ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

على حق المرور بحرية إلى مكة عن طريق الحسا والسماح لهم بزيارة النجف وكربلاء وغيرها من العتبات المقدسة في العراق دون عائق.

وفي الوقت نفسه طرح نادر شاه في اسطنبول قضية الاعتراف بالمذهب الخامس أي الجعفري إلى جانب المذاهب السنية الاربعة وهي الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وباتباعه الفرس الذين زعم انهم اعتنقوا منذ الان الاتجاه السني في الاسلام. ولكي يقنع الدولة العثمانية اكثر بصحة قيام الانقلاب الديني في فارس توجه نادر شاه إلى الشعب في فارس بمرسوم اكد فيه ضرورة انهاء الانشقاق بين السنة والشيعة ودعا سكان ايران إلى التخلي بعد الان عن جميع العقائد التي تميز التشيع ابتداءً من عدم الاعتراف بالخلفاء الثلاثة الاوائل. وهكذا بدا كما لو ان نادر شاه كانت تحركه الحمية الدينية ولم يكن يسعى إلاّ إلى انهاء الصراع بين السنة والشيعة. غير ان حاكم فارس كان في واقع الامر يمارس نوايا الطموح تحت هذا الغطاء ساعياً لتوحيد تاجي فارس والدولة العثمانية في شخصه والتوصل إلى اعلانه خليفة لكلا الدولتين بعد ربطهما مسبقاً بالمذهب السني المشترك (١). لكن الدولة العثمانية ادركت هذه الخطط ورفضت الاعتراف بالمذهب الجعفري الجديد وبذلك تكون قد قدرت تقديراً جيداً الخطر الذي يهددها من جانب نادر شاه واصبحت تستعد بشكل افضل لمواصلة الصراع معه بعد فترة توقف في العمليات العسكرية استمرت من ١٧٣٧ إلى ١٧٤٠م استغلها حاكم ايران الذي لايكل للقيام بحملته الظافرة على الهند.

في أثناء هذه الفسحة غير الاختيارية ارتاح العراق ايضاً بعض الشيء

__________________

(١) Hanway, OP. Cit. T. II., Abt. Ivs. ٢٠٣ FF.

١٤١

من كوارث غزوات نادر المتواصلة سيما ان الباب الذي كان مشغولاً بالحرب مع روسيا والنمساء لم يكن يتدخل في الامور الداخلية للمنطقة موفراً لاحمد باشا والي بغداد صاحب الشعبية الواسعة بين الاهالي امكانية معالجة الجروح التي سببتها لهذه المنطقة الحروب الفارسية الاخيرة ولو جزئياً. ومع ذلك لم يتأت للعراق ان يرتاح طويلاً ذلك ان نادر شاه بعد ان رجع من الهند عاد وركز انظاره عليه واخذ بتهيئة الجو لتنفيذ نيته بالاستيلاء على هذه المنطقة. وقد انعكست هذه التهيئة بقيام انتفاضات عربية جديدة اثارها انصار الشاه بسهولة. وقد زاد من هذه السهولة ان احدى القبائل العراقية الرئيسة ، وهي المنتفق لم تكن على علاقات طيبة مع احمد باشا ، وكان سبب استياء المنتفقيين هو عزل الباشا لشيخهم النافذ سعدون والقائه في السجن بسبب رفضه رفضه دفع الضرائب التي طلبت منه للاعداد للحرب ضد فارس. لكن الشيخ الجديد الذي حتم اعادة المشيخة إلى سعدون الذي لم يغفر لاحمد اذلاله له بهذا الشكل ، فقام في ١٧٤١ م وبعد ان وجد سنداً له في شخص نادر شاه بانتفاضة في جنوب العراق الذي نهب من قبل المنتفقيين واخذت فصائل الثوار العرب تستعد للاستيلاء على البصرة التي لم يتمكن متسلمها من جعلها في وضع دفاعي الا بصعوبة. وبما ان المتسلم لم يكن يعتقد بامكانه حمايتها من المنتفقيين فقد طلب من والي بغداد ارسال التعزيزات بسرعة ، وكان الوالي في ذلك الوقت في الشمال مشغولاً في الكفاح ضد القبائل الكردية التي اثارها مساعي نادر شاه ايضاً ضد العثمانيين (١).

__________________

(١) Paris ١٧٤٨), P. ١٣٥ FF.) M. otter, Voyage en Turguie et enperse T. II

١٤٢

اسرع أحمد باشا بقواته نحو البصرة ولكنه بدلاً من معاقبة سعدون فانه لدهشة الجميع تصالح مع الشيخ المتمرد بعد بضعة صدمات صغيرة مع العرب ، ولم يفعل له شيئاً بل انه لم يجرده من المشيخة ، وكان السبب في مثل هذا التصرف هو ان اخباراً وصلت إلى احمد باشا من اسطنبول مفادها ان اعداءه هناك سعوا لتعيينه «سر عسكر» أي قائداً اعلى للجيش العثماني المتوجه بعيداً إلى الشمال لمجابهة نادر شاه وذلك بعد ان فشلوا في ابعاده عن حكم ولاية بغداد بطريقة اخرى (١). لقد عدّ والي بغداد ابعاده عن العراق الذي جاء مقترناً مع فصل البصرة وجعلها ولاية مستقلة عين لها والياً خاصاً شخص يدعى حسن باشا ، نذيراً للعاصمة التي كانت تتجمع فوق رأسه ولهذا فانه قرر ان يستخدم الشيخ سعدون بمثابة مانعة صواعق وذلك بتخويلة حرية العمل في جنوب العراق.

وقد فسر الشيخ سعدون من جانبه هذا التخويل على انه حق مطلق يسمح له ان ينهب القوافل ويتسولي على البضائع من السفن المارة في الانهار والقنوات ، مما كان يؤدي إلى اعاقة الحركة التجارية ولم يحجم هذا القائد المنتفقي حتى عن طلب مبالغ نقدية كبيرة من التجار الاوروبيين والنقاصل الاجانب في البصرة مهدداً اياهم بنهب ممتلكاتهم وممارسة العنف ضدهم في حالة عدم الاستجابة لمطاليبه. ومع وصول متسلم الوالي الجديد اقام الشيخ سعدون مضاربه عند ابواب المدينة مباشرة وقطع صلتها بالعالم الخارجي. وفي الوقت نفسه بدأ شيخ الحويزة المجاورة الذي كان في الفترة الاخيرة يتذبذب بين الانضمام للدولة العثمانية والعودة إلى سلطة فارس حتى اعترف اخيراً بسيادة نادر شاه ، بدأ يستعد للهجوم على البصرة

__________________

(١) Ibid. p. ١٤٠. FF.

١٤٣

التي اخذ جميع رعايا فارس يغادرونها على عجل بشكل تظاهري فيزيدون بذلك من الارتباك الجماعي. وقد اقر الباب العالي بسبب هذا الوضع الحرج بضرورة الغاء اوامره واعادة منطقة البصرة إلى سلطة احمد باشا الذي بادر على الفور إلى ارسال متسلمه السابق يحيى اغا إلى هناك فاستطاع هذا ان يجبر الشيخ سعدون على الانسحاب مع اتباعه إلى القرنة.

ولم يترك نادر شاه في خلال ذلك أي مناسبة الا واستغلها للتأثير على عرب العراق باتجاه يلائمه ، حتى حوّل استعداداته للاستيلاء على العراق إلى تظاهرة مفيدة لخططه ، فقد جمع كميات كبيرة من المؤن والعلف وخزنها في الحويزة المجاورة للبصرة واشترى في العراق نفسه ٦٠٠٠٠ رأس من الحيوان لخيالته (١). وقد أثارت ضخامة هذه الاستعدادات العلنية للحرب بالاقتران مع التحريض الذي كان يقوم به مبعوثو نادر شاه الحركة العربية في العراق مجدداً ، وهكذا اشتغلت في ١٧٤٢ م انتفاضة الزبيديين وبعض العشائر القاطنة في الاهوار في مجرى الفرات الادنى ووقفت هذه العشائر ضد العثمانيين بقوة السلاح وقد كلف تهدئتها جهوداً كبيرة تجشمها سليمان اغا كهية والي بغداد. ولم تكد هذه الاضطرابات تنتهي حتى ثارت قبيلة كعب التي تقطن المنطقة الواقعة على الضفة اليسرى لشط العرب حتى نهر الجراحي وهنديان. لقد استاء هؤلاء من عزل شيخهم السابق فقتلوا الشيخ الجديد الذي عينه احمد باشا واخذوا يستعدون للاغارة على البصرة لكن متسلم المدينة وجه اليهم فصيلاً من الانكشارية استطاع ان يحطم الثوار ويأسر قائد الانتفاضة (٢).

__________________

(١) Hanway, OP. Cit. T. II. Abt. VS. ٣٧٢ FF.

(٢) Otter : OP. Cit. T. II. P. ١٧٠ FF.

١٤٤

وبعد ان اعلم الباب العالي بهذه الهبوبات العربية لصالح فارس طلب من احمد باشا ان يعمل ، قبل بدأ العمليات العسكرية ضد نادر شاه ، على اتخاذ الاجراءات الكافية بمنع اكثر القبائل العراقية قوة واكثرها اضطراباً ونعني المنتفقين وبنى لام من انتقال إلى صفوف الفرس. وقد القى احمد باشا تنفيذ هذه المهمة على عاتق الكهية سليمان اغا وكان هذا قد قاد باستمرار الحملات التأديبية ضد العرب فاستطاع بذلك ان يستوعب جميع خططهم وخدعهم بحيث لم تنج واحدة من القبائل العربية من يد هذا المؤدب الرهيب. لقد كان هذا الكهية ماهراً بشكل خاص في مباغته المعسكرات العربية بغارات ليلة ، وبسبب ذلك اطلق عليه العرب اسم «ابو ليلة» وسماه اهالي بغداد اسد باشا تعظيماً له وما ان سمع الشيخ سعدون باقتراب فيصل سليمان اغا حتى عجّل بالانسحاب إلى صحراء السورية وعد نفسه هناك آمنا تماماً لان أي قائد عثماني لم يخطر قبل ذلك بتعقيب العرب في تلك المنطقة الجرداء عديمة الحياة. غير ان الكهية سليمان الذي كانت له حسابات شخصية مع سعدون لم تثنه صعوبات السير في الصحراء واستطاع ان يجد معسكر الشيخ الذي لم يكن يرتاب بشيء فهاجمه قبل ان يستفيق من المفاجأة. وبعد مقاومة يائسة تحكمت قوات الشيخ سعدون ولقى هو نفسه مصرعه في حومة القتال وقد فصل رأسه عن الجسد وارسل بين غنائم اخرى إلى اسطنبول. وقد هرب اخو سعدون إلى فارس ثم عاد ومعه رسالة توصية من نادر شاه إلى احمد باشا وقد بادر هذا إلى تعيينه شيخاً للمنتفقين على امل ان يجد في شخصه مطيعاً لمخططاته ومنفداً لها وفي السنة نفسها أي في عام ١٧٤٢ م اقتص سليمان اغا بقسوة لاتقل عن ذلك من بني لام متهماً اياهم بالمشاركة في انتفاضة المنتفقين في النسة الماضية وفي الميل للانتقال إلى صف نادر شاه على غرار جزء

١٤٥

من ابناء قبيلتهم كان ينتقل منذ ١٧١٥ م في منطقة الحويزة. ان هذه الاضطرابات العربية بالاقتران مع خراب جنوب العراق بسبب نهب العرب الثائرين وبسبب الفيضانات والمجاعات ايضاً - حتى ان سكان البصرة نجوا من الموت جوعاً بسبب سماح نادر شاه بشراء القمح من مخازن الحويزة - اعطت خصوم احمد باشا حجة جديدة لاتهامه بالاهمال المقصود للعراق مؤكدين ان هدفه من ذلك هو ان تذهب هذه المنطقة بسهولة إلى نادر شاه. وكانت هذه الاتهامات الجديدة التي كان يؤيدها بحماس عدو احمد الرئيس ونعني علي باشا الذي كان قد عين في منصب الصدر الاعظم مجدداً اثره ، فنقل احمد باشا في ١٧٤٣ م إلى دمشق. وقد عد احمد باشا هذا النقل خدعة لابعاده عن العراق ومن ثم اعدامه ، ولهذا فانه رفض المنصب الجديد واصر على البقاء في بغداد. وقد ظهر ان مخاوف احمد باشا لم تكن خالية من الاساس ، ذلك ان الصدر الاعظم علي باشا وبهدف التخلص من والي بغداد اقترح منصبه على قائد قلعة بغداد عثمان باشا ومنحه الحرية التامة في اختيار الوسائل لابعاد احمد باشا. وعندما لم تتحقق هذه الخطة بسبب رفض القائد للصفقة ولكن ذلك لم يحدث ايضاً لان الباشا اكتشف في الوقت المناسب مكيدة عدوه اللدود (١).

وبالاضافة إلى ذلك اخر الباب العالي ارسال الفرمان السلطان القاضي باعادة احمد باشا إلى ولاية بغداد بدلاً من منصب والي دمشق الذي رفضه ، الامر الذي اقنع حاك بغداد نهائياً بخسران قضيته في اسطنبول إلى غير رجعة. وعلى ما يشهد به القنصل الفرنسي السيد اوتر (٢) الذي كان معاصراً

__________________

(١) Hanway, OP. Cit. T. II Abt. V. S. ٣٧٥ F.

(٢) Otter, OP. Cit. T. II, p. ٣٦١.

١٤٦

لاحمد باشا ، فان خوف احمد على حياته دفعه إلى ان ينتهج اسلوباً متطرفاً لافشال مكائد اعدائه ، فقد ارسل شخصاً يثق به إلى نادر شاه دعاه إلى ان يترك صراعه غير المثمر مع اللزكيين ويتوجه لاحتلال مابين النهريب حيث سيتمكن من احتلال كركوك والموصل وديار بكر بسهولة. وقد استمع نادر شاه لطلب احمد باشا ولكنه بدلاً من أن يتجه إلى المدن التي اشار بها عليه ارسل يقول له بانه ينوي ان يقوم بزيارة العتبات المقدسة في العراق. وهكذا عبر في تلك السنة أي في ١٧٤٣م جيشان فارسيان الحدود العراقية وتوغلا في اراضي باشوية بغداد. وقد اقلقت هذه الاحداث الباب العالي بحيث انه لم يكتف بتأكيد احمد في المنصب الذي يحتله فقط بل ارسل له مبلغاً لا يستهان به من المال لتمكينه من الدفاع عن المنطقة. لقد توجه احد الجيشين الفارسيين نحو بغداد في حين تحرك الاخر نحو البصرة. لقد نهب العدو ومحق جميع القرى والمستوطنات المحيطة بالبصرة وذبح كل سكانها الذكور واستعبد النساء والاطفال لكنه لم يستطع الاستيلاء على المدينة فاضطر لان يضرب عليها الحصار. وفي هذا الثناء تمكنت الدولة العثمانية من تجهيز جيش احدهما في ارضروم والاخر في ديار بكر وبدأت تستعد لتوجيههما ضد الفرس في آن واحد. ولكي يدرأ اتحاد هاذين الجيشين ويحكم كلاً منهما على انفراد قرر نادر شاه التخلي عن الاستمرار في محاولاته للاستيلاء على بغداد والبصرة ولهذا فقد امر القوات المحاصرة لهاتين المدينتين بالتوجه نحو ديار بكر في حين استعد هو نفسه للزحف إلى وان (١).

__________________

(١) Hanway : OP. Cit. T. II, Abt. VS. ٣٧٩.

١٤٧

ان فشل حصار الفرس للموصل (١) والاسلوب الدفاعي الذي أعتمده العثمانيون في الحرب ثم الانتفاضات التي قامت في فارس التي انهكتها الحرب اخيراً والتي عمها الاستياء من اتجاهات نادر شاه السنية دفعت هذا الاخير إلى ان يتجنب الصدام الحاسم مع العدو خشية ان تنهار سلطته انهياراً تاماً في حالة الفشل. وقد ادت هذه الظروف مجتمعة إلى ان تتميز العمليات العسكرية بالفتور بل والتردد بحيث لم تقع بين الطرفين معركة حاسمة حتى عام ١٧٤٥م عندما جرت بالقرب من يريفان معركة كبيرة تحطم فيها العثمانيون كلياً. وقد لجأ نادر شاه بالرغم من انتصاره إلى وساطة احمد باشا لعقد معاهدة صلح ، وقد وقعت المعاهدة بالفعل في ١٧٤٦م وجاءت بشكل عام تأكيداً للبنود الرئيسة للمعاهدة السابقة (٢). وبعد مرور ستة اشهر على هذا الصلح أي في حزيران ١٧٤٧م مات نادر شاه مقتولاً ، وفي السنة التالية لحقه إلى القبر صاحبه احمد باشا الذي توفي على ما تذكر المعلومات الرسمية اثر اصابته في اثناء حملة تأديبية كان يقوم بها ضد احدى القبائل الكردية. وهكذا اختفت عن المسرح في القوت نفسه شخصيتان سببتا للدولة العثمانية الكثير من القلق والمخاوف ، ونعني نادر شاه الذي كان يحلم بان يوحد تحت سلطته العالم الاسلامي باسره ولتحقيق ذلك كان يعدّ لازالة الخلافة العثمانية من على وجه الارض ، وحاكم العراق القوي احمد باشا الذي كان الباب العالي على الدوام يرتاب

__________________

(١) كان نادر شاه قد حاصر الموصل ايضاً بقصد احتلالها وقد دام حصاره لها ما يزيد على الاربعين يوماً اضطر بعدها في ٢٢ تشرين الثاني ١٧٤٣م إلى رفع الحصار والانسحاب بسبب المقاومة الباسلة التي ابداها اهالي المدينة. (المترجم).

(٢) De Hammer, OP., Cit, T. III, p. ٥١٢.

١٤٨

باخلاصه وهو امر لم يعق ذلك الحاكم عن الاحتفاظ للدولة العثمانية بالعراق. لقد كان نادر شاه يقدر تمام التقدير بان العقبة الرئيسة في استيلائه على باشوية بغداد هو احمد باشا المعروف بصداقته له وهذا ما دفع نادر شاه إلى ان يصرح علناً بان الباشا دبلوماسي حاذق لم يستطع خداع السلطان فحسب بل خدعه هو ايضاً (١). ومما يشهد على مهارة احمد باشا ايضاً انه استطاع ان يحول إلى بغداد جميع التجارة بين الهند واوروبا وهي تجارة مربحة كان جزؤها الرئيس يمر حتى ذلك الوقت عبر فارس ، فقد استغل باشا بغداد افلاس الدولة الفارسية نتيجة لحروب نادر شاه التي لاتنتهي فاستطاع بالتشجيع والامتيازات الاستثنائية ان يجذب إلى العراق جميع الوسطاء الرئيسيين للتجارة المشار اليها ابتداءً من الارمن وانتهاءً بالانجليز. ولكن احمد باشا باسناده لهؤلاء باعتبارهم الممثلين الاساسيين لتجارة الهند لم يتخل عن تعاطفه مع الفرنسيين الذين كان لهم عن طريق سفارتهم في اسطنبول نفوذ كبير لدى الباب العالي. وهكذا كان هو اول من سمح للكرمليين في بغداد ببناء مصلى لهم جرى تكريسه باحتفال مهيب في ١٤ تموز ١٧٣١ م. والى جانب ذلك لم ينس الباشا ضرورة ترسيخ وضعه الخاص فاظهر كرماً بلا حدود تجاه اتباعه ومستخدميه فشجع بذلك فيهم الاخلاص الاعمى الذي لا يعرف التردد له ولقضيته (٢). ان السياسة الحاذقة التي انتهجها احمد باشا تجاه السلطان والشاه وكذلك الجذور التي استطاع ان يمدها عميقاً في العراق نفسه لم يساعده على الاحتفاظ بمنصبه حتى مماته فحسب ، بل مكنته ايضاً من الاحتفاظ برأسه فوق كتفيه رغم جميع دسائس ومؤامرات اعدائه الذين لا يحصيهم عدد. لقد اطلق هؤلاء

__________________

(١) Otter, OP. Cit. T. II. P. ١٨٤.

(٢) Hanway, OP. Cit. II, Abt. VS. ٣٧٦.

١٤٩

الاعداء عليه لقب «احمد باديشاه» ثم استبدلوه بلقب ينطوي على سخرية اكثر هو «نظام الملك» وقد ارادوا بذلك ان يشيروا إلى الصداقة التي تربط بنادر شاه والعطف الذي يتمتع به لديه.

قررّ الباب العالي استغلال اختفاء نادر شاه الرهيب من مسرح الاحداث وموت احمد باشا لاعادة تقسيم ولاية بغداد الواسعة إلى نفس الاجزاء التي كانت تتألف منها في السابق. وبدا ان كل شيء يعمل لصالح خطط الحكومة العثمانية ، ففي فارس ، حيث قام عدة مطالبين بالعرش وانهمكوا في صراع عنيف فيما بينهم طال مختلف اجزاء فارس ، سادت فوضى شاملة شغلت الفرس عن العراق. وفي العراق نفسه لم يكن هناك ما ينبئ بحدوث تعقيدات اذ لم يبق بعد احمد باشا خلف من الذكور يستطيعون معارضة مساعي الحكومة لانهاء الوضع شبه المستقل الذي كان حكام العراق يتمتعون به. وهكذا يسارع الباب العالي إلى تعيين الحاج احمد باشا ، وهوصدر اعظم سابق والياً لبغداد بعد ان فصل البصرة وجنوب العراق عن سلطته وعين فيها حاكماً اخر اسمه احمد باشا ايضاً ويلقب «قيصرية لي» وكان هذا قد ترأس اخر سفارة عثمانية ارسلت إلى نادر شاه ولكنه عاد إلى بغداد دون ان يصل إلى هدفه وذلك بسبب موت الحاكم الفارسي (١).

غير ان الباب العالي عندما عمد الي الغاء ارث احمد باشا لم يأخذ بالحسبان ميول العراقيين انفسهم الذين اعتادوا على استقلال تام تقريباً عن اسطنبول طيلة عهدي احمد باشا وابيه حسن باشا اللذين استمرا نصف قرن. كما انه اسقط من حسابه ان كلاً من هاذين الواليين كان له عدد

__________________

(١) DeHammer : OP. Cit. T. III. P. ٥١٨.

١٥٠

لا يستهان به من الانصار المخلصين لا بين القوات العسكرية واهالي المدن والقبائل العربية فقط وانما في الجهاز الاداري الذي كان يتألف كلياً من صنائع حاكمي العراق المذكورين. ولهذا فمن الطبيعي تماماً ان تثير التغيرات التي اجراها الباب العالي في هذه المنطقة - ولا سيما تعيين اشخاص من اختياره هو هناك - اسيتاء عاماً بين العراقيين الذين اعتادوا على ان يعدوا كهية احمد باشا سليمان اغا الخلف المباشر لاسرة ذلك الوالي. وكان سليمان هذا ينحدر من الجورجيين وقد اصبح منذ صغره مملوكاً لدى احمد باشا وقد ساعده انقاذه لحياة سيده في احدى المرات عندما كان هذا في رحلة لصيد الاسود على ان يصبح اقرب الاشخاص اليه واكثرهم اهلية لثقته ، فقد كوفيء على ذلك بتزويجه من ابنة الباشا عادلة خاتون.

لقد كان صهر الباشا يتمتع بشعبية كبيرة في العراق وكان يحظى شخصياً باحترام وتبجيل كبيرين من جانب الاهالي للبطولة والشجاعة التي اظهرها اثناء اخماده انتفاضات القبائل العربية الامر الذي جعله كما رأينا يحظى من اهالي بغداد بلقب يدل على الاطراء (اسد باشا). وكان سليمان اغا الذي عمل الكثير من اجل اشاعة الهدوء في هذه المنطقة يرى من جانبه ان تعيينه واليا لبغداد هو مكافأة يستحقها تماماً ، ولكن الباب العالي الذي كان قد قرر انهاء حكم اسرة حسن باشا الوراثي للعراق لم يكن يريد حتى مجرد سماع أي شيء يتعلق بابقاء صهر احمد باشا في هذه المنطقة. وهكذا نقل سليمان اغا إلى اطنة.

لكن الحكومة لم تلبث ان اقتنعت بان الباشا الجديد الذي لم يكن مرغوباً من العراقيين مقضي عليه بالفشل بهذا المنطقة العاصفة والثائرة على الدوام وبالفعل لم يكن الحاج احمد باشا يباشر باداء واجباته والياً جديد

١٥١

لبغداد حتى قام في المدينة في نفس السنة نفسها أي في ١٧٤٨م عصيان نظمه الانكشارية الذين كانوا هادئين منذ زمن طويل ، فعمدوا إلى طرد صنيعة الباب العالي وطالبوا بتعيين والي البصرة احمد قيصرية لي والياً في بغداد بدلاً منه. وما كادت الحكومة تستجب لمطاليب الانكشارية حتى ثار أمير الحلة العربي الذي كان سليمان اغا متزوجاً من حفيدته عادلة خاتون خاتون ، وطرق بغداد بعشيرته مطالباً بنقل صهره إلى العراق. وقد تحتم على الباب العالي ان يتراجع في هذه المرة ايضاً فنقل سليمان اعا إلى منصب والي البصرة الذي اصبح شاغراً بعد نقل قيصرية لي والي بغداد (١).

بعد ان رتب سليمان اغا عودته إلى العراق بهذا الشكل اخذ يسعى للحصول على منصب والي بغداد مستنداً على تعاطف العراقيين واسنادهم له. فاخذ الانكشارية بتحريض منه يمارسون الاساءة ونشر الاضطرابات مجدداً مما اضطر الباب العالي الي استبدال احمد باشا قيصرية لي بحاكم الموصل محمد باشا ترياكي (٢) فكان هذا الثالث والي يعين في بغداد خلال سنة واحدة. وكان سليمان اغا في هذه الاثناء يسعى بشكل موفق لان يظهر نفسه وهو يباشر مهامه والياً للبصرة في افضل صورة امام اسطنبول ، فبعد ان قضى على تمرد قوات متحدة من بني لام وعرب الحويزة في موضع على الفرات يقال له العرجة ارسل إلى السلطان رأسي قائدي الثوار الاساسيين وهما برهان (٣) وابنه كلب علي ومن ثم جعل الهدوء والنظام يستتبان في جنوب العراق الذي لم يعرفهما منذ زمن طويل وطهّر الطرق

__________________

(١) De Hammer : OP. Cit. III. Pp. ٥٢٢, ٥٢٤.

(٢) ان ترياكي باشا الضابط الانكشاري الذي تعين والياً لبغداد هو غير والي الموصل محمد باشا الترياكي. (المترجم).

(٣) الصحيح برهام. (المترجم).

١٥٢

البرية والمائية من قطاع الطرق والقراصنة. وبعد ان دلل سليمان اغا للحكومة على قدرته على ضبط العراقيين غادر البصرة فجأة في ١٧٤٩م وقصد بغداد على راس فصيل لا يزيد عدد افراده عن ئمانمائة شخص. وعندما اقتنع الوالي محمد باشا ترياكي بنية سليمان بمهاجمة بغداد جمع على عجل اربعة عشر الف شخص وسار بهم لملاقاة خصمه بعد ان احتفل مسبقاً بالنصر على هذه الحفنة الصغيرة من الاعداء. وعند اول صدام بين الطرفين جرى في الحلة انتقل القسم الاغلب من قوات والي بغداد إلى صف سليمان آغا. الذي دخل بعد ذلك بغداد منتصراً في الوقت الذي وجد فيه صنيعة الباب العالي محمد ترياكي الذي هرب من ساحة المعركة ابواب المدينة موصدة في وجهه.

وهكذا نجحت جهود سليمان اغا للاستقرار في بغداد ، ولكي يبرز موقفه امام الباب العالي عمد إلى عودة مجلس من اعيان المدينة والنافذين فيها وجعله يتوجه إلى السلطان بطلب اشار فيه إلى عدم اهلية الباشوات الذي عينهم الباب العالي لتهدئة البلاد والتمس ابقاء سليمان اغا في بغداد لكونه الوالي الوحيد الذي برهن نشاطه السابق على مقدرته على تدبير امر هذه المنطقة. كذلك سارع سليمان اغا من جانبه فارسل إلى اسطنبول تأكيدات باخلاصه وخضوعه التام. وكانت نتيجة هذه الحملة التي اديرت بمهارة منحه لقب باشا من مرتبة الاطواغ الثلاثة وتثبيته في منصب والي بغداد.

لقد ساعد على نجاح المغامرة الجريئة التي قام بها سليمان اغا لدرجة ملحوظة القلق الذي اثاره في اسطنبول ظهور مصلح اسلامي جديد في الجزيرة العربية هو عبد الوهاب (١) الذي ينتمي إلى قبيلة بني تميم. لقد

__________________

(١) يقصد الشيخ محمد بن عبد الوهاب. (المترجم).

١٥٣

كان هذا يهدف إلى اعادة تعاليم الاسلام إلى نقاوتها الاولى (١) فقرر القضاء على البدع الدينية الجديدة لدى المسلمين المعاصرين ابتداء من تقديس قبر الرسول (ص) وقبور شخصيات الاسلام المقدسة من جهة ومن الجهة الاخرى العمل على تقويم اخلاق شركائه في الدين عن طريق محاربة الترف واللبس الفاخر والافراط في الاكل والشرب. وكان مؤسس طائفة متزمتي الاسلام هذا يبحث عن الاسناد لدى حكام سوريا والعراق النافذين ولكنه بعد ان لم يعترف به في دمشق وبعد ان طرد من البصرة وبغداد ، وجد له حامياً لم يتوقعه احد ونعني محمد بن سعود امير الدرعية في نجد. وباسناد فعال من جانب هذا القائد العربي القوي الذي اخذ يجلب قبائل الجزيرة العربية إلى المعتقد الجديدة شملت حركة الوهابية بسرعة جزء كبير من شبه جزيرة العرب واصبحت تهدد بالانتقال إلى الممتلكات العثمانية المجاورة أي سوريا وما بين النهرين والعراق الجنوبي. لقد كان الخطر اكيداً بحيث بادر الباب العالي في نفس الوقت الذي ثبت فيه سليمان آغا في منصب والي بغداد في ١٧٤٩م فارسل إلى حاكم مصر وحاكم جدة وشريف مكة تعليمات صارمة يطلب فيها منهم ان ينسقوا جهودهم لضرب الحركة الوهابية (٢).

بعد ان توصل سليمان اغا إلى تعيينه في بغداد اخذ بالاستيلاء على المناطق الاخرى التي كانت تدخل ضمن باشوية بغداد في عهد صهره الراحل احمد باشا وقد سنحت الفرصة له لتحقيق نواياه تلك ، ففي ١٧٥١ م

__________________

(١) ليس هذا هو الهدف وانما هذا هو الشعار ووقائع التاريخ تثبت ما سطّره الجلسوس الانكليزي همفر في مذاكراته من اهداف حميد الدراجي.

(٢) de Hammer. OP. T. III. P. ٥٢٨.

١٥٤

اشتغلت في جنوب العراق انتفاضة جديدة قام بها المنتفقون الذين حرضهم في هذه المرة قبودان باشا البصرة أي قائد الاسطول العثماني هناك الذي يعين من اسطنبول مباشرة حيث امل هذا في ان يستولي بمساعدة العرب الثائرين على منصب متسلم البصرة الذي ظل شاغراً بعد نقل سليمان باشا إلى بغداد وبمجرد ان وصل خبر هذه الانتفاضة إلى حاكم بغداد بادر هذا على الفور بمهاجمة المنتفقين فحطمهم تحطيماً تاماً ثم حاصر القبودان باشا نفسه في ضواحي البصرة واجبره على الهرب إلى بندر بوشهر ، فعين سليمان باشا في المدينة التي حررها متسلماً من قبله ثم اخضع لسلطته بالتدريج المناطق الاخرى التي كانت في السابق ضمن ولاية بغداد فاوصل هذه الولاية بهذا الشكل إلى حدودها السابقة (١). ان سعي سليمان بشكل ظاهر في ان يحذو حذو صهره الراحل احمد باشا في كل شيء جعل الباب العالي ينظر بعين الربية إلى القوة المتنامية لحاكم العراق الجديد ، ولهذا كان على هذا الاخير ان يفكر بالوسائل التي تمكنه من البقاء في العراق اطول مدة ممكنة ، وقد اعتقد بان افضل هذه الوسائل هو التدخل في شئون فارس المجاورة سيما وان الصراع السابق على العرش بين مختلف المطالبين به ما زال مستمراً هناك. وهكذا اخذ سليمان باشا يوفر الملجأ لمن يفر من فارس أو يطرد منها من هؤلاء المطالبين بالعرش فلم يلبث ان اجتمع منهم في بغداد عدد لا يستهان به منهم : على مردان خان زعيم البختياريين وقريبه اسماعيل خان حاكم لورستان الذي لم يوفّق في صراعه مع كريم خان الزند وكذلك حسين مرزا الذي ادعى بانه ابن الشاه

__________________

(١) Niebuhr, Op. Cit. T. TT. S. ٣١٦.

١٥٥

طهماسب الصفوي. وكان هذا الاخير يتطلع إلى استعادة العرش الفارسي بسماعدة واسناد الدولة العثمانية وكان والي بغداد يؤيده في ذلك ، غير ان الباب العالي لم ير من المناسب الدخول في حرب مع فارس والحركة الوهابية في الجزيرة العربية من خلفه تتنامى باستمرار ، كما انه لم يكن يريد ان يضع في يد سليمان باشا تلك الورقة التي ربح بها احمد باشا صديق نادر شاه اللعبة مع الحكومة ، ولهذا فقد طلب من سليمان باشا ان يحجم كلياً عن ممارسة أي تأثير على سير الاحداث في فارس وان يرفض طلب الاصفهانيين الذين توجهوا اليه طلباً للمساعدة ويبعد المدعي حسين مرزا عن بغداد فوراً. على اية حال فقد سليمان باشا اخر امل في تقوية وضعه في العراق على حساب فارس المجاورة عندما استولى على العرش الفارسي كريم خان الزند بعد ان رجحت كفته على بقية المطالبين بالعرش في ١٧٥٧ م فاصبح الرأس الوحيد لا يران وان كان قد اتخذ لقباً متواضعاً هو «الوكيل» (١).

لكن القدر لم يلبث ان انجد سليمان باشا فبعد ان فشلت حساباته التي علقها على فارس اصبح له وبشكل غير متوقع من يدافع عنه بقوة في اسطنبول ونعني راغب باشا الذي عين صدراً اعظم في ١٧٥٥ م. فقد خدم راغب باشا هذا بضعة سنوات تحت امرة حاكم العراق الراحل احمد باشا وكان من المعجبين به حتى انه نظم في مدحة قصيدة تصدرت ديوان شعر صدر فيما بعد لهذا الصدر الاعظم المشهور بعلمه (٢) ، ولهذا فليس من المستغرب ان يتعاطف مع صهر أحمد وربيبه سليمان باشا لاسيما انه كان

__________________

(١) Malcolm, Op. Cit. T. III. P. ١٦٦ FF.

(٢) De Hammer OP. Cit. T. II, P. ٥٦٩.

١٥٦

يعرف سليمان معرفة شخصية بفضل خدماتهما الطويلة سوياً. وقد مكنت حماية راغب باشا سليمان باشا من حكم العراق دون خوف حتى وفاته في ١٧٦١ م. وقد جلب هذا الحاكم الذي يعتبر استمراراً لاسرة وسياسة احمد باشا الخير للعراق الذي تمتع طيلة عهده بالرفاه والهدوء والنظام بحيث نظمت لذكراه مراثٍ كثيرة ظلت تنشد في شوارع ومقاهي بغداد فترة طويلة بعد وفاته.

وبعد وفاة سليمان باشا الذي لم يترك اولاداً اوشك الصراع بين الباب العالي والعراقيين حول اختيار خلف له ان يحتدم مجدداً لولا ان تلافاه الصدر الاعظم المذكور راغب باشا أو بشكل اصح احد المقربين منه يثق بهم واسمه علي واصله من فارس. لقد اراد علي هذا ان ينقل متسلم البصرة والياً إلى بغداد. وكان هذا المتسلم واسمه علي اغا فارسي الاصل ايضاً دخل منذ الصغر في خدمة احمد باشا. وقد انتبه احمد باشا لذكاء الفتى فمكنه من الحصول على تعليم جيد بالنسبة لظروف العصر فاستطاع علي اغا بفضل ذلك من التقدم : ان الاسناد القوي الذي توفر لعلي اغا الذي كان يطلق عليه لقب «عجمي» أي فارسي اسطنبول والصلة التي تربطه باسرة احمد باشا ساعتدته على ان يتولى منصب والي بغداد سيما ان ترشيحة حظي بدعم الابنة الكبرى لاحمد باشا «عادلة خاتون» ، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في بغداد والتي تأمل بان تلعب في عهد علي عجمي الذي خرج من صفوف خدم ابيها نفس الدور الذي كانت تلعبه في عهد زوجها الراحل سليمان باشا.

لقد اظهر علي اغا الذي منح معه تعيينه الجديد لقب باشا ، رغبة في الحكم بشكل مستقل منذ اللحظة التي تسلم فيها منصبه الجديد ولهذا فقد سعى لان يؤلف له في بغداد حزباً من أنصاره الشخصيين. وقام

١٥٧

بالاستناد إلى هذا الحزب بالاقتصاص بقسوة من الانكشارية الذين اشعلوا الاضطرابات في بغداد بعد وصوله اليها مباشرة وتمكنوا من طرده منها لفترة قصيرة. كما انه اخمد بقسوة لا تقل عن ذلك انتفاضة قام بها الاكراد. لكن حملته ضد عرب الخزاعل الذين يقطنون في اهوار لملون (١) هي وحدها التي انتهت بالفشل الذريع. وكان هذا الفشل شؤماً لانه مكن الحزب المعادي الذي يقف على رأسه انصار عمر اغا المتزوجين من الابنة الصغرى لاحمد باشا من اتهامه بموالاة الشيعة سراً مستندين في ذلك انه استطاع ان يعاقب الانكشارية والاكراد وكليهما من السُنة بقسوة في حين لم يجرؤ على الاقتصاص كما يجب من الخزاعل الشيعة. وقد نسب علي باشا هذه الدسائس إلى عادلة خاتون فقرر أبعادها عن المدينة الامر الذي قضى بشكل نهائي على قضيته ودفع هذه المرأة النشطة والطموح إلى الانتقال علناً إلى صفوف اعدائه. وفي الوقت نفسه كان اهالي بغداد الذين لم يقبلوا هذا الوالي الذي فرض عليهم فرضاً الا بصعوبة ، قد قرروا ان الوقت قد حان للتخلص منه. وهكذا بدأ في ١٧٦٣م تمرد الانكشارية الذين لم يستطعوا ان يغفروا للوالي تصرفه القاسي تجاههم ، ولم يلبث التمرد ان شمل بسرعة بغداد برمتها وكان اهاليها قد دعوا باشارة متفق عليها مسبقاً للسلاح وحاصروا دار الوالي. وقد استطاع علي باشا عجمي النجاة من أيدي الجمهور الحانق واختبأ في دار احد المتعاطفين معه غير ان الحرس الذين كانوا قد وزعوا في الشوارع قبضوا عليه عندما خرج من مخبئه مرتدياً ملابس نسائية وفي نيته الهرب من بغداد واقتادوه إلى «السراي» وهناك قتل على الفور (٢).

__________________

(١) الصحيح لملوم. (المترجم).

(٢) Niebuhr, OP. Cit. T. II, S. ٣٢٠.

١٥٨

وبعد هذا الاقتصاص القاسي من الباشا غير المرغوب فيه اجتمع على الفور «الديوان» وهو مجلس يضم كبار الموظفين واعيان المدينة النافذين وانتخب عمر اغا المذكور اعلاه والياً على بغداد ثم ارسل عمر اغا خبر هذا الاختيار إلى اسطنبول ومعه تهديد بتسليم بغداد إلى الفرس في حالة عدم الموافقة على من اختاره الشعب (١). ولم يجرؤ الباب العالي الذي اخذ عبرة من الدروس السابقة على الرفض ، فارسل إلى عمر اغا في ١٧٦٤ م الفرمان السلطاني الخاص بتعيينه والياً لبغداد. وطبيعي ان يكون اول عمل يقوم به الوالي الجديد هو معاقبة عرب الخزاعل الذين منهم بالاساس كانت تعاني ولايته. وهكذا قصفت الحملة التأديبية التي ارسلت في ١٧٦٥م بلدة لملون (٢) مقر الشيخ حمود الشيخ الرئيس لسكان الاهوار هؤلاء ، لكن الشيخ حمود عاد بمجرد ان غادرت قوات السلطة منطقة الخزاعل فعزل من نصبه عمر باشا الذي اضطر إلى السكوت على ذلك لا بسبب نقص الاموال اللازمة لتجهيز حملة جديدة فحسب وانما وبدرجة اكبر بسبب قيام احداث اكثر جدية في جنوب العراق وهي الاحداث التي تتعلق بالصراع الذي احتدم بين حاكم فارس كريم خان الزند وشيخ قبيلة كعب العربية.

لقد انتقل هؤلاء العرب أي الكعبيون حسب المعلومات التي اوردها كرزن (٣). من الساحل العربي للخليج وسكنوا في اول الامر في الاهوار بالقرب من القرنة حيث اشتغلوا بتربية الجاموس ثم انتقلوا تحت ضغط

__________________

(١) De Hammer, OP. Cit. T. III, p. ٥٧٣.

(٢) لملوم كما تقدم حميد الدراجي.

(٣) G. N. Curzon, Persia and the Persian Question, vol II (London, ١٨٩٢). P. ٣٢٢ FF.

١٥٩

المنتفقين إلى منطقة نهر الكارون وقناة قبان أو كبان تربط الكارون بنهر الجراحي ، واصبح معسكر الفلاحية المحصن مقراً لشيخهم الرئيس بدلاً من بلده الدورق التي تقع على نهر الجراحي والتي كانت المقر السابق لرئيس قبائل الافشار الذين ابعدهم الكعبيون. وقد مكنت الفوضى التي سادت في فارس بعد موت نادر شاه الكعبيين من مد نفوذهم إلى الشرق بحيث اصبحت في ايديهم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كل المنطقة الواقعة بين نهري الكارون والنهديان والمجرى الادنى لشط العرب والخليج العربي. وفي ذلك الوقت كان زعيم الكعبيين الشيخ سليمان قد امتلك قوة لا يستهان بها بفضل بنائه الاسطول اصبح يتألف حتى عهد عمر باشا من عشر سفن كبيرة وسبعين سفينة صغيرة وقد استطاع سلمان هذا ان يناور بمهارة بين فاوس والدولة العثمانية فلم يدفع الضرائب لاي منهما ولهذا فقد كان من الناحية الواقعية مستقلاً تماماً الاستقلال.

في هذا الاثناء اخذ كريم خان الزند الذي احكم سيطرته على العرش الفارسي واعاد الهدوء في الدولة ، يفكر بان يعيد لفارس حصتها من التجارة القائمة بين الهند واوربا وهي التجارة المربحة التي غيرت اتجاهها في عهد نادر شاه من فارس إلى البصرة وبغداد. وكان هذا يستلزم ان تكون قدمه راسخة في الخليج الفارسي الذي كان قد تقوى فيه حتى هذا الوقت الشيوخ العرب الذين اقاموا في الساحل الشرقي من الخليج الفارسي واخذوا يهددون بابعاد فارس عن الطريق البحري المؤدي إلى الهند. ولهذا فقد قرر كريم خان الزند ان ينهي استقلال الشيوخ المذكورين فبدأ بقواهم وهو شيخ الكعبيين فوجه ضده في عام ١٧٥٦م حملة تأديبية قوية ، غير ان الشيخ سلمان ركب مع اتباع السفن واخذ ينتقل بها من مكان إلى اخر فنجع بذلك في تجنب الفرس. وعندما لجأ إلى الضفة اليمنى من شط

١٦٠