موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

من الالتفات حين العمل وأنّه لا يترك شيئاً من أجزائه ، لكونه على خلاف ظاهر حاله. وكما أنّ مقتضى طبعه هو الالتفات وعدم ترك جزء سهواً ، فكذا مقتضى طبعه الأوّلي عدم ترك جزء عمداً وعدم الإخلال العمدي بالأجزاء المتأخِّرة ، فإنّ هذا أيضاً على خلاف ظاهر حاله كسابقه.

وبعبارة اخرى : التعليل المزبور ناظر إلى إخراج صورة واحدة عن إطلاقات أدلّة القاعدة ، وهي صورة العلم بالغفلة واستناد احتمال الصحّة إلى المصادفة الواقعية ، فتبقى الصورتان الأخيرتان وهما الترك المستند إلى احتمال الغفلة والترك المستند إلى احتمال العمد مشمولتين لإطلاق الأدلّة ، بعد أن كان كلّ منهما على خلاف ظاهر حال المصلِّي وما يقتضيه طبعه الأوّلي حسبما أشرنا إليه.

ومنه تعرف الجواب عن دعوى الانصراف ، فإنّها غير بيِّنة ولا مبيّنة بعد أن كان الإطلاق مطابقاً لما هو المرتكز عند العقلاء من عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز ، ومن غير فرق بين احتمال الترك سهواً وعمداً ، وقد مرّ غير مرّة أنّ قاعدة التجاوز ليست قاعدة تعبّدية صرفة ، بل هي مجعولة على وفق ما تقتضيه السيرة العقلائية من عدم الاعتناء بالشك المزبور الشامل لكلتا الصورتين.

ويؤيِّد ما ذكرناه من الإطلاق أنّ قاعدة الحيلولة المجعولة لدى الشك بعد خروج الوقت لم يفرق فيها ظاهراً بين ما إذا كان احتمال الترك مستنداً إلى السهو أو إلى احتمال العمد ، ولا فرق بين هذه القاعدة التي هي بمثابة الشك بعد العمل وبين قاعدتي الفراغ والتجاوز في ملاك الحكم من حيث السعة والضيق.

فانّ الشك بعد تجاوز المحل وبعد الفراغ من العمل وبعد خروج الوقت كلّ ذلك قواعد عقلائية مندرجة تحت ضابط واحد ، ومرتضعة من ثدي فأرد ومرجع الكلّ إلى عدم الاعتناء بالشك العارض بعد المضي عن الشي‌ء إمّا عن

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

نفسه أو عن محلّه أو عن وقته. فثبوت الإطلاق في مورد يؤيِّد ثبوته في المورد الآخر كما لا يخفى.

وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمّل في جريان قاعدة التجاوز لدى احتمال الترك العمدي كالسهوي ، لإطلاق الأدلّة.

وأمّا المقام الثاني : وهو أنّا لو بنينا على الاختصاص ومنعنا عن جريان القاعدة مع احتمال الترك العمدي فهل يلزمه العود حينئذ لتدارك المشكوك فيه استناداً إلى استصحاب عدم الإتيان ، أو أنّه يحكم بالبطلان فتجب الإعادة ، أو أنّه يجمع بين الأمرين احتياطاً كما اختاره في المتن؟

لا ينبغي التأمّل في عدم لزوم العود ، فانّ احتماله ساقط جزماً ، للقطع بسقوط الأمر عن الجزء المشكوك فيه بعد فرض تردّده بين الإتيان وبين الترك العمدي لتحقّق الامتثال على الأوّل وبطلان الصلاة على الثاني. فلا أمر بالإتيان به فعلاً على كلّ تقدير ، فلا يترتّب أثر على استصحاب عدم الإتيان بعد العلم الوجداني بسقوط الأمر الفعلي عن الجزء. ومعه لا مناص من الإعادة بمقتضى قاعدة الاشتغال ، للشك في تحقّق الامتثال ، بل مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان وإن لم يترتّب عليه البطلان.

وعليه فلا مانع من رفع اليد عن هذه الصلاة واستئنافها ، بناءً على ما تقدّم غير مرّة من أنّ دليل حرمة قطع الفريضة على تقدير تماميته خاص بما إذا أمكن إتمام الصلاة صحيحة والاقتصار عليها في مقام الامتثال ، المنفي فيما نحن فيه للزوم الإعادة بمقتضى قاعدة الاشتغال حسبما عرفت.

هذا كلّه فيما إذا لم يعلم أصل الترك بأن تردّد الأمر بين الإتيان وبين الترك العمدي.

وأمّا لو كان الترك معلوماً وشكّ في منشئه وأنّه هل كان عن عمد أو عن

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

سهو وقد تجاوز عن محلّه ، فهذا على قسمين ، إذ قد يفرض ذلك مع فوات المحل الذكري بحيث لا يمكن التدارك كما لو تذكّر حال الركوع فوت التشهّد أو السجدة الواحدة وتردّد بين العمد والسهو ، وأُخرى مع بقاء المحل المذكور كما لو كان التذكّر المزبور في حال القيام وقبل أن يركع.

أمّا القسم الأوّل : فهو على صورتين ، إذ تارة لا يترتّب أثر على الترك السهوي من قضاء أو سجود سهو ونحو ذلك ، كما لو علم حال الركوع ترك القراءة وتردّد بين العمد أو السهو ، أو بعد رفع الرأس منه تَرْك الذكر متردّداً بينهما ، بناءً على عدم سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة.

وأُخرى يترتّب عليه الأثر كالمثال الّذي ذكرناه أوّلاً ، حيث إنّ السجدة المنسية تقضى كما أنّ التشهّد المنسي يجب له سجود السهو.

أمّا في الصورة الاولى : فلا أثر للعلم الإجمالي ، فإنّ الترك السهوي لو كان معلوماً تفصيلاً لم يترتّب عليه أثر حسب الفرض فضلاً عن كونه معلوماً بالإجمال ، فتجري حينئذ قاعدة التجاوز بالنسبة إلى احتمال الترك العمدي لدفع احتمال البطلان من غير معارض ، بناءً على ما عرفت من جريان القاعدة في موارد احتمال الترك العمدي أيضاً كالسهوي. فيمضي في صلاته ولا شي‌ء عليه.

وأمّا في الصورة الثانية : فمقتضى قاعدة التجاوز الجارية بالنسبة إلى نفي احتمال الترك العمدي صحّة الصلاة وعدم بطلانها ، كما أنّ مقتضى جريانها بالنسبة إلى نفي احتمال الترك السهوي عدم القضاء أو عدم سجود السهو ، ولا يمكن الجمع بين القاعدتين ، للزوم المخالفة القطعية العملية من جهة العلم الإجمالي بأحد الأمرين من البطلان أو القضاء مثلاً.

ولكن القاعدة تختص بالمورد الأوّل ولا تجري في الثاني ، لما مرّ غير مرّة من أنّ في كلّ مورد كان أثر جريان القاعدة نفي البطلان وإثبات الصحّة ، وفي غيره

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

نفي حكم آخر مترتِّب على الصحّة من قضاء أو سجود سهو ونحو ذلك اختصّ الأوّل بالجريان ولا يكون معارضاً بالثاني. وعليه فتجري القاعدة في المقام لنفي احتمال الترك العمدي من غير معارضة للطرف الآخر أعني نفي احتمال الترك السهوي ونتيجته الحكم بصحّة الصلاة.

إلّا أنّه مع ذلك لا يمكن الحكم بالصحّة ، لمعارضة هذه القاعدة مع أصالة البراءة من وجوب القضاء أو سجود السهو ، إذ هو عالم في المقام إجمالاً بأحد التكليفين ، إمّا وجوب الإعادة أو وجوب القضاء مثلاً ، وقاعدة التجاوز الجارية لنفي الأوّل معارضة بأصالة البراءة الجارية لنفي الثاني.

وإن شئت قلت : لا تكاد تجري قاعدة التجاوز في المقام لنفي احتمال الترك العمدي ، لا لأجل معارضتها بالقاعدة الجارية لنفي احتمال الترك السهوي ، لما عرفت من أنّ القاعدة فيما يوجب البطلان لا تعارضها القاعدة فيما لا توجبه ، بل لأجل المعارضة مع أصالة البراءة عن وجوب القضاء أو سجدتي السهو ، من جهة العلم الإجمالي بأحد التكليفين كما مرّ.

وبما أنّ الجمع بينهما مستلزم للمخالفة العملية فلا مناص من الإعادة بمقتضى قاعدة الاشتغال. ولا مانع من قطعها ورفع اليد عنها ، لما تقدّم من أنّ دليل حرمة القطع على تقدير تسليمه خاص بما إذا أمكن إتمام الصلاة صحيحة والاقتصار عليها في مقام الامتثال ، وهو منفي فيما نحن فيه كما عرفت.

وأمّا القسم الثاني : أعني ما إذا كان المحل الذكري باقياً فتارة لا يكون لزيادة الجزء الّذي أتى به بعد ترك الجزء السابق أثر لو صدر نسياناً من سجود السهو ونحوه ، كما لو تذكّر وهو في السورة فوت الفاتحة ، أو تذكّر وهو في القيام ترك السجدة الواحدة وتردّد بين كونه عن عمد أو سهو ، بناءً على عدم وجوب سجدتي السهو للقيام الزائد.

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأُخرى يكون له أثر ، كما لو قلنا بوجوب السجدتين لزيادة القيام سهواً في المثال المزبور.

أمّا في الفرض الأوّل : فالصلاة محكومة بالصحّة ، للشكّ في عروض ما يوجب البطلان أعني الترك العمدي ، فيبني على العدم بمقتضى قاعدة التجاوز السليمة عن المعارض في أمثال المقام كما تقدّم ، فيرجع ويتدارك الجزء المتروك ويمضي ولا شي‌ء عليه بعد أن لم يترتّب أثر على الزيادة السهوية المحتملة كي تتحقّق المعارضة.

وأمّا في الفرض الثاني : فالظاهر هو البطلان ، للعلم الإجمالي إمّا بوجوب الإعادة من جهة زيادة الجزء عمداً ، أو بوجوب سجود السهو من أجل زيادته سهواً.

فانّ الجزء المتروك وإن كان قابلاً للتدارك على تقدير تركه السهوي لبقاء المحل حسب الفرض ، إلّا أنّه نظراً إلى المعارضة بين قاعدة التجاوز الجارية لنفي الترك العمدي المترتِّب عليها عدم البطلان ، وبين أصالة البراءة عن وجوب سجود السهو وسقوطهما بالمعارضة ، لا يمكن تصحيح الصلاة بوجه ، إذ يجري حينئذ جميع ما ذكرناه فيما إذا كان التذكّر بعد تجاوز المحل الذكري حرفاً بحرف.

وقد عرفت أنّ المتّجه ثمّة هو البطلان ، استناداً إلى أصالة الاشتغال ، وأنّه لا مانع حينئذ من رفع اليد عن هذه الصلاة بعد عدم إمكان تتميمها صحيحة لقصور دليل حرمة القطع على تقدير تسليمه عن شمول الفرض.

وقد يقال بعدم جريان قاعدة التجاوز هنا في حدّ نفسها ولو مع قطع النظر عن المعارضة ، إذ يعتبر في جريانها الدخول في الجزء المترتِّب ، ولم يتحقّق في المقام ، للقطع بزيادة القيام ووقوعه في غير محلّه ، إذ المفروض ترك السجدة مثلاً قطعاً إمّا عمداً أو سهواً ، فليس هذا القيام الواقع قبل السجدة من القيام

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاتي في شي‌ء ، فلا يكون من الجزء المترتِّب. وعلى الجملة : عدم جريان القاعدة مستند إلى قصور المقتضي لفقدان شرطه ، لا إلى وجود المانع أعني المعارضة.

ويندفع : بأنّ الدخول في الجزء المترتِّب لا خصوصية له ، وإنّما التزمنا به من أجل أنّ التجاوز عن الشي‌ء بعد فرض الشك في أصل وجوده لا يتحقّق إلّا بالتجاوز عن محلّه المستكشف بالدخول في الجزء المترتِّب ، على خلاف قاعدة الفراغ التي يصدق في موردها المضي حقيقة ومن غير عناية باعتبار تعلّق الشك بصحّة الشي‌ء لا بأصل وجوده. فالدخول المزبور كاشف عن تحقّق الشرط ، ولا موضوعية له. فليس الشرط إلّا نفس التجاوز عن المحلّ ، وهو الموضوع لجريان القاعدة.

وعليه فبما أنّ التجاوز عن المحلّ متحقِّق لو كان الترك عن عمد ، لعدم إمكان التدارك بعدئذ فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز لنفي الترك العمدي الّذي هو الأثر المرغوب من جريانها في المقام.

نعم ، المحل باق لو كان الترك عن سهو ، لعدم المضي حينئذ عن محلّه حقيقة ولكن على التقدير الأوّل المترتِّب عليه نفي البطلان الّذي هو المقصود من الجريان لم يكن المحل باقياً ، فلا مانع من جريانها في حدّ ذاتها لولا المعارضة حسبما عرفت فتأمّل ، هذا.

وقد يقال هنا وفي القسم السابق أعني ما لو كان التذكّر بعد تجاوز المحل الذكري : إنّه بعد جريان قاعدة التجاوز لنفي الترك العمدي والحكم بمقتضاها بصحّة الصلاة وعدم بطلانها يترتّب عليه لا محالة آثار الترك السهوي من الرجوع والتدارك إن كان التذكّر قبل الدخول في الركن ، والقضاء أو سجدتا السهو إن كان بعده.

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ أصل الترك معلوم حسب الفرض ، وكونه عمدياً مدفوع بمقتضى القاعدة فيحرز بذلك عدم استناد الترك إلى العمد ، وكلّ ما كان كذلك فهو محكوم بما عرفت من العود إن كان قبل تجاوز المحل الذكري ، والقضاء ان كان بعده ، فلا موجب للحكم بالبطلان.

ويندفع أوّلاً : بأنّ شأن القاعدة ليس إلّا التأمين من ناحية امتثال التكليف ولا تكاد تتكفّل لإثبات حكم آخر مترتِّب على موضوع آخر ، والمقدار الّذي ثبت التعبّد به في المقام من جريان القاعدة إنّما هو عدم بطلان الصلاة من جهة احتمال ترك الجزء عمداً ، ولا نظر فيها إلى إثبات موضوع القضاء أو سجدتي السهو ، بل يرجع في نفيهما إلى أصالة البراءة لولا المعارضة مع القاعدة المستلزمة للمخالفة القطعية كما لا يخفى.

وثانياً : أنّ الموضوع للقضاء أو سجدتي السهو لو كان هو مجرّد عدم استناد الترك إلى العمد لأمكن المساعدة على ما أُفيد ، إلّا أنّ المستفاد من الأدلّة أنّ الموضوع هو الترك المستند إلى غير العمد من سهو أو جهل أو تخلّف اعتقاد ونحو ذلك ، وإثباته بالقاعدة الجارية لنفي الترك العمدي من أوضح أنحاء المثبت.

وبعبارة اخرى : للترك حصّتان عمدي وسهوي ، وهما متضادّان ، يلازم كلّ منهما عدم الآخر ، فمع نفي الترك العمدي بقاعدة التجاوز لا يمكن إثبات الترك السهوي إلّا بالملازمة الخارجية الناشئة من العلم الوجداني بتحقّق أصل الترك وعدم كونه عمدياً بمقتضى جريان القاعدة ، وقد عرفت أنّ القاعدة لا تتكفّل بإثبات اللوازم غير الشرعية ، فلا مناص من الحكم بالإعادة كما ذكرنا.

٢٨٧

[٢١٩٠] المسألة السابعة والخمسون : إذا توضّأ وصلّى ثمّ علم أنّه إمّا ترك جزءاً من وضوئه أو ركناً في صلاته (١) فالأحوط إعادة الوضوء ثمّ الصلاة ولكن لا يبعد جريان قاعدة الشك بعد الفراغ في الوضوء لأنّها لا تجري في الصلاة حتّى يحصل التعارض ، وذلك للعلم ببطلان الصلاة على كلّ حال.

______________________________________________________

(١) احتاط (قدس سره) أوّلاً بإعادة الوضوء والصلاة معاً ، رعاية للعلم الإجمالي المتعلِّق بالبطلان بعد معارضة قاعدة الفراغ الجارية في الطرفين ، ولم يستبعد أخيراً الاكتفاء بإعادة الصلاة فقط ، للعلم التفصيلي ببطلانها إمّا من أجل فقد الركن أو فقد الطهور المانع عن جريان قاعدة الفراغ فيها ، فيكون جريانها في الوضوء سليماً عن المعارض ، وبذلك ينحل العلم الإجمالي.

والظاهر أنّ ما أفاده (قدس سره) أخيراً هو الصحيح ، لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشك البدوي ، فيرجع في الثاني إلى الأصل الجاري فيه ، وهو قاعدة الفراغ من غير معارض.

ولكن شيخنا الأُستاذ (قدس سره) (١) منع عن انحلال العلم الإجمالي بمثل هذا العلم التفصيلي في المقام ونحوه ممّا كان العلم التفصيلي متولّداً من العلم الإجمالي ، ولأجله منع عن الانحلال في باب الأقل والأكثر الارتباطيين بدعوى استلزامه انحلال الشي‌ء بنفسه.

وحاصل ما أفاده (قدس سره) في وجهه : أنّ الأقلّ المعلوم بالتفصيل لو كان وجوبه ثابتاً على كلّ تقدير وبصفة الإطلاق لتمّ ما أُفيد ، ولكنّه ليس كذلك ، بل المعلوم ليس إلّا وجوبه على سبيل الإهمال الجامع بين الاشتراط

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٨.

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والإطلاق ، فليس لنا علم إلّا بوجوب مردّد بين كونه بشرط شي‌ء ، أي مقيّداً بكونه في ضمن الأكثر ، المترتِّب عليه عدم حصول الامتثال بإتيان الأقل فقط وبين كونه لا بشرط ، أي مطلقاً من حيث الانضمام إلى الأكثر وعدمه. فالعلم بوجوب الأقل ليس إلّا علماً بالجامع بين المطلق والمقيّد ، وهو عبارة أُخرى عن نفس العلم الإجمالي ، بل هو مقوّم له ، وليس شيئاً آخر وراءه ، فكيف يمكن أن ينحلّ به ، وهل هذا إلّا انحلال الشي‌ء بنفسه.

وعلى ضوء هذا البيان منع (قدس سره) عن الانحلال في المقام ، فانّ بطلان الصلاة لم يكن معلوماً على سبيل الإطلاق ، بل المعلوم هو جامع البطلان المردّد بين ما استند إليها نفسها وما كان مرتبطاً بالوضوء ، وهو عين العلم الإجمالي المتعلِّق ببطلان أحدهما ، فلا يمكن أن يكون موجباً لانحلاله.

ويرد عليه (قدس سره) أوّلاً : ما تعرّضنا إليه في الأُصول (١) في باب الأقل والأكثر من أنّ ما أفاده (قدس سره) متين جدّاً لو أراد به الانحلال الحقيقي الّذي ضابطه أن تنحل القضيّة الشرطية المنفصلة على سبيل منع الخلو إلى قضيتين حمليتين إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة ، كما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين فقامت بيّنة على نجاسة أحدهما المعيّن ، فإنّه يقال عندئذ : هذا الإناء بعينه نجس يقيناً ، وذاك مشكوك النجاسة ، بعد أن كنّا نقول : إمّا هذا نجس أو ذاك نجس.

فانّ الانحلال بهذا المعنى يتعذّر انطباقه على المقام ، ضرورة أنّ كلّاً من وجوب الأقل المطلق والمقيّد بما لهما من الحدّ وبصفة الإطلاق أو التقييد مشكوك فيه ، ولم يكن أحدهما متيقّناً بالإضافة إلى الآخر ، فانّ كلّاً منهما حادث مسبوق بالعدم ، ويشك في كيفية الجعل من أوّل الأمر وأنّه واسع أو

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٣٣.

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مضيّق. وكما أنّ مقتضى الاستصحاب عدم لحاظ التقييد مقتضاه عدم لحاظ الإطلاق أيضاً ، فيتعارض الاستصحابان من الطرفين. فالقضيّة الشرطية باقية على حالها وغير منحلّة إلى القضيتين الحمليتين المزبورتين.

وعلى الجملة : فالانحلال الحقيقي بالمعنى المتقدِّم وإن كان منفياً في باب الأقل والأكثر كما أفاده (قدس سره) إلّا أنّ الانحلال الحكمي متحقِّق ، بمعنى أنّ مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً ، فانّ المناط في التنجيز إنّما هو تعارض الأُصول ، ولا معارضة بينها في المقام ، فانّ جعل الوجوب للأقل على نحو التقييد اي منضمّاً بالأكثر فيه كلفة زائدة وتضييق على المكلّف مندفع بأصالة البراءة ، بخلاف جعله على سبيل الإطلاق وبنحو اللّابدية بشرط فإنّه توسعة وتسهيل للمكلّف ، فلا معنى لرفعه بأصالة البراءة.

كما أنّ العقاب عند ترك الأقل متيقّن ، لعدم تحقّق الواجب الواقعي بدونه فالتكليف بالنسبة إليه منجّز. بخلافه عند ترك الأكثر ، فإنّ العقاب عندئذ مشكوك فيه ، فأصالة البراءة الشرعية والعقلية جارية في طرف الأكثر من غير معارض ، لعدم جريان شي‌ء منهما في ناحية الأقل حسبما عرفت. وحيث لا معارضة فلا تنجيز للعلم الإجمالي ، فهو في حكم الانحلال وإن لم يكن منه حقيقة. ولا فرق بينهما بحسب النتيجة كما هو ظاهر.

كما أنّه لا معارضة بينهما فيما نحن فيه ، للعلم ببطلان الصلاة على كلّ تقدير فليست هي مجرى لقاعدة الفراغ ، فتجري القاعدة في الوضوء من غير معارض ، فتترتّب عليه نتيجة الانحلال.

وثانياً : لو أغمضنا عما ذكرناه في باب الأقل والأكثر وسلمنا عدم الانحلال ثمة بوجه فلا نسلِّمه في المقام ، لثبوت الانحلال هنا حتّى الحقيقي منه فضلاً عن الحكمي. ولا مجال لقياسه على ذاك الباب ، فانّ الواجب هناك عمل وحداني وهو الصلاة مثلاً مردّد حدّ وجوبه بين الإطلاق والتقييد والتوسعة والتضييق

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فلم يعلم أنّ ما تعلّق به الوجوب هل هو ذات الأقل أم المرتبط بالأكثر ، وليس في البين ما هو المتيقّن من الأمرين كما عرفت.

وأمّا في المقام فكلّ من الوضوء والصلاة عمل مستقل غير مرتبط أحدهما بالآخر ، ولا ملازمة بينهما في الصحّة والفساد ، فربما يصحّ الوضوء دون الصلاة كما هو ظاهر ، وقد ينعكس كما لو توضّأ مرّة أُخرى للتجديد أو اغتسل لمسّ الميت مثلاً بعد ذلك بناءً على إغناء الغسل عن الوضوء فانّ شرط الصلاة هو جامع الطهارة ، لا خصوص الوضوء الصادر منه الّذي هو طرف للعلم الإجمالي ، فليس بطلان الصلاة المعلوم بالتفصيل مرتبطاً بالوضوء كي يكون مردّداً بين الإطلاق والتقييد كما كان هو الشأن في الوجوب المعلوم تعلّقه بالأقل المردّد بينهما.

إذن فلا تردّد ولا إهمال في الحكم بالبطلان المعلوم تعلّقه بالصلاة في المقام وإنّما التردّد في منشئه وسببه ، وأنّه لخلل فيها أو لنقص في الوضوء ، ومن الواضح أنّ جهالة العلّة والتردّد فيها لا ينافي الجزم الوجداني بنفس الحكم على ما هو عليه من الحد ، فانّا على يقين تفصيلاً من بطلان الصلاة بالضرورة وإن لم يعلم مستند البطلان ، كما أنّا على شكّ من بطلان الوضوء وجداناً. فقد انحلّت القضيّة الشرطية إلى قضيتين حمليتين إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة ولازمه حصول الانحلال بطبيعة الحال.

وعلى الجملة : بعد فرض كون طرفي العلم فيما نحن فيه وجودين مستقلّين أحدهما أجنبي عن الآخر فلا معنى لأن يكون أحد الوجودين بالإضافة إلى الآخر بشرط شي‌ء ومقيّداً به ، أو لا بشرط ومطلقاً عنه ، وإنّما يتصوّر ذلك في الوجود الواحد المردّد حدّه من حيث السعة والضيق كما في باب الأقل والأكثر.

فالمقام أشبه شي‌ء بما إذا علمنا نجاسة شي‌ء تفصيلاً وشككنا في منشئها وأنّها من أجل ملاقاته بنفسه للنجس ، أو من أجل ملاقاته لشي‌ء آخر وقد

٢٩١

[٢١٩١] المسألة الثامنة والخمسون : لو كان مشغولاً بالتشهّد أو بعد الفراغ منه وشكّ في أنّه صلّى ركعتين وأنّ التشهّد في محلّه أو ثلاث ركعات وأنّه في غير محلّه (١) يجري حكم الشك بين الاثنتين والثلاث ، وليس عليه

______________________________________________________

كان ذلك الشي‌ء ملاقياً للنجس ، كما لو وقعت قطرة من أحد الإناءين في الآخر ثمّ علمنا إجمالاً بنجاسة أحدهما قبل ذلك ، فإنّه لا ينبغي الريب في أنّ المرجع في ذلك الشي‌ء هو أصالة الطهارة من غير معارض. ولا معنى للاجتناب عنه بدعوى أنّ العلم بنجاسة هذا الشي‌ء ليس على الإطلاق ، وإنّما المعلوم هو جامع النجاسة المردّد بين ما استند إلى ملاقاته بنفسه ، أو لملاقاته لذلك الشي‌ء الآخر.

إذ فيه أنّ كلّاً من الملاقي وذلك الشي‌ء الآخر موجود مستقل لا ارتباط بينهما أصلاً ، فيرجع في ذلك الشي‌ء إلى الأصل السليم عن المعارض.

فتحصّل : أنّ في أمثال المقام يكون العلم الإجمالي منحلا حقيقة ، ومع الغض عن ذلك فلا أقل من الانحلال الحكمي أعني عدم تعارض الأُصول الّذي هو المناط في التنجيز ، حيث إنّ قاعدة الفراغ غير جارية في الصلاة بعد العلم التفصيلي ببطلانها ، فتجري في الوضوء من غير معارض.

(١) لا ريب حينئذ في جريان حكم الشك بين الثنتين والثلاث ، لكونه من موارده ، فيبنى على الأكثر بمقتضى إطلاق أدلّته.

وإنّما الكلام في أنّه هل يلزمه حينئذ سجود السهو نظراً إلى أنّ لازم البناء المزبور زيادة التشهّد الصادر منه كلّاً أو بعضاً ، أم لا ، للشك في زيادة التشهّد واقعاً ، إذ من الجائز وقوعه في محلّه لكونه في الركعة الثانية بحسب الواقع فيرجع إلى أصالة عدم الزيادة أو أصالة البراءة عن وجوب السجود.

٢٩٢

سجدتا السهو لزيادة التشهّد لأنّها غير معلومة (*) ، وإن كان الأحوط الإتيان بهما أيضاً بعد صلاة الاحتياط.

______________________________________________________

الظاهر هو الثاني كما اختاره في المتن ، لما عرفت سابقاً من أنّ أدلّة البناء غير ناظرة إلّا إلى التعبّد من حيث العدد ، وأنّه من ناحية الشك في الركعات يبني على الأكثر ويأتي بالركعة المشكوكة مفصولة رعاية لسلامة الصلاة عن احتمال الزيادة والنقصان كما في موثّقة عمار (١).

وأمّا اللوازم غير الشرعية والآثار الواقعية المترتِّبة على الثلاث الواقعية كزيادة التشهّد في مفروض المسألة فليست ناظرة إليها ، ولا تكاد تتكفّل لإثباتها بوجه ، وبما أنّ الزيادة الواقعية مشكوكة فيرجع في نفيها إلى الأصل كما مرّ.

نعم ، لو صدرت عنه زيادة بعد البناء المزبور كما لو شكّ بين الثلاث والأربع وبعد البناء على الأربع وقبل أن يسلِّم قام إلى الركعة الأُخرى سهواً وجب عليه سجود السهو حينئذ ، فإنّ هذا القيام وإن لم يكن معلوم الزيادة بحسب الواقع لجواز كونه قياماً إلى الركعة الرابعة فيكون واقعاً في محلّه ، إلّا أنّه زيادة قطعية على ما تقتضيه الوظيفة الظاهرية ، ولا نعني بالزيادة التي هي موضوع للبطلان لو كانت عمدية وسجود السهو لو كانت سهوية إلّا الإتيان بشي‌ء بقصد الجزئية زائداً على ما تقتضيه الوظيفة الفعلية الأعم من الواقعية والظاهرية ، وهذا المعنى صادق في المقام وحاصل في هذه الصورة بالضرورة. فلا مناص من لزوم الإتيان بسجود السهو.

__________________

(*) إذا كان الشك في أثناء التشهّد فهو عالم بزيادة ما أتى به أو بنقصان ما بقي منه فتجب عليه سجدتا السهو بناءً على وجوبهما لكلّ زيادة ونقيصة.

(١) الوسائل ٨ : ٢١٢ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٨ ح ١.

٢٩٣

[٢١٩٢] المسألة التاسعة والخمسون : لو شكّ في شي‌ء وقد دخل في غيره الّذي وقع في غير محلّه كما لو شكّ في السجدة من الركعة الأُولى أو الثالثة ودخل في التشهّد ، أو شكّ في السجدة من الركعة الثانية وقد قام قبل أن يتشهّد ، فالظاهر البناء على الإتيان (*) وأنّ الغير أعم من الّذي وقع في محلّه أو كان زيادة في غير المحل ، ولكن الأحوط مع ذلك إعادة الصلاة أيضاً (١).

______________________________________________________

وهذا بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ الزيادة فيها على ما تقتضيه الوظيفة الواقعية مشكوكة ، وعلى ما تقتضيه الوظيفة الظاهرية مقطوعة العدم ، لفرض عدم ارتكاب شي‌ء زائداً على ما تقتضيه الوظيفة بعد البناء على الأكثر ، فلا موجب لسجود السهو بوجه.

نعم ، لو كان الشك المفروض عارضاً أثناء التشهّد فحيث إنّه يجب عليه قطعه بعد البناء على الأكثر فلا جرم يحصل له العلم الإجمالي إمّا بزيادة ما قرأ منه لو كان في الركعة الثالثة واقعاً ، أو بنقيصة ما ترك منه لو كان في الثانية فيعلم بحصول الزيادة أو النقصان في صلاته ، ومعه لم يكن بدّ من الإتيان بسجود السهو بقصد ما في الذمّة لو قلنا بوجوبه لكلّ زيادة ونقيصة.

بل يجب الإتيان به لأجل نفس الشك وإن لم نقل بذلك ، بناءً على ما عرفت من أنّ العلم الإجمالي بالنقص أو الزيادة بنفسه من موجبات سجدتي السهو كما تقدّم سابقاً (١).

(١) لا ريب في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة التجاوز كما نطقت

__________________

(*) بل الظاهر عدمه كما مرّ ، وقد تقدّم منه (قدس سره) في المسألة الخامسة والأربعين ما يناقض ما ذكره هنا.

(١) شرح العروة ١٨ : ٣٧٠ وما بعدها.

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

به صحيحة زرارة : «... إذا خرجت من شي‌ء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء» (١) وغيرها.

إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر الدخول في خصوص الغير المترتِّب على المشكوك فيه ، أو أنّه يكفي الدخول في مطلق الغير الأعم ممّا وقع في محلّه وما كان زيادة في غير المحل.

وقد تعرّض الماتن (قدس سره) لهذه المسألة في مواضع ثلاثة مع اختلاف نظره (قدس سره) فيها ، فاستظهر الاكتفاء بمطلق الغير في هذه المسألة ، واستظهر خلافه في المسألة الخامسة والأربعين (٢) ، وتردّد فيها في المسألة السابعة عشرة.

وكيف ما كان ، فقد يقال بكفاية الدخول في مطلق الغير استناداً إلى الإطلاق في صحيحة زرارة المتقدِّمة.

وقد يقال باعتبار الغير المترتِّب. ويستدلّ له تارة بانصراف الغير الوارد في الأدلّة إليه وأنّه مقيّد بحكم الانصراف بالدخول فيما لولا الشك لمضي فيه واسترسل في صلاته.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه لا موجب للانصراف أصلاً ، والتقييد المزبور غير بيِّن ولا مبين ولا شاهد عليه بوجه. فالإطلاق محكّم.

وأُخرى بما عن شيخنا الأُستاذ (قدس سره) (٣) من أنّ لازم العود لتدارك المنسي وإتيان الجزء المترتِّب عود محلّ الشك ووقوعه فيه ، كما لو شكّ في

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٢) بل صرّح (قدس سره) في المسألة العاشرة من فصل الشك بأنّ المراد الغير المترتِّب. اللهمّ إلّا أن لا يكون له إطلاق من حيث الوقوع في المحل أو في خارجه الّذي هو محلّ الكلام ، فلاحظ وتأمّل.

(٣) لاحظ كتاب الصلاة ٣ : ٥١ ، العروة الوثقى ٣ : ٣٩١.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

السجدة الثانية من الركعة الثانية بعد ما دخل في القيام سهواً قبل أن يتشهّد فإنّه محكوم بالعود لتدارك التشهّد ، وبعد ما عاد يعود محلّ الشك لا محالة.

وفيه أيضاً ما لا يخفى ، فإنّه بالعود لا يتّصف الشك بعروضه في المحل ، إذ الشي‌ء لا ينقلب عمّا وقع عليه. ومن الواضح أنّ هذا هو الشك السابق العارض قبل العود بعينه ، وليس شكّاً غيره ، والمدار في كون الشك قبل التجاوز أو بعده بحدوث الشك لا ببقائه. وعليه فبناءً على كفاية الدخول في مطلق الغير فهذا من الشك العارض بعد التجاوز لا محالة وإن عاد إلى المحل.

فالصحيح أن يستدلّ له بما أشرنا إليه سابقاً من أنّ التجاوز عن الشي‌ء مع فرض الشك في أصل وجوده كما هو مورد هذه القاعدة ممّا لا يجتمعان ، فهو بمعناه الحقيقي متعذِّر الصدق ، وإنّما يتّجه فيما لو كان متعلّق الشك وصف الصحّة كما في قاعدة الفراغ ، لصدق المضي والتجاوز حينئذ عن نفس الشي‌ء حقيقة. وعليه فلا مناص من أن يراد به في المقام التجاوز عن المحلّ بضرب من العناية.

ومن الواضح أنّ التجاوز والخروج عن محلّ المشكوك فيه إنّما يتحقّق بالدخول في الجزء المترتِّب عليه شرعاً الّذي له محلّ معيّن متأخِّر عنه ، وإلّا فالغير غير المترتِّب لا محل له ، فالدخول فيه لا يحقِّق الخروج عن محلّ المشكوك فيه ، بل هو باق بعد سواء أتى بذلك الغير أم لا ، فتحقيقاً للخروج عن المحل لا بدّ من الاختصاص بالمترتِّب.

فتحصّل : أنّ الأظهر اعتبار الدخول في الغير المترتِّب ، لهذا الوجه الّذي ذكرناه ، لا للوجهين السابقين المزيّفين بما عرفت. فلا يكفي الدخول في مطلق الغير في جريان قاعدة التجاوز. وعليه ففي المثالين المذكورين في المتن لا بدّ من الرجوع والإتيان بالسجدة بمقتضى أصالة عدم الإتيان بها ، وبسجدتي السهو لذلك الغير الزائد بناءً على وجوبها لكلّ زيادة ونقيصة.

٢٩٦

[٢١٩٣] المسألة الستّون : لو بقي من الوقت أربع ركعات للعصر وعليه صلاة الاحتياط من جهة الشك في الظهر (١) فلا إشكال في مزاحمتها للعصر ما دام يبقى لها من الوقت ركعة ، بل وكذا لو كان عليه قضاء السجدة أو التشهّد ، وأمّا لو كان عليه سجدتا السهو فهل يكون كذلك أو لا؟ وجهان (*) من أنّهما من متعلّقات الظهر ، ومن أنّ وجوبهما استقلالي وليستا جزءاً أو شرطاً لصحّة الظهر ، ومراعاة الوقت للعصر أهمّ فتقدّم العصر ثمّ يؤتى بهما بعدها ، ويحتمل التخيير.

______________________________________________________

(١) لا إشكال حينئذ في مزاحمتها للعصر وتقديمها عليها ما دام يبقى للعصر مقدار ركعة من الوقت كما أفاده في المتن ، وهذا من غير فرق بين القول بجزئية الركعة على تقدير النقص كما هو الصحيح أو القول بكونها واجباً مستقلا.

أمّا على الأوّل : فظاهر ، إذ الركعة حينئذ من متمِّمات الظهر وأجزائها الحقيقية ، وإن لزم الإتيان بها مفصولة رعاية لسلامة الصلاة عن الزيادة والنقصان ، فما لم يأت بها لم تفرغ الذمّة عن الظهر. ومعلوم أنّ الدخول في العصر مشروط بفراغ الذمّة عن السابقة ، والمفروض التمكّن من الجمع بينهما بمقتضى التوسعة في الوقت المستفادة من حديث مَن أدرك (١).

وأمّا على الثاني : فكذلك ، إذ هي وإن كانت صلاة مستقلّة إلّا أنّها شرعت لتدارك النقص المحتمل ، والإتيان بها واجب فوراً ، فهي أيضاً تعدّ بالأخرة من توابع الظهر وملحقاتها ، فيجري عليها حكمها.

__________________

(*) أوجههما الأوّل.

(١) الوسائل ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي الحقيقة لا مزاحمة بينها وبين أصل صلاة العصر ليتأمّل في تقديمها عليها ، بل بينها وبين شي‌ء من وقته القابل للتدارك بحديث من أدرك ، وإنّما تقع المزاحمة لو لم يبق حتّى مقدار الركعة.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في قضاء السجدة والتشهّد ، فإنّه على القول بأنّهما نفس الجزء وقد تأخّر ظرفه واضح جدّاً ، وعلى القول بالاستقلال فلمكان الفورية ووجوب المبادرة تعدّان من التوابع واللّواحق ، فلا يسوغ تفويت مصلحة الفورية بالتأخير بعد أن كانت مصلحة وقت العصر قابلة للإدراك بمقتضى التوسعة فيه المستفادة من الحديث المزبور.

ومن الواضح أنّ قضاء السجدة لا يحتاج من الوقت مقداراً يمنع من إدراك الركعة ، فلا مزاحمة بينهما بوجه ، نعم لو فرض الضيق إلى هذا الحدّ أو فرض تعدّد السجدات المنسية من ركعات عديدة بحيث لا يتمكّن مع قضائها من إدراك الركعة وقعت المزاحمة حينئذ وكان التقديم مع العصر لأهمِّيّته.

ومن ذلك كلّه يظهر الحال في سجدتي السهو وتقدّمهما على صلاة العصر ، فانّ حكمة التشريع وإن كانت هي إرغام الشيطان كما في النص (١) إلّا أنّ الوجوب فيهما فوري بلا كلام. فلا يسوغ الإخلال به.

وملخّص الكلام : أنّ جميع هذه الموارد تكون من قبيل الدوران بين ما له البدل وما لا بدل له ، ولا ريب في لزوم تقديم الثاني ، فإنّ العصر بدله الوقت التنزيلي الثانوي ، وغيره لا بدل له.

فتحصّل : أنّه مع إمكان إدراك الركعة من العصر لا مناص من تقديم تمام ما هو من توابع الظهر وشؤونها من صلاة الاحتياط وقضاء السجدة أو التشهّد أو سجدتي السهو بمناط واحد حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٥٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣٢ ح ١.

٢٩٨

[٢١٩٤] المسألة الحادية والستّون : لو قرأ في الصلاة شيئاً بتخيّل أنّه ذكر أو دعاء أو قرآن ثمّ تبيّن أنّه كلام الآدمي فالأحوط سجدتا السهو (*) (١) لكن الظاهر عدم وجوبهما لأنّهما إنّما تجبان عند السهو ، وليس المذكور من باب السهو ، كما أنّ الظاهر عدم وجوبهما في سبق اللسان إلى شي‌ء ، وكذا إذا قرأ شيئاً غلطاً من جهة الأعراب أو المادّة ومخارج الحروف.

[٢١٩٥] المسألة الثانية والستّون : لا يجب سجود السهو فيما لو عكس الترتيب الواجب سهواً كما إذا قدّم السورة على الحمد وتذكّر في الركوع (٢) فإنّه لم يزد شيئاً ولم ينقص ، وإن كان الأحوط الإتيان معه لاحتمال كونه من باب نقص السورة ، بل مرّة أُخرى لاحتمال كون السورة المقدّمة على الحمد من الزيادة.

______________________________________________________

(١) بل الأظهر ذلك فيه وفي سبق اللسان ، لعدم إناطة الحكم في لسان الأدلّة مدار عنوان السهو ليدّعى انتفاؤه في المقام ، بل تعلّق بكلّ ما ليس بعمد وإن لم ينطبق عليه عنوان السهو ، بمقتضى إطلاق الدليل حسبما مرّ الكلام حول هذه المسألة مستقصًى في أوّل مبحث سجود السهو فلاحظ (١).

(٢) لاختصاص دليل السجدة بالنقص أو الزيادة في نفس الأجزاء ، وليس الترتيب منها فلا يشمله دليلها.

ولكن الصحيح ما ذكره (قدس سره) أخيراً من الوجوب ، نظراً إلى أنّ الترتيب ليس شيئاً آخر وراء نفس الأجزاء على نهج خاص ولم يكن مثل

__________________

(١) بل الأظهر كما تقدّم ، والأحوط إن لم يكن أقوى وجوبهما في سبق اللسان أيضاً.

(٢) شرح العروة ١٨ : ٣٤٥ ٣٤٦.

٢٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الستر والاستقبال والطهارة التي هي من شرائط الصلاة ويلزم مراعاتها حتّى في الأكوان المتخلِّلة ، وإنّما هو قيد معتبر في نفس الجزء بأن يقع في ظرفه ومحلّه.

ففاتحة الكتاب مثلاً التي هي جزء من الصلاة هي التي تقع بعد التكبيرة وقبل الركوع ، وهكذا. فالجزء إنّما هي هذه الحصّة الخاصّة المتّصفة بهذه الصفة ولا جزئية لغيرها.

وهذا هو معنى الترتيب ، وهو كما ترى ليس بأمر زائد ، وإنّما هو تقيّد الجزء بالقبلية والبعدية. فهو في الحقيقة قيد في نفس الجزء لا في الصلاة بحيث لو أتى بذوات القراءة والركوع والسجود غير مرتّبة يكون قد أتى بالأجزاء وأخلّ بشرط الصلاة.

كيف ولازمه الحكم بالصحّة فيما لو قدّم السجدتين على الركوع سهواً ، لعدم الإخلال حينئذ إلّا بالترتيب الّذي هو مشمول لحديث لا تعاد (١) ، لفرض الإتيان بذاتي الركوع والسجود.

وهو كما ترى ، لبطلان الصلاة حينئذ قطعاً من أجل الإخلال بالركن ، وليس ذلك إلّا لأجل أنّ الترتيب قيد في نفس الأجزاء ، والإخلال به إخلال بالجزء نفسه.

وعليه فلو قدّم السورة على الفاتحة سهواً فقد نقص الجزء ، لعدم الإتيان به في ظرفه ، بل وزاد أيضاً لأنّه أتى بالسورة قبل الفاتحة بقصد الجزئية مع عدم الأمر بها ، وهو معنى الزيادة ، ولذا تكون مبطلة في صورة العمد. فلو بنينا على وجوب السجدة لكلّ زيادة ونقيصة وجب حينئذ تكرار سجدتي السهو مرّة للنقيصة وأُخرى للزيادة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨.

٣٠٠