ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

شامل وان يبرهن على انه اداراي ناجح يمكن ان يقارن بسلفه وسميه المشهور الكبير.

دخلت القوات الكردية بعد ان تغلبت على قوات سليمان الصغير بغداد واستغلت الوضع الاستثنائي الذي اصبحت تتمتع بع فعينت خازن الباشا الراحل والياً على بغداد. وكان هذا الشخص واسمه عبد الله على علاقات سرية طيلة الوقت مع المتمرد عبد الرحمن بابان وقدم له اكثر من مرة خدمات غير قليلة. لكن وضع الباشا الجديد كان حرجاً ، فحرس باشوات بغداد من الجورجيين واقرباؤهم الكثيرون في المدينة يميلون إلى اسرة سليمان الكبير ، إلى جانب العدد الكبير من انصار هذه الاسرة بين اهالي بغداد. كما ان سلطة الوالي الجديد صنيعة الاكراد ، لم يعترف بهما الا في داخل المدينة ، لان احداً خارج اسوار بغداد لم يعترف بهذه السلطة على الاطلاق ، فلا القبائل العربية فعلت ذلك ولا غيرهم من السكان. يضاف إلى ذلك كله ان النفوذ الفارسي بدأ يظهر أكثر فاكثر في المنطقة المتاخمة للحدود وقد وصلت المسألة إلى الجد الذي بدأ معه حاكم كرمنشاه الامير محمد على مرزا بأخذ الاتاوات من سكان المناطق القريبة من فارس ، هذا في الوقت الذي اصبح فيه جنوب كردستان مستقلاً عن بغداد يحكم بشكل مستقل تماماً بعد ان رسخت فيه مجدداً اقدام عبد الرحمن باشا (١). وغدت فيه جميع المنطقة الواقعة بين بغداد ومصب الفرات تحت سلطة شيخ المنتفق القوي حامد الثامر (٢) الذي كان يدافع عن استقلاله ضد تطاولات

__________________

(١) Kinner; OP. Cit. T. II P. ٦١.

(٢) الصحيح حمود الثامر وهو ابن عم ثويني. وسنذكر اسمه الصحيح حيثما ورد ذكره لاحقاً. (المترجم).

٢٠١

باشا بغداد بقوة السلاح (١).

لقد اصبح وضع عبد الله باشا الحرج ميؤساً منه بعد ان اخذت فارس تتدخل بشكل مكشوف في شؤون جنوب كردستان ، فقد استغل فتح علي شاه عقد معاهدة صلح بخارست بين الدولة العثمانية وروسيا في ١٨١٢ فاعلن بان توقيع محمود الثاني للمعاهدة دون اعلام البلاط الفارسي بذلك مسبقاً يعد عاملاً عدائياً قامت به الدولة العثمانية ضده على اعتبار انه كان هو ايضاً في حالة حرب مع روسيا بالرغم من انه لم يكن في هذه الحرب متحالفاً مع السلطان (٢). ومنذ هذه اللحظة لم يعد حاكم كرمنشاه الامير محمد علي ميرزا يعير اهتماماً كبيراً للسلطان العثماني في العراق فبادر إلى تعيين حاكم من قبله في السليمانية بدلا من عبدالرحمن الذي لم يحظ باعجابه. وقد لجأ هذا الاخير إلى عبد الله في بغداد فقام هذا بتأكيد تعيينه في منصبه السابق لكن عبد الرحمن لم يلبث ان تصالح مع الفرس بعد ان حقق ما يريد واصبح يظهر استقلاله عن بغداد اكثر من السابق. وبادر والي بغداد لكي يخضع البيك الكردي المتمرد إلى ارسال جيش كبير ضده اجبر عبد الرحمن على ان يبحث عن ملجأ له لدى الامير الفارسي في كرمنشاه فبادر هذا إلى اجتياز الحدود العراقية واعاد عبد الرحمن إلى السليمانية بقوة السلاح (٣).

ان هذا الفشل الكبير الذي مني به عبد الله اعطى خصومه كثيري العدد الحجة التي انتظروها طويلاً لكي يعلنوا بانه غير مؤهل لحكم العراق

__________________

(١) Ritter, OP. Cit T. VII Abt. Iis. ١٠٠٢.

(٢) Von Sax, OP. Cit. s. ١٧٥.

(٣) Ibid. ١٧٦.

٢٠٢

ولكي يثيروا استياء عاماً ضده. وقد أيد أهالي بغداد علناً استبداله بابن سليمان الكبير المشهور ، الشاب سعيد بيك الذي لم يكن يقضي وقته بالاحلام بل تمكن من ان يؤمن لنفسه اسناد شيخ المنتفق القوي الذي رفع علم الثورة لصالح تعيينه والياً لبغداد. وعندما انبرى عبد الله للمنتفقين بقواته اصيب باندحار حاسم وسقط في ساحة المعركة. وهكذا دخل سعيد باشا الذي رحب به السكان بسرور المدينة منتصراً فاضطر الباب العالي للمصادقة على اختيار اهالي بغداد هذا تجنباً لتعقيدات جديدة في هذه المنطقة (١).

وهكذا عادت السلطة في العراق مرة اخرى إلى اسرة سليمان الكبير على الرغم من ان حكم هذا الخلف الشاب لذلك الوالي المشهور كان قصيراً جداً. لقد كان سعيد باشا أو اسد باشا كما دعاه اهالي بغداد شاباً قليل التجربة ولذلك فان تقدمه في المناصب توقف بسرعة بعد ان بدأ بشكل رائع. فبعد ان احتل منصب والي بغداد اختلف مع المماليك وهو الاسم الذي كان يطلق على حرس باشوات بغداد من العبيد الجورجيين الذين كانوا السند الرئيس لكل من خلف سليمان الكبير ، بل ان سليمان الكبير هذا نفسه برز من بين صفوفهم. كما انه جانب الحذر ودخل في صراع مع الفرس لان هؤلاء عمدوا بعد ان مات عبدالرحمن الباباني في عام ١٨١٣ إلى تعيين ابنه محمود حاكماً للسليمانية وكان محمود هذا قد عاش فترة طويلة رهيبة في كرمنشاه ، فتمكن لهذا السبب من اقامة علاقات واسعة في بلاط فتح علي باشا. ولم يوافق سعيد باشا على هذا الاختيار وعين بدلا من صنيعة فارس هذا واحداً من انصاره من عائلة بابان ايضاً

__________________

(١) Ritter, OP. Cit. T. VII Abt. Iis. ٨٢٤.

٢٠٣

فادى ذلك إلى دخول الفرس إلى كردستان العثمانية مرة اخرى وتنصيبهم محمود باشا حاكماً للسليمانية بالقوة (١). وقد بادر الباب العالي على الفور إلى استغلال فشل سعيد باشا في مجابهته للفرس فنقله من بغداد إلى منصب والي حلب.

لقد كان هذا التحول في موقف الباب العالي يعود لنفس الاسباب التي حتمت عزل سليمان الصغير وان كانت هذه الاسباب قد تعمقت اكثر في حالتنا الراهنة لكون السلطان محمود الثاني قرر تقوية سلطة الحكام المركزية عن الطريق التخلص إلى الابد من الحكام الاقطاعيين والولاة شبه المستقلين في اصقاع الامبراطورية العثماني المختلفة. ولتحقيق هذا الهدف كان على السلطان ان يزيل من طريقة جميع العناصر التي لا تخضع له ابتداءً من صغار الثوار والمتمردين وانتهاءً بالاقطاعيين وكبار الاقاليم الذين كانوا يمارسون حكماً ذاتيا واسعاً. لقد كان الاقتصاص من هذه العناصر جميعاً على درجة من القسوة بحيث ان رؤوس الذين اعدموا في مختلف انحاء الامبراطورية العثمانية كانت ترسل إلى اسطنبول على شكل اكداس وقد تركت الحكايات التي كانت تروى عنها اثاراً محسوسة على الاخبار العثمانية طيلة العقد الاول من حكم محمود الثاني (٢). وهكذا فمع اتخاذ سياسة السلطان هذا الاتجاه يصبح من المفهوم تماماً لماذا كان على باشوات بغداد ، الذين كانوا يثيرون الخوف الدائم لدى الباب العالي بسبب ما كانوا يعتقدون به من قوة واستقلال منذ عهد احمد المفهوم ايضاً لماذا عزل ابن سليمان الكبير لسبب تافه كالذي ذكرناه اعلاه. وقد رفض سعيد

__________________

(١) Von Sax, OP. Cit. s. ١٨٦.

(٢) Von Sax, OP. Cit. s. ١٧٨ - ١٧٩.

٢٠٤

باشا بالطبع الخضوع لامر الباب العالي ورفض مغادرة بغداد ولكنه وقد اصبح في معارضة الحكومة صراحة لم يحسب الحساب لحقيقة مهمة هي ان خلافه مع المماليك جرده من اكثر القوى فعالية في اسناده داخل المدينة. يضاف إلى ذلك ان استبدال ممثلي نابليون ومنهم القنصل الفرنسي العام في بغداد ريموند بعد سقوط نابليون وعودة الملكية جرد سعيد باشا من هذا السند الفعال لعائلة سليمان الكبير التي كانت تعتبر مخلصة لفرنسا.

في هذه الاثناء لم يكن الحزب المعادي لسعيد باشا يقضي وقته بالاحلام بل وجد من يحل محلّه وهو شخص اسمه داود وكان زوجاً لشقيقة الوالي (١). وكان هذا المرشح واحداً من العبيد الجورجيين في خدمة سليمان الكبير نال قسطاً كبيراً من التعليم بالنسبة لظروف ذلك الوقت الامر الذي مكنه من ان يصبح «ملا» فكان يجلس عند حائط مرقد عبد القادر متظاهراً بالتقوى (٢). وهكذا امن لنفسه حياة هادئة وجمع رأس مالٍ لا يستهان به. وبعد ان تأكدت اشاعة نقل صهره إلى حلب رشح نفسه امام اسطنبول والياً لبغداد بالحاح واسناد من الحزب المعارض لسعيد باشا. وقد وافق الباب العالي على ذلك على الرغم من علاقة داود باشا بعائلة سليمان الكبير ومنحه في السنة نفسها أي في ١٨١٧ لقب باش من مرتبة الاطواغ الثلاثة ولكنه اشترط عليه التخلص من سعيد باشا الذي لا يريد مغادرة بغداد. وبعد ان اعلم سعيد باشا باخبار تعيين داود تحصن في قلعة المدينة على امل ان يصمد إلى ان يأتي المنتفقيون المخلصون له لانه لم يكن يمتلك القوات التي تمكنه من مجابهة خصمه بشكل مكشوف. ولكن داود

__________________

(١) Rich, OP. Cit. vol. ١P. ٤.

(٢) J. R. wrilsted, Travels to the City of the Caliphs vol. I, London, ١٨٤٠, P. ٢٥٨.

٢٠٥

باشا عجل بالاغارة على القلعة فاستولى عليها وارسل إلى اسطنبول راس سعيد باشا ومعه الهدايا المعتادة إلى الوجهاء هناك بمناسبة تعيينه (١).

لقد ظل حكم العراق في اسرة سليمان الكبير على الرغم من انه انتقل إلى داود باشا ذلك ان اهالي بغداد كانوا يعدون الوالي الجديد - على الرغم من تصرفه الخارج على القيم العائلية تجاه سعيد باشا - ، استمراراً للعائلة المذكورة ، لكونه صهراً لسليمان الكبير. لقد اظهر داود باشا نفسه في اول مرة خاضعاً لاسطنبول ومنفذاً لاوامرها وحاول خلال ذلك ان يعزز وضعه في بغداد فقد شد القوات اليه بالنفوذ وجذب الاهالي إلى صفه بالنعم والملاينة وامن لنفسه اسناداً تاماً من جانب رجال الدين الذين كانت تربط بهم - لكونه ملا ـ علاقات واسعة (٢). واخذت شعبية داود باشا بفضل الدأب في انتهاج هذه السياسة الحكيمة تزداد من يوم لاخر بل من ساعة لاخرى ولهذا فانه لم يعد يخشى من ابني سليمان الكبير اللذين ما يزالون على قيد الحياة واللذين لم يستطيعا ان يفعلا شيئاً لصهرهما الحاذق على الرغم من ثرائهما ووجود حزب لا يستهان به من انصارهما في بغداد.

كان الوهابيون ـ العدو الاساس لحكام بغداد ـ قد كسرت شوكتهم عندما تعزز حكم داود باشا نهائياً في بغداد. فقد تخلى الباب العالي بعد حملة حافظ علي باشا في ١٨٠٥ عن امله في القضاء عليهم ، بواسطة باشوات بغداد - وقرر بعد ان صادق في ١٨٠٦ بتوسط من فرنسا على تعيين محمد علي باشا المشهور حاكماً لمصر اختياره للكفاح ضد الوهابيين (٣).

__________________

(١) Von Sax, OP. Cit. s. ١٨٦.

(٢) Wellsted, OP. Cit. vol. ٢٥٠. ١P.

(٣) Von Sax, OP. Cit. s. ١٤٤.

٢٠٦

ولكن محمد علي لم يجهز ابنه طوسون باشا ويرسله إلى شبه جزيرة العرب الا في ١٨١١ بعد ان رسخت سلطته في مصر. وقد استطاع طوسون هذا ان يستعيد من الوهابيين اولاً جدة وبعدها مكة واخيراً المدينة التي احتلها في ١٨١٥. ثم عقدت بين القائد الاعلى للجيش المصري والامير الوهابي عبد الله بن سعود هدنة لم تستمر طويلاً فقد توغل في الجزيرة العربية في ١٨١٦ جيش مصري جديد بقيادة ابراهيم باشا الابن الاخر لمحمد علي وقد مكنت الانتصارات الجديدة التي احرزتها القوات المصرية الامبراطورية العثانية من التخلص من الخطر الوهابي ، ففي ايلول استلم الامير عبد الله لابراهيم باشا فارسل إلى اسطنبول حيث تم اعدامه علناً وخربت عاصمته الدرعية تخريباً تاماً (١). وهكذا لم يعد اتباع عبد الوهاب يؤلفون خطراً دائماً بالنسبة للسلاطين العثمانيين بالرغم من ان اسرة ابن سعود لم تلبث ان بعثت واخذت تلعب كما سنرى لاحقاً دوراً ملحوظاً في الاحداث التاريخية التي لها صلة مباشرة بتاريخ العراق المتأخر.

ان حاكم بغداد الجديد داود باشا ، وقد تخلص من كابوس الغارت الوهابية الدائم الذي حرم اسلافه الهدوء ، اصبح يستطيع ان يواجه كل اهتمامه إلى كردستان التي كان الوضع فيها ما يزال يثير القلق (٢) ، فحاكم السليمانية محمود باشا صنيعة فارس لم تؤثر فيه حتى اجراءات اللين الترضية فقد ظل يعترف بسيادة الشاه وارسل ابنه وكان عمره سبعة اعوام رهينة إلى كرمنشاه على الرغم من ان داود باشا وسع المنطقة تحت حكم اسرة بابان لدرجة لا يستهان بها (٣). ولهذا غير حاكم بغداد تكتيكه وقرر ان

__________________

(١) London, ١٨٨١) PP. ٢٥٦ - ٢٦١) Blunt, A pilgrimage to Nehd, vol. II,

(٢) on sax, OP. Cit. s. . ١٨٦٧

(٣).Rich, OP. Cit. vol. ١P. ٢٩٨.

٢٠٧

يستبدل محمود باشا باخيه الاصغر وتحرك على راس جيشه إلى كردستان لكي ينصب صنيعته هذا حاكماً على السليمانية ، غير اننه اضطر إلى ان يعود ادراجه وهو في منتصف الطريق اليها لان اخباراً وصلته مفادها ان الفرس قد حشدوا في ضواحي السليمانية قوات كبيرة تفوق جيشه عدداً.

لقد عزا داود باشا فشله هذا إلى تأثير مقيم شركة الهند الشرقية الانجليزية في بغداد ريتش الذي كان في هذا الوقت بالذات يحل ضيفاً على صديقه الكبير محمود باشا في كردستان (١). وقد اتهم داود باشا ريتش امام البابا العالي بتحريض الاكراد على المتمرد وبادر إلى الدخول في صراع معه دون ان ينتظر تعليمات من العاصمة بهذا الخصوص.

لقد أنصبّ استياء الباشا على من يتمتع بالحماية الانجليزية من التجار المحليين فبدأ يضايقهم بكل السبل في عملياتهم التجارية ، بحجة انهم يتمتعون بامتيازات استثنائية بالمقارنة مع بقية التجار من الاهالي. وقد اصبح وضع هؤلاء الذين يحميهم الانجليز في البصرة وبغداد لايطاق حتى ان كثيرا منهم فضلوا التوقف مؤقتاً عن ممارسة أي نشاط تجاري في العراق (٢). عند ذلك قرر وكيل شركة الهند الشرقية اتخاذ تدابير متطرفة لانهاء هذا الوضع الشاذ فعمد إلى تعزيز وسائل الدفاع في داره فصد كل هجوم غير متوقع من جانب الباشا ثم امر بادخال السفن الحربية التابعة للشركة إلى النهر فقطعت هذه السفن أي اتصال بين البصرة وبغداد (٣). ورد

__________________

(١) I bid. Vol II P. ١٧٩, vol. l foot note P. ٦٩.

(٢) Aitchison, OP. Cit. vol. XIP. ٢ - ٣.

(٣) V. Fontanier, voyage dans I Inde et dans le Golf (Persique) T. l. Paris ١٨٤٤, P. ١٦٧.

٢٠٨

داود باشا على ذلك بمحاصرة المقيمية ولكنه جابه مقاومة مسلحة فاضطر إلى التراجع السماح لريتش بمغادرة البلاد مع جميع الموظفين الانجليز العاملين في مؤسسات الشركة في البصرة وبغداد. وأغلقت مقيمية بغداد مؤقتاً بعد هذه الاحداث التي وقعت في ١٨٢١ ولم ينتقل تالير الذي خلف ريتش من محل سكنه في البصرة إلى بغداد الا بعد ان التزم داود باشا رسمياً بالاعتراف للرعايا الانجليز ولمن هو تحت حماية بريطانيا بجميع الحقوق والافضليات التي يقرها لهم نظام الامتيازات وبعد ان اقر باعادة قيمة جميع ما صودر من بضائع وجميع ما نهب من اموال تخص موظفي شركة الهند الشرقية (١).

بعد ابعد داود باشا ريتش الذي اعتبره المسئول الاول عن الاخفاق الذي اصابه في كردستان بادر إلى ارسال حملة جديدة ضد محمود باشا غير ان جيشاً فارسياً ـ كردياً مشتركاً تمكن من التغلب على قوات بغداد التي كانت بقيادة كهية داود باشا (٢). عندها امر حاكم بغداد - انتقاماً لذلك - باعتقال جميع الفرس الاغنياء والمنتفذين في بغداد ومصادر املاكهم. وفعل الشيء نفسه في كربلاء والنجف حيث احتمى الفرس باسوار المسجد لكن هذه جرت مهاجمتها واحتلت واسفر ذلك عن موت الكثيرين. ونقلت جميع ثروات العتبات المقدسة في المدينتين المذكورتين إلى بغداد حيث جرى تحولهما تحت اشراف صناع استقدموا من اسطنبول إلى سبائك ثم سكت نقوداً فيما بعد (٣).

__________________

(١) Aitchson, OP. Cit. vol. XI, P. ٣.

(٢) Rich, OP. Cit. vol. II, P. ١٨٤.

(٣) Ibis, P. ٢٢٦.

٢٠٩

ولم يكن لهذا التحدي الذي مارسه داود باشا تجاه رعايا الشاه الا ان يؤدي إلى القطيعة مع فارس سيما وان فتح علي شاه نفسه كان يبحث عن حجة لكي يختبر قواته الجديدة التي دربها على انمط الاوربي في حرب مع العثمانيين مستغلاً حقيقة ان الانتفاضة القائمة في اليونان والتعقيدات في ولاكيا وملدافيا كانت تشل يد الدولة العثمانية وتمنعها عن ابداء اي اسناد فعال لباشا بغداد. وكانت الدعاية الفارسية في شمال العراق تنطلق من كرمنشاه. اما بالنسبة لجنوب العراق فقد كان مركز الدعاية للنفوذ الفارسي هو مدينة الحويزة وقد استوطن حولها ما يقرب من ٠٠٠ر٢٠٠ نسمة من بني لام الذين كانوا ما يزالون حتى بدايت القرن الثامن عشر يمارسون حياة التنقل. وقد تبعهم في ١٨١٢ نفس العدد من المنتفقين ، الذين ظلوا بالطبع على صلة وثيقة مع اقربائهم في العراق.

لقد أدرك داود باشا تمام الادراك الاخطار التي سيواجهها في اثناء صراعه المقبل مع الشاه فقد باشر قبيل اعلان الحرب بحل قضية العرب بما يتصف به من نشاط ، فعمل اولاً على زرع العداوة بين المنتفقين وذلك باستبدال الشيخ حمود الثامر ، الذي اصبح على درجة كبيرة من القوة باحد انصاره من اقرباء ذلك الشيخ وهو شخص يدعى عجيل. غير ان انصار الشيخ المقال رفضوا الاعتراف بعجيل هذا وهبوا للدفاع عن حمود الثامر بقوة السلاح. وقد استغل داود باشا هذه الحرب التي يقاتل فيها الاخ اخاه فاختطف الشيخ المقال واخاه واعدمهما فقضى ذلك قضاء تاماً تجاههم السياسة نفسها حيث عزل في ايار ١٨٢١ شيخهم عرار (١). وقد اسرع هذا بالذهاب إلى الامير حاكم كرمنشاه الذي عزم على اعادته إلى منصبه

__________________

(١) Ritter, OP. Cit. T. VII Abt Iis. ١٠٠٢.

٢١٠

بمساعدة اللوريين الفيلية ، لكن الرجل الذي اختاره باشا بغداد وهو شخص ذكي وحاذق اسمه مذكور بن جنديل استطاع ، قبل ان يجري تنفيذ هذه المحاولة ان يزرع خلافاً كبيراً بين من ظل من بني لام مخلصاً لمنافسه وتمكن من استمالة الجزء الاغلب من ابناء قبيلته (١). وهكذا تمكن داود باشا من اخماد الفتنة التي كانت تستعد لها اقوى قبيلتين في العراق وهي في مهدها ، الامر الذي قلّص كثيراً من فرص الشاه الفارسي للاستيلاء على العراق بسهولة.

غير ان ذلك لم يثن فتح علي شاه فبدأ عملياته العسكرية ضد العثمانيين مستغلاً الخلافات الحدودية التي قامت في ١٨٢١ بين الامير عباس مرزا حاكم اذربيجان ووالي ارض روم العثماني. فقد بسط الوالي العثماني حمايته على قبيلتين كرديتين انتقلتا من الاراضي الفارسية وكانتا تعتبران من رعايا فارس. ومع ان الوالي العثماني استبدل ، الا ان من حل محله كان اكثر عداءً للفرس منه ، فقد عمد إلى اعتقال المندوب الذي ارسله عباس مرزا للتفاوض. وهنا بادرت حكومة الشاه إلى قطع الاتصالات مع سلطان ارضروم وتوغل جيش يقوده وريث العرش الفارسي في الاراضي العثمانية واستولى على قلعتين تويراك قلعة وآق سراي (٢) وتحطمت القوات العثمانية التي ارسلتها لمجابهة الفرس وباشر عباس مرزا باحتلال المناطق الحدودية العثمانية : آب شهر وديادين وبيتليس وموش وغيرها ، الواحدة بعد الاخرى.

طلب الباب العالي من داود باشا ان يسند جيش ارضروم وذلك

__________________

(١) Rich, OP. Cit. vol. II P. ١٦٩.

(٢) Fontanier, OP. Cit. T. ١

٢١١

بالدخول بجيشه إلى اراضي اقليم كرمنشاه ، لكن جيش الحاكم المحلي محمد علي مرزا احرز على قوات داود باشا نصراً حاسماً وتعقبها حتى بلدة بني سعد التي تقع على مسيرة يوم واحد من بغداد (١). وفي هذا الموقع توقف الجيش الفارسي لكي يستعد لاقتحام بغداد ورفض محمد علي ميرزا جميع طلبات داود باشا على المدينة لانه لم يشأ التفريط بهذه الفرصة التي سنحت لالحاق العراق بعتباته المقدسة بفارس مرة اخرى. ومع ذلك فقد كانت للقدر كلمة اخرى ففي حمأة الاستعدادات مرض القائد الاعلى للجيش الفارسي والابن الاكبر لفتح علي شاه بالكوليرا التي انتشرت انذاك في العراق ولهذا فقد صدر امر بانسحاب الجيش إلى كرمنشاه فوراً اما الامير المحتضر فقد حمل إلى كرمنشاه من اقصر الطرق وهناك توفي وخلفه في منصب حاكم كرمنشاه ابنه الامير محمد حسن الذي بادر على الفور باستئناف العمليات العسكرية ضد العثمانيين وتمكن من الانتصار على جيش داود باشا مجدداً بالقرب من الحدود الفارسية (٢).

وفي هذه الاثناء استؤنفت العمليات العسكرية في الجبهة الشمالية بعد ان توقعت خلال فصل الشتاء ، فحاصر العثمانيون في ربيع ١٩٢٢ قلعة توبراك قلعة غير ان عباس ميرزا الذي لم يكن تحت قيادته اكراد فارس فقط بل واكراد الدولة العثمانية ايضاً عجل بنجدة المحاصرين والحق بالعثمانيين هزيمة كبيرة اخرى ، كذلك تغلب الفرس عند حدود اذربيجان

__________________

(١) Watson, OP. Cit. P. ١٩٧ - ١٩٨.

(٢) G. Keppel, Personal Narrative of travels in Babylonia, Assyria, Media and Scyhia, T. ١, (London, ١٨٢٧), PP. ٢٦٥ - ٢٦٨.

(٣) Watson, OP. Cit. P. ٢٠١ - ٢٠٢.

٢١٢

على الجيش العثماني الاخر الذي كان يتقدم باتجاه تبريز (١). وقد هددت هذه الانتصارات الدولة العثمانية لا بفقدان العراق فحسب بل وبفقدان جزء كبير من اقاليمها الكردية والارمينية ايضاً لو لا الكوليرا التي كانت قد انقذت بغداد من الخضوع للامير محمد علي مرزا فقد هبت هذه المرة ايضاً لنجدة العثمانيين فادت إلأى فناء اعداد كبيرة من افراد المعسكر الفارسي حتى ان قوات عباس مرزا تفرقت مذعورة خوفاً من هذا الضيف الذي لم يدعه احد.

وعند ذلك اقترح وريث العرش الفارسي علي والي ارضروم الدخول معه في مفاوضات لعقد الصلح. وقد بدأت المفاوضات بالفعل في السنة نفسها أي في ١٩٢٢ بعد ان غادرت بقايا الجيش الفارسي الاراضي العثمانية وعادت إلى فارس. وتم ابرام معاهدة الصلح الرسمي المعروف بأسم معاهدة ارضروم نهائياً في ١٨٢٣ وقد تقرر بموجبها ان تحتفظ كل من الدولتين بممتلكاتها السابقة ، كما التزم الجانبان بعد التدخل في المستقبل في الشؤون الداخلية لبعضها وتعهدت كل من الدولتين بان تمنع رعاياها الاكراد من الانتقال إلى اراضي الدولة اخرى ، واقرتا اعتبار القبائل الكردية التي تعبر الحدود من احدى الدولتين إلى الاخرى من رعايا تلك الدولة التي انتقلت هذه القبائل إلى اراضيها ، وهكذا لم تجن فارس على الرغم من انتصارها المشهود اية فائدة من هذه الحرب.

اعطى حلول السلام على الحدود العثمانية - الفارسية الفرصة لداود باشا لان يهتم بالشؤون الدالخية لولاية بغداد فركز جل اهتمامه على محاولة رفع ايرادات الولاية لكي يتمكن من توفير النقود لزيادة وتحسين

__________________

(١) Ibid. PP. ١٩٩ - ٢٠٢, von Sax, OP. Cit. s. ١٩٧ - ١٩٨.

٢١٣

قوته العسكرية. وهكذا احتكر داود باشا ، على ما يذكر نائب القنصل الفرنسي في البصرة فونتانية (١). تجارة الحبوب والملح والتمر أي منتجات العراق الرئيسة وواستخدم لنقل هذه البضائع سفناً بحرية ونهرية خاصة به. وقد جرب الباشا في ركضه وراء زيادة ايراداته ان يزرع القطن وقصب السكر متشبهاً في ذلك بمصر ولكن التجارب لم تبرر النتائج المرجوة نتيجة لقلة في اجرائها. وبالاضافة إلى المدخولات الكبيرة الواردة من الضرائب الكمركية التي ازدادت كثيراً نتيجة للتطور التجاري بفضل اجراءات داود باشا التشجيعية كانت ترد إلى الخزينة مبالغ ضخمة تأتي من الضريبة المفروضة على الزوار الذين يمرون ببغداد بعشرات الالوف سنوياً في طريقهم إلى العتبات المقدسة في العراق. ولهذا فليس من المستغرب ان يصل دخل ولاية بغداد في فترة حكم داود باشا النشط والكثير الحركة سبعة وثلاثين مليون قرش أي ما يعادل اكثر من مليون روبل (٢).

وهكذا اصبح بامكان داود باشا وقد امتلك هذا القدر من الاموال ان يبدأ باجراء اصلاحات جذرية لتعزيز القدرة العسكرية لباشوية بغداد. وكان سليمان الكبير وخلفه المباشر حافظ علي باشا قد اسسا فصيلاً غير كبير تعداده ٥٠٠ شخص من القوات المنضبطة المدربة على النمط الاوربي مع مستودع للذخيرة (٣). وبعد ان تولى داود باشا حكم العراق مباشرة وسع هذا الفصيل بعض الشيء فقدم له خدمات جليلة في اثناء الحملة الفارسية التي

__________________

(١) Fontanier, OP. Cit. T. ١, PP. ٣٢٣, ٣٣٤, ٣٣٥.

(٢) ي. أي ز تشيريكوف ، سجل الطريق ، باشراف أ. كمازوف ، (سان بطرسبورغ ، ١٨٧٥). ص ٢٨٤ . [بالروسية].

(٣) M * * , Description du pachalik de Bagdad, P. ٢٩.

٢١٤

برهنت مع ذلك على ان زيادة هذه القوات وتوسيعها ضرورة لا تقبل التأجيل. وقد زادت النجاحات التي حققها جيش حاكم مصر محمد على المدرب على النمط الاوربي في الصراع مع الوهابيين من رغبة باشا بغداد في توسيع الاصلاح العسكري الذي يريده جهد الامكان. وقد حظي الباشا في هذا المجال باسناد حيوي من جانب المقيم الجديد لشركة الهند الشرقية العقيد تالير الذي كان قد انتقل إلى بغداد وحاول ان يعقد صداقة مع داود باشا عارضاً خدماته كمدرب فاسس فصيلاً تعداده الف شخص يماثلون السيبوي الانجليزي في تدريبهم ولباسهم (١). لقد عمل داود باشا على زيادة عدد افراد قوته المدربين على النمط الاوربي لدرجة ملحوظة ولم ينس في الوقت نفسه ان يحسن المدفعية في جيشه وقد استجلب إلى بغداد لهذا الغرض الصناع الاوربيين وجعلهم يعملون تحت اشراف المدفعي التركي اسطة علي الذي كان قد عاد لتوه من الاسر في روسيا. وقد رفع هؤلاء الصناع من الكفاءة مدفعية الباشا وانشأوا في بغداد ترسانة تتوفر فيها كل وسائل التكنيك الحديث في ذلك الوقت. والخلاصة ان داود باشا استطاع خلال بضع سنوات ان ينشئ قواة تتألف من بضعة الاف من القوات المدربة على النمط الاوربي بالاضافة إلى فيلق من المشاة والخيالة غير النظاميين تعداده خمسة وعشرون الفاً ، كان الباشا يتسطيع ان يضيف اليهم في وقت الحاجة ضعف هذا العدد من الفرسان العرب من القبائل العربية الحليفة له (٢). لقد كان باستطاعة داود باشا بمثل هذه القوة ان يجابه

__________________

(١) J. Billie, Travels in koordistan, Mesopotamia etc. vol. l. (London, ١٨٤٠), p. ٢٦١.

(٢) Wellsted, OP. Cit. vol. lp. ٢٥١.

٢١٥

أي جيش يفكر الباب بتوجيهه إلى العراق وقد وعى الباشا قوته هذه واخذ يفكر بالانفصال التام عن العثمانية.

لقد عزز الوضع الحرج الذي كانت الدولة العثمانية تعاني منه في ذلك الوقت النوايا الطموحة لحاكم العراق. فقد استغل السلطان محمود الثاني الذي لم يتمكن من اخماد الثورة اليونانية اتساع الاستيلاء من الانكشارية الذين برهنوا على عدم اهليتهم العسكرية مجدداً في اثناء مجابهة الثوار اليونانيين فوجه اليهم ضربة قاضية. ففي حزيران ١٨٢٦ حصلت بين الانكشارية - على غرار ما حدث في عام - حركة قوية ضد الفرمان الذي اعلنه السلطان بانشاء قوات جديدة فامر محمود الثاني برفع راية الرسول (صلى الله عليه وأله) ودعا الناس إلى التكتل تحتها معلناً الجهاد ووزع السلاح على سكان العاصمة ، واتجه الشعب المسلح نحو ساحة ات ميدان الذي كانت تقع فيه ثكنة الانكشارية فطوقها وانتهى الامر بان قضت المدفعية على المتمردين الذين رفضوا القاء السلاح طوعاً (١). اما في الاقاليم فقد تطلب القضاء على الجيش الانكشاري جهداً اقل ما خلا بعض الاستثناءات. وقد ظلت الدولة العثمانية دون قوات بعد ان تخلصت من هؤلاء الجنود المشاغبين الذين كانوا مصدراً للاضطراب الدائم والتدهور الداخلي ذلك لان الجيش الذي نظم على الطريقة الاوربية كان ما يزال في طريق النشوء يتطلب الوصول به إلى العدد المطلوب والى المستوى القتالي اللائق وقتاً غير قليل. ولكي يكمل الحظ السيء دمر الاسطول البحري الذي كان السلطان يعلق عليه اماله كلها في خليج نافارين في تشرين الاول ١٨٢٧ على يد اسطول انجليزي - روسي- فرنسي

__________________

(١) Lavallee, OP. Cit. T, II PP. ٣٣٠ - ٣٣٤.

٢١٦

مشترك ، وبدأت في هذا الوقت الحرج بالنسبة للدولة العثمانية الحرب مع روسيا. وقد انتهت هذه الحرب بمعاهدة صلح ادريانوبل في ١٨٢٩. وقد التزمت الدولة العثمانية التي خسرت الحرب بموجبها بان تدفع لروسيا غرامة حربية بلغت عدة ملايين من الدوكات الهندية (١). ولما كانت خزينة الدولة فارغة فقد قرر السلطان الذي كان بحاجة ماسة إلى المال التوجه إلى حكام الاقاليم طلباً للمساعدة وكان حاكم العراق من ضمن من توجه اليهم حيث طلب منه دفع ما هو مفروض عليه باعتباره حاكماً للعراق ، من استحقاقات متأخرة.

وقد عد داود باشا الذي استطاع ان ينشئ كما راينا قوة عسكرية كبيرة والذي كانت تحت تصرفه خزنة عامرة ، ان الوقت قد حان لكي يعلن للسلطان استقلاله. وهكذا استجاب لطلب السلطان الاول فارسل له مبلغاً صغيراً من المال ولكنه رفض بشكل قاطع جميع المطاليب الاخرى. وعندما نفد صبر السلطان فارسل في ١٨٣٠ مبعوثاً خاصاً إلى العراقلجمع المبالغ المتأخرة ، امر داود باشا بقتل مبعوث السلطان هذا على الفور بمجرد وصوله إلى بغداد (٢). ومنذ ذلك الوقت لم يعد داود باشا يخفي نواياه بالانفصال عن الدولة العثمانية فدخل في مجابهة صريحة مع الباب العالي الذي قرر من جانبه التخلص من هذا الوالي الخطر مهما كلف الامر. وقد زاد القلق الذي اثاره في اسطنبول سلوك التمرد الذي انتجه داود باشا نتيجة الاخبار التي فصحها هناط ضابط المدفعية اسطة علي الذي كان قد وصل إلى العاصمة العثمانية في هذا الوقت بالذات. وكان هذا بعد ان اتم انشاء

__________________

(١) Von Sax, OP. Cit. s. ٢٣٦.

(٢) Ibid. s. ٢٤٤.

٢١٧

الترسانة في بغداد قد عين في منصب قبو دان البصرة ولكنه لم ينسجم مع متسلمها وهو شقيق داود باشا فهرب إلى فارس وبعد مصاعب مختلفة ومعاناة كثيرة وصل إلى مكة ثم غادرها خفية إلى اسطنبول فوصلها في ١٨٣٠ واطلع الباب العالي على ما يضمره داود باشا من نية في ان يصبح حاكماً للعراق وكل ما بين النهرين مستقلاً عن الدولة العثمانية على غرار محمد علي حاكم مصر (١).

كان ذلك سبباً دفع الباب العالي إلى منح حكم بغداد لوالي حلب علي رضا باشا الذي كان يتطلع إلى هذا المنصب منذ وقت طويل مخولاً اياه في الوقت نفسه الحرية التامة في العمل على عزل داود باشا. وكان هذا يعي تماماً عدم قدرته لوحده على التخلص من حاكم العراق القوي ، ولهذا فانه لم يتقدم إلى ابعد من الوصول وظل في هذه المدينة لكي يحصل على اسناد واليها ومن اجل ان يجذب إلى صفه الشيخ صفوك شيخ قبيلة شمر جربة القوية التي كانت تنتقل في المنطقة الواقعة إلى الشمال من بغداد (٢). وبعد ان سمع داود باشا باقتراب الوالي الذي سيحل محله قرر ان ينتظره في بغداد ولهذا فانه لم يفعل شيئاً عدا ارساله لجيش تعداده ثلاثون الف مقاتل إلى الشمال من العاصمة لكي يمنع شمر من الانضمام إلى جيش علي رضا باشا (٣). كما انه استعد بعناية لمجابهة العدو بحزم مكتلاً حوله كثيراً من العراقيين ولا سيما المنتفقين بحيث ان النصر اصبح مضموناً له تماماً. غير ان سوء حظه قضى بان يحصل في العراق وفي آن واحد عدد

__________________

(١) Fontanier, OP. Cit. T. ١, PP. ١٢٨ - ١٣٣.

(٢) Fraser, OP. Cit. vol. ١ P. ٢٦١.

(٣) Wellsted, OP. Cit. vol. ١, P. ٢٥٢.

٢١٨

من الكوارث الطبيعية مما جعل من المستحيل ابداً اية مقاومة. فالطاعون الذي تفشى في فارس اتجه نحو بغداد تدريجياً فظهرت اولى حالاته في الحي الاوربي من المدينة في تشرين الثاني ١٨٣٠. وقد اخفى الناس. كما هي العادة في الشرق ، ظهور المرض في أول الامر ولم يتخذوا ضده اية تدابير إلى ان تفشى هذا «الموت الاسود» بدرجة أصبح من الصعب معها نجاح أي مكافحة له وحتى داود باشا نفسه أرتاب بالحاح مقيم شركة الهند الشرقية في بغداد الذي دأب ومنذ اقتراب المرض من بغداد على أقناع الباشا باقامة الحجر الصحي واتخاذ تدابير واقعية اخرى لمنع انتقال المرض إلى المدينة (١). وهكذا انتشر الوباء ابتداءاً من شهر اذار ١٨٣١ في كل مكان وكان يؤدي إلى وفاة ما بين ١٠٠٠ و ١٨٠٠ شخص في اليوم بحيث لم يبق في المدينة قماش يكفي للاكفان كما لم يعد يوجد فيها من يقوم بدفن الموتى الذين تناثرت جثثهم المتعفنة في الشوارع تأكلها الكلاب الجائعة. وفي الوقت الذي اخذ قسم من سكان المدينة المسلمين يترك المدينة على عجل فينقلون العدوى معهم إلى العراق باجمعه ظل القسم الاخر من السكان ينتظر الموت في استسلام وديع للقدر. اما المسيحيون من السكان فقد اغلقوا البيوت على انفسهم وحاولوا تجنب الاتصال بالعالم الخارجي قدر الامكان فكانوا يطهرون الاشياء التي يتسلمونها من الخارج عن طريق تدخينها أو بوسائل اخرى. ولم تحقق هذه الاجراءات الوقائية الهدف منها إلاً جزئياً لان القطط والفئران والجرذان كانت تنقل العدوى من بيت إلى اخر بحيث لم تلبث الوفيات في الحي المسيحي ان بلغت حد لا يقل عن بقية انحاء المدينة ، حتى ان المرض ظهر

__________________

(١) Ritter, OP. Cit. T. VII Abt. II, s. ٨٣٢.

٢١٩

في محل المقيم نفسه فبادر إلى السفر إلى البصرة واخذ معه في يخته الجزء الاغلب من الاوربيين (١).

وهكذا لم تلبث بغداد ان تحولت إلى واحدة من البؤر الملتهبة لهذا الموت الاسود الذي كان سيقضي - على كل ما هو حي في المدينة. فقد تضاعفت نسبة الوفايات ابتداءً من بداية نيسان حتى ان الموت لم يوفر قصر داود باشا الباذخ نفسه حيث ذهب المرض بالقوة العسكرية الرهيبة التي كان الباشا يستند عليها بحيث لم يبق من الحرس الجورجيين الذين كان عددهم الف شخص على قيد الحياة الا اربعة فقط كما لم يبق من الخيالة المحلية الذين دربهم العقيد تالير على نمط السيبوي وكان عددهم الفاً ايضاً الا واحد فقط (٢). اما خدم القصر الذين لم يكن يحصيهم عدد فلم يبق منهم الا سائس واحد. وعندما صمم داود باشا على مغادرة القصر لم يجد من يقوم له بالتجذيف حتى يعبر دجلة فاضطر إلى البقاء في قصره الخاوي ، رغم ارادته .. ولم يلبث الطاعون ان اصاب داود باشا نفسه وعندما استدعى الطبيب العسكري الايطالي انطوني الذي كان يخدم في الدولة العثمانية لعياده وجده ، وهو الذي كان بالامس حاكم العراق القوي ، مرمياً يواجه مصيره وحيداً في مستودع مظلم وقد اضطجع يصارع المرض على الواح خشبية عارية (٣).

ولكي تتم المأساة فاض نهر دجلة في نهاية نيسان وحطم السداد وتسربت المياه إلى المدينة فغطت الاجزاء الواطئة منها وجرفت الابنية

__________________

(١) Fraser, OP. Cit. vol. I P. ٢٣٤ FF.

(٢) Ibid P. ٢٦١.

(٣) تشيريكوف ، المصدر السابق ص ١٠.

٢٢٠