المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٥

أبيض بتوسط اضافة البياض اليه.

وعلي هذا يکون المشتق منتزعا من نفس الذات المتصلة بدلا من اضافة شيء خارج عنها اليها. فتکون کلمة ابيض (وکذلک کلمة موجود ونحوها) معناها اعم مما کان منتزعا من اتصاف الذات بالمبدأ الخارج عنها ومما کان منتزعا من نفس الذات التي هي نفس المبدأ.

فاذا زال الالتباس واتضح للعقل معني کلمة (موجود) لا يتردد في صحة حملها على الوجود بل يراه اولي في صدق الموجود عليه من غيره کما لم يتردد في صحة حمل الابيض على البياض. ولا تحتاج مثل هذه القضية وهي (الوجود موجود) الى البرهان بل هي من الاوليات وان بدت غير واضحة للعقل قبل تصور معني موجود وصارت من أدق المباحث الفلسفيه ويبني عليها کثير من مسائل علم الفلسفة الدقيقة.

٢ ـ المشاهدات

وتسمي أيضا (المحسوسات) وهي القضايا التي يحکم بها العقل بواسطة الحسّ ولا يکفي فيها تصوّر الطرفين مع النسبة ولذا قيل : من فقد حسّاً فقد فقد علما.

والحسّ على قسمين : (ظاهر) وهو خمسة أنواع البصر والسمع والذوق والشم واللمس. والقضايا المتيقنة بواسطته تسمي (حسيات) کالحکم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة ... وهکذا. وحسّ (باطن) والقضايا المتيقنة بواسطته تسمي (وجدانيات) کالعلم بأن لنا فکرة وخوفا وألما ولذة وجوعا وعطشا ... ونحو ذلک.

٣ ـ التجربيات او المجربات

أو المجربات وهي القضايا التي يحکم بها العقل بواسطة تکرر المشاهدة منا في احساسنا فيحصل بتکرر المشاهدة مايوجب أن يرسخ في النفس حکم لا شک فيه کالحکم بأن کل نار حارة وان الجسم يتمدد بالحرارة. ففي المثال الأخير عندما

٢٨١

نجرّب أنواع الجسم المختلفة من حديد ونحاس وحجر وغيرها مرّات متعددة ونجدها تتمدد بالحرارة فانا نجزم جزما باتّاً بان ارتفاع درجة حرارة الجسم من شأنها أن تؤثر التمدد في حجمه کما ان هبوطها يؤثر التقلص فيه. واکثر مسائل العلوم الطبيعية والکيمياء والطب من نوع المجربات.

وهذا الاستنتاج في التجربيات من نوع الاستقراء الناقص المبني على التعليل الذي قلنا عنه في الجزء الثاني انه يفيد القطع بالحکم. وفي الحقيقة أن هذا الحکم القطعي يعتمد على قياسين خفيين : استثنائي واقتراني يستعملهما الانسان في دخيلة نفسه وتفکيره من غير التفات غالبا.

والقياس الاستثنائي هکذا :

لو کان حصول هذا الاثر اتفاقيا لا لعلة توجبه لما حصل دائما.

ولکنه قد حصل دائما (بالمشاهدة) ... حصول هذا الاثر ليس اتفاقيا بل لعلة توجبه.

والقياس الاقتراني هکذا :

الصغري (نفس نتيجة القياس السابق) حصول هذا الاثر معلول لعلة

الکبري (بديهية أولية) کل معلول لعلة يمتنع تخلفة عنها ...

(ينتج من الشکل الاول) هذا الاثر يمتنع تخلفه عن علته

وهاتان المقدمتان للاستثنائي بديهيتان وکذا کبري الاقتراني فرجع الحکم في القضايا المجربات الى القضايا الاولية والمشاهدات في النهاية.

ثم لا يختفي انا لا نعني من هذا الکلام ان کل تجربة تستلزم حکما يقينيا مطابقا للواقع فان کثيرا من احکام سواد الناس المبنية على تجاربهم ينکشف خطأهم فيها اذ يحسبون ما ليس بعلة علة او ما کان علة ناقصة علة تامة او يأخذون ما بالعرض مکان ما بالذات.

وسر خطأهم ان ملاحظتهم للاشياء في تجاربهم لا تکون دقيقة على وجه تکفي

٢٨٢

لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم لأنه قد يکون حصول الاثر في الواقع ليس دائميا فظن المجرب أنه دائمي اعتماداً على اتفاقات حسبها دائمية اما لجهل او غفلة أو لقصور ادراک او تسرع في الحکم فأهل جملة من الحوادث ولم يلاحظ فيها تخلف الاثر. وقد تکون ملاحظته للحوادث قاصرة بأن يلاحظ حوادث قليلة وجد حصول الاثر مع ما فرضه علة وفي الحقيقة ان العلة شيء آخر اتفق حصوله في تلک الحوادث فلذا لم يتخلف الاثر فيها. ولو استمر في التجربة وغيرّ فيما يجربه لوجد غير ما اعتقده أولا.

مثلا قد يجرب الانسان الخشب يطفؤ على الماء في عدة حوادث متکررة فيعتقدان ذلک خاصية في الخشب والماء فيحکم خطأ ان کل خشب يطفو على الماء ولکنه لو جرّب بعض أنواع الخشب الثقيل الوزن لوجد انه لا يطفو في الماء العذب بل قديرسب الى القعر او الى وسط الماء فانه لا شکل حينئذ بزول اعتقاده الاول. ولو غيّر التجربة في عدة اجسام غير الخشب ودقق في ملاحظته ووزن الاجسام والوسائل بدقة وقاس وزن بعضها ببعض لحصل له حکم آخر بأن العلة في طفو الخشب على الماء أن الخشب اخف وزنا من الماء. وتحصل له قاعدة عامة هي أن الجسم الجامد يطفو على السائل اذا کان أخف وزنا منه ويرسب الى القعر اذا کان أثقل وزنا والى وسطه اذا ساواه في الوزن فالحديد مثلا يرسب في الماء ويطفو في الزئبق لأنه أخف وزنا منه.

٤ ـ المتواترات

وهي قضايا تسکن اليها النفس سکونا يزول معه الشک ويحصل الجزم القاطع. وذلک بواسطة اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الکذب ويمتنع اتفاق خطأهم في فهم الحادثة کعلمنا بوجود البلدان النائية التي لم نشاهدها وبنزول القرآن

__________________

١ ـ هذا القيد الاخير لم يذكره المؤلفون من المنطقيين والاصوليين. وذكره ـ فيما أرى ـ لازم ، نظرا الى أن الناس المجتمعين كثيرا ما يخطئون في فهم الحادثة على وجهها ، حينما تقتضي الحادثة دقة الملاحظة. وقوانين علم الاجتماع تقضي بأن الجمهور لاتتأتى فيه الدقة في الملاحظة اذ سرعان ما تسري فيه العدوى والمحاكاة بعضهم لبعض ، فاذا تأثر بعضهم بالحادث المشاهد قد يقلده غيره من الحاضرين بالتأثر من حيث لا يشعر فيسري الى الاخرين. وعليه لا يحصل

٢٨٣

الکريم على النبي محمد صلي الله عليه وآله وبوجود بعض الأمم السالفة او الاشخاص.

وبعض حصر عدد المخبرين لحصول التواتر في عدد معين. وهو خطأ فان المدار انما هو حصول اليقين من الشهادات عندما يعلم امتناع التواطؤ على الکذب وامتناع خطأ الجميع. ولا يرتبط اليقين بعدد مخصوص من المخبرين تؤثر فيه الزيادة والنقصان.

٥ ـ الحدسيات

وهي قضايا مبدأ الحکم بها حدس من النفس قوي جدا يزول معه الشک ويذعن الذهن بمضمونها مثل حکمنا بأن القمر وزهرة وعطارد وسائر الکواکب السيارة مستفاد نورها من نور الشمس وان انعکاس شعاع نورها الى الارض يضاهي انعکاس الأشعة من المراة الى الاجسام التي تقابلها. ومنشأ هذا الحکم او الحدس اختلاف تشکلها عند اختلاف نسبتها من الشمس قربا وبعدا. وکحکمنا بأن الارض على هيئة الکرة وذلک لمشاهدة السفن مثلا في البحر اول ما يبدومنها أعاليها ثم تظهر بالتدريج کلما قربت من الشاطيء. وکحکم علماء الهيئة حديثا بدوران السيارات حول الشمس وجاذبية الشمس لها لمشاهدة اختلاف اوضاع هذه السيارات بالنسبة الى الشمس والينا على وجه يثير الحدس بذلک.

والحدسيات جارية مجري المجربات في الامرين المذکورين اعني تکرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي فانه يقال في القياس مثلا : هذا المشاهد من الاختلاف في نور القمر لو کان بالاتفاق او بأمر خارج سوي الشمس لما استمر على نمط واحد على طول الزمن. ولما کان على هذه الصورة من الاختلاف فيحدس

__________________

اليقين من اخبار جماعة خطأهم في الملاحظة وان حصل اليقين بعدم تعمدهم للكذب.

لا ترى ان المشعوذين يأتون باعمال يبدو أنها خارقة للعادة فينخدع بها المتفرجون لانهم لم يرزقوا ساعة الاجتماع دقة الملاحظة. ولو انفرد الشخص وحدة بمشاهد المشعوذ لربما لا يشاهده بطحن الزجاج بأسنانه ويخرجه أبرا أو يطعن نفسه بمدية ولا يخرج الدم ، بل قد تنكشف له الحبلة بسهولة.

٢٨٤

الذهن ان سببه انعکاس اشعة الشمس عليه.

وهذا القياس المقارن للحدس يختلف باختلاف العلل في ماهياتها باختلاف الموارد وليس کذلک المجربات فان لها قياسا واحدا لا يختلف لأن السبب فيها غير معلوم الماهية الا من جهة کونه سببا فقط. وهذه الجهة لا تختلف باختلاف الموارد.

وذلک لأن الفرق بين المجربات والحدسيات أن المجربات انما يحکم فيها بوجود سبب ما وأن هذا السبب موجود في الشيء الذي تتفق له هذه الظاهرة دائما من غير تعيين لماهية السبب. اما في الحدسيات فانها بالاضافة الى ذلک يحکم فيها بتعيين ماهية السبب انه أي شيء هو وفي الحقيقة ان الحدسيات مجربات مع اضافة والاضافة هي الحدس بماهية السبب ولذا ألحقوا الحدسيات بالمجربات. قال الشيخ العظيم خواجا نصير الدين الطوسي في شرح الاشارات : «ان السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالوجهين».

ومن مارس العلوم يحصل له من هذا الجنس على طريق الحدس قضايا کثيرة قد لا يمکنه اقامة البرهان عليها ولا يمکنه الشک فيها. کما لا يسعه أن يشرک غيره فيها بالتعليم والتلقين الا أن يرشد الطالب الى الطريق التي سلکها. فان استطاع الطالب بنفسه سلوک الطريق قد يفضيه الى الاعتقاد اذا کان ذا قوة ذهنية وصفاء نفس. فلذلک لو جحد مثل هذه القضايا جاحد فان الحادس يعجز عن اثباتها له على سبيل المذاکرة والتلقين ما لم يحصل للجاحد نفس الطريق الى الحدس.

وکذلک المجربات والمتواترات لا يمکن اثباتها بالمذاکرة والتلقين ما لم يحصل للطالب ما حصل للمجرب من التجربة وللمتيقن بالخبر من التواتر. ولهذا يختلف الناس في الحدسيات والمجربات والمتواترات وان کانت کلها من أقسام البديهيات. وليس کذلک الاوليات فان الناس في اليقين بها شرع سواء وکذلک المحسوسات عند من کانوا صحيحي الحواس. ومثلها الفطريات الآتي ذکرها.

٦ ـ الفطريات

وهي القضايا التي قياساتها معها أي ان العقل لا يصدق بها بمجرد تصور

٢٨٥

طرفيها کالاوليات بل لا بد لها من وسط الا ان هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتي يحتاج الى طلب وفکر فکلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه.

مثل حکمنا بأن الاثنين خمس العشرة فان هذا حکم بديهي الا انه معلوم بوسط لأن الاثنين عدد قد انقسمت العشرة اليه والى اربعة اقسام أخري کل منها يساويه وکل ما ينقسم عدد اليه والى اربعة اقسام أخري کل منها يساويه فهو خمس ذلک العدد فالاثنان خمس العشرة. ومثل هذا القياس حاضر في الذهن لا يحتاج الى کسب ونظر. ومثل هذا القياس يجري في کل نسبة عدد الى آخر غير ان هذه النسب يختلف بعضها عن بعض في سرعة مبادرة الذهن الى المطلوب وعدمها بسبب قلة الاعداد وزيادتها أو بسبب عادة الانسان على التفکر فيها وعدمه. فانک تري الفرق واضحا في سرعة انتقال الذهن بين نسبة ٢ الى ٤ وبين نسبة ١٣ الى ٢٦ مع ان النسبة واحدة وهي النصف. أو بين نسبة ٣ الى ١٢ وبين نسبة ١٧ الى ٦٨ مع ان النسبة واحدة هي الربع ... وهکذا.

٢٨٦

تمرينات

١ ـ بيّن أي قسم من البديهيات الست يشترک في معرفتها جميع الناس وأي قسم منها يجوز ان يختلف في معرفتها الناس.

٢ ـ هل يضر في بداهة الشيء ان يجهلة بعض الناس؟ ولماذا؟ (راجع بحث البديهي في الجزء الاول)

٣ ـ ارجع الى ما ذکرناه في الجزء الاول من أسباب التوجه لمعرفة البديهي. وبين حاجة کل قسم من البديهيات الست الى أي سبب منها. ضع ذلک في جدول.

٤ ـ عين کل مثال من الامثلة الآتية انه من أي الاقسام الستة وهي :

أ ـ ان لکل معلول علة.

ب ـ لا يتخلف المعلول عن العلة.

ج ـ يستحيل تقدم المعلول على العلة.

د ـ يستحيل تقدم الشيء على نفسه.

هـ ـ الضدان لا يجتمعان.

و ـ الظرف اوسع من المظروف.

ز ـ الصلاة واجبة في الاسلام.

ح ـ السماء فوقنا والارض تحتنا.

ط ـ اذا انتفي اللازم انتفي الملزوم.

ي ـ الثلاثة لا تنقسم بمتساويين.

يا ـ انتفاء الملزوم لا يلزم منه انتفاء اللازم لجواز کونه اعم.

يب ـ نقيضا المتساويين متساويان.

٥ ـ يقول المنطقيون ان انتاج الشکل الاول بديهي فمن أي البديهيات هو؟

٢٨٧

٦ ـ بني علماء الرياضيات جميع براهينهم على مباديء بسيطة يدرکها العقل لأول وهلة يسمونها البديهيات نذکر بعضها فبين انها من أي اقسام البديهيات الست وهي : ـ

ـ أ ـ اذا أضفنا اشياء متساوية الى اخري متساوية کانت النتائج متساوية.

ـ ب ـ اذا طرحنا اشياء متساوية من أخري متساوية کانت البواقي متساوية.

ـ جـ ـ المضاعفات الواحدة للاشياء المتساوية تکون متساوية فان کان شيئان متساويين کان ثلاثة امثال احدهما مساويا لثلاثة امثال الآخر.

ـ د ـ اذا انقسم کل من الاشياء المتساوية الى عدد واحد من اجزاء متساوية کانت هذه الاجزاء في الجميع متساوية.

ـ هـ ـ الاشياء التي يمکن ان ينطبق کل منها على الآخر انطباقا تاما فهي متساوية.

راجع بحث البديهة المنطقية آخر الباب الرابع (في الجزء ٢) تجد توضيح بعض هذه البديهيات الرياضية.

٢٨٨

٢ ـ المظنونات

مأخوذة من (الظن). والظن في اللغة اعم من اصطلاح المنطقيين هنا فان المفهوم منه لغة حسب تتبع موارد الستعماله هو الاعتقاد في غائب بحدس او تخمين من دون مشاهدة او دليل او برهان سواء کان اعتقادا جازما مطابقا للواقع ولکن غير مستند الى علته کالاعتقاد تقليدا للغير او کان اعتقادا جازما غير مطابق للواقع وهو الجهل المرکب أو کان اعتقادا غير جازم بمعني ما يرجح فيه أحد طرفي القضية النفي او الاثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو يساوق الظن بالمعني الاخص باصطلاح المنطقيين المقابل الليقين بالمعني الاعم.

والظن المقصود به باصطلاح المناطقة هو المعني الأخير فقط وهو ترجيح أحد طرفي القضية النفي او الاثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو الظن بالمعني الاخص.

فالمظنونات على هذا هي قضايا يصدق بها اتباعا لغالب الظن مع تجويز نقيضه کما يقال مثلا : فلان يسارّ عدوّي فهو يتکلم على أو فلان لا عمل له فهم سافل. او فلان ناقص الخلقة في أحد جوارحه ففيه مرکب النقص.

٢٨٩

٣ ـ المشهورات

وتسمي (الذايعات) أيضا.

وهي قضايا اشتهرت بين الناس وذاع التصديق بهاعند جميع العقلاء أو أکثرهم او طائفة خاصة. وهي على معنيين :

١ ـ المشهورات بالمعني الأعم وهي التي تطابقت على الاعتقاد بها آراء العقلاء کافة وان کان الذي يدعو الى الاعتقاد بها کونها اولية ضرورية في حد نفسها ولها واقع وراء تطابق الآراء عليها. فتشمل المشهورات بالمعني الأخص الآتية وتشمل مثل الاوليات والفطريات التي هي من قسم اليقينيات البديهية.

وعلى هذا فقد تدخل القضية الواحدة مثل قولهم (الکل اعظم من الجزء) في اليقينيات من جهة وفي المشهورات من جهة أخري.

٢ ـ المشهورات بالمعني الاخص او المشهورات الصرفة وهي احق بصدق وصف الشهرة عليها لأنها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق الا الشهرة وعموم الاعتراف بها کحسن العدل وقبح الظلم وکوجوب الذب عن الحرم واستهجان ايذاء الحيوان لا لغرض.

فلا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها بل واقعها ذلک فلو خلي الانسان وعقله المجرد وحسّه ووهمه ولم تحصل له اسباب الشهرة الآتية فانه لا يحصل له حکم بهذه القضايا ولا يقضي عقله او حسه او وهمه فيها بشيء. ولا ينافي ذلک أنه بنفسه يمدح العادل ويذم الظالم ولکن هذا غير الحکم بتطابق الآراء عليها. وليس کذلک حال حکمه بأن الکل أعظم من الجزء کما تقدم فانه لو خلي ونفسه کان

٢٩٠

له هذا الحکم. وعلى هذا فيکون الفرق بين المشهورات واليقينيات مع ان کلا منها تفيد تصديقا جازما أن المعتبر في اليقينيات کونها مطابقة لما عليه الواقع ونفس الامر المعبر عنه بالحق واليقين والمعتبر في المشهورات مطابقتها لتوافق الاراء عليها اذلا واقع لها غير ذلک. وسيأتي ما يزيد هذا المعني توضيحا.

لذلک ليس المقابل للمشهور هو الکاذب بل الذي يقابله الشنيع وهو الذي ينکره الکافة او الاکثر. ومقابل الکاذب هو الصادق.

اقسام المشهورات :

اعلم ان المشهورات قد تکون مطلقة وهي المشهورة عند الجميع وقد تکون محدودة وهي المشهورة عند قوم دون قوم کشهرة امتناع التسلسل عند المتکلمين. وتنقسم أيضا الى جملة أقسام بحسب اختلاف اسباب الشهرة. وهي حسب الاستقراء يمکن عد اکثرها کما يلي :

١ ـ الواجبات القبول

وهي ما کان السبب في شهرتها کونها حقاً جلياً فينطابق من أجل ذلک على الاعتراف بها جميع العقلاء کالاوليات والفطريات ونحوهما. وهي التي تسمي بالمشهورات بحسب المعني الأعم کما تقدم من جهة عموم الاعتراف بها.

٢ ـ التأديبات الصلاحيه

وتسمي المحمودات والآراء المحمودة. وهي ما تطابق عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحکم بها باعتبار أن بها حفظ النظام وبقاء النوع کقضية حسن العدل وقبح الظلم. ومعني حسن العدل أن فاعله ممدوح لدي العقلاء ومعني قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم. وهذا يحتاج الى التوضيح والبيان فنقول :

إن الانسان اذا أحسن اليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في

__________________

١ ـ وتنقسم أيضاً الى حقيقية وشبيهة بالمشهورات. وسيأتي بيانها في صناعة الجدل (المبحث السابع من الباب الاول) كما سياتي هنا زيادة توضيح عن المشهورات.

٢٩١

نفسه الرضا عنه فيدعوه ذلک الى جزائه واقل مراتبه المدح على فعله. اذا أساء اليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه السخط عليه فيدعوه ذلک الى التشفي منه والانتقام واقل مراتبه ذمّه على فعله.

وکذلک الانسان يصنع اذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي وبقاء النوع الانساني فانه يدعوه ذلک الى جزائه وعلى الاقل يمدحه ويثني عليه وان لم يکن ذلک الفعل يعود بالنفع لشخص المادح وانما ذلک الجزاء لغاية حصول تلک المصلحة العامة التي تناله بوجه. واذا أساء احد بفعل لا يلائم المصلحة العامة ويخل بالنظام وبقاء النوع فان ذلک يدعو الى جزائه بذمه على الأقل وان لم يکن يعود ذلک الفعل بالضرر على شخص الذام وانما ذلک لغرض دفع المفسدة العامة التي يناله ضررها بوجه.

وکل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم لغرض تحصيل تلک الغاية العامة. وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم لأجل تحصيل المصلحة العامة تسمي (الآراء المحمودة) والتاديبات الصلاحية. وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء. وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعا بما في ذلک من مصلحة عامة.

وهذا هو معني التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الاشاعرة والعدلية فنفتهما الفرقة الاولي واثبتتهما الثانية. فاذ يقول العدلية بالحسن والقبح العقليين يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابقت عليها الآراء لما فيها من التأديبات الصلاحية وليس لها واقع وراء تطابق الآراء.

والمراد من (العقل) اذ يقولون إن العقل يحکم بحسن الشيء او قبحه هو (العقل العملي) ويقابله (العقل النظري). والتفاوت بينهما إنما هو بتفاوت المدرکات

__________________

١ ـ راجع عن توضيح هذا البحث كتاب (اصول الفقه) للمولف في مبحث الملازمات العقلية ، ففيه غنى للطالب ان شاء الله تعالى.

٢٩٢

فان کان المدرک مما ينبغي أن يعلم مثل قولهم (الکل أعظم من الجزء) الذي لا علاقة له بالعمل يسمي ادراکه (عقلاً نظرياً) وان کان المدرک مما ينبغي أن يفعل ويؤتي به اولا يفعل مثل حسن العدل وقبح الظلم يسمي ادراکه (عقلا عمليا).

ومن هذا التقرير يظهر کيف اشتبه الامر على من نفي الحسن والقبح في استدلال لهم على ذلک بأنه لو کان الحسن والقبح عقليين لما وقع التفاوت بين هذا الحکم وحکم العقل بأن الکل اعظم من الجزء لان العلوم الضرورية لا تتفاوت. ولکن لا شک بوقوع التفاوت بين الحکمين عند العقل.

وقد غفلوا في استدلالهم اذ قاسوا قضية الحسن والقبح على مثل قضية الکل اعظم من الجزء. وکأنهم ظنوا أن کل ما حکم به العقل فهو من الضروريات مع ان قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعني الاخص ومن قسم المحمودات خاصة والحاکم بها هو العقل العملي. وقضية الکل اعظم من الجزء من الضروريات الاولية والحاکم بها هو العقل النظري. وقد تقدم الفرق بين العقلين کما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات. فکان قياسهم قياسا مع الفارق العظيم والتفاوت واقع بينهما لا محالة ولا يضر هذا في کون الحسن والقبح عقليين فانه اختلط عليهم معني العقل الحاکم في مثل هذه القضايا فظنوه شيئا واحدا کما لم يفرقوا بين المشهورات واليقينيات فحسبوهما شيئا واحدا مع انهما قسمان متقابلان.

٣ ـ الخلقيات

وتسمي الآراء المحمودة أيضا وهي حسب تعريف المنطقيين ما تطابق عليها آراء العقلاء من أجل قضاء الخلق الانسان بذلک کالحکم بوجوب محافظةالحرم او الوطن وکالحکم بحسن الشجاعة والکرم وقبح الجبن والبخل.

والخلق ملکة في النفس تحصل من تکرر الفعال الصادرة من المرء على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة کالکرم فانه لا يکون خلقا للانسان الا بعد أن يتکرر منه فعل العطاء بغير بدل حتي يحصل منه الفعل بسهولة من غير تکلف.

(أقول) : هکذا عرفوا الخلقيات والخلق. فجعلوا السبب في حصول الشهرة

٢٩٣

فيها هو الخلق بهذا المعني باعتباره داعيا للعقل العملي الى ادراک أن هذا مما ينبغي فعله او مما ينبغي ترکه. ولکنا اذا وقفنا نجد أن الاخلاق الفاضلة غير عامة عند الجمهور بل القليل منهم من يتحلي بها مع انه لا ينکر أن الخلقيات مشهورة يحکم بها حتي من لم يرزق الخلق الفاضل فان الجبان يري حسن الشجاعة ويمدح صاحبها ويتمناها لنفسه اذا رجع الى نفسه وأصغي اليها ولکنه يجبن في موضع الحاجة الى الشجاعة وکذلک البخيل والمتکبر والکاذب. ولو کان الخلق بذلک المعني هو السبب للحکم فيها لحکم الجبان بحسن الجبن وقبح الشجاعة والبخيل بقبح الکرم وحسن الامساک والکذاب بقبح الصدق وحسن الکذب ... وهکذا.

والصحيح في هذا الباب أن يقال : إن الله تعالي خلق في قلب الانسان حسّاً وجعله حجة عليه يدرک به محاسن الافعال ومقابحها وذلک الحسّ هو (الضمير) بمصطلح علم الاخلاق الحديث وقد يسمي بالقلب او العقل العملي او العقل المستقيم او الحسّ السليم عند قدماء الاخلاق. وتشير اليه کتب الاخلاق عندهم.

فهذا الحسّ في القلب او الضمير هو صوت الله المدوّي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده کيف يؤنب مرتکب الرذيلة ويقرّ عين فاعل الفضيلة. وهو موجود في قلب کل انسان وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند الستجوابها عن الافعال فهي تشترک جميعا في التميير بين الفضيلة والرذيلة وان اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه کسائر قوي النفس اذ تتفاوت في الافراد قوة وضعفا.

ولأجل هذا کانت (الخلقيات) من المشهورات وان کانت الاخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر بل هي من خاصة الخاصة.

نعم الاضغاء الى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على کل انسان الا بالانقطاع الى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته واهوائه. کما أن الخلق عامة لا يحصل له وان کان له ذلک الاصغاء الا بتکرر العمل واتخاذه عادة حتي تتکوّن عنده ملکة الخلق التي يسهل معها الفعل. وبالاخص الخلق الفاضل فان افعاله التي

٢٩٤

تحققه تحتاج الى مشقة وجهاد ورياضة لانها دائما في حرب مع الشهوات والرغبات. وليس الظفر الا بعد الحرب.

٤ ـ الانفعاليات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب انفعال نفساني عام کالرقة والرحمة والشفقة والحياة والانفة والحمية والغيرة ونحو ذلک من الانفعالات التي لا يخلو منها انسان غالبا.

فتري الجمهور يحکم مثلا بقبح تعذيب الحيوان لا لفائدة وذلک اتباعاً لما في الغريزة من الرقة والرحمة. بل الجمهور بغريزيه يحکم بقبح تعذيب ذي الروح مطلقا وان کان لفائدة لو لا أن تصرف عنه الشرايع والعادات.

والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضي ويعني برعاية الايتام والمجانين لانه مقتضي الرحمة والشفقة کما يحکم بقبح کشف العورة لانه مقتضي الحياء ويمدح المدافع عن الاهل والعشيرة او الوطن والأمة لأنه مقتضي الحمية والغيرة ... الى غير ذلک من الاحکام العامة عند الناس.

٥ ـ العاديات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب جريان العادة عندهم کاعتيادهم احترام القادم بالقيام والضيف بالضيافة والرجل الديني او الملک بتقبيل يده فيحکمون لاجل ذلک بوجوب هذه الاشياء لمن يستحقها

والعادات العامة کثيرة. وقد تکون عادة لأهل بلد فقط أو قطر او أمة أو جميع الناس فتختلف لأجلها القضايا التي يحکم بها حسب العادة فتکون مشهورة عند أهل بلد او قطر او أمة غير مشهورة عند غيرهم بل يکون المشهور ضدها.

والناس يمدحون المحافظ على العادات ويذمون المخالف المستهين بها. سواء کانت العادات سيئة او حسنة فنراهم يذمون من يرسل لحيته اذاکانوا عتادوا حلقها ويذمّون الحليق لانهم اعتادوا ارسالها. ونراهم يذمون من يلبس غير المألوف لمجرد انهم لم يعتادوا لبسه.

٢٩٥

ومن أجل ذلک نري الشارع حرّم (لباس الشهرة) والظاهر ان سر التحريم ان لباس الشهرة يدعو الى اشمئزاز الجمهور من اللابس وذمهم له. واهم أغراض الشارع الالفة بين الناس وتقاربهم واجتماع کلمتهم. وورد عنه (رحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه).

کما ورد في الشريعة الاسلامية المطهرة ان منافيات المروّة مضرة في العدالة کالاکل حال المشي في الطريق العام او السوق والجلوس في الاماکن العامة کالمقاهي لشخص ليس من عادة صنفه ذلک. وما منافيات المروّة الا منافيات العادة المألوفة.

٦ ـ الاستقرائيات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب استقرائهم التام او الناقص کحکمهم بان تکرار الفعل الواحد ممل وان الملک الفقير لا بد أن يکون ظالما الى کثير من امثال ذلک من القضايا الاجتماعية والاخلاقية والاخلاقية ونحو

وکثيراً ما يکتفي عوام الناس وجمهورهم بوجود مثال واحد أو اکثر للقضية فتشتهر بينهم عندما لم يقفوا على نقض ظاهر لها کتشاؤم الاوربيين من رقم (١٣) لان واحداً منهم او أکثر اتفق له ان نکب عندما کان له هذا الرقم وکتشاؤم العرب من نعاب الغراب وصيحة البومة کذلک. ومثل هذا کثير عند الناس.

٢٩٦

٤ ـ الوهميات

والمقصود بها القضايا الوهمية الصرفة. وهي قضايا کاذبة الا أن الوهم يقضي بها قضاء شديد القوة فلا يقبل ضدها وما يقابلها حتي مع قيام البرهان على خلافها. فان العقل يؤمن بنتيجة البرهان ولکن الوهم يعاند ولا يزال يتمثل ما قام البرهان على خلافه کما ألفه ممتنعا من قبول خلافه.

ولذا تعدّ الوهميات من المعتقدات :

ألا تري أن وهم الاکثر يستوحش من الظلام ويخاف منه مع ان العقل لا يجد فرقا في المکان بين ان يکون مظلما أو منيرا فان المکان هو المکان في الحالين وليس للظلمة تأثير فيه يوجب الضرر أو الهلاک. ويخاف أيضا من الميت وهو جماد لا يتحرک ولا يضر ولا ينفع ولو عادت اليه الحياة فرضا فهو انسان مثله کما کان حيا وقد يکون من أحب الناس اليه.

ومع توجه النفس الى هذه البديهة العقلية ينکرها الوهم ويعاند فيستولي على النفس فقد تضطرب من الظلمة ومن الميت لان البديهة الوهمية أقوي تأثيرا على النفس من البرهان.

ولاجل ان يتضح لک هذا الامر جرب نفسک واسأل اصدقاءک : کيف يتمثل لاحدکم في وهمه دورة شهور السنة؟ تأمل ما أريد ان أقول لک. فان الانسان على الاکثر لا بد أن يتوهم دورة شهور السنة أو ايامها بشکل محسوس من الاشکال الهندسية (تأمل في نفسک جيدا) انه لا بد ان نتوهم هذه الدورة على شکل دائرة منتظمة او غير منتظمة او مضرسا بعدد الشهور أو شکلا مضلعا متساوي الاضلاع أو غير منتظم في اضلاع اربعة او اکثر او اقل. مع ان السنة ودورة ايامها

٢٩٧

وشهورها من المعاني المجردة غير المحسوسة. وهذا واضح للعقل غير ان الوهم اذا خطرت له السنة تمثلها في شکل هندسي وهمي يخترعه في ايام طفولته من حيث لا يشعر ويبقي وهمه معاندا مصرا على هذا التمثل الکاذب. ولعلم الانسان بکذب هذا الوهم وسخافته قد يخجل من ذکره لغيره ولکنه لا ينفک عنه في سرّه. وانما أذکر هذا المثال لان يسير لا خطر في ذکره وهو يؤدي الغرض من ذکره.

والسر في ذلک ان الوهم تابع منقاد للحس ومکبل به فما لا يقبله الحسّ لا يقبله الوهم الا لابسا ثوب المحسوس وان کانت له قابلية ادراک المجردات عن الحس کقابليته لادراک المحسوسات.

فاذا کانت احکام الوهم جارية في نفس المحسوسات فان العقل يصدقه فيها فيتطابقان في الحکم کما في الاحکام الهندسية ومثل ما اذا حکم الوهم بأن هذين الجسمين لا يحلان في مکان واحد بوقت واحد فان العقل أيضا يساعده فيه لحکمه بأن کل جسمين مطلقا کذلک فيتطابقان.

واذا کانت احکامه في غير المحسوسات وهي التي نسميها بالقضايا الوهمية الصرفة فلا بد أن تکون کاذبة لا صرار الوهم على تمثيلها على نهج المحسوسات. وهي بحسب ضرورة العقل ليست منها کما سبق في الامثلة المتقدمة فان العقل هو الذي ينزع عنها ثوب الحس الذي أضفاه عليها الوهم.

ومن امثلة ذلک حکم الوهم بأن کل موجود لا بد ان يکون مشاراً اليه وله وضع وحيز. ولا يمکنه ان يتملثه الا کذلک حتي انه يتمثل الله تعالي في مکان مرتفع علينا وربما کانت له هيئة انسان مثلا. ويعجز أيضا عن تمثيل القبلية والبعدية غير الزمانية ويعجز عن تمثيل اللانهائية فلا يتمثل عنده کيف انه تعالي کان وليس معه شيء حتي الزمان وأنه سرمدي لا اول لوجوده ولا آخر. وان کان العقل حسبما بسوق اليه البرهان يستطيع ان يؤمن بذلک ويصدق به تصديقا لا يتمثل في النفس لأن الوهم له السيطرة والاستيلاء عليها من هذه الجهة.

فان کان الوهم مسيطرا على النفس على وجه لا يدع لها مجالا للتصديق بوجود

٢٩٨

مجرد عن الزمان والمکان فان العقل عندما يمنعها من تجسيمه وتمثيله کالمحسوس تهرب النفس من حکم العقل وتلتجيء الى أن تنکر وجوده رأسا شأن الملحدين.

ومن أجل هذا کان الناس لغلبة الوهم على نفوسهم بين مجسم وملحد. وقلّ من يتنور بنور العقل ويجرد نفسه عن غلبة اوهامها فيسمو بها الى ادراک ما لا يناله الوهم. ولذا قال تعالي في کتابه المجيد : (وما اکثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) فنفي الايمان عن أکثر الناس. ثم هؤلاء المؤمنون القليلون قال عنهم : (وما يؤمن أکثرهم بالله الا وهم مشترکون) يعني انهم في حين ايمانهم هم مشرکون. وما ذلک الا لانهم لغلبة الوهم انما يعبدون الاصنام التي ينحتونها بأوهامهم والا کيف يجتمع الايمان والشرک في آن واحد اذا اريد بالشرک من الآية معناه المعروف وهو العبادة للاصنام الظاهرية.

والخلاصة ان القضايا الوهمية الصرفة التي نسميها (الوهميات) هي عبارة عن احکام الوهم في المعاني المجردة عن الحسّ. وهي قضايا کاذبة لا ظل لها من الحقيقة ولکن بديهة الوهم لا تقبل سواها. ولذلک يستخدمها المغالط في اقيسته کما سيأتي في (صناعة المغالطة). الا ان العقل السليم من تأثير الوهم يتجرد عند ولا يخضع لحکمه فيکشف کذب احکامه للنفس.

٢٩٩

٥ ـ المسلمات

وهي قضايا حصل التسالم بينک وبين غيرک على التسليم بأنها صادقة سواء کانت صادقة في نفس الامر أو کاذبة کذلک او مشکوکة.

والطرف الآخر ان کان خصما فان استعمال المسلمات في القياس معه يراد به افحامه. وان مستر شدا فإنه يراد به ارشاده واقناعه ليحصل له الاعتقاد بالحق بأقرب طريق عندما لايکون مستعدا لتلقي البرهان وفهمه.

ثم ان المسلمات إما (عامة) سواء کان التسليم بها من الجمهور عندما تکون من المشهورات او کان التسليم بها من طائفة خاصة کأهل دين أوملّة او علم خاص. وخصوص هذه المسلمات في علم خاص تسمي (الاصول الموضوعة) لذلک العلم عندما يکون التسليم بها عن مسامحة على سبيل حسن الظن من المتعلّم بالمعلّم. وهذه الاصول الموضوعة هي مباديء ذلک العلم التي تبتني عليها براهينه وان کان قد يبرهن عليها في علم آخر واما اذا کان التسليم بها من المتعلم من باب المجاراة مع الاستنکار والتشکيک بها کما يقع ذلک في المجادلات فتسمي حينئذ بـ (المصادرات).

وإما (خاصة) اذا کان التسليم بها من شخص معين وهو طرفک الآخر في مقام الجدل والخاصمة کالقضية التي تؤخذ من اعترافات الخصم ليبتني عليها الاستدلال في ابطال مذهبه او دفعه.

٣٠٠