موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه لا يمكن الجمع بين إلحاق الظن باليقين وبين إلحاقه بالشك ليلتزم برجوع الشاكّ إلى الظانّ ورجوع الظانّ إلى المتيقّن كما عن غير واحد منهم صاحب المسالك (قدس سره) المصرّح بذلك ، لامتناع إرادة الشك وإرادة الأعم منه ومن الظن من لفظ السهو الوارد في النصوص كما مرّ.

بل لا مناص من اختيار أحد الأمرين ، فإمّا أن يلحق الظن باليقين فلا وجه لرجوع الظان إلى المتيقّن ، أو يلحق بالشك فلا وجه حينئذ لرجوع الشاك إلى الظان. وقد عرفت أنّ الأظهر هو الأوّل.

فيتّجه حينئذ التفصيل على النحو الّذي ذكرناه من رجوع الشاك إلى الظان وعدم رجوع الظان إلى المتيقّن ، بل يعمل بظنّه بمقتضى دليل حجّيته ، لعدم كونه متحيّراً متردّداً في وظيفته بعد قيام الحجّة عنده لكي يصحّ إطلاق السهو عليه ولو بالعناية كما في الشاك حتّى يشمله إطلاق النصوص المتضمّنة لرجوع الساهي إلى الحافظ من صحيحة حفص وغيرها ، بل إنّ دليل حجّية الظن حاكم على مثل هذه الأدلّة كما لا يخفى.

وأمّا التفصيل المذكور في المتن المبني على إلحاق الظنّ بالشكّ الّذي هو على عكس ما اخترناه ، حيث منع عن رجوع الشاك إلى الظان ، وحكم برجوع الظان إلى المتيقّن ، فبالإضافة إلى الشق الثاني أعني رجوع الظان إلى المتيقّن يستدل بوجوه.

الأوّل : الإطلاق في صحيحة حفص. وقد مرّ الجواب عنه من عدم صحّة إطلاق السهو على ما يشمل الظن.

الثاني : اشتمال السؤال في مرسلة يونس المتقدّمة (١) على ميل الإمام مع بعض

__________________

(١) في ص ٣١.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

المأمومين ، بدعوى ظهور الجواب في أنّه إذا حفظ من خلفه باتفاق منهم رجع إليهم وإن كان مائلاً.

وفيه : بعد الغض عن إرسالها وعدم صحّة الاستدلال بها ، أنّ الدلالة أيضاً قاصرة ، فانّ صدر الجواب مبني على الإعراض والإغماض عما افترضه السائل من الاختلاف ، بل تعرّض (عليه السلام) لبيان الموارد التي لا يعتنى فيها بالسهو التي منها سهو الإمام مع حفظ المأمومين باتفاق منهم ، فبيّن (عليه السلام) الحكم الكلّي من غير نظر إلى مورد السؤال.

وعليه ففرض ميل الإمام إلى بعض المأمومين المذكور في السؤال لا يكاد يجدي فيما نحن فيه ، ولا ينفع لإثبات جواز رجوع الظانّ إلى المتيقّن بعد أن لم يكن الجواب جواباً عن ذلك الفرض.

نعم ، الجواب عن الفرض المزبور أعني صورة الاختلاف المذكورة في السؤال قد تعرّض (عليه السلام) له في ذيل الرواية بقوله (عليه السلام) : «فاذا اختلف على الإمام مَن خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم».

وهو أيضاً غير خال عن التشويش. ولعلّ المراد العمل بمقتضى الشكّ من الإعادة إن كان من الشكوك الباطلة ، والأخذ بالجزم بالبناء على الأكثر إن كان من الصحيحة.

وكيف ما كان ، فهو ظاهر في عدم جواز الرجوع في فرض الاختلاف وإن كان الإمام مائلاً. فيسقط الاستدلال من أصله كما لا يخفى.

الثالث : ما استند إليه بعضهم ، وهو ما ورد من أنّ الإمام يحفظ أوهام من خلفه ، بدعوى أنّ الوهم يشمل الظنّ ، وليس كالسهو في عدم الشمول ، لإطلاقه عليه شرعاً (١). ومعنى حفظ الإمام للأوهام عدم اعتناء المأموم بكلّ ما يعتريه

__________________

(١) كما في صحيحة صفوان الآتية في ص ٤٤.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من الوهم ، الشامل للشك والظن ، بل يرجع في ذلك كلّه إلى يقين الإمام.

فإذا ثبت ذلك فيه ثبت في المأموم أيضاً ، فيرجع الإمام إليه في وهمه ، لعدم القول بالتفصيل ، فيثبت الحكم في عكسه بالإجماع المركّب.

ولكنّ الظاهر أنّه لم توجد رواية بهذا المتن كما نبّه عليه المحقّق الهمداني (قدس سره) (١). ولعلّه نقلٌ بالمعنى أُريد به خبر محمّد بن سهل عن الرضا (عليه السلام) «قال : الإمام يحمل أوهام من خلفه إلّا تكبيرة الافتتاح» (٢) الّذي استدلّ به في المستند (٣) للمدّعى بالتقريب المزبور. ولكنّه غير ظاهر في ذلك لوضوح الفرق بين الحفظ والحمل ، فإنّ الأوّل وإن كان ظاهراً فيما ذكر ، لكنّ الثاني يشير إلى معنى آخر أجنبي عمّا نحن فيه.

فانّ المنسبق إلى الذهن من هذه الرواية خصوصاً بقرينة استثناء تكبيرة الإحرام إرادة المنسيات من الأوهام. ويكون حاصل المعنى حينئذ ضمان الإمام لكلّ خلل يستطرق صلاة المأموم نسياناً بعد تحقّق الائتمام منه بالدخول معه في تكبيرة الافتتاح ، بل يتناول ذلك حتّى نقص الركعة فضلاً عن أجزائها ما لم يتذكّر المنسي قبل فوات المحلّ.

غايته أنّه يرفع اليد عن هذا الإطلاق بالإضافة إلى الأركان ، بمقتضى الأدلّة الخاصّة الدالّة على البطلان لدى الإخلال بها ولو سهواً ، فيبقى ما عداها تحت الإطلاق. فلا يجب على المأموم شي‌ء حتّى لو استتبع الخلل سجود السهو ، فإنّ الإمام ضامن لكلّ ذلك ومتحمّل عن المأموم.

وعلى الجملة : فالظاهر من الرواية مع قطع النظر عن القرائن الخارجية

__________________

(١) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٥٧٩ السطر ٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٤ ح ٢.

(٣) المستند ٧ : ٢١٥.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المانعة عن الأخذ بظاهرها هو ما ذكرناه ، وهو كما ترى أجنبي عن محلّ الكلام بالكلّية.

فتحصّل : أنّ الرواية بالمتن الأوّل وإن كانت ظاهرة فيما نحن فيه ولكنّها غير ثابتة ، وبالمتن الثاني وإن ثبتت ولكنّها غير مرتبطة حينئذ بالمقام رأساً حسبما عرفت.

هذا كلّه في رجوع الظانّ إلى المتيقّن ، وقد اتّضح أنّ الصحيح عدم الرجوع.

وأمّا بالإضافة إلى الشقّ الأوّل : أعني منعه (قدس سره) من رجوع الشاك إلى الظان فقد عرفت (١) أنّ الأقوى جواز رجوعه إليه ، كرجوعه إلى المتيقّن.

ويدلّ على ذلك أحد وجهين على سبيل منع الخلوّ ، وبهما يظهر فساد ما اختاره (قدس سره) من المنع.

أحدهما : أنّ المستفاد ممّا ورد في أدلّة الشكوك الباطلة والصحيحة من التقييد بعدم وقوع الوهم على شي‌ء كما في صحيحة صفوان (٢) وغيرها أنّ الظنّ في باب الركعات حجّة ، بمعنى كونه طريقاً محرزاً وكاشفاً تعبّدياً عن الواقع قد اعتبره الشارع وجعله بمثابة العلم وبمنزلة اليقين ، لا أنّه حكم بمجرّد البناء عليه تعبّداً من غير لحاظ جهة الكاشفية والطريقية بحيث اكتفى في مرحلة الفراغ بالامتثال الاحتمالي والفراغ الظنّي.

فإنّ هذا بعيد عن مساق الأدلّة غايته ، ولا سيما موثّقة عمار المتضمّنة لقوله (عليه السلام) : «أ لا أُعلّمك شيئاً ...» (٣) إلخ ، الّذي هو كالصريح في معالجة الشك على نحو يؤمن معه من الخلل ويقطع بحصول الامتثال على كلّ حال

__________________

(١) في ص ٣٩.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٢٥ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٥ ح ١.

(٣) الوسائل ٨ : ٢١٣ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٨ ح ٣ [الظاهر ضعفها سنداً].

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فيظهر منه لزوم الاتّكال في مرحلة الامتثال على ما يحرز معه الواقع ، ولو بإحراز تعبّدي وطريق كاشف شرعي ، وعدم كفاية الامتثال الاحتمالي ولو ظنّاً.

وعلى الجملة : فاعتبار الظن المزبور إنّما هو بلحاظ الطريقية والكاشفية ، فهو بمثابة من قامت عنده البيّنة الشرعية ، وكلاهما بمنزلة العالم بالواقع ، المحرز له ولو تعبّداً.

وعليه فالظان المزبور متّصف بعنوان الحافظ ، فيشمله قوله (عليه السلام) (١) : «ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه» ، فانّ المراد بالحفظِ الأعم من الحفظ الوجداني والتعبّدي كما هو ظاهر ، ونتيجة ذلك بعد لحوق الظن باليقين رجوع الشاك إلى الظان كرجوعه إلى المتيقّن.

ثانيهما : أنّا لو أغمضنا عمّا ذكرناه وسلمنا عدم دلالة النصوص إلّا على مجرّد البناء العملي على الظن لمن حصل له ، من غير نظر إلى جهة الكشف والطريقية ، كما هو الحال في الأُصول العملية فنقول : يكفينا في جواز الرجوع في المقام إطلاق صحيحة حفص (٢) كما أشرنا إليه فيما مرّ ، فانّ السهو لغة وإن اختصّ بموارد الغفلة والنسيان لكنّه يطلق على الشكّ كثيراً ، بل قد شاع استعماله فيه في لسان الأخبار (٣) إمّا باعتبار كون الشاك ناسياً لصورة ما وقع أو بملاحظة كونه مسبّباً عن الغفلة وناشئاً عنها ، لكونها من مبادئ عروض الشك ، فأُطلق السهو عليه من باب تسمية المسبّب باسم سببه.

وكيف ما كان ، فهذا إطلاق شائع ذائع ، بخلاف الظن فإنّه لا علاقة بينه وبين السهو بوجه ، فلا يصحّ إطلاقه عليه أبداً.

__________________

(١) في مرسلة يونس المتقدّمة في ص ٣١.

(٢) المتقدّمة في ص ٣٣.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٣٩ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٤ ح ١ ، ٢٤٣ / ب ٢٥ ح ١.

٤٥

[٢١٢٢] مسألة ٧ : إذا كان الإمام شاكّاً والمأمومون مختلفين في الاعتقاد (١) لم يرجع إليهم إلّا إذا حصل له الظن من الرجوع إلى إحدى الفرقتين.

______________________________________________________

وعليه فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة وقطعنا النظر عن أيّة قرينة داخلية أو خارجية لحكمنا بشمولها حتّى لما إذا كان الإمام والمأموم كلاهما شاكّين والتزمنا حينئذ بخروجهما عن إطلاق أدلّة الشكوك ، فلكلّ منهما البناء على ما يشاء.

إلّا أنّ هذه الصورة خارجة بالضرورة ، لما مرّ من القرينة الداخلية فضلاً عن الخارجية ، لظهورها في نفسها في اختصاص كلّ واحد منهما بالشكّ منفرداً عن الآخر ، ولذا أُورد النفي على كلّ منهما بحياله فقال (عليه السلام) : «ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام سهو» فلو كان شاملاً حتّى لهذه الصورة كان الأولى تبديل التعبير بعبارة أخصر بأن يقال : ليس في الجماعة سهو. فإطلاق النص منصرف عن هذا الفرض في حدّ ذاته.

وأمّا إذا اختصّ أحدهما بالشك وكان الآخر ظانّاً الّذي هو محلّ الكلام فلا قصور للإطلاق في شموله للشاك منهما بعد عدم صلاحيّته للشمول للظان لعدم صحّة إطلاق السهو على الظن كما مرّ ، فلا يعتني الشاك منهما بشكّه بمقتضى الإطلاق المزبور ، ولا معنى لعدم الاعتناء حينئذ إلّا الرجوع إلى ظنّ الآخر ، لعدم احتمال وظيفة أُخرى ما عدا ذلك كما هو ظاهر جدّاً.

فاتّضح أنّ التفصيل المذكور في المتن لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، بل الصحيح هو التفصيل على عكس ما ذكره حسبما بيّناه ، فيرجع الشاك إلى الظان ولا يرجع الظان إلى المتيقّن ، سواء حصل الظن للشاك أم لا.

(١) كما لو انحصر المأموم في شخصين مثلاً واعتقد أحدهما أنّ الركعة ثالثة

٤٦

[٢١٢٣] مسألة ٨ : إذا كان الإمام شاكّاً والمأمومون مختلفين بأن يكون بعضهم شاكّاً وبعضهم متيقّناً (١) رجع الإمام إلى المتيقّن منهم ، ورجع الشاك منهم إلى الإمام (*) لكن الأحوط إعادتهم الصلاة إذا لم يحصل لهم الظن وإن حصل للإمام.

______________________________________________________

واعتقد الآخر أنّها الرابعة والإمام شاك بينهما ، ولا ينبغي الإشكال في عدم رجوع الإمام حينئذ ، لا للتقييد بالاتفاق في مرسل يونس (١) ، أو التصريح في ذيله بالمنع عن الرجوع إذا اختلف على الإمام مَن خلفه ، فإنّه من أجل الإرسال غير صالح للاستدلال كما مرّ.

بل لتعارض الحجّتين وتساقطهما ، فانّ دليل حجّية اعتقاد المأموم الحافظ بالإضافة إلى الإمام الشاك لا يمكن أن يشمل الفرقتين المختلفتين لامتناع التعبّد بالمتناقضين ، ولا إحداهما معيّنةً فإنّه ترجيح بلا مرجح ، ولا غير معيّنة إذ لا وجود لها في الخارج وراء كلّ منهما بخصوصه. وبعد التساقط كان المرجع إطلاق أدلّة الشكوك السليمة عما يصلح للتقييد.

هذا كلّه فيما إذا لم يحصل للإمام الظن من الرجوع ، وإلّا كان هو الحجّة لا قولهم كما نبّه عليه في المتن ، وهو واضح.

(١) لا ينبغي الإشكال حينئذ في جواز رجوع الإمام إلى المتيقّن منهم ، عملاً بإطلاق صحيحة حفص ، لعدم اعتبار الاتفاق في اليقين في جواز الرجوع وإن تضمّنته مرسلة يونس ، فانّ المراد على تقدير اعتبارها أن لا يكون المأمومون مختلفين في اليقين. فلا مانع من شمولها لما إذا كان بعضهم متيقّناً

__________________

(*) فيه إشكال إذا لم يحصل الظن للإمام.

(١) المتقدّمة في ص ٣١.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والبعض الآخر شاكّاً ، وإلّا لأشكل إحراز هذا الشرط كما لا يخفى.

فالعبرة بحصول اليقين لطبيعي المأموم ، المتحقّق بيقين بعضهم كما هو الغالب المتعارف في الجماعات المنعقدة ولا سيما مع كثرة المأمومين من رجوع الإمام إلى اليقين الحاصل من بعضهم ، ولا يشترط حصوله من الكل.

وبعبارة اخرى : لو كان هذا المأموم المتيقّن وحده جاز رجوع الإمام إليه بلا إشكال ، فلا يحتمل أن يكون ضمّ الآخرين الشاكّين مانعاً عن هذا الرجوع كما لا يخفى.

إنّما الكلام في أنّ الإمام بعد رجوعه إلى المتيقّن هل يرجع إليه الشاك من المأمومين؟ حكم في المتن بجواز الرجوع.

وهو كما ترى مشكل جدّاً ، لعدم الدليل عليه بعد أن لم يكن الإمام بنفسه مصداقاً للحافظ بمجرّد الرجوع إلى المتيقّن منهم ليرجع إليه الشاك. فشرط الرجوع وهو حفظ الإمام غير حاصل في المقام ، إلّا إذا فرض حصول الظن للإمام.

على أنّ هذا لا ينسجم مع ما بنى (قدس سره) عليه فيما مرّ (١) من عدم رجوع الشاك إلى الظان ، فإنّ غاية ما هناك حصول الظن للإمام من رجوعه إلى المأموم المتيقّن ، وإلّا فليس هو متيقّناً في نفسه ، فكيف يرجع إليه المأموم الشاك مع فرض البناء على عدم رجوع الشاك إلى الظان.

وبالجملة : إن كان شرط الرجوع حفظ الآخر ويقينه فهو غير حاصل في كلا الموردين ، وإن كان مطلق قيام الحجّة فهو حاصل في الموردين معاً. فالتفكيك بين المسألتين صعب جدّاً ، لكونهما من واد واحد ، وارتضاعهما من ثدي فأرد.

__________________

(١) في ذيل الموضع السادس ممّا لا يلتفت إلى الشك فيه ، قبل المسألة [٢١٢٢].

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

هكذا أُورد عليه (قدس سره) في المقام.

أقول : الظاهر أنّ المناط في إحدى المسألتين مغاير لما هو المناط في المسألة الأُخرى ، وليستا من واد واحد ، بل لا بدّ من التفكيك والتفصيل إمّا على النحو الّذي صنعه (قدس سره) من الالتزام بعدم الرجوع هناك والرجوع في المقام أو على عكس ذلك ، وهو الصحيح كما ستعرف.

أمّا وجه ما اختاره (قدس سره) من التفصيل فعدم رجوع الشاك إلى الظان الّذي ذكره في المسألة السابقة مبني على أنّ الشرط في الرجوع كون الآخر حافظاً على ما نطقت به مرسلة يونس المتقدّمة (١) ، والظان ليس بحافظ ، بدعوى أنّ غاية ما يستفاد ممّا دلّ على حجّية الظنّ في الركعات لزوم البناء عليه في مقام العمل ، ومجرّد الجري على طبقه تعبّداً لخصوص من حصل له الظن لا غيره ، فلا يكون منزّلاً منزلة العلم في جميع الآثار ليصدق عليه عنوان الحافظ ولو تنزيلاً حتّى يرجع إليه الشاك في المقام.

وهذه الدعوى وإن كانت مخدوشة من جهات ، التي منها ضعف المرسلة وعدم صلاحيّتها للاستناد كما أسلفناه. إلّا أنّ نظره الشريف مبني على ذلك.

وأمّا حكمه (قدس سره) برجوع الشاك من المأمومين إلى الإمام فيما نحن فيه فالوجه فيه أنّ صحيحة حفص (٢) تضمّنت نفي السهو عن الإمام ، المقيّد طبعاً بحفظ الآخر كما مرّ ، وهذا متحقّق في المقام عند ملاحظة الإمام مع المأموم المتيقّن ، فيشمله إطلاق الصحيح ويحكم بمقتضاه على الإمام بعدم كونه ساهياً لما عرفت من دلالة الصحيحة على نفي موضوع السهو في هذه الحالة.

__________________

(١) في ص ٣١.

(٢) المتقدّمة في ص ٣٣.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وبديهي أنّ نفي السهو ملازم للحفظ ، لعدم الواسطة بينهما ، فلا مانع عندئذ من رجوع المأموم الشاك إليه بعد صيرورة الإمام مصداقاً للحافظ ، وعدم كونه ساهياً في نظر الشارع ولو ببركة إطلاق الصحيح.

فلأجل اختصاص المقام بهذا الدليل الحاكم تفترق هذه المسألة عن المسألة السابقة ، إذ لم يكن ثمّة ما يدلّ على أنّ الظان حافظ ليرجع إليه الشاك بعد فرض عدم كون الظنّ بمجرّده حفظاً كما بنى عليه (قدس سره) فلا يشمله إطلاق الصحيح. وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فانّ الدليل هنا موجود ، وهو الإطلاق المزبور ، الّذي هو بلسان نفي السهو ، المستلزم للحفظ حسبما عرفت. فلم تكن المسألتان من واد واحد.

ولكنّ الصحيح كما عرفت البناء على عكس هذا التفصيل ، فيرجع الشاك إلى الظان في المسألة السابقة ، ولا يرجع الشاك من المأمومين إلى الإمام في محلّ الكلام.

أمّا الأوّل : فقد مرّ البحث حوله مستقصى (١) ولا نعيد. وعرفت أنّ الظن بمقتضى دليل اعتباره ملحق باليقين ، فيشمله ما دلّ على رجوع الشاك إلى المتيقّن.

وأمّا الثاني : فلقصور صحيحة حفص عن الشمول للمقام ، أعني رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الراجع إلى المتيقّن من المأمومين ، وذلك لأنّ الصحيحة إنّما تنظر إلى نفي أحكام السهو الثابتة بالأدلّة الأوّلية من البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط أو بسجود السهو ، أو الإتيان بالمشكوك فيه إن كان الشك في المحل بناءً على شمولها للشكّ في الأفعال كالركعات ، ونحو ذلك من الآثار المترتّبة على الشكّ بمقتضى الجعل الأوّلي.

__________________

(١) في ص ٣٩ وما بعدها.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الحكم الثابت بمقتضى هذه الصحيحة نفسها والمجعول بنفس هذا الدليل أعني رجوع الشاك إلى الحافظ وفرض سهوه كلا سهو ، الّذي لم يكن ثابتاً من ذي قبل وإنّما تحقّق بنفس هذا الجعل ، فلا يمكن أن تشمله الصحيحة كي يحكم بمقتضاها برجوع المأموم الشاك إلى الإمام المنفي عنه السهو ، لأنّ نفي السهو عنه إنّما ثبت بنفس هذا الجعل فكيف يعمّ الجعل نفسه.

وبعبارة اخرى : هذه الصحيحة المتكفّلة لنفي الحكم بلسان نفي الموضوع حاكمة على ما عداها من أدلّة الشكوك ، فلا بدّ وأن يفرض في مرتبة سابقة حكم متعلّق بموضوعه لتكون هذه الصحيحة ناظرة إليه ، وأمّا الحكم المتحصّل من هذه الصحيحة والمجعول بنفس هذا الجعل وهو فرض الساهي حافظاً لدى حفظ الآخر فلا يمكن أن تنظر إليه الصحيحة ، ليحكم من أجله بنفي السهو عن المأموم الشاك وجواز رجوعه إلى الإمام.

لا أقول : إنّ هذا غير معقول ، كيف وقد بيّنا إمكانه بالوجوه المذكورة في محلّها (١).

بل أقول : إنّ هذا خلاف المتراءى من ظاهر الدليل ، ولا يكاد يساعده الفهم العرفي بوجه.

فان قلت : إنّ الصحيحة تنحلّ إلى حكمين وتشتمل على جعلين : أحدهما نفي السهو عن الإمام ، والآخر نفيه عن المأموم. فالسهو منفي عن الإمام الراجع إلى المأموم الحافظ بمقتضى الجعل الأوّل ، وهو منفي عن المأموم الشاك الراجع إلى الإمام الحافظ المعتبر في حقّه الحفظ في الجعل الأوّل بمقتضى الجعل الثاني ، فلا مانع من شمول الصحيحة للمقام.

__________________

(١) لعلّه ناظر إلى ما في مصباح الأُصول ٢ : ١٧٥.

٥١

[٢١٢٤] مسألة ٩ : إذا كان كلّ من الإمام والمأمومين شاكّاً (١) فان كان شكّهم متّحداً كما إذا شكّ الجميع بين الثلاث والأربع عمل كلّ منهم عمل ذلك الشك ، وإن اختلف شكّه مع شكّهم فان لم يكن بين الشكّين قدر مشترك كما إذا شكّ الإمام بين الاثنتين والثلاث والمأمومون بين الأربع والخمس يعمل كلّ منهما على شاكلته ، وإن كان بينهما قدر مشترك كما إذا شكّ أحدهما بين الاثنتين والثلاث والآخر بين الثلاث والأربع يحتمل رجوعهما إلى ذلك القدر المشترك ، لأنّ كلا منهما نافٍ للطرف الآخر من شكّ الآخر.

______________________________________________________

قلت : كلا ، بل هي مشتملة على جعل واحد ليس إلّا وإن تضمّنت بسطاً في الكلام ، إذ لا عبرة بالعبارة بعد وضوح المرام ، فمفادها ليس إلّا نفي السهو عن الشاك منهما عند حفظ الآخر. فيعود الإشكال المزبور من امتناع الشمول للمقام حسبما عرفت.

وقد ظهر بما ذكرناه أنّ الاحتياط المذكور في المتن من إعادة الصلاة إذا لم يحصل لهم الظنّ في محلّه ، بل لا مناص من رعايته.

(١) قدّمنا أنّ الإمام إذا كان شاكّاً والمأمومون متّفقون في الاعتقاد رجع إليهم ، ولو كانوا مختلفين في الاعتقاد لم يرجع لمكان المعارضة ، ولو كان بعضهم معتقداً والبعض الآخر شاكّاً رجع إلى المعتقد منهم ، وفي رجوع الشاك حينئذ إلى الإمام كلام قد تقدّم. وقد مرّ الكلام حول هذه كلّها مستقصى.

وأمّا إذا كان الإمام والمأمومون كلّهم شاكّين فان اتّحدوا في نوع الشك كما لو شكّ كلّ منهم بين الثلاث والأربع عمل الجميع بموجبه ، ولا موضوع للرجوع حينئذ كما هو ظاهر.

وأمّا إذا اختلف الإمام مع المأمومين في نوعية الشك فهو على قسمين :

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : أن يكون الشكّان متباينين بالكلّية ، بحيث لا يكون ثمّة قدر مشترك بينهما ، كما إذا شكّ الإمام بين الثنتين والثلاث والمأمومون بين الأربع والخمس. ولا ريب في عدم الرجوع حينئذ أيضاً ، لعلم كلّ منهما بخطإ الآخر ، بعد أن كان طرفا الشك من كلّ منهما مخالفاً لطرفيه من الآخر. فلا مناص وقتئذ من أن يعمل كلّ منهما على شاكلته ، ويصنع حسب وظيفته من الإتيان بموجب شكّه.

ثانيهما : أن يكون بين الشكّين قدر مشترك يجمعهما ، بأن يكون أحد طرفي الشك من أحدهما بعينه طرفاً للشك من الآخر ، كما لو شكّ أحدهما بين الاثنتين والثلاث والآخر بين الثلاث والأربع ، أو أحدهما بين الثلاث والأربع والآخر بين الأربع والخمس ، فانّ الثلاث في المثال الأوّل والأربع في المثال الثاني طرف لكلّ من الشكّين.

وقد احتمل في المتن رجوع كلّ منهما حينئذ إلى ذلك القدر المشترك ، بل نُسب ذلك إلى المشهور ، نظراً إلى أنّ كلا منهما نافٍ للطرف الآخر من شكّ الآخر.

وذلك لأنّ الشك الحاصل لكلّ منهما ينحلّ إلى الشك من جهة وإلى الجزم من جهة أُخرى ، فإنّ الشاك بين الثنتين والثلاث في المثال الأوّل شاك في الثالثة وجازم بعدم الرابعة ، كما أنّ الشاك بين الثلاث والأربع شاك في الرابعة وجازم بوجود الثالثة ، فيرجع كلّ منهما في مورد شكّه إلى جزم الآخر وحفظه ، تمسّكاً بإطلاق صحيحة حفص المتقدّمة (١) فينفي الأوّل شكّه في الثالثة بجزم الثاني بوجودها ، كما ينفي الثاني شكّه في الرابعة بجزم الأوّل بعدم وقوعها. ونتيجة ذلك بنائهما معاً على الثلاث وإتمام الصلاة عليه.

وهكذا الحال في المثال الثاني ، أعني شكّ أحدهما بين الثلاث والأربع

__________________

(١) في ص ٣٣.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والآخر بين الأربع والخمس ، فيبنيان معاً على الأربع ، المستنتج من رجوع كلّ منهما في مورد الشك إلى حفظ الآخر كما لا يخفى.

وهذا الاحتمال هو الأقوى ، عملاً بإطلاق الصحيح كما عرفت ، ولا تعتريه شائبة الإشكال عدا ما يتوهّم من انصراف الصحيح وغيره من أدلّة المقام عن مثل ذلك ، بدعوى أنّها ناظرة إلى ما إذا كان الآخر حافظاً بقول مطلق ، فلا تعمّ ما لو كان حفظه مختصّاً بجهة مع كونه ساهياً من الجهة الأُخرى كما في المقام ، فانّ هذا الفرض خارج عن منصرف النصوص ، ومعه يشكل رفع اليد عن عمومات أدلّة الشكوك الصحيحة أو الباطلة.

ولكنّه كما ترى انصراف بدوي غير مبني على أساس صحيح ، ولم يعرف له وجه سوى ندرة الوقوع خارجاً ، التي لا تصلح منشأ للانصراف كما هو مقرّر في محلّه (١).

فلا مانع من التمسّك بالإطلاق سيما بعد موافقته مع الارتكاز العرفي ومناسبة الحكم والموضوع ، القاضية بابتناء الحكم على إرادة نفي السهو عن كلّ من الإمام والمأموم فيما حفظ عليه الآخر مطلقاً. فكأنّ الصلاة الصادرة منهما صلاة واحدة وإن صدرت عن شخصين وكان المباشر لها اثنين. فالحفظ من كلّ منهما في أيّ جهة كان يعدّ حفظاً من الآخر بعد فرض اعتبارها صلاة واحدة.

ومن هنا لا ينبغي التشكيك في أنّ أحدهما لو كان شاكّاً في الأفعال حافظاً للركعات ، والآخر بالعكس رجع الشاك إلى ما يحفظه الآخر بناءً على شمول الرجوع للشك في الأفعال ، وليس الوجه إلّا ما عرفت من كفاية الحفظ من جهة في صحّة الرجوع ، أخذاً بإطلاق النصوص.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٧٣.

٥٤

لكن الأحوط إعادة الصلاة (*) بعد إتمامها (١)

______________________________________________________

(١) لا يخفى أنّ هذا الاحتياط لا يستقيم على إطلاقه ، إذ قد لا يستوجب الرجوع إلى القدر المشترك بطلان الصلاة بوجه ، حتّى لو لم يكن الرجوع صحيحاً كي يحتاط بالإعادة ، وإنّما يتّجه فيما لو كان الرجوع مستلزماً للبطلان لولا صحّة الرجوع.

ففي المثال المذكور في المتن لا وجه للإعادة بالنسبة إلى الشاك بين الثنتين والثلاث ، الباني على الثلاث بمقتضى رجوعه إلى القدر المشترك ، فانّ الرجوع لو كان صحيحاً بحسب الواقع لكونه مشمولاً لإطلاق الصحيح فقد أتى بوظيفته وإن لم يكن صحيحاً لأجل انصراف النص عنه فوظيفته هو البناء على الثلاث أيضاً ، غايته أنّه يلزم عليه الإتيان بركعة الاحتياط بعد الصلاة. فرعايته للاحتياط لا تستدعي أكثر من الإتيان بهذه الركعة المفصولة ، لا إعادة الصلاة من أصلها كما هو ظاهر المتن.

نعم ، الإعادة هو مقتضى الاحتياط بالنسبة إلى الشاك بين الثلاث والأربع إذ لو لم يصح الرجوع إلى القدر المشترك لانصراف النص عنه فهو مأمور واقعاً بالبناء على الأربع والإتيان بركعة مفصولة ، فالبناء على الثلاث والإتيان بالركعة الموصولة يستلزم زيادة الركعة المستوجبة للبطلان. فلا يتحقّق الاحتياط هنا إلّا بإعادة الصلاة.

ولو فرضنا أنّ أحدهما شاك بين الثلاث والأربع ، والآخر بين الأربع والخمس لا مقتضي حينئذ للإعادة في شي‌ء منهما ، لأنّ وظيفتهما معاً هو البناء على الأربع على كلّ حال ، أي سواء شملهما النص وقلنا بصحّة الرجوع إلى القدر

__________________

(*) لا بأس بتركه لقوّة الاحتمال المزبور.

٥٥

وإذا اختلف شكّ الإمام مع المأمومين وكان المأمومون أيضاً مختلفين في الشكّ لكن كان بين شكّ الإمام وبعض المأمومين قدر مشترك (١) يحتمل رجوعهما إلى ذلك القدر المشترك ثمّ رجوع البعض الآخر إلى الإمام (*) لكن الأحوط مع ذلك إعادة الصلاة أيضاً ، بل الأحوط في جميع صور أصل المسألة إعادة الصلاة إلّا إذا حصل الظنّ مع رجوع أحدهما إلى الآخر.

______________________________________________________

المشترك ، أم لم يشمل وادّعينا الانصراف عنه.

غايته أنّه على الثاني يجب عليهما العمل بعد الصلاة بموجب الشك من الإتيان بركعة الاحتياط في الأوّل ، وسجود السهو في الثاني ، فيتحقّق الاحتياط بمجرّد ذلك ، إلّا إذا فرضنا أنّ الثاني أعني الشاك بين الأربع والخمس قد حصل له الشك في حال الركوع أو قبل إكمال السجدتين ، بحيث كان شكّه مبطلاً لولا صحّة الرجوع ، فيتوقّف الاحتياط حينئذ بالنسبة إليه على إعادة الصلاة.

وعلى الجملة : لا يحسن إطلاق القول باقتضاء الاحتياط للإعادة كما هو ظاهر عبارة المتن ، بل يختص بما إذا كان الرجوع إلى القدر المشترك في مورد الشكوك الباطلة أو الصحيحة المقرونة بزيادة مبطلة ، ويختلف ذلك باختلاف الموارد حسبما فصّلناه.

وكيف ما كان ، فهذا الاحتياط استحبابي لا بأس بتركه ، لقوّة الاحتمال الّذي ذكره في المتن من الرجوع إلى القدر المشترك كما عرفت بما لا مزيد عليه.

(١) الكلام هنا هو الكلام في سابقه ، فيرجع كلّ من الإمام والمأموم إلى

__________________

(*) مرّ الإشكال فيه آنفا.

٥٦

السابع : الشك في ركعات النافلة (*) (١)

______________________________________________________

ما بينهما من القدر المشترك بعين المناط المتقدّم من الأخذ بإطلاق صحيحة حفص. وانضمام المأموم الآخر الّذي لا جامع بينه وبين الإمام غير قادح بعد وضوح أنّ وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة ، كما مرّ (١) نظيره من رجوع الإمام إلى المأموم المتيقّن وإن كان مقروناً بمأموم آخر شاك ، حيث عرفت أنّ الإمام يرجع إلى الأوّل لو كان منحصراً فيه ، فلا يحتمل أن يكون وجود الآخر مانعاً.

نعم ، لا يرجع هذا المأموم إلى الإمام ما لم يحصل الظن للإمام من رجوعه إلى القدر المشترك وإن ذكر الماتن رجوعه إليه على الخلاف المتقدّم بيننا وبينه في المسألة السابقة فلاحظ.

وعلى هذا فلو شكّ الإمام بين الثلاث والأربع وبعض المأمومين بين الاثنتين والثلاث وبعضهم بين الاثنتين والثلاث والأربع بنى الأوّلان على الثلاث ، وعمل الأخير الّذي لا جامع بينه وبين الإمام بموجب شكّه ، نعم لا يبعد رجوعه إليه في نفي الاثنتين.

(١) المعروف والمشهور بل لا خلاف فيه في الجملة أنّ الشاك في ركعات النافلة لا تجري في حقّه أحكام الشك في الفريضة المتقدّم تفصيلها من البطلان أو البناء على الأكثر ونحو ذلك ، بل هو مخيّر بين البناء على الأقل أو البناء على الأكثر ما لم يكن مفسداً ، وإلّا فيبني على الأقل أيضاً. فهو مخيّر شرعاً بين الأمرين ، وله إتمام الصلاة بكلّ من النحوين بقصد الأمر الفعلي.

__________________

(*) بشرط أن لا تعرضها صفة الوجوب بنذر ونحوه ، وإلّا بطلت الصلاة على الأظهر.

(١) في ص ٤٧.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إنّما الكلام في مستنده بعد أن كان التخيير بهذا المعنى مخالفاً لمقتضى القاعدة فإنّ القاعدة الأوّلية تقتضي هنا البناء على الأقل ، استناداً إلى أصالة عدم وقوع الركعة المشكوك فيها.

فانّ ما دلّ على سقوط الاستصحاب وعدم حجّيته في باب الشكّ في الركعات خاص بالفرائض ، فيكون المرجع فيها بعد السقوط قاعدة الاشتغال المقتضية للإعادة ، تحصيلاً للفراغ الجزمي ما لم يثبت التصحيح بوجه شرعي كما في موارد الشكوك الصحيحة.

وأمّا في النوافل فحيث لا دليل على السقوط فتبقى مشمولة لإطلاق دليل الحجّية بعد سلامته عن التقييد ، ونتيجة ذلك هو البناء على الأقل كما عرفت فيتم معه الصلاة بقصد الأمر الجزمي الظاهري الناشئ من قِبل الاستصحاب.

نعم ، له البناء على الأكثر أيضاً لكن رجاءً ، إذ لا يترتّب عليه عدا احتمال نقصان الصلاة المستلزم لبطلانها ، ولا محذور في ذلك بعد جواز قطع النافلة ورفع اليد عنها حتّى اختياراً.

وبعبارة واضحة : أنّ مجرّد الشك لا يكون مانعاً عن المضي والبناء على ما يشاء بقصد الرجاء حتّى في الفريضة لولا ما ثبت فيها من حرمة القطع ، غايته أنّه لا يترتّب على ذلك إلّا الموافقة الاحتمالية غير المجدية في مثلها بعد أن كان المطلوب فيها الخروج عن عهدتها بالفراغ اليقيني.

وأمّا في النوافل فحيث لا يحرم قطعها ولا يجب الخروج عن عهدتها فلا مانع من المضي على الشك والبناء على أحد الطرفين المحتمل مطابقته مع الواقع غاية ما هناك عدم حصول الجزم بالإطاعة ، ولا محذور فيه بعد أن جاز تركها رأساً ، فضلاً عن الاقتصار على الامتثال الاحتمالي.

ومنه تعرف أنّ مقتضى القاعدة في النوافل هو التخيير بين الأقل والأكثر

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن بالمعنى الّذي عرفت ، أعني البناء على الأقل والإتيان بالامتثال الجزمي أو البناء على الأكثر والاقتصار على الامتثال الاحتمالي.

لكن التخيير بهذا المعنى غير التخيير المنسوب إلى المشهور من البناء على كلّ منهما على أنّه الوظيفة الفعلية الشرعية وبقصد الأمر الجزمي على التقديرين.

فلا بدّ إذن من النظر إلى الأخبار التي استدلّ بها على التخيير بالمعنى المشهور.

فمنها : قوله (عليه السلام) فيما رواه إبراهيم بن هاشم في نوادره : «ولا سهو في نافلة ...» إلخ (١) بدعوى دلالته على أنّ السهو الّذي هو بمعنى الشك ملغى في النافلة وغير ملتفت إليه ، فوجوده كالعدم ، فيبني على وقوع المشكوك فيه إلّا إذا كان مفسداً فيبني على عدمه.

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند بكلا طريقيه من جهة الإرسال كما تقدّم (٢) أنّها قاصرة الدلالة ، فإنّ هذه الفقرة من الرواية مع قطع النظر عن القرينة الخارجية من الإجماع ونحوه القائم على ثبوت التخيير في النافلة مجملة لم يعلم المراد منها ، فانّ المعني به في سائر الفقرات أُمور مختلفة حسب اختلاف الموارد.

ففي الفقرة الاولى أعني قوله (عليه السلام) : «ليس على الإمام سهو» وقوله : «ليس على مَن خلف الإمام سهو» يراد منها نفي أحكام الشك الأعم من الصحيحة والباطلة ، ورجوع كلّ من الإمام والمأموم إلى الآخر للمتابعة.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٤١ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٤ ح ٨.

(٢) في ص ٣١ ، وقد أسند الرواية في مصباح الفقيه (الصلاة) : ٥٨٧ السطر ٢١ إلى حسنة ابن البختري ، ولعلّه سهو من قلمه الشريف.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي قوله : «لا سهو في سهو» معنى آخر تقدّم البحث عنه (١) على ما هو عليه من الإجمال كما مرّ (٢). وفي قوله : «ولا في المغرب سهو» وكذا الفقرتان اللّتان بعده ، المراد بطلان الصلاة.

وأمّا قوله : «لا سهو في نافلة» فلم يعلم أنّ المراد هل هو البطلان أيضاً كما في سابقه ، أو البناء على الاحتمال المصحّح من طرفي الشك من البناء على الأكثر إلّا إذا كان مفسداً فعلى الأقل ، كما في مثل قوله : لا سهو لمن كثر عليه السهو (٣) على ما مرّ (٤). فهذه الفقرة في نفسها غير بيّنة ولا مبيّنة ، فهي مجملة لا يمكن الاستدلال بها بوجه.

على أنّ غايتها الدلالة على البناء على الأكثر ، لا التخيير بينه وبين الأقل وإن لم يكن مفسداً ، إلّا بمعونة القرينة الخارجية من إجماع ونحوه كما لا يخفى.

ومنها وهي العمدة ـ : صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة بطريقين كلاهما صحيح قال : «سألته عن السهو في النافلة ، فقال : ليس عليك شي‌ء» (٥).

بتقريب أنّ المنفي سواء أكانت النسخة (عليك) بصيغة الخطاب كما أثبتناه أم بصيغة الغياب كما في بعض النسخ ، وسواء أرجع الضمير على هذا التقدير إلى السهو أم إلى الساهي ليس هو الحكم التكليفي والوجوب النفسي بالضرورة إذ لا مجال لتوهّم ذلك حتّى في الفرائض لولا ما ثبت فيها من حرمة القطع

__________________

(١) شرح العروة ١٨ : ٣٠١.

(٢) في ص ٣٥.

(٣) [الظاهر إرادة قوله (عليه السلام) : «إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك ...» الوسائل ٨ : ٢٢٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦ ح ١].

(٤) في ص ٤ وما بعدها.

(٥) الوسائل ٨ : ٢٣٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٨ ح ١.

٦٠