المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٥

٢ ـ الاسقراء

تعريفه :

عرفنا الاستقراء فيما سبق بأنه هو «أن يدرس الذهن عدة جزئيات فيستنبط منها حکما عاما» کما لو درسنا عدة أنواع من الحيوان فوجدنا کل نوع منها يحرک فکه الأسفل عند المضغ فنستنبط منها قاعدة عامة وهي : ان کل حيوان يحرک فکه الأسفل عند المضغ.

والاستقراء هو الأساس لجميع أحکامنا الکلية وقواعدنا العامة لأن تحصيل القاعدة العامة والحکم الکلي لا يکون الا بعد فحص الجزئيات واستقرائها فاذا وجدناها متحدة في الحکم نلخص منها القاعدة أو الحکم الکلي. فحقيقة الاستقراء هو الاستدلال بالخاص على العام وعکسه القياس وهو الاستدلال بالعام لعي الخاص لأن القياس لا بد أن يشتمل على مقدمة کلية الغرض منها تطبيق حکمها العام على موضوع النتيجة.

أقسامه :

والاستقراء على قسمين تام وناقض لأنه اما ان يتصفح فيها حال الجزئيات بأساها أو بعضها.

والأول (التام) وهو يفيد اليقين. وقيل بأنه يرجع الى القياس المقسم المستعمل في البراهين کقولنا : کل شکل اما کروي واما مضلع وکل کروي متناه وکل مضلع متناه فينتج (کل شکل متناه).

__________________

(١) القياس المقسم من نوع المؤلف من المنفصلة والحملية ولكن له حمليات بعدد اجزاء المنفصلة ، ولا تحول فيه المنفصلة الى متصلة بل تبقي على حالها ، ويشبه ان ينحل الى عدة قياسات حملية بعدد اجزاء المنفصلة.

٢٦١

والثاني (الناقص) وهو الا يفحص المستقري الا بعض الجزئيات کمثال الحيوان من انه يحرک فکه الاسفل عند المضغ بحکم الاستقراء لأکثر أنواعه. وقالوا انه لا يفيد الا الظن لجواز أن يکون أحد جزئياته ليس له هذا الحکم کما قيل ان التمساح يحرک فکه الأعلي عند المضغ.

شبهة مستعصية

ان القياس الذي هو العمدة في الأدلة على المطالب الفلسفية وهو المفيد لليقين لما کان يعتمد على مقدمة کلية على کل حال فان الاساس فيه لا محالة هو الاستقراء لما قدمنا أن کل قاعدة کلية لا تحصل لنا الا بطريق فحص جزئياتها.

ولا شک ان أکثر القواعد العامة غير متناهية الافراد فلا يمکن تحصيل الاستقراء التام فيها.

فيلزم على ذلک أن تکون أکثر قواعدنا التي نعتمد عليها لتحصيل الاقيسة ظنبة فيلزم أن تکون اکثر اقيستنا ظنية وأکثر ألتنا غير برهانية في جميع العلوم والفهون. وهذا ما لا يتوهمه أحد.

فهل يمکن أن ندعي ان الاستقراء الناقص يفيد العلم اليقيني فنخالف جميع المنطقيين الاقدمين. ربما تکون هذه الدعوي قريبة الى القبول اذ تجد انا نتيقن بأمور عامة ولم يحصل لنا استقراء جميع أفرادها کحکمنا قطعا بأن الکل أعظم من الجزء مع استحالة استقراء جميع ما هو کل وما هو جزء وکحکمنا بأن الاثنين نصف الاربعة مع استحالة استقراء کل اثنين وکل أربعة وکحکمنا بأن کل نار محرقة وان کل انسان يموت مع استحالة استقراء جميع أفراد النار والانسان ... وهکذا ما لا يحصي من القواعد البديهية فضلا عن النظرية.

حل الشبهة

فنقول في حل الشبهة ان الاستقراء على أنحاء :

١ ـ أن يبني على صرف المشاهدة فقط فاذا شاهد بعض الجزئيات أو اکثرها

٢٦٢

أن لها وصفا واحدا الستنبط ان هذا الوصف يثبت لجميع الجزئيات کمثال استقراء بعض الحيوانات انها تحرک فکها الاسفل عند المضغ. ولکن هذا الاستنباط قابل للنقض فلا يکون الحکم فيه قطعيا وعلى هذا النحو اقتصر نظر المنطقيين القدماء في بحثهم.

٢ ـ أن يبني ذلک على التعليل أيضا. بأن يبحث المشاهد لبعض الجزئيات عن العلة في ثبوت الوصف فيعرف ان الوصف انما ثبت لتلک الجزئيات المشاهدة لعلة أو خاصية موجودة في نوعها ولا شبهة عند العقل ان العلة لا يتخلف عنها معلولها أبدا. فيجزم المشاهد المستقري حينئذ جزما قاطعا بثبوت الوصف لجميع جزئيات ذلک النوع وان لم يشاهدها. کما اذا شاهد الباحث أن بعض العقاقير يؤثر الاسهال فبحث عن علة هذا التأثير وحلل ذلک الشيء الى عناصره فعرف تأثيرها في الجسم الاسهال في الاحوال الاعتيادية فانه يحکم بالقطع أن هذا الشيء يحدث هذا الاثر دائما.

وجميع الاکتشافات العلمية وکثير من أحکامنا على الأمور التي نشاهدها من هذا النوع وليست هذه الاحکام قابلة للنقض فلذلک تکون قطعية کحکمنا بأن الماء ينحدر منالمکان العالي فانا لا نشک فيه مع انا لم نشاهد من جزئياته الا أقل القليل وما ذلک الا لأنا عرفنا السر في هذا الانحدار. نعم اذا انکشف للباحث خطأ ما حسبه انه علة وان للوصف علة وان للوصف علة أخري فلا بد أن يتغير حکمه وعلمه.

٣ ـ أن يبني على بديهة العقل کحکمنا بأن الکل أعظم من الجزء فان تصور الکل وتصور الجزء وتصور معني أعظم هو کاف لهذا الحکم. وليس هذا في الحقيقة استقراء لأنه لا يتوقف على المشاهدة فان تصور الموضوع والمحمول کاف للحکم وان لم تشاهد جزئيا واحدا منها.

٤ ـ أن يبني على المماثلة الکاملة بين الجزئيات کما اذا اختبرنا بعض جزئيات نوع من الثمر فعلمنا بأنه لذيذ الطعم مثلا فانا نحکم حکما قطعيا بأن کل جزئيات هذا النوع لها هذا الوصف وکما اذا برهنا مثلا على أن مثلثا معينا تساوي زواياه

٢٦٣

قائمتين فانا نجزم جزما قاطعا بأن کل مثلث هکذا فيکفي فيه فحص جزئي واحد وما ذلک الا لأن الجزئيات متماثلة متشابهة في التکوين فوصف واحد منها يکون وصفا للجميع بغير فرق.

وبعد هذا البيان لهذه الاقسام الاربعة يتضح ان ليس کل استقراء ناقص لا يفيد اليقين الا اذا کان مبنيا على المشاهدة المجردة ويسمي القسم الثاني وهو الاستقراء المبني على التعليل في المنطق الحديث (بطريق الاستنباط) أو طريق البحث العلمي وله أبحاث لا يسعها هذا الکتاب.

٢٦٤

٣ ـ التمثيل

تعريفه :

هذا ثالث انواع الحجة وبه تنتهي مباحث (الباب الخامس). والتمثيل على ما عرفناه سابقا هو «أن ينتقل الذهن من حکم أحد الشيئين الى الحکم على الآخر لجهة مشترکة بينهما». وبعبارة أخري هو : «اثبات الحکم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له».

و(التمثيل) هو المسمي في عرف الفقهاء (بالقياس) الذي يجعله أهل السنة من أدلة الاحکام الشرعية. والإمامية ينفون حجيته ويعتبرون العمل به محقاللدين وتضييعا للشريعة.

مثاله : الذا ثبت عندنا ان النبيذ يشابه الخمر في تأثير السکر على شاربه وقد ثبت عندنا أن حکم الخمر هو الحرمة فلنا أن نستنبط ان النبيذ أيضا حرام او على الاقل محتمل الحرمة للاشتراک بينهما في جهة الاسکار.

ارکانه :

وللتمثيل أربعة أرکان :

١ ـ (الأصل) وهو الجزئي الأول المعلوم ثبوت الحکم له کالخمر في المثال.

٢ ـ (الفرع) وهو الجزئي الثاني المطلوب اثبات الحکم له کالنبيذ في المثال.

٣ ـ (الجامع) وهو جهة الشبه بين الأصل والفرع. کالاسکار في المثال.

٤ ـ (الحکم) المعلوم ثبوته في الأصل والمراد اثباته للفرع کالحرمة في المثال.

فاذا توفرت هذه الارکان انعقد التمثيل فلو کان الأصل غير معلوم الحکم أو

٢٦٥

فاقدا للجامع المشترک لا يحصل التمثيل. وهذا واضح.

قيمته العلمية :

ان التمثيل على بساطته من الادلة التي ال تفيد الا الاحتمال. لأنه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر بل في عدة أمور ان يتشابها من جميع الوجوه فاذا رأيت شخصا مشابها لشخص آخر في طوله او في ملامحه أو في بعض عاداته وکان أحدهما مجرما قطعا فانه ليس لک ان تحکم على الآخر بأنه مجرم أيضا لمجرد المشابهة بينهما في بعض الصفات أو الافعال.

نعم اذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع وکثرت يقوي عندک الاحتمال حتي يقرب من اليقين ويکون ظنا. والقيافة من هذا الباب فانا قد نحکم على شخص انه صاحب أخلاق فاضلة أو شرير بمجرد أن نراه لأنا کنا قد عرفنا شخصا قبله يشبهه کثيرا في ملامحه أو عاداته وکان ذا خلق فاضل أو شريرا .. ولکن کل ذلک لا يغني عن الحق شيئا.

غير انه يمکن أن نعلم ان (الجامع) أي جهة المشابهة علة تامة لثبوت الحکم في الأصل وحينئذ نستنبط على نحو اليقين ان الحکم ثابت في الفرع لوجود علته التامة فيه لأنه يستحيل تخلف المعلول عن علته التامة. ولکن الشأن کله انما هو في اثبات ان الجامع علة تامة للحکم. لأنه يحتاج الى بحث وفحص ليس من السهل الحصول عليه حتي في الأمور الطبيعية. والتمثيل من هذه الجهة يلحق بقسم الاستقراء المبني على التعليل الذي أشرنا اليه سابقا بل هو نفسه.

اما اثبات ان الجامع هو العلة التامة لثبوت الحکم في المسائل الشرعية فليس لنا طريق اليه الا من ناحية الشارع نفسه ولذا لو کانت العلة منصوصا عليها من الشارع فانه ال خلاف بين الفقهاء جميعا في الاستدلال بذلک على ثبوت الحکم في الفرع کقوله لعيه السلام. «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأن له مادة» فانه يستنبط منه ان کل ماء له مادة کماء الحمام وماء حنفية الاسالة فهو واسع لا يفسده شيء.

٢٦٦

وفي الحقيقة ان التمثيل المعلوم فيه ان الجامع علة تامة يکون من باب القياس البرهاني المفيد لليقين اذا يکون فيه الجامع حدا أوسط والفرع حدا أصغر والحکم حدا أکبر فنقول في مثال الماء :

١ ـ ماء الحمام له مادة.

٢ ـ وکل ماء له مادة واسع لا يفسده شيء (بمقتضي التعليل في الحديث).

ينتج ماء الحمام واسع لا يفسده شيء.

وبهذا يخرج عن اسم التمثيل واسم القياس باصطلاح الفقهاء الذي کان محل الخلاف عندهم.

٢٦٧

تمرينات

على الاقيسه

١ ـ استدل بعضهم على نفي الوجود الذهني بأنه لوکانت الماهيات موجودة في الذهن لکان الذهن حارا باردا بتصور الحرارة والبرودة ومستقيما ومستديرا وهکذا واللازم باطل فالملزوم مثله. والمطلوب أن تنظم هذا الکلام قياسا منطقيا مع بيان نوعه.

٢ ـ استدل بعضهم على أن اللع تعالي عالم بأن فاقد الشيء لا يعطيه وهو سبحانه قد خلق فينا العلم فهو عالم فبين نوع هذا الاستدلال ونظمه.

٣ ـ المروي ان العلماء ورثة الانبياء ولکنهم لما لم يرثوا منهم المال والعقار فقد ورثوا العلم والاخلاق فهل هذا استدلال منطقي؟ وبين نوعه.

٤ ـ استدل بعضهم على ثبوت الوجود الذهني فقال : «لا شک في أنا نحکم حکما ايجابيا على بعض الاشياء المستحيلة کحکمنا بأن اجتماع النقيضين يغاير اجتماع الضدين. والموجبة تستدعي وجود موضوعها ولما لم يکن هذا الوجود في الخارج فهو في الذهن» فکيف تنظم هذا الدليل على القواعد المنطقية مع بيان نوعه وانه بسيط او مرکب. مع العلم ان قوله : «ولما لم يکن هذا الوجود .. الخ» عبارة عن قياس استثنائي.

٥ ـ واستدلوا على لزوم وجود موضوع القضية الموجبة بأن ثبوت شيء لشيء يستدعي ثبوت المثبت له فکيف تنظم هذا الکلام قياسا منطقيا.

٦ ـ ضع القضايا الآتية في صورة قياس مع بيان نوعه وشکله «صاحب الحجة البرهانية لا يغلب» لأنه «کان على حق» و«کل صاحب حق لا يغلب». واذا کانت القضية الاولي شرطية لعي هذه الصورة : «اذا کانت الحجة برهانية فصاحبها لا

٢٦٨

يغلب» فکيف تؤلف المقدمات لتجعل هذه الشرطية نتيجة لها ومن أي نوع يکون القياس حينئذ.

٧ ـ ضع القضايا الآتية في صورة قياس مع بيان نوعه : «انما يحشي الله من عباده العلماء» ولکن «لما لم يخش خالد الله سبحانه فهو ليس من العلماء».

٨ ـ ما الشکل الذي ينتج جميع المحصورات الاربع.

٩ ـ افحص عن السر في الشکل الثالث الذي يجعله لا ينتج الا جزئية.

١٠ ـ في أي شکل يجوز فيه أن تکون کبراه جزئية ويکون منتجا.

١١ ـ اذا کانت احدي المقدمتين في القياس جزئية فلما ذا يجب أن تکون المقدمة الأخري کلية.

١٢ ـ اذا کانت الصغري في القياس سالبة فهل يجوز أن تکون الکبري جزئية ولماذا؟

١٣ ـ کيف نحصل النتيجه من هذين المنفصلتين : «الانسان اما عالم أو جاهل» حقيقية. و«الانسان اما جاهل أو سعيد» مانعة خلو.

١٤ ـ هل يمکن أن نؤلف من المنفصلتين الآتيتين قياسا منتجا : «اما ان يسعي الطالب اولا ينجح في الامتحان» مانعة خلو. و«الطالب اما أن يسعي أو يتهاون» مانعة جمع.

١٥ ـ جاء سائل الى شخص والخ بالطلب کثيرا فاستنتج المسؤول من إلحاحه انه ليس بمستحق وهذا الاستنتاج بطريق قياس الاستثناء فکيف تستخرجه؟

١٦ ـ البراهين في قاعدة نقض المحمول (من صفحة ١٨٦ الى ١٩٠) الى قياسات منطقية طبقا لما عرفته من القواعد في القياس البسيط والمرکب.

١٧ ـ حاول أن تطبق أيضا البراهين في عکس النقيض على قواعد القياس.

١٨ ـ البرهان على نقض محمول الموجبة الکلية (صفحة ١٨٦) يمکن إرجاعه الى قياس المساواة والى قياس شرطي من متصلتين فکيف ذلک؟ وکذلک نظائره

٢٦٩

انتهى الجزء الثاني

٢٧٠
٢٧١

المنطق

بقلم

المغفور له المجتهد المجدد

الشيخ محمّدرضا المظفر

الجزء الثالث

الصناعات الخمس

٢٧٢
٢٧٣

الباب السادس

الصناعات الخمس

٢٧٤
٢٧٥

تمهيد

تقدم أن للقياس مادة وصورة. والبحث عنه يقع من کلتا الجهتين. وما تقدم في (الباب الخامس) کان بحثا عنه من جهة صورته أي هيئة تأليفه على وجه لو تألف القياس بحسب الشروط التي للهيئة وکانت مقدماته (أي مواده) مسلمة صادقة کان منتجا لا محالة أي کانت نتيجته صادقة تبعا لصدق مقدماتها. ومعني ذلک أن القياس اذا احتفظ بشروط الهيئة فان مقدماته لو فرض صدقها فان صدقها يستلزم صدق النتيجة.

ولا يبحث هناک عما اذا کانت المقدمات صادقة في أنفسها ام لا بل انما يبحث عن الشروط التي بموجبها يستلزم صدق المقدمات صدق النتيجة على تقير فرض صدق المقدمات.

وقد حل الآن الوفاء بما وعدناک به من البحث عن القياس من جهة مادته. والمقصود من المادة مقدماته في انفسها مع قطع النظر عن صحة تأليفها بعضها مع بعض. وهي تختلف من جهة الاعتقاد بها والتسليم بصدقها وعدمهما وان کانت صورة القياس واحدة لا تختلف : فقد تکون القضية التي تقع مقدمة مصدّقا بها وقد لا تکون. والمصدّق بها قد تکون يقينية وقد تکون غير يقينية على التفصيل الذي سيأتي.

وبحسب اختلاف المقدمات وبحسب ما تؤدي اليه من نتائج وبحسب اغراض تأليفها ينقسم القياس الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة. والبحث عن هذه الاقسام الخمسة أو استعمالها هي (الصناعات الخمس) فيقال

٢٧٦

مثلا : صناعة البرهان وصناعة الجدل ... وهکذا.

وقبل الدخول في بحثها واحدة واحدة تذکر من باب المقدمه انواع القضايا المستعملة في القياس وأقسامها. او فقل حسب الاصطلاح العلمي (مباديء الاقيسة). ثم نذکر بعد ذلک الصناعات في خمسة فصول :

٢٧٧

المقدمه

في مبادئ الاقيسه

سبق أن قلنا في تصدير الباب الخامس : أنه لا يجب في کل قضية أن تطلب بدليل وحجة بل لا بد من الانتهاء في الطلب الى قضايا مستغنية عن البيان والقامة الحجة.

والسر في ذلک ان مواد الاقيسة سواء کانت يقينية او غير يقينية إما أن تکون في حد نفسها مسغنية عن البيان واقامة الحجة بمعني انه ليس من شانها ان تکون مطلوبة بحجة وإما ان تکون محتاجة الى البيان. ثم هذه الاخيرة المحتاجة لا بد أن ينتهي طلبها الى مقدمات مستغنية بنفسسها عن البيان والاّ لزم التسلسل في الطلب الى غير النهاية. أو نقول : انه يلزم من ذلک الاّ ينتهي الانسان الى علم أبدا ويبقي في جهل الى آخر الآباد. والوجدان يشهد على فساد ذلک.

وهاتيك المقدمات المستغنية عن البيان تسمى (مباديء المطالب) أو (مباديء الاقيسة). وهي ثمانية اصناف : يقينيات ، ومظنونات ، ومشهورات ، ووهميات ، ومسلمات ، ومقبولات ، ومشبهات ، ومخيلات. ونذكرها الآن بالتفصيل :

٢٧٨

١ ـ يقينيات

تقدم في أول الجزء الاول ان لليقين معنيين : اليقين بالمعنى الاعم وهو مطلق الاعتقاد الجازم ، واليقين بالمعنى الاخص وهو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يحتمل النقيض لا عن تقليد. والمقصود باليقين هنا هو هذا المعنى الاخير ، فلا يشمل الجهل المركب ولا الظن ولا التقليد وان كان معه جزم.

توضيح ذلك ان اليقين بالمعنى الاخص يتقوم من عنصرين : (الاول) أن ينضم الى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثان ـ اما بالفعل او بالقوة القريبة من الفعل ـ أن ذلك المعتقد به لا يمكن نقضه. وهذا الاعتقاد الثاني هو المقوم لكون الاعتقاد جازماً أي اليقين بالمعنى الاعم. و (الثاني) أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لايمكن زواله. وانما يكون كذلك اذا كان مسببا عن علته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها. وبهذا يفترق عن التقليد لأنه ان كان معه اعتقاد ثان فان هذا الاعتقاد يمكن زواله لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه ، بل انما هو من جهة التبعية للغير ثقة به وايماناً بقوله فيمكن فرض زواله ، فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للاول واجبة في نفس الامر.

ولاجل اختلاف سبب الاعتقاد من كونه حاضراً لدى العقل او غائباً يحتاج الى الكسب ... تنقسم القضية اليقينية الى بديهية ، ونظرية كسبية تنتهي لا محالة الى البديهيات ، فالبديهيات ـ اذن ـ هي اصول اليقينيات ، وهي على ستة انواع بحكم الاستقراء : اوليات ومشاهدات وتجربيات ومتواترات وحدسيات وفطريات.

١ ـ الاوليات

وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها أي بدون سبب خارج عن ذاتها بأن

٢٧٩

يکون تصور الطرفين مع توجه النفس الى النسبة بينهما کافيا في الحکم والجزم بصدق القضية فکلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية الطرفين على حقيقتها وقع له التصديق بها فورا عندما يکون متوجها لها. وهذا مثل قولنا «الکل أعظم من الجزء» و«النقيضان لا يجتمعان».

وهذه (الاوليات) منها ما هو جلي عند الجميع اذ يکون تصور الحدود حاصلا لهم جميعا کالمثالين المتقدمين ومنها ما هو خفي عند بعض لوقوع الالتباس في تصوّر الحدود ومتي ما زال الالتباس بادر العقل الى الاعتقاد الجازم.

ونحن ذاکرون هنا مثالا دقيقا على ذلک مستعينين بنباهة الطالب الذکي على ايضاحه. وهو قولهم «الوجود موجود» فان بعض الباحثين اشتبه عليه معني موجود اذ يتصور أن معناه (انه شيء له الوجود) فقال : لا يصح الحکم على الوجود بأنه موجود والا لکان للوجود وجود آخر وهذا الآخر أيضا موجود فيلزم ان يکون له وجود ثالث ... وهکذا فيتسلسل الى غير النهاية. لأجله أنکر هذا القائل اصالة الوجود وذهب الى الصالة الماهية

ولکن نقول : ان هذا الزعم ناشيء عن الغفلة عن معني (موجود) فانه قد يتضح للفظ موجود معني آخر اوسع من الأول. وهو المعني المشترک الذي يشمله ويشمل معني ثانيا وهو مالا يکون الوجود زائدا عليه بل کونه موجودا هو بعينه کونه وجودا لا أن له وجود آخر وذلک بان يکون معني موجود منتزعا من صميم ذات الوجود لا باضافة وجود آخر زائد عليه. فانه يقال مثلا ـ : الانسان موجود وهو صحيح ولکن باضافة الوجود الى الانسان ويقال أيضا : الوجود موجود. وهو صحيح أيضا ولکن بنفسه لا باضافة وجود ثان اليه وهو أحق بصدق الموجود عليه. کما يقال : الجسم أبيض باضافة البياض اليه. ويقال : البياض أبيض ولکنه بنفسه لا ببياض آخر وصدق الابيض عليه أولي من صدقه على الجسم الذي صار

__________________

١ ـ تقدم في الجزء الاول بيان معنى توجه النفس والحاجة اليه. وهذا البحث عن معنى التوجه وأسبابه وضرورته من مختصات هذا الكتاب التي لم يسبق اليها سابق فيما نعلم بهذا التفصيل.

٢٨٠