ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

وصل اعجاب المأمون بالعويين إلى حد انه اصدر امراً باستبدال الراية العباسية السوداء باخرى من اللون الاخضر وهو اللون المميز للعلويين. غير ان ولي العهد هذا لم يقدر له ان يصل إلى الحكم فلقد انتقل في خريف السنة التالية (٨١٨ م) إلى العالم الاخر فاعاد المأمون النظام المعتاد لوراثة الخلافة كما اعاد اللون العباسي الاسود مرة اخرى. ولقد تحول مثوى الامام الرضا الذي دفن في طوس وهي مشهد في الوقت الحاضر إلى واحد من الاماكن المقدسة في فارس والى مزدهر للزيارة.

كان حكم المأمون الذي يقف في اصله وعواطفه إلى جانب الفرس انتصاراً حاسماً لهؤلاء. وكانت علاقة العراق بفارس حتى ذلك الوقت قد ضعفت بسبب الانتفاضات والفتن المتكررة في فارس إلى درجة ان انفصال هذا البلد الاخير حدث دون جهد يذكر ، ذلك ان القائد الفارسي الاصل طاهر الذي كان قد ساعد المأمون على الوصول إلى الخلافة ارسل على رأس جيش كبير للقضاء على فتنة في خرسان وهناك اصدر في عام ٨٢٢م امراً بالتوقف عن الخطبة للمأمون في صلاة الجمعة (١). ورغم ان ذلك كان يعني خروجاً مكشوفاً على سلطة المأمون الذي كان في هذه الاثناء قد وصل إلى بغداد فأن هذا الاخير وافق على ان يكون حكم خرسان والاقاليم المجاورة لها وراثياً في اسرة الطاهريين ، فوضع بذلك بداية لخروج بقية اجزاء فارس تدريجياً من سلطة العباسيين.

وبعد خروج فارس من سلطة العرب نهائياً اصبحت ايران حليفاً

__________________

(١) ارسل المأمون طاهر بن الحسن والياً على خراسان وليس للقضاء على فتنة هناك فحسب وكان ذلك في سنة ٢١٥ هـ وقد قطع هذا الخطبة بأسم الخليفة في سنة ٢٠٧ هـ. (المترجم).

٤١

طبيعياً للعلويين في تقويض السلطة العباسية ذلك ان كل الاسر التي حكمت فيها كانت تسعى للاستحواذ على العراق الذي يجاورها ومعه عاصمة الخلافة التي لم يؤد الصراع من أجل امتلاكها الا إلى التعجيل بسقو العباسيين.

وقبل ان تظهر اثار سياسة المأمون المواتية للفرس في العراق تمتع هذا القطر حتى عام ٨٣٣م أي إلى توفي الخليفة المذكور بهدوء واستقرار نسبيين. لقد ساعدت حياة السلم هناك على ان تزدهر في البصرة اولاً ومن ثم في بغداد العلوم والاداب الاسلامية وكان ذلك نتيجة لاختلاط وتفاعل شعبين متعارضين في خصائصهما هما العرب والفرس. وقد بلغت البصرة كمركز علمي انذاك شأواً كبيراً من الازدهار بحيث اظهر الاحصاء الذي جرى بامر من المأمون للعلماء والدارسين فيها بان عدد العلماء سبعمائة وعدد الدارسين احد عشر ألفاً. وهناك حكاية تقول بأن المأمون طلب من علماء البصرة ان يرسلوا إلى مكتبة «دار الحكمة» التي كان قد أسسها في بغداد نسخة واحدة من كل مؤلف لهم في فروع المعرفة المختلفة وقد بلغت الكتب التي ارسلت إلى بغداد حملة ثلاث سفن (١).

لقد كان للتأثير الفارسي الذي اشتد في عهد العباسيين اثره في الجانب الديني ايضاً ، فقد كانت الحياة الدينية في عهد الامويين تتوزع على اتجاهين ينظر اصحاب الاول منهما إلى القرآن على انه كلام الله موجود منذ الازل ولهذا فانه لا يتعرض لا إلى تغييرات اعتباطية ولا إلى تفسيرات باطلة. اما اصحاب الاتجاه الثاني فكانوا يعتقدون بخلق القرآن ولهذا فأنهم كانوا يرون بان من الممكن استخدام العقل لتوضيح بعض المواضع

__________________

(١) السالنامة العثمانية الخاصة بولاية البصرة لسنة ١٣٠٩ ه ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٤٢

الغامضة فيه. وقد اسس هؤلاء الفقهاء ذوو التفكير الحر الذين كانووا ينتمون إلى فرقة المعتزلة وكراً لهم في البصرة واستمروا على التعليم والوعظ فيه بالرغم من الملاحقة التي لم تتوقف ضدهم طيلة العهد الاموي (١).

وحلت مع انتقال الخلافة إلى العباسيين فترة ممتازة بالنسبة للمعتزلة فقد وجدت تعاليمهم الكثير من الانتصار بين الفرس من ذوي النفوذ الذي كان بأمكانهم بسبب احتلالهم لمراكز عليا في بلاط الخلفاء ، ان يوفروا الحماية لمعلميهم الروحيين ويجنبوهم الملاحقة من جانب بقية رجال المسلمين. ومع مرور الوقت اصبحت تعاليم المعتزلة تكسب مواضع جديدة باستمرار في بلاط الخلفاء نفسه إلى ان رفع المأمون تعاليم هؤلاء الفقهاء من ذوي التفكير المتحرر إلى مرتبة المذهب الرسمي عندما اصدر في عام ٨٢٧م مرسوماً بشأن خلق القرآن. ولا حاجة لنا للحديث عن المدى الذي ارتفعت اليه بفضل هذا المرسوم مدينة البصرة باعتبارها مركز المعتزلة وفيها يعيش ويعمل «شيخ المعتزلة» ابو الهذيل العلاف الذي كان يدعو لحرية الارادة والتصوير المثالي لجوهر الاله.

ظلت تعاليم المعتزلة في عهد الخلفاء الذين اعقبوا المأمون مباشرة تعتبر المذهب الرسمي حتى ٨٥١م ففي هذه السنة اصدر المتوكل امراً باعتبار فكرة خلق القرآن فكرة الحادية وقام بحملة ملاحقة شديدة للفقهاء من ذوي التفكير الحر في البصرة مركز تواجدهم الرئيس ، وقد تعرض للملاحقة مع المعتزلة الشيعة ايضاً (٢). وقد تزامنت ملاحقة الحكومة للمعتزلة والشيعة مع بداية اضمحلال سلطة الخلفاء العباسيين الزمنية ، فقد

__________________

(١) Weil, Op Cit T. ll.S. ٢٦٠ FF.; Dozy, Op. Cit. p. ٢٠٦ FF

(٢) Dozy, Op. Cit. p. ٢٨٤ FF

٤٣

اصبح الخلفاء حتى ذلك الوقت تحت تصرف قادة جيوشهم المرتزقة من الاتراك والبريد.

لقد كان هناك من بين افراد الجيش بل وفي صفوف الضباط منذ عهد الخليفة العباسي الثاني المنصور اتراك كانوا قد اعتقوا من الرق. وقد احتل هؤلاء في عهد المأمون مراكز عسكرية بارزة : وبسبب من عدم امكانية الاعتماد على العرب وعدم صلاحية الفرس للخدمة العسكرية وخصوصاً من كان منهم في العراق لان هؤلاء تحولوا مع الوقت إلى حرفيين وتجار وعلماء فقدوا كل اهلية لتحمل الحياة العسكرية الشاقة ، عمد اخو المأمون وخليفته في عام ٨٣٣م إلى الاقتصار على تجنيد الترك والبربر في قواته.

وما ان مرت اربع عشرة سنة على ذلك حتى ازدادت سلطة واهمية هؤلاء المرتزقة إلى درجة انهم استغلوا موت الواثق بشكل مفاجئ فاسندوا اخلافة إلى اخيه المتوكل متجاوزين بذلك ابنه. وقد قتل صنيعة الاتراك هذا والخلفاء الاربعة الذين اعقبوه على يد بريتوريان (١) بغداد (٢) هؤلاءأو جبروا بواسطتهم على التنازل عن الخلافة. ومنذ ذلك الوقت اصبح جميع الخلفاء باستثناء قلة نادرة منهم تحت سلطة قادتهم الترك الذين كانوا ينصبونهم ويعزلونهم حسب رغباتهم واهوائهم.

لقد سادت بسبب هذه الاوضاع الفوضى الشاملة في بغداد بدلاً من

__________________

(١) استخدم المؤلف كلمة «بريتوريانتسي» التي هي اللفظة الروسية لكلمة praetoriani وهي كلمة لاتينية كانت تطلق على الجزء ذي الامتيازات من القوات العسكرية في روما القديمة ، وتستخدم بمعنى مجازي للدلالة على القوات المرتزقة التي تعد سنداً للنظام المستند على القوة. (المترجم).

(٢) المتوكل قتل في سامراء ، وليس في بغداد كما يتوهم لاستخدامه كلمة (بريتوريان بغداد). (حميد الدراجي).

٤٤

الامن والهدوء الذي كان مستتباً حتى ذلك الوقت. ولقد دفع ضعف الخلاف هذا الخوارج الذين كانوا قد اختبأوا في منطقة ديار بكر إلى التحرك وادى بهم إلى ان يقوموا بعدة فتن اشتركت فيها لاول مرة الاورطات الكردية. غير ان جميع هذه الحركات كانت تافهة بالقياس إلى العاصفة التي لم تلبث ان اجتاحت جنوب العراق بهيئة تمرد قام به العبيد السود الذين استنهضوا في سبيل العلويين (١).

لقد ظهر في البصرة عام ٨٦٩م شخص يدعى على بن محمد كان موطنه الاصلي في ضواحي الري (طهران حالياً) وكان شيعياً في مذهبه وعربياً في اصله. وكان قد قدم قبل ذلك ببضعة سنوات على انه علوي وذلك عندما رفع علم الانتفاضة في البحرين ولكن عاملها طرده منها ، فأستقر هذا الدعي في البصرة الذي كان يعرفه شخصياً فثار مرة اخرى مدعياً بأنه حفيد لعلي ومعلناً بأنه يحمي حقوق الفقراء والمضطهدين. وقد وجدت دعوته لتحطيم اغلال العبودية والاتحاد للنضال ضد مالكي العبيد صدى واسعاً لها بين الزنوج العبيد الذين كان العرب يجلبونهم باعداد كبيرة من زنجبار والذين كانوا يعرفون بـ «الزنج» نسبة إلى ذلك المكان ولهذا سميت انتفاضتهم بأسم : حرب «الزنج».

ولم يلبث ان تجمع حول هذا الحفيد المزعوم لعلي الذي اطلق عليه لقب ينأي عن المدح هو «الخبيث» آلاف العصاة من العبيد السود انضمت اليهم حشود من البدو القساة على امل النهب. وقد هذا الخليط من الاقوام

__________________

(١) لم تكن حركة الزنج في سبيل العلويين بل ان قائدها ادعى النسب العلوي. (المترجم).

٤٥

باجمعه على ضواحي البصرة فخربها وحرر العبيد بعد ان قتل مالكيهم في كل مكان وصل اليه. اما المدينة نفسها فقد تخلصت في هذه المرة من العصاة بفضل تكاتف السكان والحامية سوية.

وعند ذلك وجه الخليفة المهتدي الذي كان قد ارتقى سدة الخلافة لتوه ضد العبيد جيشاً كبيراً بقيادة التركي جعلان ، غير ان قائد الزنج استطاع بعد سلسلة من المعارك ان يحطم القوات الحكومية فانساح العبيد الذين شجعهم هذا النجاح كالحمم البركانية الماحقة في جنوب العراق باجمعه فاستولوا على بلدة ابي الخطيب الغنية والتي تقع على قناة تحمل الاسم نفسه وتتفرع من شط العرب ثم خربوا الآبلة وعبدان تخريباً تاماً وعندما لم يصادف مقاومة تذكر توغلوا في عربستان واستولوا على عاصمتها الاحواز.

لقد كان نجاح الزنج هذا مثار قلق شديد في بغداد فأرسل من هناك ضدهم جيش جديد بقيادة سعيد بن صالح. ولقد اسعد الحظ هذا القائد فاستطاع ان يشتت شمل فصيل متقدم منهم بل والانتصار في عدة اشتباكات جرت مع زهرة قواتهم لكن هجوماً ليلياً مفاجئاً قام به الزنج وضع نهاية للنجاحات اللاحقة لقائد الخليفة هذا وقضى على معسكره قضاءً تاماً. لقد باءت كل الجهود التي بذلها الخليفة لكسر شوكة العصاة بالفشل لان علي بن ابان وكان مساعداً لل «خبيث» كان يتمكن على دوام من تحطيم جميع القوات التي ترسل للقضاء على الزنج. وهكذا اصبح العبيد المتمردون اسياد الموقف في جنوب العراق فأخذوا يفكرون بالاستيلاء على البصرة التي استطاعت حتى ذلك الوقت مواصلة الدفاع عن استقلالها عنهم بنجاح. ولكن في بداية ايلول عام ٨٧١م انقض الزنج على البصرة واستولوا عليها. لقد استباح العبيد وهم في فورة حماسهم المدينة التي دافعت عن نفسها بعناد وتذكر الاخبار بان ما يقرب من خمسة عشر

٤٦

الف دار ومائتي مسجد قد سويت بالارض بالاضافة إلى الاهالي السيئي الحظ الذين ذبحوا بوحشية والاسواق والحوانيت التي نهبت نهباً تاماً.

لقد هز سقوط البصرة الخليفة الجديد المعتمد فبادر على الفور إلى ارسال جيش قوي لتحريرها ووضع لقيادته شخصاً يدعى محمد الموّلد. ولقد مني هذا القائد بالفشل التام مثل الذين سبقوه لانه كان على جهل تام بتكتيك الزنج الذين كانوا يفضلون الغارات الليلية المفاجئة والانسحاب السريع في حالة الفشل إلى مراكزها المحصنة التي تحيطها القنوات وفروع الانهر من جميع الجهات. فسارع الخليفة إلى تنصب اخيه الشقيق الموفق على رأس الجيش. وقد اظهر الموفق حزماً ونشاطاً رائعين حينما أشاع الضبط الصارم بين القوات المرتزقة من الترك بعد ان كان التحلل وعدم الضبط قد تفشى بها. وقد برر الموفق توقعات الخليفة والحق بجيش الزنج الذي كان يقوده شخص يدعى يحيى بن محمد البحراني هزيمة ساحقة واسر يحيى هذا وأرسله إلى بغداد. لكن تفشى الطاعون في صفوف قوات الحكومة أجبر الموفق على ايقاف العمليات العسكرية والعودة إلى بغداد.

وفي هذا الثناء ساء وضع الحكومة في صراعها مع الزنج بسبب ظهور عدو جديد لها هو مؤسس سلالة الصفاريين يعقوب بن الليث الذي كان اصله من سجستان حيث كان في اول امره نحاساً بسيطاً كما يشير إلى ذلك لقبه «الصفار». لقد استطاع يعقوب هذا حتى هذا الوقت ان يستولي على قسم كبير من فارس الشرقية ومن ثم يمم شطر بغداد للاستيلاء عليها. وهكذا تحتم على الموقف ان يحشد في العاصمة جميع القوات المتوفرة لديه بما فيها القوات العاملة ضد الزنج لصد الفرس المهاجمين (١). وبعد ان

__________________

(١) Maicolm, Op.Cit. T. ١ P. ٤١٧ FF

٤٧

تمكن الموفق من انجاز هذه المهمة اسعده نجاح آخر احرزه قائده احمد بن ليثويه الذي حطم في الشوش جيشاً زنجياً ـ صفارياً مشتركاً. ولم يلبث الموفق ان وجد حلفاء له في شخص السامانيين في ماوراء النهر الذين جذبوا قوى الصفار بحيث لم يبق امام القوات الحكومية مرة اخرى الا الكفاح ضد الزنج.

كان «الخبيث» (١) حتى هذا الوقت قد اعلن نفسه خليفة وضرب لنفسه عملة خاصة واجبر رجال الدين في المدن التي اخضعها الزنج على الخطبة له في اثناء صلاة الجمعة ، غير ان نوايا هذا الدعى وطموحاته كانت أوسع من ذلك فقد شجعته النجاحات التي احرزتها قواته فأخذ يفكر بالاستيلاء على بغداد عاصمة الخلافة نفسها وأرسل اليها بالفعل قوات كثيرة العدد يقودها سلمان بن جامع الذي تمكن بعد سلسلة من الاشتباكات الناجحة ضد بعض الفصائل الحكومية من احتلال واسط ونهبها كالعادة. عند ذلك أرسل الموفق ضد الزنج جيشاً تعداده خمسون الف مقاتل يقوده ابنه ابو العباس والحق به اسطولاً كاملاً من السفن الصغيرة لتعقب الزنج في القنوات وتفرعات الانهر حتى اوكارهم المحصنة نفسها. وقد افتتح القائد الشاب العمليات العسكرية بهجوم مفاجئ على قوات الزنج المرابطة في واسط واصابها باندحار شنيع.

اسرعت جحافل الزنج المندحرة بالتراجع إلى معسكراتهم المحصنة التي تحمل اسماء فضفاضة مثل «المنصورة» و «المنيعة» واختبأوا فيها ، ولم

__________________

(١) استخدام المؤلف لهذا الوصف ووصف (الدعي) ايضاً لا يتناسب مع الأمانة التاريخية والحياد ، فهذا اللقب استخدمه خصومه العباسيون ولقبه كما درج عليه المؤرخون هو (صاحب الزنوج). (حميد الدراجي).

٤٨

يعجل ابن الموفق بمحاصرة هذه الحصون بل قام في البداية بتطهير جميع الطرق المائية من عصابات الزنج إلى ان اتى لنجدته ابوه عل رأس تعزيزات جديدة فأمكن ذلك الاستيلاء في عام ٨٨٠ م على وكري الزنج كليهما.

لم يبقَ بعد ذلك الا الاستيلاء على حصن العبيد الاخير ونعني عاصمة خليفتهم «الخبيث» هذا النموذج العراقي لستيبكاء رازين (١) ، التي كانت تسمى «المختارة» وتقع على ضفتي قناة ابي خصيب ، وهي عبارة عن حصن محاطة باسوار عريضة وعالية لها ابراج ومزاغل. لقد تجمعت في المختارة كل الثروات التي نهبها العبيد في فترة سيطرتهم على جنوب العراق وعربستان كما كان هناك الكثير من النساء اللواتي جلبهن الزنج من البصرة والآبلة والاحواز وواسط وغيرها من المدن والمواقع التي تعرضت لهجماتهم الماحقة.

لقد كان من الصعوبة بمكان الاستيلاء على هذا الحصن عن طريق الاقتحام لان من المتوقع ان يجابه الهجوم عليه بمقاومة يائسة ولهذا قرر الموفق الذي كان قد اصبح خليفة قبل ذلك ان يفرض على القلة حصاراً محكماً ولكي يسهل عملية تجهيز جيشه بالمؤون ويتخذ لنفسه نقطة استناد بنى بالقرب من شط العرب وفي موقع البصرة الحالية معسكراً محصناً سمي بـ «الموفقية» على اسمه. ولكن العمليات العسكرية طالت كثيراً ولم تسقط «المختارة» الا في اواسط عام ٨٨٣ م فحملت رأس «الخبيث» الملطخة بالدم إلى الخليفة. وقد كان هذا التأخير لصالح «الموفقية» التي

__________________

(١) ستيبكارازين هو ستيبان تيموفيتش رازين قائد الثوار في حرب الفلاحين ١٦٧٠ ـ ١٦٧١ في روسيا والمؤلف هنا يشبه صاحب الزنج به. (المترجم).

٤٩

تحولت بالتدريج من معسكر حربي إلى مدينة تضم اسواقاً وخاناً للقوافل ومنازل ومالبث الحرفيون والتجار ان بدأوا بالتوافد عليها فاصبحت مركزاً لتجارة والصناعة مزدهرتين. لقد نمت هذه المدينة بالاساس بعد ان انتقل اليها سكان البصرة القديمة التي خربها الزنج واضمحلت بسبب ذلك تماماً. وقد سميت المدينة الجديدة في البداية باسم «بصيرة» وحلت محل المدينة السابقة التي بناها عمر وتحولت بمرور الوقت إلى البصرة القائمة حالياً.

لم يكد جنوب العراق يفيق كما ينبغي من مآسي أربع عشرة سنة من سيطرة العبيد السود حتى اصابته نكبة جديدة متمثلة بالقرامطة الذين كانوا فرعاً من الاسماعيلية وهي فرقة شيعية تمجد اسماعيل الابن الاكبر للامام جعفر رغم ان اباه (١) كان قد جرده من الامامة لصالح ابنه الثاني موسى الذي اعترف به بقية الشيعة باجمعهم. لقد كان الشيعة يعتبرون اسماعيل الامام المدعو للأطاحة بسلطة العباسيين واعادة الخلافة إلى بيت علي وعندما لم يتحقق ما كانوا يأملونه تحول الاسماعيلية إلى فرقة مسالمة لا تتميز بشيء لو لم يتمكن عبد الله بن ميمون وهو فارسي اسرته من ميديا من تحويلها إلى منظمة سياسية قوية (٢).

ان هذا الشخص الطموح الذي سعى لان يشتهر كنبي كان يتميز بفضل معرفته بالغيبيات ، بتحرر فكري واسع فقد اعلن ان الله قد اختاره لمساعدة محمد المهدي بن اسماعيل أخر الائمة الذي تجسد فيه الله لكي يعلم الناس بارادته عن طريقه. وبهذا يكون عبد الله بن ميمون قد اسس

__________________

(١) إسماعيل بن الإمام الصادق توفي حياة والده (ع).

(٢) FF Dozy, Op. Cit. p. ٢٥٩

٥٠

مذهباً دينياً جديداً هو عبارة عن ابتعاد تدريجي عن التشيع باتجاه الالحاد التام وانكار كل شيئ ماخلا المادة. ان الهدف الاساس لهذا المذهب هو تعويد الجماهير على الطاعة العمياء للائمة الغائبين الذين يظهرون ارادتهم من خلال نوايا الزعماء الطموحة. لقد ارسل ابن ميمون اعداداً كبيرة من المبعوثين أو «الدعاة» إلى جميع انحاء العالم الاسلامي حيث جندوا آلاف الانصار الجدد للمذهب الاسماعيلي.

كان احد هؤلاء «الدعاة» قد ارسل إلى الكوفة وكر الشيعة القديم فاستطاع ان يقنع احد الفلاحين واسمه حمدان باعتناق المذهب الجديد. وكان حمدان هذا قد اطلق عليه بسبب قبح وجهه اسم سرياني هو قرمطو تحرف عند العرب فاصبح قرمطة. ولم يلبث هذا الفلاح ان اصبح مرشداً اسماعيلياً فاستقر في احدى ضواحي بغداد واخذ ينشر بنجاح الافكار الدينية الجديدة في العراق كله ويجند اعداداً كبيرة من الاتباع هناك اطلق عليهم القرامطة نسبة إلى اسم رئيسهم هذا (١).

لقد كان المذهب الاسماعيلي بشكله العام المفهوم اساساً للعقائد القرمطية ، لكن القرامطة في السابق من اجل تبسيط الاسلام ذهبوا إلى ابعد مما ذهب اليه معلموهم فقد اعلنوا مثلاً ان الصلاة والصيام والحج ليست فروضاً واجبة وسمحوا بشرب الخمر واذنوا لاتباعهم بالزواج من اقربائهم القريبين الذين يحرم القرآن الزواج بهم. وكانت المرأة حسب ما يؤكد الكتاب من المسلمين العادين الاخيرين مشاعة لدى اتباع هذه الطائفة وكذلك الملكية كما ان منظمتهم نفسها تشبه عصابة للسلب ذلك ان القرامطة كانوا يأخذون من المسلمين الموسرين جميع ثرواتهم بقوة

__________________

(١) FF.٢٦٩Idib,P.

٥١

السلاح دون ان يتردد بقتل من يعاند منهم (١).

لقد اصاب مذهب القرامطة نجاحاً غير اعتيادي خصوصاً في صفوف البدو فاستطاع افراد هذه الطائفة ان يرسخوا مواقعهم في العراق حيث كانت تعود لهم في السواد على ضفة الفرات قلعة قوية اطلق عليها اسم «دار الهجرة» اما مقرهم الرئيس فقد كان في مجموعة جزر البحرين التي كانت تدخل انذاك ضمن ولاية البصرة. لقد امتدت سلطة ابي سعيد الجنابي رئيس قرامطة البحرين فشملت الاقطار المجاورة للبحرين كالحسا وقطر والقطيف وحجار أي كل الشريط الساحلي الممتد حتى الكويت. لقد كان قرامطة البحرين الذين يؤمنون بالله بل ويعترفون بالقرآن ولكنهم يفسرون تعاليمه على هواهم ، على ما يقول دوزي (٢) ، يؤلفون خطراً جدياً على جيرانهم ذلك لانهم يؤمنون بانهم مدعوون لنشر معتقدهم بين المسلمين بقوة السلاح. لقد كان هذا الشعب المختار استمراراً للنشاط التخريبي الذي قام به الزنج في جنوب العراق وفي مدينته الرئيسة البصرة.

استطاع ابو سعيد الجنابي في عام ٩٠٠ م ان يتغلب وهو في طريقه إلى البصرة على القوات الحكومية التي ارسلت لصده غير انه لم يتمكن من أخذ المدينة. كذلك قام القرامطة في السنة نفسها بسلب قافلة للحجاج العراقيين كانت متوجهة إلى مكة وكرروا في السنة التالية هجوماً على البصرة ولكنهم منوا بالفشل مرة اخرى. لقد كان القتل والنهب يرافق كل اعتداء للقرامطة ولكن هؤلاء المتحزبين لم يتحولوا إلى سوط حقيقي مسلط على رؤوس اهالي البصرة الا في عهد ابي طاهر سليمان وهو ابن

__________________

(١) Ibid.P.٢٧٧.

(٢) Ibid.P.٢٧٨

٥٢

ابي سعيد وخليفته (١). لقد كان ابو طاهر هذا بشجاعته وجرأته وعزيمته التي لا تعرف الكلل بطلاً حقيقياً وفق مقاييس البدو إلى حد انه استطاع ان يجذب تحت رايته حتى ذلك الجزء من ابناء الصحراء الذين لم يكونوا يتعاطفون مع مذهب القرامطة ولكنهم انضموا إلى زعيمهم عن طيب خاطر بسبب ولعهم بالسلب والنهب.

بدأ أبو طاهر حكمه بان سلب في عام ٩١٥م عدة قوافل للحجاج ثم اقتحم البصرة عام ٩١٩م ونهبها وقتل الكثير من سكانها. وقد تكرر هذا الهجوم بعد اربع سنوات حيث تسلل ابو طاهر إلى المدينة ليلاً وذلك بأن تسلق الاسوار مع مقاتليه مستخدمين سلالم من الحبال. وكانت المذبحة في هذه المرة اسوأ من المرة الاولى وعاد القرامطة إلى الاحساء التي كانت قد اصبحت قبل ذلك بقليل مقرهم الرئيس محملين بالغنائم وبصحبتهم الكثير من الاسرى. وبعد ان دمر ابو طاهر البصرة استولى على الكوفة عام ٩٢٥م ونكل باهلها بقسوته المعهودة وبعد انتصارات حققها ضد القوات الحكومية وبنهب المدن التي وقعت في طريقه.

لقد ازدادت جرأة القرامطة بالتدريج إلى ان بلغت حد ايقافهم لحركة الحج من العراق إلى مكة وذلك بشنهم غارات متكررة وقتلهم وابادتهم المسلمين الصالحين الذين كانوا يؤدون فريضة الحج. ولم يوفر زعيم القرامطة الوحشي ابو طاهر حتى مكة المدينة المقدسة في نظر المسلمين فهاجمها في عام ٩٣٠م وموسم الحج في ذروته فقتل آلاف الحجاج في الحرم الرئيسي ونقل معه إلى الاحساء الحجر الاسود المشهور في الكعبة ، ولم يعده القرامطة الا عام ٩٥١م وذلك بالحاج من الخليفة الفاطمي المنصور.

__________________

(١) ميللر ، المصدر السابق ج ٢ ، ص ٢٨٧ وما بعدها.

٥٣

واذا كانت مكة لم تنج من غزو القرامطة رغم بعدها عن الاحساء فان بامكاننا والحالة هذه ان نتصور مدى الاذى الذي تسببوا فيه لجنوب العراق وعاصمتها لبصرة وهو المنطقة التي كانت تؤلف بسبب مجاورتها للاحساء هدفاً دائماً لغزوات القرامطة الماحقة. ولم يكن بالامكان صد هذه الكارثة خصوصاً وانها تزامنت مع انتها السلطة الزمنية بشكل تام لخلفاء بغداد الذين كانوا لهذا السبب عاجزين عن النضال ضد هؤلاء الوحوش.

لقد بدأ تحول العباسيين من كونهم حكاماً دنيويين للاسلام إلى مجرد الأكتفاء باحتلال المكانة الدينية «لخلفاء رسول الله» منذ نصف القرن التاسع في عهد خلفاء المأمون عندما اصبح قادة قوات الترك المرتزقة ينصبون الخلفاء ويعزلونهم على اهوائهم وانتهى هذا التحول عندما ظهر لقب «امير الامراء» أي القائد الاعلى لجيوش الخلافة. لقد كان الخليفة المقتدر اول من منح هذا اللقب فقد انعم به في عام ٩٠٩م على خصي حريمه مؤنس عرفاناً منه بجميله لانه انقذ حياته من المتآمرين. ولم يكن امير الامراء في اول الامر اكثر من قائد اعلى للجيش ولكن ضعف وعدم اهلية الخلفاء مكن من يتولى هذا المنصب من التدخل في الحكم ومن الحصول بالتدريج على نفوذ استثنائي في شئون الخلافة. وظل الوضع على هذا النحو إلى ان تولى الخلافة عام ٩٣٤م الخليفة الراضي الذي اختار لمنصب امير الامراء والي واسط والبصرة محمد بن رائق. وما ان وصل محمد هذا إلى بغداد حتى رأى بان من الضروري ابعاد الراضي حتى عن إدارة الشؤون المالية للخلافة ، وبعد أن استولى بهذا الشكل على خزينة الدولة خصص مبلغاً معيناً لاعالة امير المؤمنين وبلاطه (١).

__________________

(١) Weil, Op. Cit. T. II. S.٦٦٣.

٥٤

لقد كان لهذه الحادثة اهمية قصوى من حيث نتائجها على مصير الخلافة نفسها لاحقاً أو مصير العراق بشكل خاص. فقبل كل شيء ادى فقدان الخلفاء لسلطتهم الزمنية إلى انقسام الدولة نهائياً إلى اجزاء الامر الذي كانت له نتائج قاتلة على العالم الاسلامي نفسه لانه جرد من امكانية مناهضة قوة الغزو المغولي الذي جاء فيما بعد ، وهي قوة ماحقة لا يمكن ان تعادلها الا قوة الخلافة الموحدة. اما بالنسبة للعراق فقد كان للحادثة المذكورة عواقب قاتلة لاتقل عن ذلك. ففارس المجاورة التي كانت قد احرزت الاستقلال التام منذ عهد خلفاء المأمون لم تكن لتستطيع مع ذلك التفكير في الاستيلاء على العراق طالما كانت سلطة الخليفة فيه محسوسة. ولكن مع فقد العباسيين لسلطتهم الزمنية أصبح العراق فريسة شهية لجميع السلالات التي ظهرت في فارس والتي كانت كل منها تسعى بمجرد ان يشتد ساعدها ، لان تأخذ من سابقتها بقوة السلاح عاصمة خليفة الرسول (ص) الآخذة بالتدهور لكي تستخدم اسم الخليفة كغطاء لاعلاء شأن سلطانها في اعين بقية العالم الاسلامي. ولان هذه السلالات جميعاً لم تعمر طويلاً فقد تحول العراق إلى مسرح لصراع دامي متواصل تقريباً بين البريديين والبويهيين والسلاحقة والايلخانيين والجلائريين والتيموريين والقره قوينلو والاق قوينلو والصفويين واخيراً العثمانيين.

لقد جلب هذا الصراع الذي تواصل لمدة ستمائة عام تقريباً باستثناء فترات قليلة ، الخراب والفوضى إلى العراق وحول هذه المنطقة التي كانت تتميز قبل ذلك بقليل بمستوى عال من تطور الثقافة والصناعة والتجارة إلى صحراء قاحلة. لقد حلت ، باختصار في حياة العراق التاريخية تلك الفترة الانتقالية التي بدأت في اللحظة التي فقد فيها العباسيون سلطتهم الزمنية وانتهت بترسيخ مواقع العثمانيين نهائياً.

٥٥

لقد عانت البصرة طيلة هذا الوقت من تقلبات المصير نفسها التي عانتها بغداد فانتقلت معها من اسرة إلى اخرى وقاست بدرجة لاتقل عنها من النزاعات الداخلية والخصومات الدامية بين افراد هذه السلالات. وقد اشتد وضع البصرة المأساوي اكثر بسبب من انها كانت على الدوام هدفاً للغزوات الوحشية التي شنها عليها في البداية القرامطة حتى اختفائهم عن المسرح التاريخي حوالي عام ١٠٥١م وبعد ذلك البدو الذين كانوا قد اعتادوا على حرفة الغزو تحت راية أولئك القرامطة.

لقد انعكس تدهور الخلافة العباسية على الحكام المجاورين لبغداد فاثار لديهم الرغبة في الاستقلال التام. وقد اعطى من يطلق عليهم اسم «البريدين» أو ابناء صاحب بريد البصرة المثل لذلك. فقد كان هؤلاء يحكمون عربستان باسم الخليفة وقد تميز من بينهم بالنشاط الجم والطموح الفائق ابو عبد الله الذي لم يكن يحجم عن اية وسيلة لتحقيق اهدافه. وقد استغل ابو عبد الله هذا عجز الخلفاء الذين وصلوا إلى ادنى درجات الهوان فحاز على سلطة مطلقة في عربستان الخاضعة له وبدأ يفكر بتوسيع ممتلكاته.

كان يحكم البصرة في ذلك الوقت شخص اسمه محمد بن يزيداد وقد تسلم ولايتها بالشراء وكان قد اصبح معتاداً اعتباراً من منتصف القرن التاسع عندما اصبحت تكاليف المرتزقة الترك الكبيرة وكذلك مصاريف الخلفاء تبتلع جميع موجودات الدولة من النقود تقريباً فتحتم من اجل ملء الخزينة اللجوء إلى اجراءات استثنائية مثل بيع مناصب الولاة واخذ مبالغ ضخمة في مقابل أي ترقية أو تعيين جديدين. وكان حاكم البصرة الذي يدفع مقابل الحصول على منصبه مبلغاً لا يستهان به يسعى بالطبع لانه يستعيد هذا المبلغ مع فائض آخر من الأهالي الذين كان يدفعهم

٥٦

الفقر الشديد الذي وصلوا إليه بسبب الضرائب الكثيرة والابتزازات إلى الغضب في نهاية الامر على واليهم. ولقد كانت هذه الحقيقة لمصلحة البريدي لدرجة لا يمكن ان نتصور افضل منها ولم يبطئ هو من جانبه في استغلالها فتحرك مع قواته نحو البصرة وطرد منها ابن يزداد والحق الولاية بممتلكاته.

ولم يشبع امتلاك عربستان واخضاع البصرة طموح ابي عبد الله الذي كان كل نجاح يشجعه على احتلال مناطق جديدة. ولقد اعتبر البريدي نفسه على درجة من القوة تكفي للاستيلاء على بغداد نفسها فقام يتجريد حملة للاستيلاء على عاصمة الخلافة غير ان القائد الاعلى لقوات الخليفة التركية بجكم تمكن من التغلب عليه ومنعه في هذه المرة من الاستيلاء على بغداد. ومع ذلك لم يدفع هذا الفشل البريدي إلى التخلي عن خططه التوسعية فجمع في السنة التالية (سنة ٩٣٩ م) جيشاً جديداً وتحرك به مرة اخرى نحو بجكم الذي فضل في هذا المرة ان يعقد معه صلحاً تنازل له بموجبه عن واسط. وعندما توفي بجكم بعد سنتين في صدام مع الاكراد نفذ البريدي رغبته الكامنة واحتل بغداد ولكنه لم يستطيع ان يحتفظ بها طويلاً بسبب عدم امتلاكه ما يكفى من النقود للصرف على جيشه. وفي السنة التالية (سنة ٩٤٢ م) اعاد اخو أبي عبد الله الذي يدعى ابا الحسن الكرة بعزو بغداد وقد ساعده الحظ في التغلب على قوات امير الامراء محمد بن رائق فطرده من العاصمة وطرد معه الخليفة المتقى ايضاً.

وضع البويهيون نهاية لنجاحات البريديين المقبلة. وكان هؤلاء ينتمون في اصلهم إلى الديلم وهم احدى القبائل الجبلة التي كانت تقطن على الساحل الجنوبي لبحر قزوين. لقد كان ابو شجاع بوية مؤسسن السلالة التي عرفت بأسم البويهيين زعيماً متميزاً بالشجاعة لهذا الاقوام الجبلية

٥٧

المتوحشة ذات النزعة الحربية التي اعتنقت التشيع وانضمت منذ القدم إلى العلويين. وقد تمكن ابناء ابي شجاع الثلاثة وهم علي وحسن واحمد حتى الوقت الذي فقد فيه العباسيون سلطتهم الزمنية من الاستيلاء على كل القسم الغربي من فارس تقريباً فاصبحوا بذلك على جوار مباشر مع العراق. وقد ظهر البويهيون في هذه الاصقاع لاول مرة في عام ٩٣٨م عندما استمد ابو عبد الله البريدي الذي كانت تضغط عليه قوات الخليفة بقيادة بجكم بحاكم فارس البويهي علي ابن ابي شجاع الذي ارسل لنجدته اخاه احمد فاستطاع احمد هذا بعد سلسلة من الاشتباكات ان يتغلب على بجكم. وقام احمد بعد ذلك بابعاد البريديين تدريجياً من عربستان وسيطر على تلك المنطقة نهائياً ولكن استيلاءات جديدة في فارس شغلته عن الهجوم على العراق نفسه. ولم يلبث بعد ان انتهى من مشاغله هناك ان استولى على مدينة واسط عام ٩٤٥م ومنها تحرك نحو بغداد التي لم تكن في حالة تمكنها من التصدي للبويهيين ذلك ان انتشار المجاعة مؤخراً والمنازعات المتواصلة بين القوات التركية وغيرها من القوات المرتزقة وكذلك بينها وبين السكان انهكت الخلافة تماماً. وكذلك لم يبق امام الخليفة المستكفي مخرج اخر غير السماح لاحمد بدخول المدينة وتعيينه اميراً ومنحه لقب معز الدولة.

وعلى الرغم من خضوع الخليفة التام بحيث وافق على ان تسك العملة باسم البويهي ويذكر اسمه في الخطبة إلى جانب اسم الخليفة فان معز الدولة لم يكن يثق بالمستكفي لانه كان قد نصب من قبل المرتزقة الاتراك لذلك امر في السنة التالية (سنة ٩٤٦) بسمل عينيه ونصب بدلاً منه شخصاً اسمه ابو القاسم الفضل الذي لقب بالمطيع لله (١). وقد وقع الخليفة

__________________

(١) Weil; Op. cit, T. IIS.٦٩٦ FF.

٥٨

الجديد صنيعة معز الدولة في قبضة هذا الاخير تماماً. وأسرع معز الدولة باخبار جميع العالم الاسلامي بكل ذلك واتخذ لنفسه لقباً فخماً هو «سلطان» الامر الذي اريد له ان يشير إلى ان السلطة العليا في جميع الاراضي التي كانت ما تزال ضمن الخلافة قد تركزت في يده. وهكذا لم يبق للخليفة الا لقب «خليفة رسول الله». وغالباً ما كان الخليفة يعاني من الحاجة الملحة خصوصاً بعد ان قطع الراتب الذي خصصه له الأمير البويهي وتحتم عليه الاكتفاء بالإيراد المتواضع الذي كانت تدره عليه بضع ضياع وضعت تحت تصرفه.

بعد ان رسخ معز الدولة قدمه في بغداد اخذ بتوجيه سلاحه ضد جيرانه فاخضع في اول الامر حكام الموصل من الاسرة الحمدانية العربية ثم وجه همه لاخضاع جنوب العراق والبصرة حيث كان يحكم خلفاء البريديين. وقد ابدي البريديون للبويهيين مقاومة عنيفة وحققوا في البداية بعض النجاح غير ان احمد بن ابي شجاع استولى على البصرة بعد ان تغلب في عام ٩٤٧م نهائياً على اخى البريديين وكان اسمه ابو القاسم الذي هرب إلى القرامطة في الاحساء. وهكذا توحد العراق كله تحت سلطة معز الدولة.

كان معز الدولة شأنه في ذلك شأن افراد الاسرة البويهية الاخرين شيعياً حقيقياً ومدافعاً غيوراً عن مشاركيه في العقيدة وحامياً لهم. وقد ازداد عدد هؤلاء في عاصمة الخلافة نفسها بشكل كبير منذ ان اصبحت قوات الخلافة المرتزقة تضم بين صفوفها ابناء القبيلة التي ينتمي اليها البويهيون وهم الديلم الجبليون الذين كانوا يقطنون في المناطق المتاخمة لقزوين وما كان بامكان الوضع الصعب الذي كان الشيعة يعانونه تحت سلطة العباسيين ، الا ان يثير لدى معز الدولة الرغبة في اظهار قوة ونفوذ التشيع.

٥٩

وكان احد اجراءاته الرئيسة في هذا الاتجاه اقراره ابتداء من عام ٩٦٢م الاحتفال في عاصمة الخلافة علناً بذكرى الامام الحسين الذي مات في كربلاء. وقد تحتم على عاصمة العباسيين في العهد البويهي ان تعاني في احيان كثيرة من كل كوارث النزاعات الداخلية الدموية التي كانت تصل من وقت لاخر إلى احجام غير اعتيادية كما حصل مثلاً في ١٠٣٨ و ١٠٤٨ م (١).

وهكذا لم يمنح حكم البويهيين العراق الهدوء الضروري ولم يحيى في تلك المناطق سير الحياة السلمي الذي كان قد انقطع بسبب تدهور احوال الخلافة العباسية خصوصاً وان سعد البويهيين انفسهم لم يعمر طويلاً فقد برزت المنازعات حول السلطة وهي امر معتاد في الشرق (٢) بمجرد ان توفي الاخوة الثلاث مؤسسو عز هذه الاسرة ولم تلبث دولة البويهيين الواسعة التي كانت تمتد من بحر قزوين حتى الخليج ومن حدود خرسان حتى حدود الشام الشرقية ان وصلت إلى حافة الفناء. ويكمن السبب الرئيس في سقوط الاسرة البويهية في تقسيم أراضيها بين ممثلي هذه الاسرة كثيري العدد الذين رفضوا الاعتراف بعد ذلك بسلطة اكبر افراد الاسرة عليهم واصبحوا عدداً كبيراً من الحكام المستقلين الذين لم يكن الواحد منهم يقنع بالارض التي اصبحت من حصته بل يسعى لاستغلال كل فرصة سانحة لتوسيع اراضيه على حساب اراضي اقربائه ، فكان ذلك

__________________

(١) M. De hammer; histoire de I Empire ottoman trad. De I allemande par M. Dochez. Paris ١٨٤٤. T. I, P. ٤١١ FF.

(٢) يتناسى المؤلف هنا النازعات الدموية على السلطة التي حصلت في الدول الغربية في مختلف مراحل تاريخها وهي نزاعات تكاد تفوق في عنفها وقسوتها ما حصل في الشرق. (المترجم).

٦٠