المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٥

ومن هذا الکلام يعلم ويتضح أنه ليس على المطلوب الواحد في الحقيقة الا برهان لمّي واحد مشتمل على جميع العلل بالفعل أو بالقوة وان تعددت البراهين بحسب الظاهر بتعدد العلل حسب اختلافها فالسؤال بلم انما يطلب به معرفة العلة التامة فاذا أجيب بالعلة الناقصة فانه لا ينقطع السؤال بلم. وما دام هنا شرط او جزء من العلة لم يذکر فالسؤال باق حتي يجاب بجميع العلل التي تتألف منها العلة التامة. وحينئذ يسقط السؤال بلم وينقطع.

ـ ٩ ـ

شروط مقدمات البرهان

ذکروا لمقدمات البرهان شروطا ارتقت في أکثر عبارتهم الى سبعة وهي :

١ ـ أن تکون المقدمات کلها يقينية (وقد سبق ان ذلک هو المقوم لکون القياس برهانا وتقدم أيضا معني اليقين هنا). فلو کانت احدي مقدمتيه غير يقينية لم يکون برهانا وکان إما جدليا أو خطابيا أو شعريا أو مغالطيا على حسب تلک المقدمة. ودائما يتبع القياس في تسميته أخس مقدماته.

٢ ـ أن تکون المقدمات اقدم واسبق بالطبع من النتائج لانها لا بد أن تکون عللا لها بحسب الخارج. وهذا الشرط مختص ببرهان (لم).

٣ ـ أن تکون أقدم عند العقل بحسب الزمان من النتائج حتي يصح التوصل بها الى النتائج. فان الاقدم في نفس الامر وهو الاقدم بالطبع شيء والاقدم بالنسبة الينا وبحسب عقولنا شيء آخر فانه قد يکون ما هو الاقدم بحسب الطبع کالعلة ليس أقدم بالنسبة الى عقولنا بأن يکون العلم بالمعلول أسبق واقدم من العلم بها فانه لا يجب في کل ما هو اقدم بحسب الطبع ان يکون أقدم عند العقل في المعرفة.

٤ ـ أن تکون اعرف من المعرّف. ومعني انها اعرف ان تکون اکثر وضوحا ويقينا لتکون سببا لوضوح النتائج بداهة ان الوضوح واليقين يجب ان يکون اولا وبالذات للمقدمات وثانيا وبالعرض للنتائج.

٣٢١

٥ ـ ان تکون مناسبة للنتائج ومعني مناسبتها ان تکون محمولاتها ذاتية أولية لموضوعاتها على ما سيأتي من معني الذاتي والاوّلي هنا لان الغريب لا يفيد اليقين بما لا يناسبه لعدم العلة الطبيعية بينهما. وبعبارة أخري کما قال الشيخ الرئيس في کتاب البرهان من الشفاص ٧٢ ـ «فان الغريبة لا تکون عللا ولو کانت المحمولات البرهانية يجوز ان تکون غريبة لم تکن مباديء البرهان عللا فلا تکون مباديء البرهان عللا للنتيجة».

٦ ـ أن تکون ضرورية اما بحسب الضرورة الذاتية او بحسب الوصف. وليس المراد من (الضروري) هنا المعني المقصود منه في القياس فانه اذا قيل هناک : (کل حـ ب بالضرورة) يعنون به أن کل ما يوصف بانه (حـ) کيفما اتفق وصفه به فهو موصوف بانه (ب) بالضرورة وان لم يکن موصوفا بأنه (حـ) بالضرورة. وأما هنا فيعنون به المشروطة العامة أي ان کل ما يوصف بانه (حـ) بالضرورة فانه موصوف بانه (ب).

٧ ـ أن تکون کلية. وهنا أيضا ليس المراد من (الکلية) المعني المراد في القياس. بل المراد أن يکون محمولها مقولا على جميع اشخاص الموضوع في جميع الازمنة قولا أوليّاً وان کان الموضوع جزئيا أو مهملا فالکلية هنا يصح ان تقابلها الشخصية. والمقصود من معني الکلية في القياس ان يکون المحمول مقولا على کل واحد وان لم يکن في کل زمان. ولم يکن الحمل أوليا فتقابل الکلية هناک القضية الجزئية والمهملة.

وهذان الشرطان الاخيران يختصان بالنتائج الضرورية الکلية فلو جوزنا ان تکون نتيجة البرهان غير ضرورية وغير کلية فما کان بأس في ان تکون احدي المقدمات ممکنة اوغير کلية بذلک المعني من الکلية لانه ليس يجب في جميع مطالب العلوم ان تکون ضرورية او کلية الا أن يراد من الضرورية ضرورية الحکم وهو الاعتقاد الثاني وان کانت جهة القضية هي الامکان فان اليقين کما تقدم يجب ان يکون الاعتقاد الثاني فيه لا يمکن زواله. ولکن هذا الشرط عين اشتراط يقينية المقدمات وهو الشرط الاول.

٣٢٢

ـ ١٠ ـ

معني الذاتي في كتاب البرهان

تقدم انه يشترط في مقدمات البرهان ان تکون المحمولات ذاتية للموضوعات وللذاتي في عرف المنطقيين عدة معاني احدهما الذاتي في کتاب البرهان. ولا بأس ببيانها جميعا ليتضح المقصود هنا فنقول :

١ ـ الذاتي في باب الکليات ويقابله (العرضي). وقد تقدم في الجزء الاول.

٢ ـ الذاتي في باب الحمل والعروض ويقابله (الغريب) اذا يقولون : «ان موضوع کل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية». وهوله درجات وفي الدرجة الاولي ما کان موضوعه مأخوذا في حده کالانف في حد الفطوسة حينما يقال (الانف افطس) فهذا المحمول ذاتي لموضوعه لأنه اذا أريد تعريف الافطس أخذ الانف في تعريفه. ثم قد يکون موضوع المعروض له مأخوذا في حده کحمل المرفوع على الفاعل فان الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع ولکن الکلمة التي هي معروضة للفاعل تؤخذ في تعريفه کما تؤخذ ف تعريف الفاعل. وقد يکون جنس المعروض له مأخوذا في حده کحمل المبني على الفعل الماضي مثلا فان الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني ولکن جنسه وهو الکلمة هي التي تؤخذ في حده بل معروض المفعولية وهو الکلمة تؤخذ في حده. ويمکن جمع هذه المحمولات الذاتية بعبارة واحدة فيقال : (المحمول الذاتي للموضوع ما کان موضوعه أو احد مقوماته واقعا في حده) لأن جنس الموضوع مقوم له وکذا معروضه لأنه يدخل في حده وکذا معروض جنسه کذلک.

٣ ـ (الذاتي) في باب الحمل أيضا وهو ما کان نفس الموضوع في حد ذاته کافيا لانتزاع المحمول بدون حاجة الى ضم شيء اليه وهو الدي يقال له : (المنتزع عن

٣٢٣

مقام الذات) ويقابله ما يسمي المحمول بالضميمة مثل حمل الموجود على الوجود وحمل الابيض على البياض لا مثل حمل الموجود على اماهية وحمل الابيض على الجسم فان هذا هو المحمول بالضميمة فان الماهية موجودة ولکن لا بذاتها بل لعروض الوجود عليها والجسم أبيض ولکن لا بذاته بل لضم البياض اليه وعروضه عليه بخلاف حمل الموجود على الوجود فانه ذاتي له بدون ضم وجود آخر له بل بنفسه موجود وکذا حمل الابيض على البياض فانه ابيض بذاته بدون ضم بياض آخر اليه فهو ذاتي له.

٤ ـ (الذاتي) في باب الحمل أيضا ولکنه في هذا القسم وصف لنفس الحمل لا للمحمول کما في الاصطلاحين الاخيرين فيقال الحمل الذاتي ويقال له الاوّلي أيضا ويقابله الحمل الشايع الصناعي وقد تقدم ذلک في الجزء الاول.

٥ ـ (الذاتي) في باب العلل ويقابله (الاتفاقي) مثل ان يقال : اشتعلت النار فاحترق الحطب وابرقت السماء فقصف الرعد فانه لم يکن ذلک اتفاقيا بل اشتعال النار يتبعه احراق الحطب اذا مسها والبرق يتبعه الرعد لذاته لا مثل ما يقال : فتح الباب فابرقت السماء او نظر لي فلان فاحترق حطبي او حسدني فلان فأصابني مرض فان هذه وأمثالها تسمي أموراً اتفاقية. اذا عرفت هذه المعاني للذاتي فاعلم ان مقصودهم من الذاتي في کتاب البرهان ما يعم المعني الاول والثاني ويجمعهما في البيان ان يقال : «الذاتي هو المحمول الذي يؤخذ في حد الموضوع أو الموضوع أو احد مقوماته يؤخذ في حده».

ـ ١١ ـ

معني الاولي

والمراد من الأوليّ هنا هو المحمول لا بتوسط غيره أي لايحتاج الى واسطة في العروض في حمله على موضوعه کما نقول : حسم ابيض وسطح ابيض فان حمل ابيض على السطح حمل أولي اما حمله على الجسم فبتوسط السطح فکان واسطة في العروض لان حمل الابيض على السطح أولاً وبالذات ولعي الجسم ثانياً وبالعرض

٣٢٤

والتدقيق في معني الذاتي والاولي له موضع آخر لا يسعه هذا المختصر.

ولکن مما يجب ان يعلم هنا ان بعض کتب أصول الفقة المتأخرة وقع فيها تفسير الذاتي الذي هو في باب موضوع العلم المقابل له الغريب بمعني الأوّلي المذکور هنا. فوقعت من أجل ذلک اشتباهات کثيرة نستطيع التخلص منها اذا فرقنا بين الذاتي والاولي ولا نخلط احدهما بالاخر

٣٢٥

صناعة الجدل أو آداب المناظرة

صناعة الجدل أو آداب المُناظرة ونصعها في ثلاثة مباحث : الاول في القواعد والاصول الثاني في المواضع الثالث في الوصايا.

المبحث الاول : القواعد والاصول

ـ ١ ـ

مصطلحات هذه الصناعه

لهذه الصناعة ککل صناعة مصطلحات خاصة بها والآن نذکر بعضها في المقدمة للحاجة فعلا ونرجيء الباقي الى مواضعه.

١ ـ کلمة (الجدل) إن الجدل لغة هو اللدد واللجاج في الخصومة بالکلام مقارناً غالباً لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والانصاف. ولذا نهت الشريعة الاسلامية عن المجادلة لا سيما في الحج والاعتکاف.

وقد نقل مناطقة العرب هذه الکلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمي باليونانية (طوبيقا).

وهذه لفظة (الجدل) أنسب الالفاظ العربية الى معني هذه الصناعة على ما سيأتي توضيح المقصود بها حتي من مثل لفظ المناظرة والمحاورة والمباحثة وان کانت کل واحدة منها تناسب هذه الصناعة في الجملة کما استعملت کلمة (المناظرة) في هذه الصناعة أيضا فقيل (آداب المناظرة) وألفت بعض المتون بهذا الاسم.

وقد يطلقون لفظ (الجدل) أيضا على نفس استعمال الصناعة کما أطلقوه على ملکة استعمالها فيريدون به حينئذ القول المؤلف من المشهورات أو المسلمات الملزم

٣٢٦

للغير والجاري على قواعد الصناعة. وقد يقال له أيضا : القياس الجدلي أو الحجة الجدلية أو القول الجدلي. أما مستعمل الصناعة فيقال له : (مجادل) و(جدلي).

٢ ـ كلمة (الوضع). ويراد بها هنا (الرأي المعتقد به أو الملتزم به) کالمذاهب والملل والنحل والاديان والآراء السياسية والاجتماعية والعلمية وما الى ذلک. والانسان کما يعتنق الرأي ويدافع عنه لانه عقيدته قد يعتنقه لغرض آخر فيتعصب له ويلتزمه وان لم يکن عقيدة له فالرأي على قسمين : رأي معتقد به ورأي ملتزم به وکل منهما يتعلق به غرض الجدلي لاثباته أو نقضه فأراد اهل هذه الصناعة ان يعبروا عن القسمين بکلمة واحدة جامعة فاستعملوا کلمة (الوضع) اختصاراً ويريدون به مطلق الرأي الملتزم سواء أکان معتقدا به أم لا.

کما قد يسمون أيضا نتيجة القياس في الجدل (وضعا) وهي التي تسمي في البرهان (مطلوبا). وعلى هذا يکون معني الوضع قريبا من معني الدعوي التي يراد اثباتها أو ابطالها.

ـ ٢ ـ

وجه الحاجة الى الجدل

ان الانسان لا ينفک عن خلاف ومنازعات بينه وبين غيره من أبناء جلدته في عقائده وآرائه من دينية وسياسية واجتماعية ونحوها فتتألف بالقياس الى کل وضع طائفتان : طائفة تناصره وتحافظ عليه وأخري تريد نقضه وهدمه وينجرّ ذلک الى المناظرة والجدل ي الکلام فيلتمس کل فريق الدليل والحجة لتأييد وجهة نظره وافحام خصمه أمام الجمهور.

والبرهان سبيل قويم مضمون لتحصيل المطلوب ولکن هناک من الاسباب ما يدعو الى عدم الاخذ به في جملة من المواقع واللجوء الى سبيل آخر وهو سبيل الجدل الذي نحن بصدده. وهنا تنبثق الحاجة الى الجدل فانه الطريقة المفيدة بعد البرهان. اما الاسباب الداعية الى عدم الاخذ بالبرهان فهي أمور.

٣٢٧

١ ـ إن البرهان واحد في کل مسألة لايمکن ان يستعمله کل من الفريقين المتنازعين لان الحق واحد على کل حال فاذا کان الحق مع أحد الفريقين فان الفريق الآخر يلتجيء الى سبيل الجدل لتأييد مطلوبه.

٢ ـ إن الجمهور أبعد ما يکون عن ادراک المقدمات البرهانية اذا لم تکن من المشهورات الذايعات بينهم وغرض المجادل على الاکثر افحام خصمه أمام الجمهور فيلتجيء هنا الى استعمال المقدمات المشهنورة بالطريقة الجدلية وان کان الحق في جانبه ويمکنه استعمال البرهان.

٣ ـ إنه ليس کل أحد يقوي على اقامة البرهان أو ادراکه فيلتجيء المنازع الى الجدل لعجزه عن البرهان أو لعجز خصمه عن ادراکه.

٤ ـ إن المبتديء في العلوم قبل الوصول الى الدرجة التي يتمکن فيها من اقامة البرهان على المطالب العلمية يحتاج الى ما يمرّن ذهنه وقوته العقلية على الاستدلال على المطالب بطريقة غير البرهان کما قد يحتاج الى تحصيل القناعة والاطمئنان الى تلک المطالب قبل أن يتمکن من البرهان عليها. وليس له سبيل الى ذلک الا سبيل الجدل.

وبمعرفة هذه الاسباب تظهر لنا قوة الحاجة الى الجدل ونستطيع أن نحکم بأنه يجب لکن من تهمه المعرفة وکل من يريد أن يحافظ على العقائد والآراء أية کانت أن يبحث عن صناعة الجدل وقوانينها وأصولها. والمتکفل بذلک هذا الفن الذي عني به متقدموا الفلاسفة من اليونانيين وأهمله المتأخرون في الدورة الاسلامية اهمالا لا مبرر له عدافئة قليلة من أعاظم العلماء کالرئيس ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي إمام المحققين.

ـ ٣ ـ

المقارنه بين الجدل والبرهان

قلنا ان الجدل أسلوب آخر من الاستدلال وهو يأتي بالمرتبة الثانية بعد البرهان فلا بد من بحث المقارنة بينهما وبيان ما يفترقان فيه فنقول :

٣٢٨

١ ـ إن البرهان لا يعتمد الا على المقدمات التي هي حق من جهة ما هو حق لتنتج الحق أما (الجدل) فانما يعتمد على المقدمات المسلمة من جهة ما هي مسلمة ولا يشترط فيها أن تکون حقاً وان کانت حقاً واقعاً اذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق کما قلنا بل انما يطلب افحام الخصم وإلزامه بالمقدمات المسلمة سواء أکانت مسلمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات أم مسلمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم أم مسلمة عند شخص الخصم خاصة.

٢ ـ إن الجدل لا يقوم الا بشخصين متخاصمين اما البرهان فقد يقام لغرض تعليم الغير وإيصاله الى الحقائق فيقوم بين شخصين کالجدل وقد يقيمه الشخص ليناجي به نفسه ويعلمها لتصل الى الحق

٣ ـ إنه تقدم في البحث السابق ان البرهان واحد في کل مسألة لا يمکن أن يقيمه کل من الفريقين المتنازعين. اما الجدل فانه يمکن أن يستعمله الفريقان معاً ما دام الغرض منه إلزام الخصم وافحامه لا الحق بما هو حق وما دام انه يعتمد عي المشهورات والمسلمات التي قد يکون بعضها في جانب الاثبات وبعضها الآخر في عين الوقت في جانب النفي. بل يمکن لأحد الفريقين أن يقيم کثيرا من الادلة الجدلية بلا موجب للحصر على رأي واحد بينما ان البرهان لايکون الا واحدا لا يتعدد في المسألة الواحدة وان تعدد ظاهرا بتعدد العلل الاربع على ما تقدم في بحث البرهان.

٤ ـ إن صورة البرهان لا تکون الا من القياس على ما تقدم في بحث البرهان اما المجادل فيمکن أن يستعمل القياس وغيره من الحجج کالاستقراء والتمثيل فالجدل أعم من البرهان من جهة الصورة غير ان أکثر ما يعتمد الجدل على القياس والاستقراء.

ـ ٤ ـ

تعريف الجدل

ويظهر بوضوح من جميع ما تقدم صحة تعريف فن الجدل بما يلي :

٣٢٩

(انه صناعة علمية يقتدر معها حسب الامکان على اقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق على وجه لا تتوجه عليه مناقضة).

وإنما قيد التعريف بعبارة (حسب الامکان) فلاجل التنبيه على أن عجز المجادل عن تحصيل بعض المطالب لا يقدح في کونه صاحب صناعة کعجز الطبيب مثلا عن مداواة بعض الامراض فانه لا ينفي کونه طبيبا.

ويمکن التعبير عن تعريف الجدل بعبارة أخري کما يلي :

(الجدل صناعة تمکن الانسان من اقامة الحجج المؤلفة من المسلمات أو من ردهاحسب الارادة ومن الاحتراز عن لزوم المناقضة في المحافظة على الوضع).

ـ ٥ ـ

فوائد الجدل

مما تقدم تظهر لنا الفائدة الاصلية من صناعة الجدل ومنفعتها المقصودة بالذات وهي أن يتمکن المجادل من تقوية الآراء النافعة وتأييدها ومن إلزام المبطلين والغلبة على المشعوذين وذوي الآراء الفاسدة على وجه يدرک الجمهور ذلک. ولهذه الصناعة فوائد أخر تقصد منها بالعرض نذکر بعضها :

١ ـ رياضة الاذهان وتقويتها في تحصيل المقدمات واکتسابها اذ يتمکن ذو الصناعة من ايراد المقدمات الکثيرة والمفيدة في کل باب ومن اقامة الحجة على المطالب العلمية وغيرها.

٢ ـ تحصيل الحق واليقين في المسألة التي تعرض على الانسان فانه بالقوة الجدلية التي تحصل له بسبب هذه الصناعة يتمکن من تأليف المقدمات لکل من طرفي الايجاب والسلب في المسألة. وحينئذ بعد الفحص عن حال کل منهما والتأمل فيهما قد يلوح الحق له فيميز أنه في أي طرف منهما ويزيف الطرف الآخر الباطل.

٣ ـ التسهيل على المتعلم المبتديء لمعرفة المصادرات في العلم الطالب له

٣٣٠

بسبب المقدمات الجدلية اذ انه باديء بدء قد ينکرها ويستوحش منها لانه لم يقو بعد على الوصول الى البرهان عليها. والمقدمات الجدلية تفيده التصديق بها وتسهل عليه الاعتقاد بها فيطمئن اليها قبل الدخول في العلم ومعرفة براهينها.

٤ ـ وتنفع هذه الصناعة أيضا طالب الغلبة على خصومه اذ يقوي على المحاورة والمخاصمة والمراوغة وان کان الحق في جانب خصمه فيستظهر على خصمة فيستظهر على خصمه الضعيف عن مجادلته ومجاراته لا سيما في هذا العصر الذي کثرت فيه المنازعات في الآراء السياسية والاجتماعية.

٥ ـ وتنفع أيضا الرئيس للمحافظة على عقائد اتباعه عن المبتدعات.

٦ ـ وتنفع أيضا الذين يسمونهم في هذا العصر المحامين الذين اتخذوا المحاماة والدفاع عن حقوق الناس مهنة لهم فانهم أشد ما تکون حاجتهم الى معرفة هذه الصناعة بل انها جزء من مهنتهم في الحقيقة.

ـ ٦ ـ

السؤال والجواب

تقدم إن الجدل لا يتم الا بين طرفين متنازعين فالجدلي شخصان : (احدهما) محافظ على وضع وملتزم له وغاية سعيه ألا يلزمه الغير ولا يفحمه و(ثانيهما) ناقض له وغاية سعيه ان يلزم المحافظ ويفحمه.

و(الاول) يسمي (المجيب). واعتماده على المشهورات في تقرير وضعه اما المشهورات المطلقة أو المحدودة بحسب تسليم طائفة معينة. و(الثاني) يسمي (السائل) واعتماده في نقض وضع المجيب على ما يسلمه المجيب من المقدمات وان لم تکن مشهورة.

ولتوضيح سر التسمية بالسائل والمجيب نقول : ان الجدل انما يتم بأمرين سؤال وجواب وذلک لأن المقصود الاصلي من صناعة الجدل عندهم أن تتم بهذه المراحل الاربع :

٣٣١

١ ـ ان يوجه من يريد نقض وضع ما أسئلةً الى خصمه المحافظ على ذلک الوضع بطريق الاستفهام بان يقول : (هل هذا ذاک؟) أو (أليس اذا کان کذا فکذا؟) ويتدرج بالاسئلة من البعيد عن المقصود الى القريب منه حسبما يريد أن يتوصل به الى مقصوده من تسليم الخصم من دون أن يشعره بأنه يريد مهاجمته ونقض وضعه أو يشعره بذلک ولکن لا يشعره من أية ناحية يريد مهاجمته منها حتي لا يراوغ ويحتال في الجواب.

٢ ـ ان يستلّ السائل من خصمه من حيث يدري ولا يدري الاعتراب والتسليم بالمقدمات التي تستلزم نقض وضعه المحافظ عليه.

٣ ـ ان يؤلف السائل قياسا جدليا مما اعترف وسلم به خصمه (المجيب) بعد فرض اعترافه وتسليمه ليکون هذا القياس ناقضا لوضع المجيب.

٤ ـ أن يدافع المحافظ (المجيب) ويتخلص عن المهاجمة ان استطاع بتأليف قياس من المشهورات التي لا بد ان يخضع لها السائل والجمهور.

وهذه الطريقة من السؤال والجواب هي الطريقة الفنية المقصودة لهم في هذه الصناعة وهي التي تظهر بها المهارة والحذق في توجيه الاسئلة والتخلص من الاعتراف او الالزام. ومن هذه الجهة کانت التسمية بالسائل والمجيب لا لمجرد وقوع سؤال وجواب بأي نحو اتفق. والمقصود من صناعة الجدل اتقان تأدية هذه الطريقة حسبما تقتضيه القوانين والاصول الموضوعة فيها.

ونحن يمکننا ان نتوسع في دائرة هذه الصناعة فنتعدي هذه الطريقة المتقدمة الى غيرها بأن نکتفي بتأليف القياس من المشهورات أو المسلمات لنقض وضع أو للمحافظة على وضع لغرض افحام الخصوم على أي نحو يتفق هذا التأليف وان لم يکن على نحو السؤال والجواب ولم يمر على تلک المراحل الاربع بترتيبها. ولعل تعريف الجدل المتقدم لا يأبي هذه التوسعة.

بل يمکن ان نتعدي الى أبعد من ذلک حينئذ فلا نخص الصناعة بالمشافهة

٣٣٢

بل نتعدي بها الى التحرير والمکاتبة. وفي هذه العصور لا سيما الاخيرة منها بعد انتشار الطباعة والصحف اکثر ما تجري المناقشات والمجادلات في الکتابة وتبتني على المسلمات والمشهورات على غير الطريقة البرهانية من دون ان تتألف صورة سؤال وجواب. ومع ذلک نسميها قياسات جدلية أو ينبغي أن نسميها کذلک وتشملها کثير من اصول صناعة الجدل وقواعدها فلا ضير في دخولها في هذه الصناعة وشمول بعض قواعدها وآدابها لها.

ـ ٧ ـ

مبادئ الجدل

اشرنا فيما سبق الى ان مباىء الجدل الاولية التي تعتمد عليها هذه الصناعة هي المشهورات والمسلمات وان المشهورات مباديء مشترکة بالنسبة الى السائل والمجيب والمسلمات مختصة بالسائل.

کما أشرنا الى ان المشهورات يجوز أن تکون حقا واقعا وللجدلي ان يستعملها في قياسه. أما استعمال الحق غير المشهور بما هو حق في هذه الصناعة فانه يعد مغالطة من الجدلي لانه في استعمال أية قضية لا يدعي انها في نفس الامر حق. وانما يقول : ان هذا الحکم ظاهر واضح في هذه القضية ويعترف بذلک الجميع ويکون الحکم مقبولا لدي کل أحد.

ثم انا أشرنا في بحث (المشهورات) ان للشهرة اسبابا توجبها وذکرنا أقسام المشهورات حسب اختلاف اسباب الشهرة فراجع. والسر في کون الشهرة لا تستغني عن السبب أن شهرة المشهور ليست ذاتية بل هي أمر عارض وکل عارض لا بد له من سبب. وليست هي کحقيقة الحق التي هي أمر ذاتي للحق لا تعلل بعلة.

وسبب الشهرة لا بد ان يکون أمرا تألفه الاذهان وتدرکه العقول بسهولة ولولا ذلک لما کان الحکم مقبولا عند الجمهور وشايعا بينهم.

وعلى هذا يتوجه علينا سؤال وهو : اذا کانت الشهرة لا تستغني عن السبب فکيف جعلتم المشهورات من المباديء الاولية أي ليست مکتسبة؟

٣٣٣

والجواب ان سبب حصول الشهرة لوضوحه لدي الجمهور تکون أذهان الجمهور غافلة عنه ولا تلتفت الى سر انتقالها الى الحکم المشهور فيبدو لها أن المشهورات غير مکتسبة من سبب کأنها من تلقاء نفسها انتقلت اليها وانما يعتبر کون الحکم مکتسبا اذا صدر الانتقال اليه بملاحظة سببه. وهذا من قبيل القياس الخفي في المجربات والفطريات التي قياساتها معها على ما أوضحناه في موضعه فانما مع کونها لها قياس وهو السبب الحقيقي لحصول العلم بها عدّوها من المباديء غير المکتسبة نظرا الى أن حصول العلم فيها عن سبب خفي غير ملحوظ للعالم ومغفول عنه لوضوحه لديه.

ثم لا يخفي أنه ليس کل ما يسمي مشهورا هو من مباديء الجدل فان الشهرة تختلف بحسب اختلاف الاسبب في کيفية تأثيرها في الشهرة. وبهذا الاعتبار تنقسم المشهورات الى ثلاثة أقسام :

١ ـ المشهورات الحقيقية ، وهي التي لا تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل فيها.

٢ ـ المشهورات الظاهرية ، وهي المشهورات في باديء الرأي التي تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل مثل قولهم : (انصر أخاک ظالما أو مظلوما) فانه يقابله المشهور الحقيقي وهو : (لا تنصر الظالم وان کان أخاک).

٣ ـ الشبيهة بالمشهورات وهي التي تحصل شهرتها بسبب عارض غير لازم تزول الشهرة بزواله فتکون شهرتها في وقت دون وقت وحال دون حال مثل استحسان الناس في العصر المتقدم لا طلاق الشوارب تقليدا لبعض الملوک والامراء فلما زال هذا السبب زالت هذه العادة وزال الاستحسان.

ولا يصلح للجدل الا القسم الاول دون الاخيرين أما الظاهرية فانما تنفع فقط في صناعة الخطابة کما سيأتي وأما الشبيهة بالمشهورات فنفعها خاص بالمشاغبة کما سيأتي في صناعة المغالطة.

٣٣٤

ـ ٨ ـ

مقدمات الجدل

کل ما هو مبدأ للقياس معناه أنه يصلح أن يقع مقدمة له ولکن ليس يجب في کل ما هو مقدمة ان يکون من المباديء بل المقدمة اما أن تکون نفسها من المباديء أو تنتهي الى المباديء. وعليه فمقدمات القياس الجدلي يجوز أن تکون في نفسها مشهورة. ويجوز أن تکون غير مشهورة ترجع الى المشهورة کما قلنا في مقدمات البرهان أنها تکون بديهية وتکون نظرية تنتهي الى البديهية.

والرجوع الى المشهورة على نحوين :

أ ـ أن تکتسب شهرتها من المقارنة والمقايسة الى المشهورة. وتسمي (المشهورة بالقرائن). والمقارنة بين القضيتين اما لتشابههما في الحدود أو لتقابلهما فيها. وکل من التشابه والتقابل يوجب انتقال الذهن من تصور شهرة احداهما الى تصور شهرة الثانية وان لم يکن هذا الانتقال في نفسه واجبا وانما تکون شهرة احداهما مقرونة بشهرة الاخري.

مثال التشابه : قولهم : اذا کان اطعام الضيف حسنا فقضاء حوائجه حسن أيضا فان حسن اطعام الضيف مشهور وللتشابه بين الاطعام وقضاء الحوائج تستوجب المقارنة بينهما انتقال الذهن الى حسن قضاء حوائج الضيف. ومثال التقابل : قولهم : اذا کان الاحسان الى الاصدقاء حسنا کانت الاساءة الى الاعداء حسنة فان التقابل بين الاحسان والاساءة وبين الأصدقاء والأعداء يستوجب انتقال الذهن من احدي القضيتين الى الاخري بالمقارنة والمقايسة.

ب ـ أن تکون المقدمة مکتسبة شهرتها من قياس مؤلف من المشهورات منتج لها بأن تکون هذه المقدمة المفروضة مأخوذة من مقدمات مشهورة. نظير المقدمة النظرية في البرهان اذا کانت مکتسبة من مقدمات بديهية.

٣٣٥

ـ ٩ ـ

مسائل الجدل

کل قضية کان السائل قد أورد عينها في حال سؤاله او أورد مقابلها فانها تسمي (مسألة الجدل) وبعد أن يسلم بها المجيب ويجعلها السائل جزءا من قياسه هي نفسها تسمي (مقدمة الجدل).

اذا عرفت ذلک فکل قضية لها ارتباط في نقض الوضع الذي يراد تقضه تصلح أن تقع مورداً لسؤال السائل ولکن بعض القضايا يجدربه أن يتجنبها نذکر بعضها :

(منها) أنه لا ينبغي للسائل أن يجعل المشهورات موردا لسؤاله فان السؤال عنها معناه جعلها في معرض الشک والترديد وهذا ما يشجع المجيب على انکارها ومخالفة المشهور. فلو التجأ السائل لإيراد المشهورات فليذکرها على سبيل التمهيد للقواعد التي يريد أن يستفيد منها لنقض وضع المجيب. باعتبار أن تلک المشهورات مفروغ عنها لا مفر من الاعتراف بها.

و(منها) أنه لا ينبغي له أن يسأل عن ماهية الاشياء ولا عن لميتها (عليتها) لأن مثل هذا السؤال انما يرتبط بالتعلم والاستفادة لا بالجدل والمغالبة بل السؤال عن الماهية لو احتاج اليه فينبغي أن يضعه على سبيل الاستفسار عن معني اللفظ أو على سبيل السؤال عن رأيه وقوله في الماهية بأن يسأل هکذا (هل تقول ان الانسان هو الحيوان الناطق أولا؟) أو يسأل هکذا : (لو لم يکن حد الانسان هو الحيوان الناطق فما حده اذن؟).

وکذلک السؤال في اللمية لا بد أن يجعل السؤال عن قوله ورأية فيها لا عن أصل العلية

ـ ١٠ ـ

مطالب الجدل

ان الجدل ينفع في جميع المسائل الفلسفية والاجتماعية والدينية والعلمية

٣٣٦

والسياسية والادبية وجميع الفنون والمعارف وکل قضية من ذلک تصلح آن تکون مطلوبة به. ويستثني من ذلک قضايا لا تطلب بالجدل.

منها (المشهورات الحقيقية المطلقة) لانها لما کانت بهذه الشهرة لا يسع لأحد انکارها والتشکيک بهاحتي يحتاج اثباتها الى حجة. وحکمها من هذه الجهة حکم البديهيات فانها لا تطلب بالبرهان. ويجمعها انها غير مکتسبة فلا تکتسب بحجة.

ومن ينکر المشهورات لا تنفع معه حجة جدلية لأن معني اقامتها ارجاعه الى القضايا المشهورة وقد ينکرها أيضا. ومثل هذا المنکر للمشهورات لا رد له الا العقاب أو السخرية والاستهزاء أو احساسه : فمن ينکر مثل حسن عبادة الخالق وقبح عقوق الوالدين فحقه العقاب والتعذيب. ومنکر مثل ان القمر مستمد نوره من الشمس يسخر به ويضحک عليه. ومنکر مثل أن النار حارة يکوي بها ليحس بحرارتها.

نعم قد يطلب المشهور بالقياس الجدلي في مقابل المشاغب کما تطلب القضية الاولية بالبرهان في مقابل المغالط.

أما المشهورات المحدودة أو المختلف فيها فلا مانع من طلبها بالحجة الجدلية في مقابل من ال يراها مشهورة أو لا يعترف بشهرتها لينبهه على شهرتها بما هو أعرف واشهر.

ومنها (القضايا الرياضية ونحوها) لانها مبتنية على الحس والتجربة فلا مدخل للجدل فيها ولا معني لطلبها بالمشهورات کقضايا الهندسة والحساب والکيمياء والميکانيک ونحو ذلک.

ـ ١١ ـ

أدوات هذه الصناعة

عرفنا فيما سبق ان الجدل يعتمد على المسلمات والمشهورات غير أن تحصيل ملکة هذه الصناعة (بأن يتمکن المجادل من الانتفاع بالمشهورات والمسلمات في

٣٣٧

وقت الحاجة عند الاحتجاج على خصمه أو عند الاحتراز من الانقطاع والمغلوبية) ليس بالامر الهين کما قد يبدو لأول وهلة. بل يحتاج الى مران طويل حتي تحصل له الملکة شأن کل ملکة في کل صناعة. ولهذا المران موارد أربعة هي أدوات للملکة اذا استطاع الانسان أن يجوز عليها فان لها الاثر البالغ في حصول الملکة وتمکن الجدلي من بلوغ غرضه.

ونحن واصفون هنا هذه الادوات. وليعلم الطالب انه ليس معني معرفة وصف هذه الادوات انه يکون حاصلا عليها فعلا بل لا بد من السعي لتحصيلها بنفسه عملا واستحضارها عنده فان من يعرف معني المنشار لا يکون حاصلا لديه ولا يکون ناشرا للخشب بل الذي ينشره من تمکن من تحصيل نفس الآلة وعمل بها في نشر الخشب. نعم معرفة اوصاف الآلة طريق لتحصيلها والانتفاع بها.

والادوارت الأربع المطلوبة هي کما يلي :

(الاداة الولي) أن يستحضر لديه أصناف المشهورات من کل باب ومن کل مادة على اختلافها ويعدها في ذاکرته لوقت الحاجة وأن يفصل بين المشهورات المطلقة وبين المحدودة عند أهل کل صناعة أو مذهب وأن يميز بين المشهورات الحقيقية وغيرها وأن يعرف کيف يستنبط المشهور ويحصل على المشهورات بالقرائن وينقل حکم الشهرة من قضية الى أخري.

فاذا کمل له کل ذلک وجمعه عنده فان احتاج الى استعمال مشهور : کان حاضرا لديه متمکنا به من الاحتجاج على خصمه.

وهذه الاداة لازمة للجدلي لأنه لا ينبغي له أن ينقطع أمام الجمهور ولا يحسن منه أن يتأني ويطلب التذکر أو المراجعة فانه يفوت غرضه وبعد فاشلا لأن غايته آنية وهي الغلبة على خصمه أمام الجمهور. فيفوت غرضه بفوات الاوان على العکس من طالب الحقيقة بالبرهان فان تأنيه وطلبه للتذکر والتأمل لا ينقصه ولا ينافي غرضه من تحصيل الحقيقة ولو بعد حين.

ومما ينبغي أن يعلم ان هذه الملکة (ملکة استحضار المشهور عند الحاجة) يجوز

٣٣٨

أن تتبعض بأن تکون مستحضرات المجادل خاصة بالموضوع المختص به : فالمجادل في الامور الدينية مثلا يکفي أن يستحضر المشهورات النافعة في موضوعه خاصة ومن يجادل في السياسة انما يستحضر خصوص المشهورات المختصة بهذا الباب فيکون صاحب ملکة في جدل السياسة فقط ... وهکذا في سائر المذاهب والآراء. وعليه فلا يجب في الجدلي المختص بموضوع أن تکون ملکته عامة لجميع المشهورات في جميع العلوم والآراء.

(الاداة الثانية) القدرة والقوة على التمييزبين معاني الالفاظ المشترکة والمنقولة والمشککة والمتو اطئة والمتباينة والمترادفة وما اليها من أحوال الالفاظ والقدرة على تفصيلها على وجه يستطيع أن يرفع ما يطرأ من غموض واشتباه فيها حتي لا يقتصر على الدعوي المجردة في ايرادها في حججه بل يتبين وجا الاشتراک أو التشکيک أو غير ذلک من الاحوال.

وهناک أصول وقواعد قد يرجع اليها لمعرفة المشترک اللفظي وتمييزه عن المشترالمعنوي ولمعرفة باقي أحوال اللفظ : لا يسعها هذا الکتاب المختصر. ولأجل أن يتنبه الطالب لهذه الابحاث نذکر مثالا لذلک فنقول :

لو اشتبه لفظ في کونه مشترکا لفظيا أو معنويا فانه قد يمکن رفع الاشتباه بالرجوع الى اختلاف اللفظ بحسب اختلاف الاعتبارات مثل کلمة (قوة) فانها تستعمل بمعني القدرة کقولنا قوة المشي والقيام مثلا وتستعمل بمعني القابلية والتهيؤ للوجود مثل قولنا الاخرس ناطق بالقوة والبذوة شجرة بالقوة. فلو شککنا في أنها موضوعة لمعني أعم او لکل من المعنيين على حدة فانه يمکن أن نقيس اللفظ الى ما يقابله فنري في المثال أن اللفظ بحسب کل معني يقابله لفظ آخر وليس له مقابل واحد فمقابل القوة بالمعني الاول الضعف ومقابلها بالمعني الثاني الفعلية. ولتعدد التقابل نستظهر أن لها معنيين لا معني واحدا والا لکان لها مقابل واحد.

وکذلک يمکن ان تستظهر ان للفظة معنيين على نحو الاشتراک اللفظي اذا تعدد جمعها بتعدد معناها مثل لفظة (أمر) فانها بمعني شيء تجمع على (أمور) وبمعني

٣٣٩

طلب الفعل تجمع على (اوامر). فلو کان لها معني واحد مشترک لکان لها جمع واحد.

ثم ان کثيرا ما تقع المنازعات بسبب عدم تحقيق معني اللفظ فينحو کل فريق من المتنازعين منحي من معني اللفظ غير ما ينحوه الفريق الآخر ويتخيل کل منهما ان المقصود لهما معني واحد هو موضع الخلاف بينهما. ومن له خبرة في أحوال اللفظ يستطيع ان يکشف مثل هذه المغالطات ويوقع التصالح بين الفريقين. ويمکن التمثيل لذلک بالنزاع في مسألة جواز رؤية الله فيمکن ان يريد من يجيز الرؤية هي الرؤية القلبية أي الادراک بالعقل بينما أن المقصود لمن يحيلها هي الرؤية بمعني الادراک بالبصر. فتفصيل معني الرؤية وبيان أن لها معنيين قد يزيل الخلاف والمغالطة. هکذا يمکن کشف النزاع في کثير من الابحاث. وهذا من فوائد هذه الاداة.

(الاداة الثالثة) القدرة والقوة على التمييز بين المتشابهات سواء کان التمييز بالفصول أو بغيرها. وتحصل هذه القوة (الملکة) بالسعي في طلب الفروق بين الاشياء المتشابهة تشابها قريبا لا سيما في تحصيل وجوه اختلاف احکام شيء واحد بل تحصل بطلب المباينة بين الاشياء المتشابهة بالجنس

وتظهر فائدة هذه الاداة في تحصيل الفصول والخواص للاشياء فيستعين بذلک على الحدود والرسوم. وتظهر الفائدة للمجادل کما لو ادعي خصمه مثلا ان شيئين لهما حکم واحد باعتبار تشابههما فيقيس أحدهما على الآخر او أن الحکم ثابت للعام الشامل لهما فانه أي المجادل اذا ميز بينهما وکشف ما بينهما من فروق تقتضي اختلاف أحکامهما ينکشف اشتباه الخصم ويقال له مثلا : ان قياسک الذي ادعيته قياس مع الفارق.

مثاله ما تقدم في بحث المشهورات في دعوي منکر الحسن والقبح العقليين اذ استدل على ذلک بانه لو کان عقليا لما کان فرق بينه وبين حکم العقل بأن الکل أعظم من الجزء مع ان الفرق بينهما ظاهر. فاعتقد المستدل أن حکمي العقل في المسألتين نوع واحد واستدل بوجود الفرق على انکار حکم العقل في مسألة الحسن والقبح. وقد أوضحنا هناک الفرق بين العقلين وبين الحکمين بما أبطل قياسه فکان قياسا مع

٣٤٠