المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٥

 

١

٢

 

٣

٤

الإهداء :

إلى

أعزائنا الذين وهبنا لهم زهرة حياتنا

ومن ينتظرهم الغد قدوة صالحة

إلى الشباب الديني المتحفز

إلى طلابنا :

أهدي هذا السفر ، لأنه لكم ، وهو من وحي حاجتكم ... والأمل : أن تحققوا حسن الظن بكم ، على ما عاهدتم عليه مدرستكم من الجهاد ، لترفعوا راية العلم والدين بأقلامكم ومقاولكم ، في عصر انغمس بالمادة فنسي الروح ، وانجرف بالعاطفة فأضاع الأخلاق ...!

إليكم يا أفلاذ القلوب! أهدي هذا المجهود المتواضع.

المظفر

٥
٦

المدخل

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

٨

الحاجة إلى المنطق :

خلق الله الإنسان مفطوراً على النطق ، وجعل اللسان آلة ينطق بها ولكن مع ذلك يحتاج إلى ما يقوم نطقه ويصلحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلمها ، من ناحية هيئات الألفاظ وموادها : فيحتاج أولاً إلى المدرب الذي يعوِّده على ممارستها ، وثانياً إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ. وذلك هو النحو والصرف.

وكذلك خلق الله الإنسان مفطوراً على التفكير بما منحه من قوة عاقلة مفكرة ، لا كالعجماوات. ولكن مع ذلك نجده كثير الخطأ في أفكاره : فيحسب ما ليس بعلة علة ، وما ليس بنتيجة لأفكاره نتيجة ، وما ليس ببرهان برهانا ، وقد يعتقد بأمر فاسد أو صحيح من مقدمات فاسدة وهكذا. فهو إذن بحاجة إلى ما يصحح أفكاره ويرشده إلى طريق الاستنتاج الصحيح ، ويدرِّبه على تنظيم أفكاره وتعديلها. وقد ذكروا أن (علم المنطق) هو الأداة التي يستعين بها الإنسان على العصمة من الخطأ ، وترشده إلى تصحيح أفكاره ، فكما أن النحو والصرف لا يعلمان الإنسان النطق وإنما يعلمانه تصحيح النطق ، فكذلك علم المنطق لا يعلم الإنسان التفكير ، بل يرشده إلى تصحيح التفكير.

إذن فحاجتنا إلى المنطق هي تصحيح أفكارنا. وما أعظمها من حاجة! ولو قلتم : أن الناس يدرسون المنطق ويخطئون في تفكيرهم فلا نفع فيه ، قلنا لكم : إن الناس يدرسون علمي النحو والصرف ، فيخطئون في نطقهم ، وليس ذلك إلا لأن الدارس للعلم لا يحصل على ملكة العلم ، أو لايراعي قواعده عند الحاجة ، أو يخطئ

٩

في تطبيقها ، فيشذ عن الصواب.

تعريف علم المنطق

ولذلك عرفوا علم المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر). فانظر إلى كلمة (مراعاتها) ، واعرف السر فيها كما قدمناه ، فليس كل من تعلم المنطق عصم عن الخطأ في الفكر ، كما أنه ليس كل من تعلم النحو عصم عن الخطأ في اللسان ، بل لابد من مراعاة القواعد وملاحظتها عند الحاجة ، ليعصم ذهنه أو لسانه.

المنطق آلة :

وانظر إلى كلمة (آلة) في التعريف وتأمل معناها ، فتعرف أن المنطق إنما هو من قسم العلوم الآلية التي تستخدم لحصول غاية ، هي غير معرفة نفس مسائل العلم ، فهو يتكفل ببيان الطرق العامة الصحيحة التي يتوصل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة ، كما يبحث (علم الجبر) عن طرق حل المعادلات التي بها يتوصل الرياضي إلى المجهولات الحسابية.

وببيان أوضح : علم المنطق يعلمك القواعد العامة للتفكير الصحيح حتى ينتقل ذهنك إلى الأفكار الصحيحة في جميع العلوم ، فيعلمك على أية هيئة وترتيب فكري تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأمور الغائبة عنك ولذا سموا هذا العلم (الميزان) و (المعيار) من الوزن والعيار ، وسموه بأنه (خادم العلوم) حتى علم الجبر الذي شبهنا هذا العلم به ، يرتكز حل مسائله وقضاياه عليه.

فلا بد لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه الأداة وإجراء عمليتها في أثناء الدراسة ، شأن العلوم الرياضية والطبيعية.

١٠

العلم (*)

تمهيد

قلنا : إن الله تعالى خلق الإنسان مفطوراً على التفكير مستعداً لتحصيل المعارف بما أعطى من قوة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات. ولا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه ، مقدمة لتعريف العلم ولبيان علاقة المنطق به ، فنقول :

١ ـ إذا ولد الإِنسان يولد وهو خالي النفس من كل فكرة وعلم فعلي ، سوى هذا الاستعداد الفطري. فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس ، نراه يحس بما حوله من الأشياء ويتأثر بها التأثر المناسب ، فتنفعل نفسه بها ، فنعرف أن نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها (العلم) ، وهي العلم الحسي الذي هو ليس إلا حسّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواس الخمس : (الباصرة ، السامعة ، الشامة ، الذائقة ، اللامسة). وهذا أول درجات العلم ، وهو

__________________

(*) المبحوث عنه هنا هو العلم المعبر عنه في لسان الفلاسفة ب‍ «العلم الحصولي». أما «العلم الحضوري» ـ كعلم النفس بذاتها وبصفاتها القائمة بذاتها وبأفعالها وأحكامها وأحاديثها النفسية ، وكعلم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته ـ فلا تدخل فيه الأبحاث الآتية في الكتاب ، لأنه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه ، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجي العيني للعالم ، فان الواحد منا يجد من نفسه أنه يعلم بنفسه وشؤونها ويدركها حق الإدراك ، ولكن لا بانتقاش صورها ، وإنما الشئ الموجود هو حاضر لذاته دائما بنفس وجوده ، وكذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها. فيكون الفرق بين الحصولي والحضوري :

١ ـ إن الحصولي هو حضور صورة المعلوم لدى العالم

والحضوري هو حضور نفس المعلوم لدى العالم.

٢ ـ إن المعلوم بالعلم الحصولي وجوده العلمي غير وجوده العيني

وإن المعلوم بالعلم الحضوري وجوده العلمي عين وجوده العيني.

٣ ـ إن الحصولي هو الذي ينقسم إلى التصور والتصديق

والحضوري لا ينقسم إلى التصور والتصديق.

١١

رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الإنسان ، ويشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواس أو بعضها.

٢ ـ ثم تترقى مدارك الطفل فيتصرف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده ، فينسب بعضها إلى بعض : هذا أطول من ذاك ، وهذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ويؤلف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج ، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها ، فيتخيل البلدة التي لم يرها ، مؤلفة من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان. وهذا هو (العلم الخيالي) يحصل عليه الإنسان بقوة (الخيال) ، وقد يشاركه فيه بعض الحيوانات.

٣ ـ ثم يتوسع في إدراكه إلى أكثر المحسوسات ، فيدرك المعاني الجزئية التي لا مادة لها ولا مقدار : مثل حب أبويه له وعداوة مبغضيه ، وخوف الخائف ، وحزن الثاكل ، وفرح المستبشر وهذا هو (العلم الوهمي) يحصل عليه الإنسان كغيره من الحيوانات بقوة (الوهم). وهي ـ هذه القوة ـ موضع افتراق الإنسان عن الحيوان ، فيترك الحيوان وحده يدبر ادراكاته بالوهم فقط ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوة والحول المحدود.

٤ ـ ثم يذهب هو ـ الإنسان ـ في طريقه وحده متميزا عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حد لها ولا نهاية ، فيدير بها دفة مدركاته الحسية والخيالية والوهمية ، ويميز الصحيح منها عن الفاسد ، وينتزع المعاني الكلية من الجزئيات التي أدركها فيتعقلها ، ويقيس بعضها على بعض ، وينتقل من معلوم الى آخر ، ويستنتج ويحكم ، ويتصرف ما شاءت له قدرته العقلية والفكرية. وهذا (العلم) الذي يحصل للانسان بهذه القوة هو العلم الاكمل الذي كان به الانسان انساناً ، ولأجل نموه وتكامله وضعت العلوم وألفت الفنون ، وبه تفاوتت الطبقات واختلفت الناس. وعلم المنطق وضع من بين العلوم ، لاجل تنظيم تصرفات هذه القوة خوفاً من تأثير الوهم والخيال عليها. ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها.

تعريف العلم :

وقد تسأل على أي نحو تحصل للانسان هذه الادراكات؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الادراكات بعض الشيء ، ولزيادة التوضيح نكلفك أن

١٢

تنظر إلى شيء أمامك ثم تنطبق عينيك موجها نفسك نحوه ، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه ، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة مثلاً ـ ثم سددت أذنيك موجها نفسك نحوها ، فستحس من نفسك كأنك لا تزال تسمعها وهكذا في كل حواسك. إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيداً يسهل عليك أن تعرف أن الإدراك أو العلم إنما هو انطباع صور الأشياء في نفسك ولا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة. ولذلك عرفوا العلم بأنه :

«حضور صورة الشيء عند العقل».

أو فقل انطباعها في العقل ، لا فرق بين التعبيرين في المقصود.

١٣

التصور والتصديق

إذا رسمت مثلّثاً تحدث في ذهنك صورة له ، هي علمك بهذا المثلث ، ويسمى هذا العلم (بالتصور). وهو تصور مجرد لا يستتبع جزما واعتقادا. وإذا تنبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضا صورة في ذهنك. وهي أيضاً من (التصور المجرد). وإذا رسمت خطأ أفقيا وفوقه خطأ عموديا مقاطعا له تحدث زاويتان قائمتان ، فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك. وهي من (التصور المجرد) أيضاً.

وإذا أردت أن تقارن بين القائمتين ومجموع زوايا المثلث ، فتسأل في نفسك هل هما متساويان؟ وتشك في تساويهما ، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من (التصور المجرد) أيضا.

فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة. وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس وإذعانها وتصديقها بالمطابقة. وهذه الحالة أي (صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها وأدركتها) هي التي تسمى (بالتصديق) ، لأنها إدراك يستلزم تصديق النفس وإذعانها ، تسمية للشيء باسم لازمة الذي لا ينفك عنه.

إذن ، إدراك زوايا المثلث ، وإدراك الزاويتين القائمتين ، وإدراك نسبة التساوي بينهما كلها (تصورات مجردة) لا يتبعها حكم وتصديق. أما إدراك [أنّ] هذا التساوي صحيح واقع مطابق للحقيقة في نفس الأمر فهو (تصديق).

وكذلك إذا أدركت أن النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع ، فهذا الإدراك (تصديق).

(تنبيه) إذا لاحظت ما مضى يظهر لك أن التصور والإدراك والعلم كلها

١٤

ألفاظ لمعنى واحد ، وهو : حضور صور الأشياء عند العقل. فالتصديق أيضاً تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها. وإنما لأجل التمييز بين التصور المجرد أي غير المستتبع للحكم ، وبين التصور المستتبع له ، سمي الأول (تصورا) لأنه تصور محض ساذج مجرد فيستحق إطلاق لفظ (التصور) عليه مجرداً من كل قيد ، وسمي الثاني (تصديقاً) لأنه يستتبع الحكم والتصديق ، كما قلنا تسمية للشيء باسم لازمه.

أما اذا قيل : (التصور المطلق) فانما يراد به ما يساوق العلم والادراك فيعم ـ كلا التصورين : التصور المجرد ، والتصور المستتبع للحكم (التصديق) (١).

بماذا يتعلق التصديق والتصور؟

ليس للتصديق الا مورد واحد يتعلق به ، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم والاذعان بمطابقتها للواقع او عدم مطابقتها. واما التصور فيتعلق بأحد اربعة أمور :

١ ـ (المفرد) من اسم ، وفعل «كلمة» ، وحرف «اداة».

٢ ـ (النسبة في الخبر) عند الشك فيها أو توهمها ، حيث لا تصديق ، كتصورنا لنسبة السكنى الى المريخ ـ مثلا ـ عندما يقال : «المريخ مسكون».

٣ ـ (النسبة في الانشاء) من أمر ونهي وتمن واستفهام ... الى آخر الامور الانشائية التي لا واقع لها وراء الكلام ، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام ، فلا تصديق ولا اذعان.

٤ ـ (المركب الناقص). كالمضاف والمضاف اليه ، والشبيه بالمضاف ، والموصول وصلته ، والصفة والموصوف ، وكل واحد من طرفي الجملة الشرطية ... الى آخر

__________________

(١) هذا البيان عن معنى التصديق هو خلاصة آراء المحققين من الفلاسفة واليه يرمي تعريف الشيخ الرئيس في الاشارات بأنه تصور معه حكم ، وقد وضع المولى صدر المتألهين رسالة اضافية في تحقيقه ، سماها (رسالة التصور والتصديق) فلتذهب خيالات المشككين وأوهام المغالطين أدراج الرياح ... وقد جعلوا هذا الامر الواضح بسبب تشكيكاتهم من المسائل العويصة المستعصية على المبتدئين.

١٥

المركبات الناقصة التي لا يستتبع تصورها تصديقاً وإذعاناً : ففي قوله تعالى : «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا». الشرط (تعدوا نعمة الله) معلوم تصوري والجزاء (لا تحصوها) معلوم تصوري أيضاً. وإنما كان معلومين تصوريين لأنهما وقعا كذلك جزاءاً وشرطاً في الجملة الشرطية وإلا ففي أنفسهما لولاها كل منهما معلوم تصديقي. وقوله (نعمة الله) معلوم تصوري مضاف. ومجموع الجملة معلوم تصديقي.

أقسام التصديق

ينقسم التصديق إلى قسمين : يقين وظن ، لأن التصديق هو ترجيح أحد طرفي الخبر وهما الوقوع واللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملاً أو لا فإن كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو (اليقين) ، وإن كان مع وجود الاحتمال ضعيفاً فهو (الظن).

وتوضيح ذلك : إنك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن إحدى حالات أربع : إما أنك لا تجوز إلا طرفاً واحداً منه إما وقوع الخبر أو عدم وقوعه ، وإما أن تجوز الطرفين وتحتملهما معاً. والأول هو اليقين. والثاني وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور ، لأنه لا يخلو إما أن يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح أحدهما على الآخر : فإن تساوى الطرفان فهو المسمى (بالشك) وإن ترجح أحدهما فإن كان الراجح مضمون الخبر ووقوعه فهو (الظن) الذي هو من أقسام التصديق. وإن كان الراجح الطرف الآخر فهو (الوهم) الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظن. فتكون الحالات أربعاً ، ولا خامسة لها :

١ ـ (اليقين) وهو أن تصدق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه أو تصدق بعدمه ولا تحتمل صدقه ، أي أنك تصدق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمي التصديق.

٢ ـ (الظن) وهو أن ترجح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر ، وهو أدنى قسمي التصديق.

__________________

(١) ولليقين معنى آخر في اصطلاحهم وهو خصوص التصديق الجازم المطابق للواقع لا عن التقليد وهو أخص من معناه المذكور في المتن لان المقصود به التصديق الجازم المطابق للواقع سواء كان عن تقليد او لا.

١٦

٣ ـ (الوهم) وهو أن تحتمل مضمون الخبر أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر.

٤ ـ (الشك) وهو أن يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم.

(تنبيه) ـ يعرف مما تقدم أمران : (الأول) أن الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل ، و(الثاني) أن الظن والوهم دائماً يتعاكسان : فإنك إذا توهمت مضمون الخبر فأنت تظن بعدمه ، وإذا كنت تتوهم عدمه فإنك تظن بمضمونه ، فيكون الظن لأحد الطرفين توهما للطرف الآخر.

الجهل واقسامه

ليس الجهل إلا عدم العلم ممن له الاستعداد للعلم والتمكن منه ، فالجمادات والعجماوات لا نسميها جاهلة ولا عالمة ، مثل العمى ، فإنه عدم البصر فيمن شأنه أن يبصر ، فلا يسمى الحجر أعمى. وسيأتي أن مثل هذا يسمى (عدم ملكة) ومقابله وهو العلم أو البصر يسمى (ملكة) ، فيقال أن العلم والجهل متقابلان تقابل الملكة وعدمها.

والجهل على قسمين كما أن العلم على قسمين لأنه يقابل العلم فيبادله في موارده فتارةً يبادل التصور أي يكون في مورده وأخرى يبادل التصديق أي يكون في مورده ، فيصح بالمناسبة أن نسمي الأول (الجهل التصوري) والثاني (الجهل التصديقي).

ثم أنهم يقولون أن الجهل ينقسم إلى قسمين : بسيط ومركب. وفي الحقيقة أن الجهل التصديقي خاصة هو الذي ينقسم إليهما ، ولهذا اقتضى أن نقسم الجهل إلى تصوري وتصديقي ونسميهما بهذه التسمية. أما الجهل التصوري فلا يكون إلا بسيطاً كما سيتضح. ولنبين القسمين فنقول :

١ ـ (الجهل البسيط) أن يجهل الإنسان شيئاً وهو ملتفت إلى جهله فيعلم أنه لا يعلم ، كجهلنا بوجود السكان في المريخ ، فإنا نجهل ذلك ونعلم بجهلنا فليس لنا إلا جهل واحد.

١٧

٢ ـ (الجهل المركب) أن يجهل شيئا وهو غير ملتفت إلى أنه جاهل به بل يعتقد أنه من أهل العلم به ، فلا يعلم أنه لا يعلم ، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنهم عالمون بالحقائق ، وهم جاهلون بها في الواقع.

ويسمون هذا مركبا لأنه يتركب من جهلين : الجهل بالواقع والجهل بهذا الجهل. وهو أقبح وأهجن القسمين. ويختص هذا في مورد التصديق لأنه لا يكون إلا مع الاعتقاد.

ليس الجهل المركب من العلم

يزعم بعضهم دخول الجهل المركب في العلم فيجعله من أقسامه ، نظراً إلى أنه يتضمن الاعتقاد والجزم وإن خالف الواقع. ولكنا إذا دققنا تعريف العلم نعرف ابتعاد هذا الزعم على الصواب وأنه أي هذا الزعم من الجهل المركب ، لأن معنى (حضور صورة الشيء عند العقل) أن تحضر صورة نفس ذلك الشيء أما إذا حضرت صورة غيره بزعم أنها صورته فلم تحضر الشيء بل صورة شيء آخر زاعماً أنها هي. وهذا هو حال الجهل المركب ، فلا يدخل تحت تعريف العلم. فمن يعتقد أن الأرض مسطحة لم تحضر عنده صورة النسبة الواقعية وهي أن الأرض كروية ، وإنما حضرت صورة نسبة أخرى يتخيل أنها الواقع.

وفي الحقيقة أن الجهل المركب يتخيل صاحبه أنه من العلم ، ولكنه ليس بعلم. وكيف يصح أن يكون الشيء من أقسام مقابله ، والاعتقاد لا يغير الحقائق ، فالشبح من بعيد الذي يعتقده الناظر إنساناً وهو ليس بإنسان لا يصيره الاعتقاد إنساناً على الحقيقة.

١٨

العلم ضروري ونظري

ينقسمه العلم بكلا قسميه التصور والتصديق إلى قسمين :

١ ـ (الضروري) ويسمى أيضاً (البديهي) وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر ، فيحصل بالاضطرار وبالبداهة التي هي المفاجأة والارتجال من دون توقف ، كتصورنا لمفهوم الوجود والعدم ومفهوم الشيء وكتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء وبأن النقيضين لا يجتمعان وبأن الشمس طالعة وأن الواحد نصف الاثنين وهكذا.

٢ ـ و(النظري) وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر ، كتصورنا لحقيقة الروح والكهرباء ، وكتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ويسمى أيضاً (الكسبي).

(توضيح القسمين) : أن بعض الأمور يحصل العلم بها من دون إنعام نظر وفكر فيكفي في حصوله أن تتوجه النفس إلى الشيء بأحد أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا ، وهذا هو الذي يسمى (بالضروري أو البديهي) سواء كان تصوراً أم تصديقاً. وبعضها لايصل الإنسان إلى العلم بها بسهولة ، بل لابد من إنعام النظر وإجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية ، فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات) ، ولا يستطيع أن يتصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح ، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده ، كما مثلنا. وهذا هو الذي يسمى (بالنظري أو الكسبي) سواء كان تصوراً أو تصديقاً.

١٩

توضيح في الضروري :

قلنا : أن العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وإنعام النظر وأشرنا إلى أنه لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه. وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان :

فإن الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الإنسان ، لفقد سبب توجه النفس ، فلا يجب أن يكون الإنسان عالماً بجميع البديهيات ، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي. ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية : ـ

١ ـ (الانتباه) وهذا السبب مطّرد في جميع البديهيات ، فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات.

٢ ـ (سلامة الذهن) وهذا مطّرد أيضاً ، فإنّ من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه. وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة.

٣ ـ (سلامة الحواس) وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمس وهي المحسوسات. فإن الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات. وهكذا.

٤ ـ (فقدان الشبهة). والشبهة : أن يؤلف الذهن دليلاً فاسداً يناقض بديهة من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة ، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها. وهذا يحدث كثيراً في العلوم الفلسفية والجدليات. فإن من البديهيات عند العقل أن الوجود والعدم نقيضان وأن النقيضين لايجتمعان ولايرتفعان ، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة ، فحسب أن الوجود والعدم لهما واسطة وسماها (الحال) ، فهما يرتفعان عندها. ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردها ويقول أنها (شبهة في مقابل البديهة).

٥ ـ (عملية غير عقلية) لكثير من البديهيات ، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات ، وكالتجربة في التجربيات ، وكسعي الإنسان

٢٠