من وحي الثورة الحسينية

هاشم معروف الحسني

من وحي الثورة الحسينية

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٠

العينين.

وسلام الله على الحسين وأنصاره شيوخاً وشبانا الذين لا تزال ذكراهم حية تثير الاسى والشجن في نفوس المحبين وحتى في نفوس الكثيرين في زماننا هذا من أمثال ابن سعد وأزرق العينين ، ولكن ذلك الاسى سرعان ما يتبخر ولا يعلق من تلك الذكرى وأهدافها السامية في النفوس والعقول إلا صوراً لا تتجاوز عالمها ومحيطها ثم تتبخر وكأنها لم تكن.

وأعود لأكرر بأن المسلمين لو استغلوا ذكراك يا ابا عبدالله وتضحياتك الجسام في سبيل الإسلام وخير الإنسانية ، واستغلوا مولد الرسول وسيرته العطرة الغنية بمعطياتها الذي يحتفلون به في هذه الأيام من كل عام من على منابرهم وبالهتاف والتصفيق في شوارعهم لبضع ساعات ثم يعودون مسرعين إلى نوادي القمار والخمور والبغاء وخدمة اعداء الإسلام بأموالهم وجميع طاقاتهم ، لو استغلوا ذكرى سيد الشهداء ومولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لمرضاة الله ورسوله ولصالح الإسلام والمسلمين وبث الوعي ورص الصفوف في مقابل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين لا لاشاعة الجهل والتفريق والاتجار بالدين وعواطف الناس لكانوا من افضل الأمم وأقواها في مشرق الدنيا ومغربها وسلام الله على الحسين الذي لم يحدث عن مثله التاريخ :

فيا ايهـا الوتـر فـي الخالديـن

فـذا إلـى الان لـم يشفـع

ويا واصـلا مـن نشيـد الخلـود

خـتـام القصيـدة بـالمطلـع

ويا بـن التـي لـم يقـع مثلهـا

كمثلـك حمـلاً ولـم تـرضـع

تعـاليـت مـن مفزع للحتـوف

وبـورك قـبـرك مـن مـفـزع

تمـر الـدهـور فمـن يسجـد

علـى جـانـبـيـه ومـن ركـع

٤١

ورحم الله من قال في وصفه :

اضميـر غيب الله كـيف لك الفنـا

نفـذت وراء حجـابـه المخـزون

وتـصك جبهتـك السيـوف وانهـا

لولا عينيـك لـم تكـن لـيميـن

ما كنت حين صرعت مضعوف القوى

فأقـول لـم تـرفد بنصـر مـعين

امـا وشيبـتـك الـخضيبـة انهـا

لا يـركـل اليـة ويـمـيـن

لـو كنت تستـام الحيـاة لارخصت

منهـا لك الاقـدار كـل ثميـن

اوشئت محـو عداك حتـى لا يـرى

منهـم على الغبراء شـخص قطيـن

لاخـذت افـاق البـلاد عليهـم

وشحنـت قطـريها بجيش منـون

حتـى إذا لم تبق نـافـخ حـزمـة

منهـم بكل مفـتـاوز وحصـون

لكـن دعتك لبذل نفسك عـصبـة

حـان انتشـار ضـلالهـا المـدفون

فـرأيـت ان لـقـاء ربـك بـاذلا

للـنفس افضل مـن بقـاء ضنيـن

٤٢

( ما أروع يومك يا أبا الشهداء )

شموخ مع التاريخ وصمود مع الاجيال يتجلى بكل وضوح في أفق الحياة الواسع ومع سير الزمن السرمدي لا يطويه دوران الايام ولا تنسيه الدهور والأعوام يجدد الآلام ويثير الاحزان والاشجان بالرغم من مرور المئات من الأعوام ذلك هو يومك الخالد يا ابا عبدالله الذي ضربت فيه أمثالا بلغت اقصى حدود السمو في التضحية والفداء وأوضحت المعالم البارزة للسبل التي يجب ان تكون منهجاً لعبور العقبات الصعاب في هذه الحياة فما اروع هذا الخلود وما اسمى معانيه لو برزت بوضوح حقائقها ورسمت دقائق خطوط اهدافها لترفع المشع الوهاج للاجيال المتعاقبة وتلتهم ثمرات تلك المآثر السامية وتستلهم منها الصبر والعقيدة لتحقيق الاهداف التي دعا اليها الاسلام وكافح من اجلها دعاته الوفياء لتطهير الارض المقدسة من دنس الظالمين والغاصبين.

ما اروع يومك يا ابا عبدالله ويا ابا الشهداء ذلك اليوم الذي وقفت فيه تخاطب انصارك وأهل بيتك قائلا : اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما

٤٣

قد علمتم وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا تناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فاني لا ارى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.

فكانت التضحية وكان الداء الذي ادمى القلوب ومزقها وكان النصر حليفه فلقد استقامت بشهادتك يا ابا عبدالله أركان الإسلام وتبين الرشد من الغي وظلت كلمة لا إلا الله محمد رسول الله التي حاربها الحزب الأموي مدوية في الفضاء خالدة في أجوائه خلود يومك.

لقد اراد لها يزيد بن ميسون الفناء بقتلك وأراد الله لك ولها البقاء فبقيت وبقيت مع التاريخ تستنير الاجيال بذكراك ويستلهم منها المخلصون سبل الثورة على الظلم والطغيان وبقي ذكر اولئك الطغاة عارا تتبرأ منه الاحفاد والاجيال وتتبعهم اللعنات ما دام التاريخ.

فما أصبرك يا ابا عبدالله وما اروع يومك حينما وقفت في ارض المعركة وحيداً لا ناصر لك ولا معين تتلفت يمينا وشمالا فلا ترى سوى اصحابك وبنيك واخوتك صرعى على ثرى الطف المديد والاعداء تحيط بك من كل نواحيك تحدق في خيامك الخالدة إلا من النساء والاطفال والصراخ يتعالى من هنا وهناك وأنت تتلوى لهول ذلك المشهد وتلك الحشود الهائلة وقد شهرت أسنة رماحها في وجهك فتغمض عينيك من هول ذلك المنظر ومما حل ببيت الرسالة وأحفاد الرسول فلا تجد من يأويهم ويكفلهم من بعدك.

ثم تتلفت إلى أنصارك فلا ترى سوى الجثث المبعثرة من حولك فما أهوله من منظر وما ارزأها من مصيبة لم يحدث التاريخ بمثلها ومع كل ذلك فلم تلن لأولئك الطغاة ومضيت في ثورتك على الباطل ثورة الإيمان بكل معانيه وأبعاده على الكفر بكل اباطيله تقول : والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد وبقيت خالداً خلود الدهر.

٤٤

لقد تمخضت مواقف الحسين بن علي عليه‌السلام يوم عاشوراء ذلك اليوم التاريخي من خلال ما ارتسم فيها من البطولات والصمود امام تلك الجحافل العاتية عن جلائل المعاني السامية وتجلت من سطورها الدامية روائع من صفحات الإيمان الثابت والعقيدة المخلصة وطفقت تحمل في مشاعلها نزعة الانعتاق من ربقة الاستغلال والاستعباد واندفعت تخط للإجيال أبعاد الكفاح الثوري وترسم للعصور سمات للصمود والثبات وتدفع بالمناضلين المكافحين إلى تعلقهم بما يرسمونه من تخطيط لمعتقداتهم الفكرية وما ينتهجونه من تحديد لمنطلقاتهم النضالية في المسار النضالي وما يحددونه من مواقف جريئة امام تحديات الحاكمين واستغلالهم لخيرات الشعوب وأرزاق العباد.

ان المسار الثوري الذي حفلت به ثورة الحسين عليه‌السلام لقد عزز الكثير من طموح الشعوب المستغلة من اجل انهاض هذه الشعوب وايقاد فتيل الثورة للاطاحة بالنظم المستبدة وايجاد المجتمعات السليمة التي تحقق للشعوب حريتها وكرامتها وطموحاتها في التخلص من الاستغلال وتطوير الحياة وما يضمن لتلك الشعوب أمنها ورفاهيتها.

ان ثورة الحسين تركت في دروب الاحرار المجاهدين والصامدين علامات مضيئة تنير مسالك الكفاح وتمهد الطريق الذي يمكن كل ثائر إذا اعتمد في الدرجة الأولى على نزعة السخاء بالأرواح وبذل الأنفس من اجل العقيدة الثابتة ومن اجل مواقع الصمود للوصول إلى النصر.

ان طرح الحسين الخالد لهذا السخاء العظيم بتقديمه نفسه وذويه وصحبه واستشهادهم إلى جانبه مكن هذه الثورة من الديمومة والبقاء لتكون المنار لكل الثائرين الصامدين عبر مسيرات الانتفاضات الشعبية التي تحدث هنا وهناك ومكن لها الانتصار إذا اقترنت بالنزاهة والاخلاص وبمثل ذلك السخاء الذي قدمه الحسين وأنصاره من اجل الانسان وكرامته. لقد انتصر الحسين عليه‌السلام باستشهاده انتصاراً لم يسجل

٤٥

التاريخ انتصاراً اوسع منه ولا فتحا كان ارضى لله منه ، وكان واثقاً من هذا الانتصار ومن هذا الفتح كما كان واثقاً من هزيمته عسكرياً كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه الى الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق فقد قال فيه : اما بعد فانه من لحق بي استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح.

وكما ذكرنا فالفتح الذي يعنيه الحسين من كتابه إلى الهاشميين هو ما احدثته ثورته من النقمة العامة على الأمويين وما رافقها من الانتفاضات التي اطاحت بدولتهم.

٤٦

( لقد شاء الله ان يراهُن سبايا )

لقد كان محمد بن الحنفية شقيق الحسين في طليعة اولئك الذين حاولوا مع الحسين عليه‌السلام ان لا يستجيب لأهل العراق وأن يبقى بعيداً عنهم وقد ذكره مع من ذكروه بمواقفهم مع أبيه وأخيه وكان قد اشار عليه ان يذهب إلى اليمن أو بعض نواحي البر ولا يذهب إلى الكوفة فوعده الحسين عليه‌السلام ان ينظر في الأمر وفي مطلع الفجر من تلك الليلة اخبر ابن الحنفية ان الحسين عليه‌السلام قد تهيأ للخروج مع اخوته وبني عمومته ونسائه إلى العراق فأقبل عليه وقد اشرف موكبه على التحرك فأخذ بزمام ناقته وهو يبكي واقل له : ألم تعدني النظر فيما سألتك فما حداك على الخروج عاجلا؟ فردّ عليه الحسين قائلا : لقد جاءني رسول الله بعد ما فارقتك وقال لي : لقد شاء الله ان يراك قتيلاً فاسترجع ابن الحنفية وقال : إذا كان الأمر كما تقول ، فما معنى حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية ، فقال له : لقد شاء الله ان يراهن سبايا.

بهذا الجواب القصير وبهاتين الكلمتين بما لهما من المدلول الواسع

٤٧

وبدون مواربة او تمويه اجاب الحسين اخاه محمد بن الحنفية وعيناه تنهمر بالدموع والالم يحز في قلبه ونفسه ، وكما قال ابو عبدالله عليه‌السلام لقد شاء الله ان يراهن سبايا كما شاء ان يراه قتيلا موزع الاشلاء هو ومن معه من اسرته وأصحابه على ثرى الطف ، لان سبيهن بعده من بلد إلى بلد لم يكن أقل اثرا على تلك الدولة الجائرة وعلى تلك الاسرة التي تكيد للإسلام من شهادته ان لم يكن أشد وقعاً على نفوس المسلمين من استشهاده.

لقد كان لسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلى بلد اثراً من اسوأ الآثار على الأمويين ودولتهم وكان الجزء المتمم للغاية التي ارادها الحسين من نهضته فلقد أثار الاحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف اسرار الامويين وواقعهم السيء للقاصي والداني وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان ان الأمويين من ألد اعداء الاسلام يبطنون الكفر والالحاد ويتظاهرون بالإسلام رياء ودجلا ونفاقاً. وفي الوقت ذاته فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة الى العلويين ومبدأ التشيع لأهل البيت ولعن من شايع وتابع وبايع على قتل الحسين ، وقد أشارت إلى ذلك العقيلة الكبرى في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء : فوالله ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك.

لقد حملهم معه وهو على يقين بأن الأمويين سيطوفون بهم في البلدان إلى ان يصلوا بهن إلى عاصمتهم الشام وسيراهم كل انسان مكشفات الوجوه وفي أيديهم الاغلال والسلاسل وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة على الأمويين والأسف والحزن لآل بيت نبيهم الذي بعث رحمة للعالمين.

وجاء في كتاب المنتخب ان عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي

٤٨

الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم اليهم الف فارس وأمرهم بايصال السبايا والرؤوس إلى الشام.

ويدعي ابو مخنف انهم مروا بهم بمدينة تكريت وكان اغلب اهلها من النصارى فلما اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزنا على الحسين وقالوا : انا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم فلم يجرأوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية.

وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والاعراض والتوبيخ كلما مروا بدير من الاديرة او بلد من بلاد النصارى ، وحينما دخلوا مدينة لينيما وكانت عامرة يومذاك تظاهر اهلها رجالاً ونساء وشيباً وشبانا وهتفوا بالصلاة والسلام على الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة وتعالى الصراخ من كل جانب ، وأرادوا الدخول إلى جهينة من بلاد سورياً فتجمع اهلها لقتالهم فعدلوا عنها واستقبلتهم معرة النعمان بالترحاب بلدة المعري الذي يقول :

أليس قريشكـم قتلـت حسينـاً

وصـار علـى خلافتكـم يزيـد

وقال : وعلى الافق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان.

وحينما اشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم : والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد ان منعتم الحسين وأصحابه منه ، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين : اكفرا بعد ايمان وضلالا بعد هدي ، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم ٢٦ فارساً ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة فدقت الطبول وقدموا لهم الطعام والشراب.

٤٩

وجاء عن سبط بن الجوزي عن جده انه كان يقول : ليس العجب ان يقتل ابن زياد حسينا وانما العجب كل العجب ان يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال.

قد رأى الناس في السبايا من الفجيعة اكثر مما رأوه في قتل الحسين وهذا ما اراده الحسين عليه‌السلام من الخروج بالنساء والصبيان ، ولو لم يخرج بهن لما حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته وهو انهيار تلك الدولة الجائرة.

ولو افترضنا ان السيدة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة بقيت في المدينة وقتل اخوها في كربلاء فما عساها تصنع وأي عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب واقامة العزاء؟ وهل كان يتسنى لها الدخول على ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهرنا من الرجس تطهيراً انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا ابن مرجانة ، وهل كان بامكانها ان تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء وهو مزهو بملكه وسلطانه وتلقى تلك الخطب التي اعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده وقالت له فيما قالت : أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله من بلد إلى بلد ، ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، إلى غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيرت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته مما اضطره لان يتنصل من تلك الجريمة ويلعن ابن زياد ويحاول ان يحمله مسؤوليتها بعد ان بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقرى التي مر بها موكب السبايا واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلى اهل بيته ، وبعد ان رأى الوجوه تغيرت عليه حين وقفت في مجلسه ذلك الموقف التاريخي الذي

٥٠

لا يزال حديث الاجيال بعد ان رأى ذلك وسمع ما احدثه موكب السبايا في نفوس الناس وقلوبهم وبخاصة بعد ان عرف الناس في عاصمته وخارجها ان هذا الموكب لآل الرسول وبناته جعل يتنصل من تلك الجريمة ويحمل أوزارها لابن زياد ومعاونيه. لقد كان باستطاعة يزيد ومعاونيه لو لم يتعرض لأسر النساء والاطفال وسبيهن من بلد إلى بلد ان يموه على الناس ويقول لهم لقد نازعني الحسين ملكي وقاتلني فقتلته ، ولكنه بعد ان صنع مع النساء والاطفال ما صنع من الاسر والسبي والامتهان ضاقت عليه الحجج والذرائع ولم يعد امامه إلا ان يتنصل منها ويضع مسؤوليتها على غيره حيث لا يجديه التنصل ولا تستره الاعذار وقد أيقن بعدها الكثير من الناس بأنه كان في عمله هذا مسيرا لامويته الحاقدة على بيت محمد ورسالته ، ولو انه ترك النساء والاطفال بعد تلك المجزرة وشأنهم ولم يعاملهم بتلك المعاملة التي لم يعامل المسلمون بها اسرى المشركين ونسائهم لم يكن لجريمته كل ذلك الصدى الذي هز العالم الإسلامي بكل فئاته وطبقاته.

لقد كان الحسين يرى من وراء الغيب بأن شهادته وحدها لا تعطي النتائج المطلوبة ولا تحقق له جميع اهدافه ما لم تقترن بسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلى بلد ليتاح لشقيقته العقيلة ان تؤدي دورها ورسالتها فقال لاخيه ابن الحنفية وهو يتململ بين يديه باكياً حزيناً : لقد شاء الله ان يراني قتيلاً وأن يرى نسائي وأطفالي سبايا وكان على أمية وحفيدها يزيد بن ميسون لو كانت تملك ذرة من الوفاء والشرف ان تعود إلى الوراء قليلاً لترى ما فعله جد زينب والحسين وبقية العلويين والعلويات مع ابي سفيان وزوجته هند بنت عتبة التي مثلت بعمه الحمزة وأكلت من كبده وكيف عاملهما بالعفو والصفح وجعل لهما ما لم يجعله

٥١

لاحد من مشركي مكة وطواغيتها ، ورحم الله بعض الشعراء الذي ذهب يعاتب الامويين بقوله :

وعليك خـزي يـا أميـة دائـم

يبقى كمـا فـي النـار دام بقـاك

فلقـد حملت مـن الآثام جهالـة

مـا عنه ضـاق لمن دعاك دعاك

هلا صفحت عن الحسين ورهطه

صفـح الوصـي ابيـه عـن أباك

وعففت يـوم الطف عفة جـده

المبعـوث يـوم الفتـح عـن طلقاك

أفهل يـد سلبـت امـاءك مثلما

سلبت كـريمات الطفـوف يـداك

ام هـل بـرزن بفتح مكة حسرا

كنسائـه يـوم الطفـوف نسـاك

ورحم الله القائل في وصف السبايا :

وزاكية لم تلق في النوح مسعـدا

سـوى انهـا بالسوط يزجرها زجر

ومذعورة اضحت وخفـاق قلبها

تكـاد شظـاياه يطيـر بهـا الذعر

ومذهولة من دهشة الخيل ابرزت

عشيـة لا كـهف لـديها ولا خدر

تجاذبها أيـدي العـدو خمارهـا

فتستـر بالأيـدي إذا أعـوز الستر

٥٢

سرت تتراماهـا العداة سـوافرات

يروح بها مصر ويغـدو بها مصر

تطوف بها الاعداء فـي كل مهمة

فيجـذبها قفـر ويقـذفهـا قفـر

٥٣

( بطولات الشباب في كربلا )

إذا كانت مطامح الشباب عيشا رغيدا ومستقبلا سعيدا حافلا بكل ألوان النعيم كما نشاهد ونرى فشباب كربلاء كانت كل امانيهم ومطامحهم صموداً في الأهوال وصبراً في البأساء واستشهاداً بحد السيوف ، ولم يكن لتلك الفتوة الغضة والصبا الريان ان تهتم او تفكر بما أعد لها من غضارة الدنيا وما ينتظرها من صفو الحياة ولهوها ومتعها بل كان كل همهم التطلع إلى أي سبيل من سبل الشهادة يعبرون وأي موقف من مواقف البطولات يقفون.

هناك وعلى مشارف العراق وفي الطريق إلى كربلاء كان الحسين عليه‌السلام يسير على رأس قافلة الشباب الابطال متحديا اقوى سلطة وأبشع طغيان وأسوأ من عرفه التاريخ من الحاكمين متحديا كل ذلك بسبعين من الرجال والشباب ليحطم بهذا العدد القليل قوى الشر والطغيان ومعاقل البغي والعدوان وليعلم ابناء آدم كيف يموتون في سبيل العزة والكرامة.

٥٤

كان يسير ابو عبدالله على رأس تلك القافلة ممن اصطفاهم الله إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها تحفظ لشريعة جده مما كان يخططه لها الحزب الاموي الحاكم الذي سخر جميع طاقات الامة وامكانياتها وفئاتها للقضاء عليها.

كان يسير إلى الشهادة ومن حوله عشرون شابا او اكثر من بنيه واخوته وأبناء أخيه الحسن السبط عليه‌السلام وأبناء اخته بطلة كربلاء وشريكته في الجهاد والتضحيات وأحفاد عمه عقيل بن أبي طالب وما اسرع ان كبّر قائلا : الله اكبر ، ولم يكن الموقف موقف تكبير فلا بد وأن يكون تكبيرة لأمر ما أو لهم من همومه أراد ان يستنجد عليه بالله سبحانه وإذا كان للتكبير روعته مهما كانت دوافعه وأسبابه فما احسب أن تكبيراً في تلك الساعة كان له من الروعة ما كان لتكبير الحسين عليه‌السلام وهو منطلق في تلك الصحراء المديدة إلى الهدف الاسمى والغاية العليا تحت سماء العراق الصافية. على رأس ذلك الركب كبّر الحسين فكانت تكبيرة لم يعرف التاريخ تكبيراً اكثر منها دويا ، تكبيرة اقتحمت تلك البيداء ومضت من صعيد إلى صعيد تهز النفوس وتثير الضمائر الحية وتحض على الظالمين والعابثين بتراث محمد ورسالته.

وما كان لعلي الاكبر ابن العشرين الذي كان يسير الى جنب ابيه إلا ان يسأل أبال لم كبّرت يا أبتاه؟ فقال له : لقد خفقت خفقة فعنّ لي هاتف وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير في اثرهم فعلمت ان نفوسنا نعيت الينا.

لقد كان جواب الحسين لولده موجزا وبكلمة واحدة لا مواربة فيها ولا تمويه انه الموت ينتظرنا على الطريق وسوف نموت ولا نستسلم للطغاة ولا نهادن الجور والتسلط على عباد الله والمستضعفين في الأرض ، مع انه لا سبيل لنا إلى استنهاض ثورة عارمة تدك عروش اولئك الطغاة

٥٥

بقوتها المادية تنتصر عليهم بقوة السلاح وكثرة الرجال.

ان سبيلنا الوحيد هو بين أيدينا ورهن ارادتنا وهو ان نكون وحدنا الثورة ومن غير المعقول ان نتغلب بهؤلاء السبعين على ألوفهم ونهزم بهم سبعين الفا من رجالهم ولكن باستطاعتنا ان نقلب الدنيا على رؤوسهم إذا ضحينا وقتلنا في سبيل الإسلام ورسالته.

وكان الحسين عليه‌السلام وهو يلقي كلماته هذه على ولده علي الأكبر ابن العشرين وأشبه الناس بجده الرسول الأمين خَلقا وخُلقا يريد ان يسمع رأي ولده الأكبر ولم ينتظر الإمام طويلاً حتى سمع جواب الشاب الذي بادره بقوله : يا أبتاه لا أراك الله سوء أولسنا على الحق ، هذا هو القول الفصل عند علي بن أبي طالب وأبنائه شيوخاً وشباباً والقرار الأول والأخير انهم يسعون إلى الحق ويعملون من اجله ويحاربون الباطل وحيث يكون الحق فهو هدفهم وغايتهم مهما كلفهم ذلك من جهود وتضحيات.

أولسنا على الحق يا أبتاه؟ هكذا كان جواب الأكبر ابن العشرين لابيه ، وكان رد الحسين عليه‌السلام : بلى والذي إليه مرجع العباد ، ورد عليه ولده بقوله : اذن لا نبالي بالموت ما دمنا نموت محقين.

ان الحسين عليه‌السلام لم يكن ينتظر من ولده غير هذا الجواب ولكنه لم يتمالك إلا ان يزهو بمثل هذه الروح التي يحملها شاب في مطلع شبابه فرد عليه قائلا : جزاك الله من ولد خير ما جزي ولداً عن والده.

ان علي الأكبر بكلماته هذه لم يكن يعبر عن نفسه وروحه خاصة بل كان يتكلم باسم الشباب العشرين من أحفاد ابي طالب وكان يعلن قرارهم الاخير الذي هاجروا من المدينة لاجله وكان في طليعة اولئك الشباب العشرين العباس بن علي اكبرهم سنا وكان الحسين يحبه حب الأخ لأخيه والوالد لولده الوحيد وللعباس من المؤهلات والصفات الفاضلة ما جعله

٥٦

محببا لكل عارفيه ، وكما تكلم الأكبر باسم الطالبيين جميعاً فقد تكلم العباس باسمهم بمناسبة اخرى وبنفس الروح والعزيمة والاستهانة بالحياة التي كان يحملها الأكبر وذلك عندما عرض عليه ابن ذي الجوشن الأمان لاتصال أمه أم البنين بنسبه فرد عليه العباس بعد أن أمره الحسين بالرد عليه قائلا : لعنك الله ولعن امامك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، ولقد كرروا تصميمهم على التضحية في سبيل الحق الذي يمثله الحسين مرة أخرى وذلك عندما جمع الحسين أنصاره وأهل بيته وأذن لهم بالإنصراف وقال : ان القوم لا يريدون غيري وقد اذنت لكم بالإنصراف في ظلمة هذا الليل فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وكان أول المتكلمين باسمهم جميعاً العباس بن علي فقال : ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك يا ابا عبدالله لا أراني الله ذلك ابدا ، وتتابعوا جميعاً على الكلام بنفس الروح واللغة التي تكلم بها العباس.

وفي اليوم العاشر من المحرم اليوم الحاسم الرهيب كان الشباب أحفاد ابي طالب يتسابقون إلى الموت بأرواحهم الطيبة السخية بالبذل والفداء في سبيل الحسين ، وكما كان الأكبر يتكلم باسمهم ويعبر عما في نفوسهم وضمائرهم فقد كان اول شهيد من اولئك الشباب الابطال وحينما اقبل على المعركة قال :

انا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بـالنبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

وتناولته السيوف والرماح بعد ان فتك بهم فتكا ذريعاً وقتل نحوا من مائتين من فرسانهم وأبطالهم الاشداء وأدى للبطولة حقها وللشهادة كرامتها وتتابع الطالبيون من بعده شاباً بعد شاب دفاعا عن الحق

٥٧

والعقيدة وكرامة الإنسان ومبادئ الإسلام مطمئنين بالمصير الذي أعد لهم والنصر المبين.

عشرون شاباً من نسل ابي طالب وأحفاد محمد بن عبدالله رفضوا الذل والهوان ومشوا إلى الموت بأنوف شامخة ورؤوس مرفوعة عالية لحماية الإسلام من الوثنية والجاهلية الرعناء التي حمل لوائها يزيد بن ميسون بعد أبيه معاوية وجده ابي سفيان عدو الإسلام الأكبر الذي ارغمه الإسلام على الإستسلام عام الفتح ووقف بين يدي محمد بن عبدالله ذليلاً يستجديه العفو والصفح. مشوا إلى الموت يرددون مقالة جدهم ابي طالب وهو يخاطب ابا سفيان وحزبه يوم كانوا يطاردون النبي في مكة ويسومونه كل أنواع العسف والجور ويساومون ابا طالب ليتخلى عنه وهو يقول لهم :

كذبتـم وبيت الله نخلـي محمـداً

ولمـا نطاعـن دونـه ونناضـل

وننصـره حتـى نصرع حـولـه

نذهـل عـن ابنائنـا والحلائـل


ان ابا طالب حينما أنشد هذين البيتين لم يقصد بهما نفسه ولا جيله من الهاشميين والطالبيين بل كان يقصد بهما كل هاشمي من نسله ويناشد كل جيل من أحفاده ان يضحي بنفسه وبكل ما لديه عندما يرى رسالة محمد معرضة للتحريف والتزوير والاستغلال كان يخاطبهم من وراء الغيب أينما وجدوا ليكونوا حماة لرسالة محمد ونهجه ، وهكذا كان فلقد نفذوا جميع وصاياه وناضلوا وضحوا بأنفسهم من اجلها حتى استشهدوا حول الحسين تاركين للعالم وللتاريخ صوراً ناصعة من الوفاء ودروساً غنية بالعطاء والمثل العليا تستلهم منها الاجيال كل معاني الخير والنبل والفضيلة.

٥٨

لقد نفذ احفاد ابي طالب كل وصاياه ووقفوا في وجه اولئك الجلادين والفراعنة أحفاد ابي سفيان يناضلون ويدافعون عن رسالة محمد وتعاليم محمد بنفس الروح والعزيمة التي كان جدهما ابا طالب يدافع ويناضل بهما ويقول لابن اخيه :

والله لن يصلوا اليك بجمعهم

حتى اوسد في التراب دفينا

ولقد علمت بأن ديـن محمد

مـن خير اديان البرية دينا

ان ابا طالب الذي وقف إلى جانب الدعوة ودافع وناضل عنها وعن صاحبها بكل ما لديه من مال وجاه وقوة منذ ان بزغ فجرها ولم يتنازل عن مواقفه منها بالرغم من مغريات قريش وجبروتها وفي الوقت ذاته كان يعلن بكل مناسبة بأن دين محمد من خير أديان البرية ويأمر بنيه ذويه بالسير على خطا باعثها وحاميها واعتناق الإسلام ، ان ابا طالب صاحب هذه المواقف الكريمة الخالدة لقد مات كافرا وفي ضحضاح من نار عند اخواننا اهل السنة ومعاوية وأبا سفيان الذين لم يفارقا الأصنام ولم يتنازلا عن وثنيتهما لحظة واحدة كما تؤكد ذلك مواقفهما من الإسلام وحماة الإسلام في عشرات المناسبات ، ماتا مسلمين مؤمنين ومن عدول الصحابة. وعشرات الشواهد تدل على ان ابا طالب سلام الله عليه لا ذنب له عند الامويين ورواتهم ومحدثيهم إلا انه والد الإمام علي بن ابي طالب الذي ضعضع كبريائهم وداس عنصريتهم ووثنيتهم بقدميه في بدر وأحد والأحزاب ، وفضح مخططاتهم في سيرته وسلوكه وسياسته ، ولو استطاعوا ان يلصقوا به الشرك لم يقصروا ، ومع ذلك فقد وضع لهم ابو هريرة وابن جندب وكعب الأحبار والزبيريون وابن شهاب الزهري عشرات الأحاديث في ذمه وتجريحه ولعنوه على منابرهم نحواً من مائة عام

٥٩

ولكنهم كانوا بما اقترفوه في حقه كأنهم يأخذون بضبعه إلى السماء وكأنهم كانوا ينشرون جيف الحمير فيما وضعوه من الأحاديث في فضل بعض الصحابة والأمويين على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة لولديهما.

ومهما كان الحال فستبقى مواقف انصار الحسين وشباب كربلاء بالذات في سبيل الحق والمبدأ والعقيدة مثلا كريماً لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله وسلام الله عليهم وعلى جدهم ابي طالب حين ولدوا وحين استشهدوا وحين يبعثون مع الأنبياء والصديقين وشهداء بدر وأحد ورحمته وبركاته.

ونتمنى على شبابنا الذين ينشدون التحرر من الاستغلال والاستعباد وتسلط الحاكمين ان يرجعوا إلى تعاليم الإسلام وسيرة اهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من وثنية الأمويين وعنصريتهم ومن كل ما هو غريب عن الإسلام وبعيد عنه ونتمنى عليهم ان يرجعوا ايضاً إلى مدرسة كربلاء ليقتدوا بشبابها الذين كانوا ثورة عارمة على الظلم والتسلط والاستغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان وسيجدون فيها وفي الإسلام ما يغنيهم عن تلك المبادئ المستوردة من هنا وهناك والتي تنطوي على اسوأ انواع التسلط واستعباد الشعوب باسم الحرية والعدالة والديمقراطية وما إلى ذلك من الشعارات البراقة الجوفاء التي يتاجرون فيها لتضليل الشعوب والبريئين من الناس ومنه سبحانه نستمد لهم الهداية والوعي السليم ليدركوا ما تنطوي عليه تلك المبادئ من تضليل وهدم للقيم والأخلاق واستغلال للضعفاء انه قريب مجيب.

لقد اوصى الحسين اهل بيته بالصبر بعد ما استشهد جميع اصحابه ولم يبق معه إلا اولئك الشباب من ولده وولد علي وجعفر وعقيل والحسن السبط فاجتمعوا يودع بعضهم بعضاً وهم في مطلع شبابهم

٦٠