخييل الکاذب وقع في المراد الاستعمالي لا الجدي.

وکذلک نقول في الشعر ولا سيما ان أکثر ما يأتي فيه التخييل بالمبالغات کالمبالغة بالمدح او الذم أو التحسين او التقبيح والمبالغة ليست کذبا في المراد الجدي اذا کان واقعه کذلک ولکنها کاذبة في المراد الاستعمالي. وليس هذا من الکذب القبيح المذموم ما دام هو ليس مرادا جديّاً يراد الاخبار عنه حقيقة.

مثلا قد يشبه الشعراء الخصر الدقيق بالشعرة الدقيقة فهذا تصوير لدقة الخصر. فان أريد به الاخبار حقيقة وجدّا عن ان الخصر دقيق کالشعرة أي أن المراد الجدي هو ذلک فهو کذب باطل وسخيف وليس فيه أي تأثير على النفس ولا تخييل فلا يعد شعرا. ولکن في الحقيقة ان المراد الجدّي منه اعطاء صورة للخصر الدقيق لبيان أن حسنه في دقته يتجاوز الحد المألوف في الناس وانما يکون هذا کاذبا إذا کان الخصر غير دقيق لان الواقع يخالف المراد الجدي. اما المراد الاستعمالي وهو التشبيه بالشعرة فهو کاذب ولا ضير فيه ولا قبح ما دام المراد به التوصل الى التعبير عن ذلک المراد الجدي بهذه الصورة الخيالية.

وبمثل هذا يکون التعبير تخييلا مستغربا وصورة خيالية قد تشبه المحال فتجلب الانتباه وتثير الانفعال لغرابتها.

وکلما کانت الصورة الخيالية غريبة بعيدة تکون أکثر أثرا في التذاذ النفس واعجابها. ولذا نقول ان الشعر کلما کان مغرقا في الکذب في المراد الاستعمالي بذلک

٤٠٤

المعني من الکذب کان أکثر عذوبة وهذا معني (اکذبه اعذبه) لا کما ظنه بعض من لا قدم لا ثابتة في المعرفة. على ان التخييل وان کان کاذبا حقيقة أي في مراده الجدي أيضا فانه يأخذ أثره من النفس کما سنوضحه في البحث الآتي :

القضايا المخيلات وتأثيرها

ونزيد على ما تقدم فنقول :

ان المخيلات ليس تأثيرها في النفس من أجل انها تتضمن حقيقة يعتقد بها بل حتي لو علم بکذبها فان لها ذلک التأثير المنتظر منها لانه ما دام ان القصد منا هو التأثير على النفوس في احساساتها وانفعالاتها فلا يهم ألا تکون صادقة اذ ليس الغرض منها الاعتقاد والتصديق بها.

والجمهور والنفوس غير المهذبة تتأثر بالمخيلات اکثر من تأثرها بالحقائق العلمية لان الجمهور أو الفرد غير المهذب عاطفي أکثر من أن يکون متبصرا وهو اطوع للتخييل من الاقناع.

الا تري ان الکلام المخيل الشعري قد يجب أمرا مبغوضا للنفس وقد يبغض شيئا محبوبا لها. واعتبر ذلک في اشمئزاز بعض الناس من أکلة لذيذة قد أقبل على أکلها فقيل له : انه وقع فيها بعض ما تعافه النفس کالخنفساء مثلا أو شبهت له ببعض المهوّعات. فان الخيال حينئذ قد يتمکن منه فيعافها حتي له علم بکذب ما قيل.

ولا تنس القصة المشهورة لملک الحيرة النعمان بن المنذر مع نديمه الربيع وقد کان يأکل معه فجاءه لبيد الشاعر وهو غلام مع قومه للانتقام من الربيع في قصة مشهورة في مجامع الامثال فقال لبيد مخاطبا للنعمان :

مهلا أبيت اللعن لا تأکل معه

ان استه من برص ملمعه

وانه يدخل فيها اصبعه

يدخلها حتي يواري اشجعه

فرفع النعمان يده من الطعام وتنکر لنديمه هذا وأبي ان يستکشف صدق هذا

٤٠٥

القول فيه بالرغم على الحاحه وقال له ما ذهب مثلا من أبيات :

قد قيل ذلک ان حقا وان کذبا

فما اعتذارک من قول اذا قيلا

واعتبر ذلک أيضا في تصوير الانسان بهذه الصورة اللفظية البشعة (أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة. وهو ما بين ذلک يحمل العذرة). فان هذه صورة حقيقية للانسان ولکنها ليست کل ما له من صور وللنفس على کل حال محاسنها التي ينبغي ان يعجب بها لا سيما من صاحبها واعجاب المرء بنفسه وحبه لها أساس حياته کلها. ولکن مثل ذلک التصوير البشع يأخذ من النفس أثره من التنفر والاشمئزاز حتي لو کان أبعد شيء في التأثير في التصديق والاعتقاد بحقارة النفس. وسبب هذا التأثر النفسي هو التخيل الذي قد يقلع المتکبر عن غطرسته ويخفف من اعجابه بنفسه. وهذا هو المقصود من مثل هذه الکلمة.

واعتبر أيضا بالشعر العربي فکم رفع وضيعا أو وضع رفيعا وکم اثار الحروب واوري الاحقاد. وکم قرب بين المتباعدين وآخي بين المتعادين. ورب بيت صارسبة لعشيرة وآخر صار مفخرة لقوم. على ان کل ذلک لم يغير واقعا ولا اعتقادا. ومرد ذلک کله الى الانفعالات النفسية وحدها وقد قلنا إنها اعظم تأثيراً على الجمهور الذي هو عاطفي بطبعه وعلى الافراد غير المهذبة التي تتغلب عليها العاطفة أکثر من التبصر.

والخلاصة : ان التصوير والتخييل مؤثر في النفس وان کان کاذبا بل وقد سبق کلما کانت الصورة أبعد واغرب کانت ابلغ أثرا في اعجاب النفس والتذاذها. وأحسن مثال لذلک قصص الف ليلة وليلة وکليلة ودمنة والقصص في الادب الحديث.

والسبب الحقيقي لانفعال النفس بالقضايا المخيلات الاستغراب الذي يحصل لها بتخييلها على ما أشرنا اليه فيما تقدم.

ألا تري ان المضحکات والنوادر عند أول سماعها تأخذ اثرها في النفس من ناحية اللذة والانبساط اکثر مما لو تکررت وألفت الآذان سماعها. بل قد تفقد مزيتها

٤٠٦

وتصبح تافهة باهتة لا تهتز النفس لها. بل قد يؤثر تکرارها الملل والاشمئزاز.

واذا قيل في بعض الشعر انه «هو المسک ما کررته يتضوع» فهو من مبالغات الشعراء. واذا صح ذلک فيمکن ذلک لاحد وجهين : (الاول) ان يکون فيه من المزايا والنکات ما لا يتضح لاول مرة أولا يتمثل للنفس جيدا فاذا تکررت قراءته استمري أکثر وانکشفت مزاياه بصورة أجلي فتتجدد قيمته بنظر المستمع. (الثاني) ان عذوبة اللفظ وجزالته لا تفقد مزيتها بالتکرار وليست کالتخييل.

هل هناك قاعده للقضايا المخيلات؟

قد تقدم ان قوام الشعر بثلاثة أمور : الوزن والالفاظ والمعاني المخيلة فلا بد لمن يريد أن يقن صناعة الشعر من الرجوع الى القواعد التي تضبط هذه الامور فنقول :

أما (الوزن والألفاظ) فلها قواعد مضبوطة في فنون معروفة يمکن الرجوع اليها وليس في علم المنطق موضع ذکرها لان المنطق انما يهمه النظر في الشعر من ناحية تخييلية فقط.

واما (الوزن) من ناحية ماهيته فانما يبحث عنه في علم الموسيقي. ومن ناحية الستعماله وکيفيته فيبحث عنه في علم العروض.

واما (الالفاظ) فيهي من شأن علوم اللغة وعلوم البلاغة والبديع.

وعلى هذا فلا بد للشاعر من معرفة کافية بهذه الفنون اما بالسليقة أو بالتعلم والممارسة مع ذوق يستطيع به ان يدرک جزالة اللفظ وفصاحته ويفرق بين الالفاظ من ناحية عذوبتها وسلاستها. والناس تتفاوت تفاوتا عظيما في أذواقها وان کان لکل امة ولکل أهل لغة ذوق عام مشترک. وللممارسة وقراءة الشعر الکثير الاثر الکبير في تنمية الذوق وصقله.

أما (القضايا المخيلات) فليس لها قاعدة مضبوطة يمکن تحريرها والرجوع اليها لانها ليست من قبيل القضايا المشهورات والمظنونات يمکن حصرها وبيان أنواعها اذ القضايا المخيلات کما سبق کلما کانت بعيدة نادرة وغريبة مستبعدة

٤٠٧

کانت أکثر تأثيرا في التخييل والتذ اذ النفس. وقد سبق أيضا بيان السبب الحقيقي في انفعال النفس بهذه القضايا.

وعليه فالقضايا المخيلات لايمکن حصرها في قواعد مضبوطة بل «الشعراء في کل وادٍ يهيمون». وليس لهم طريق واحد مستقيم معلوم.

من اين تتولد ملكه الشعر؟

لا يزال غير واضح لنا سر ندرة الشعراء الحقيقيين في کل امة. بل لا تجد من کل امة من تحصل له قوة الشعر في رتبة عالية فينبغ فيه ويتمکن من الابداع والاختراع الا النادر القليل وفي فترات متباعدة قد تبلغ القرون.

ومن العجيب أن هذه الملکة على ما بها من اختلاف في الشعراء قوة وضعفا لا تتولد في أکثر الناس وان شارکوا الشعراء في تذوق الشعر وممارسته وتعلمه.

وکل ما نعلمه عن هذه الملکة أنها موهبة ربانية کسائر مواهبه تعالي التي يختص بها بعض عباده کموهبة حسن البيان أو الخطابة أو التصوير أو التمثيل ... وما الى ذلک مما يتعلق بالفنون الجميلة وغيرها.

ومن أجل هذا الاختصاص الرباني اعتبر الشعراء نوابغ البشر. وقد وجدنا العرب کيف کانت تعتز بشعرائها فاذا نبغ في قبيلة شاعر أقاموا له الاحتفالات وتهنئها به القبائل الاخري. ولو کان يتمکن اکثر الناس من ان يکونوا شعراء لما صحت منهم هذه العناية بشاعرهم ولم عدّوه نبوغا.

غير أن هذه الموهبة کسائر المواهب الاخري تبدأ في تکوينها في النفس کالبذرة لا يحس بها حتي صاحبها فاذا اکتشفها صاحبها من نفسه صدفة وسقاها بالتعليم والتمرين تنمو وتستمر في النمو حتي قد تصبح شجرة باسقة تؤتي اکلها کل حين. ولکن اکتشاف الموهبة ليس بالامر الهين وقد يکتشفها الغير العارف قبل صاحبها نفسه. وقد تذوي وتموت المواهب في کثير من النفوس اذا أهملت في السن المنکر لصاحبها.

٤٠٨

صله الشعر بالعقل الباطن :

والحق أن الشاعر البارع کالخطيب البارع يستمد في ابداعه من عقله الباطن اللاشعوري فيتدفق الشعر على لسانه کالالهام من حيث يدري ولا يدري على اختلاف عظيم للشعراء والخطباء في هذه الناحية.

وليس الشعر والخطابة کسائر الصناعات الاخري التي يبدع فيها الصانع عن روية وتأمل دائما. والى هذا أشار صحار العبدي لما سأله معاوية : ما هذه البلاغة فيکم؟ فقال : «شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا کما يقذف البحر الدرر» وهذه لفتة بارعة من هذا الاعرابي ادرکها بفطرته وصورها على طبع سجيته.

ومن أجل ما قلناه من استمداد الشاعر من منطقة اللاشعور تجده قد لا يواتيه الشعر وهو في أشد ما يکون من يقظته الفکرية ورغبته الملحة في انشائه. قال الفرزدق : «قد يأتي على الحين وقلع ضرس عندي اهون من قول بيت شعر».

وبالعکس قد يفيض الشعر ويتدفق على لسان الشاعر من غير سابق تهيؤ فکري والشعراء وحدهم يعرفون مدي صحة هذه الحقيقة من أنفسهم.

واحسب انه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصة دن لکل شاعر شيطانا أو جنيا يلقي عليه الشعر. والغريب أن بعضهم تخيله شخصا يمثل له وأسماه باسم مخصوص. وکل ذلک لانهم رأوا من انفسهم ان الشعر يواتيهم على الاکثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسيره بغير الشيطان والجن.

وعلى کل حال فان قوة الشعر اذا کانت موجودة في نفس الفرد لا تخرج کما تقدم من حد القوة الى حد الفعلية اعتباطا من دون سابق تمرين وممارسة للشعر بحفظ وتفهم ومحاولة نظمه مرة بعد أخري. وقد أوصي بعض الشعراء ناشئا ليتعلم الشعر ان يحفظ قسما کبيرا من المختار منه ثم يتناسره مدة طويلة ثم يخرج الى الحدائق الغناء ليستلهمه وکذلک فعل ذلک الناشيء فصار شاعرا کبيرا.

__________________

١ ـ راجع العقد الفريد الجزء ٣ ص ٤٢١.

٤٠٩

ان الامر بحفظه وتناسيه فلسفة عميقة في العقل الباطن توصل اليها ذلک الشاعر بفطرته وتجربته : ان هذا هو شحن القوة للعقل الباطن لتهيئته لالهام الشعور في ساعة الانشراح والانطلاق التي هي إحدي ساعات تيقظ العقل الباطن وانفتاح المجري النفسي بين منطقتي اللاشعور والشعور أو بالاصح احدي ساعات اتحاد المنطقتين. بل هي من أفضل تلک الساعات. وما أعز انفتاح هذا المجري على الانسان الا على من خلق ملهما فيؤاتيه بلا اختيار.

٤١٠
٤١١

الفَصْلُ الخامِس

صناعة المغالطة

٤١٢
٤١٣

وفيها ثلاثة مباحث : المقدمات واجزاء الصناعة الذاتية واجزاء الصناعة العرضية.

المبحث الاول المقدمات

ـ ١ ـ

معني المغالطة وبماذا تتحقق

کل قياس نتيجته تکون نقضا لوضع من الاوضاع يسمي باصطلاح المنطقيين (تبکيتا) باعتبار انه تبکيت لصاحب ذلک الوضع.

فاذا کانت مواده من اليقينيات قيل له (تبکيت برهاني).

واذا کانت من المشهورات والمسلمات قيل له (تبکيت جدلي).

واذا لم تکن مواده من اليقينيات ولا من المشهورات والمسلمات أو کانت منها ولکن لم تکن صورة القياس صحيحة على حسب قوانينه فلا بد أن يکون القياس حينئذ شبيها بالحق واليقين أو شبيها بالمشهور مادة أو هيئة فيلتبس أمره لعي المخاطب ويروج عليه ويکون عنده في معرض التسليم لقصور فيه أو غفلة والا فلا يستحق ان يسمي قياسا.

وعلى هذا فهو ان کان شبيها بالبرهان سمي (سفسطائيا) وصناعته (سفسطة).

وان کان شبيها بالجدل سمي (مشاغبيا) وصناعته (مشاغبة).

__________________

١ ـ التبكيت لغة : التعنيف والتقريع اما بالسوط او السيف. ويستعمل في التعنيف بالكلام مجازاً.

٤١٤

وسبب کل من السفسطة والمشاغبة لا يخلو عن أحد شيئين : إما الغلط حقيقة من القايس وإما تعمد تغليط الغير وايقاعه في الغلط مع انتباهه الى الغلط. وعلى کل منهما يقال له (مغالط) وقياسه (مغالطة) باعتبار أنه في کلا الحالين يکون ناقضا لوضع ما.

وعلى هذا فـ (المغالطة) التي نعنيها هنا تشمل القسمين : الغلط وتعمد التغليط. ومن أجل ذلک الاعتبار (أي اعتبار نقضه لوضع ما) قيل له (تبکيت مغالطي) وان کان في الحقيقة تضليلا لا تبکيتا کما قد يقال له بحسب غرض آخر (امتحان او عناد) کما سيأتي.

* * *

واعلم ان سبب وقوع تلک المواد في القياس الذي يصح جعله قياسا هو رواجها على العقول. وسبب الرواج مشابهتها للحق أو المشهور. ولا تروج على العقول فيشتبه عليها الحال لو لا قلة التميير وضعف الانتباه فيخلط الذهن بين المتشابهين ويجعل الحکم الخاص باحدهما للآخر من غير أن يشعر بذلک سواء کان قلة التمييز والخلط من قبل نفس القايس أو من قبل المخاطب اذ يروج عليه ذلک.

وهذا نظير ما لو وضع الحاسب أحد العددين مکان الآخر لمشابهة بينهما فيشتبه عليه فيقع له الغلط في الحساب بجمع أو طرح أو نحوهما.

مثلا لو أن احدا تمثل في ذهنه معني من معاني المشترک في موضع معني آخر له وهو غافل عن استعماله في المعني الآخر فلا محالة يعطي للمعني الذي تمثله الحکم المختص بذلک المعني الآخر فيغلط وقد يتعمد ذلک ليوقع بالغلط غيره من قليلي التمييز.

والخلاصة : انه لولا قلة التمييز وضعف الانتباه والقصور الذهني لما تحققت مغالطة ولما تمت لها صناعة.

ومن سوء الحظ ان البشر مرتکس الى قمة رأسه بالمغالطات والخلافات بسبب القصور الذهني العام الذي لا يکاد يحلو منه انسان ولو قليلا الا من خصه

٤١٥

الله تعالي برحمته من عباده الصالحين الذين هم في الناس کالنقطة في البحر الخضم. (ان الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

ـ ٢ ـ

اغراض المغالطة

و(الغالطة) بمعني تعمد تغليط الغير قد تقع عن قصد صحيح لمصلحة محمودة مثل اختباره وامتحان معرفته فتسمي (امتحانا) أو مدافعته وتعجيزه اذا کان مبطلا مصرا على باطله فتسمي (عنادا).

وقد تقع عن غرض فاسد مثل الرياء بالعلم ولمعرفة والتظاهر في حبهما ومثل طلب التفوق على غيره.

والذي يدفع الانسان الى هذا الرياء وطلب التفوق شعوره بالنقص من الناحية العلمية فيريد في دخيلة نفسه أن يعوض عن هذا النقص. واذ يعرف من نفسه العجز عن التعويض بالطريق المستقيم وهو التعلم والمعرفة الحقيقية يلتجيء الى التظاهر بما يسد نقصه بزعمه.

وهو في هذا يشبه من يريد أن يستر نقصه في منزلته الاجتماعية بطريق التکبر والتعاظم أو يستر نقصه في عيوبه الاخلاقية بالطعن في الناس وغيبتهم.

ولذلک يلتجيء هذا الانسان الذي فيه مرکب النقص الى أن يلتمس طرق الحيل والمغالطات عند مواجهة أهل العلم ليظهر أمام الناس بمظهر العالم القدير فيجهد نفسه في تحصيل أصول المغالطة وقواعدها لتکون له ملکة ذلک والقدرة على المصاولة الخادعة. ولم يدر هذا المسکين أن الالتجاء الى الرياء والتظاهر کالالتجاء الى التکبر ونقد الناس تعبير صارخ عن نقصه الکامن في الوقت الذي يريد فيه خداعا لنفسه ان يستر على نقصه ويظهر بالکمال.

أعاذنا الله تعالي من الاباطيل والاحابيل وهدانا الصراط المستقيم

٤١٦

ـ ٣ ـ

فائدة هذه الصناعة

ومع کل ما قلناه فان لصناعة المغالطة فائدة لا يستهان بها لدي أهل العلم وذلک من ناحيتين :

١ ـ انه بها قد يتمکن الباحث من النجاة من الوقوع في الغلط ويحفظ نفسه من الباطل لانه اذا عرف مواقع المغالطة ومداخلها يعرف الطريق الى الهرب من الغلط والاشتباه.

٢ ـ انه بها قد يتمکن من مدافعة المغالطين وکشف مداخل غلطهم. وعلى هذا ففائدة الباحث من تعلم صناعة المغالطة کفائدة الطبيب في تعلمه للسموم وخواصها فانه يتمکن بذلک من الاحتراز منها ويستطيع أن يأمر غيره بالاحتراز ويداوي من يتناولها.

ثم لهذه الصناعة فائدة أخري وهي أن يقدر بها على مغالطة المغالط ومقابلة المغالطين المشعوذين بمثل طريقتهم کما قيل في المثل المشهور : «ان الحديد بالحديد يفلح» (١).

وقد سبق أن قلنا ان البشر مرتکس الى قمة رأسه بالمغالطات والخلافات فما أحوج طالب الحق السابح في بحر المعارف الى أن يزيح عنه الزبد الطافح على الماء من رواسب غلطات الماضين بمعرفة ما يصطنعه المغالطون من أوهام.

ولکن ذوي الطباع السليمة والآراء المستقيمة في غني غن معرفة مواضع الغلط بتعلم القوانين والاصول في هذه الصناعة فان لهم بمواهبهم الشخصية الکفاية وان کان لا تخلو هذه الصناعة من زيادة بصيرة لهم

__________________

١ ـ الفلح بفتحتين : الشق ومنه الفلاح للحراث الذي يشق الارض.

٤١٧

ـ ٤ ـ

موضوع هذه الصناعة وموادها

ليس موضوع هذه الصناعة محدودا بشيء خاص بل تناول کل ما تتعلق به صناعة البرهان والجدل : فموضوعاتها بازاء موضوعاتهما ومسائلها بازاء مسائلهما بل ان مباديها بازاء مباديهما أي ان مباديها مشابهة لمباديهما.

غير أن هاتين الصناعتين حقيقيتان وهذه صورية ظاهرية لان المشابهة بحسب الرواج والظاهر کما قلنا سابقا من جهة ضعف قوة التمييز والقصور الذهني.

ومواد هذه الصناعة هي المشبهات والوهميات على ما بيناه في مقدمة الصناعات. والوهميات من وجه داخلة في المشبهات باعتبار التوهم فيها أن المعقولات لها حکم المحسوسات

ـ ٥ ـ

اجزاء هذه الصناعة

ولهذه الصناعة جزءان کالجزءين في صناعة الخطابة : (احدهما) کالعمود في الخطابة وهي القضايا التي بذاتها تقتضي المغالطة وهي نفس التبکيت ولنسمها : (اجزاء الصناعة الذاتية).

(ثانيهما) کالاعوان في الخطابة وهي ما تقتضي المغالطة بالعرض وهي الامور الخارجة عن التبکيت کالتشنيع على المخاطب وتشويش افکاره باخجاله والاستهزاء به ونحو ذلک مما سيأتي. ولنسمها : (اجزاء الصناعة العرضية).

وقد عقدنا المبحث الثاني الآتي في الاجزاء الذاتية والمبحث الثالث في الاجزاء العرضية :

* * *

٤١٨

المبحث الثاني

اجزاء الصناعة الذاتية

تمهيد

إعلم ان الغلط الواقع في نفس التبکيت وهو القياسي المغالطي اما ان يقع من جهة مادته وهي نفس المقدمات أو من جهة صورته وهي التأليف بينها أو من الجهتين معا. ثم ان هناک غلطا يقع في القضايا وان لم تؤلف قياسا.

ثم الغلط الواقع في مادة القياس على ثلاثة أنواع :

١ ـ من جهة کذبها نفسها وقد ألبست بالصادقة أو شناعتها في نفسها وقد التبست بالمشهورة.

٢ ـ من جهة انها ليست غير النتيجة واقعا مع توهم أنها غيرها فتکون مصادرة على المطلوب.

٣ ـ من جهة انها ليست اعرف من النتيجة مع ظن انها أعرف.

ثم ان النوع الاول (وهو الکذب أو الشناعة والالتباس بالصادقة أو المشهورة) أهم الانواع واکثر ما تقع المغالطات من جهتة. وهو تارة يکون من جهة اللفظ وأخري من جهة المعني.

فهذه جملة أنواع الغلط.

ثم يمکن ارجاع الانواع الاخري حتي الغلط من جهة صورة القياس الى الغلط من جهة المعني. فتقسم أنواع المغالطات الى قسمين رئيسين :

١ ـ المغالطات اللفظية

٢ ـ المغالطات المعنوية

(فنعقدها في بحثين)

٤١٩

ـ ١ ـ

المغالطات الفظيه

ان الغلط من جهة لفظية اما أن يقع في اللفظ المفرد أو المرکب :

(الاول) ما في اللفظ المفرد. وهو على ثلاثة أنواع :

١ ـ ما يکون في جوهر اللفظ من جهة اشتراکه بين اکثر من معني. ويسمي (اشتراک الاسم).

٢ ـ ما يکون في حال اللفظ وهيئته في نفسه. وذلک للاشتباه بسبب اتحاد شکله.

٣ ـ ما يکون في حال اللفظ وهيئته ولکن بسبب أمور خارجة عنه عارضة عليه. وذلک للاشتباه بسبب اختلاف الاعراب والاعجام.

(الثاني) ما في اللفظ المرکب. وهو على ثلاثة أنواع أيضا :

١ ـ ما يکون نفس الترکيب يقتضي المغالطة. ويسمي (المماراة).

٢ ـ ما يکون توهم وجود الترکيب يقتضيها. وذلک بأن يکون الترکيب معدوما فيتوهم أنه موجود. ويسمي (ترکيب المفصل).

٣ ـ ما يکون توهم عدمه يقتضيها. وذلک بان يکون الترکيب موجودا فيتوهم انه معدوم. ويسمي (تفصيل المرکب).

فالمغالطات اللفظية اذن تنحصر في ستة أنواع. فلنشر اليها بالترتيب المتقدم :

١ ـ المغالطة باشتراک الاسم

ليس المراد بالاشتراک هنا الاشتراک اللفظي المتقدم معناه في الجزء الاول بل المراد منه ان يکون اللفظ صالحا للدلالة على أکثر من معني واحد بأي نحو

٤٢٠