من وحي الثورة الحسينية

هاشم معروف الحسني

من وحي الثورة الحسينية

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٠

الجيش في طليعة الخونة الذين انحازوا الى جانب معاوية لقاء مبلغ من المال كما فعل غيره من قادة العراق ، ولما جاء دور الحسين وأصبح مستهدفا ليزيد بن معاوية وفرضت عليه أحداث يزيد وأبيه من قبله معركة الطف التي ضحى فيها من اجل الاسلام والانسان بنفسه وأهله وأطفاله لم يشترك فيها احد من العباسيين لا من شيوخهم ولا من شبابهم ، وقامت المعركة بسواعد الطالبيين كما لم يشتركوا في معركة زيد بن علي ولا في غيرها من معارك الموالين لاهل البيت مع أعدائهم التي كانت تحركها روح كربلاء وتمدها بالصبر والتضحية الى ابعد الحدود.

وحينما وجدوا ان مصلحتهم تلتقي مع التباكي على الحسين والعلويين وقفوا الى جانب العلويين وشيعتهم وتظاهروا بالدعوة اليهم وحينما وصلوا الى الحكم لم يختلفوا عن الامويين في شيء لا في الظلم والقسوة ولا في الفسق والفجور ولا في شيء لا في الظلم والقسوة ولا في الفسق والجور ولا في الاستهتار والزندقة ، وقديما قيل ان الغاية تبرر الواسطة فقطع الرؤوس وهدم الدور على الاحياء وزج الابرياء والصلحاء في السجون كل ذلك سهل ومألوف لدى اصحاب المطامع والاهواء ما دام يوفر الحكم والتسلط على عباد الله ، لقد ارسل ابراهيم الملقب بالإمام الى ابي مسلم الخراساني بأن يستعمل السيف ولا يرحم صغيراً او كبيراً ، وكان فيما كتبه اليه كما جاء في رواية المقريزي من كتاب النزاع والتخاصم : وان استطعت ان لا تدع في خراسان من يتكلم بالعربية فافعل وأيما غلام بلغ خمسة اشبار تتهمه فاقتله واقتل جميع من شككت فيه ، كان ذلك منه كان في خراسان من العرب كانوا يميلون الى الامويين.

لقد اوصى ابراهيم العباسي دعاته في خراسان ونواحيها بقتل جميع من يشكون فيه ويتهمونه بموالاة الامويين كما اوصى معاوية عماله في جميع المقاطعات الاسلامية بقتل الشيعة وكتب اليهم كتابا جاء فيه : انظروا

١٨١

من تتهموه بموالات اهل البيت فنكلوا به واهدموا داره ، ان معاوية الاموي وابراهيم الهاشمي لم يأمرا بذلك إلا لأن مصلحتهما تقتضي ذلك وحينما تتحكم المصالح بالإنسان لم يعد يرى غيرها ويستحل كل شيء في سبيلها.

لقد حكم الفاطميون والبويهيون وغيرهم ممن كانوا ينتسبون الى الشيعة ولم يختلفوا عن غيرهم من الحاكمين الا بطلاء خفيف من التشيع وأداء بعض الطقوس الشيعية وكانوا يمارسون كغيرهم جميع انواع المنكرات ويستحلون كل شيء يتعارض مع مصالحهم ، ونظرا لأن الدين وحده هو الذي يسير الإنسان في الطريق الصحيح ويضع حدا لنزواته وشهواته كانت العصمة او العدالة في الحاكم من الضرورات التي لا يجوز تجاهلها بحال من الأحوال.

وجاء في المجلد الرابع من ابن الاثير ان السفاح ارسل محمد بن حول واليا على الموصل فامتنع اهلها عن طاعته وسألوا السفاح ان يولي عليهم غيره فأرسل اخاه يحيى في اثني عشر الف مقاتل فخافه اهل الموصل والتزموا منازلهم فنادى بالأمان ، ولما زال من نفوسهم ما يحاذرونه منه فتك بهم وقتلهم قتلا ذريعاً واسرف في القتل حتى غصت الارجل في الدماء ، فلما كان الليل سمع صراخ النساء والاطفال فأمر جلاديه بقتل النساء والأطفال وما بقي من الشيوخ واستمر القتل والتنكيل بالابرياء والنساء والاطفال ثلاثة أيام.

لقد بقي عبدالله الملقب السفاح اربع سنين في الحكم قضاها في تتبع فلول الأمويين وما يشك في ولائه للبيت العباسي كأبي سلمة الخلال وأصحابه الذين كانوا يحاربون معه من الشيعة الى جانب ابي مسلم الخراساني لصالح البيت العلوي واشتهر بهذا اللقب لكثرة من قتله من الأمويين وغيرهم ، ولم يكن الحجاج بن يوسف مولعا بالقتل

١٨٢

والتشفي من أخصامه اكثر من السفاح ، بل يمكن القول بأنه لم يصل الى مستوى الخليفة الهاشمي من هذه الناحية فلقد نص المؤرخون انه استدرج من الأمويين ثمانين رجلا وأعطاهم الأمان وأمرهم بأن يحضروا لاخذ جوائزهم وعطائهم ويتناولوا معه الطعام ، فلما حضروا أمر بقتلهم ثم بسط عليهم فراشا ووضع الطعام عليه وجلس هو وأصحابه يأكلون فوقهم وهم يضطربون ويستغيثون الى ان نزفت دماؤهم وماتوا عن آخرهم ولما فرغ من تناول الطعام قال : ما اكلت اكلة قط أهنأ ولا اطيب من هذه الاكلة.

ومهما بالغ الامويون في الجرائم وأسرفوا في قتل الابرياء والصلحاء كما هو واقعهم فالإسلام لا يقر الاقتصاص منهم بهذا النحو ولو انتهى الحكم بعد الأمويين الى العلويين لم يبلغ بهم التشفي الى هذه الحدود ولا أعتقد انهم كانوا يقتلون بريئاً بمجرم ولا ينسون كلمة جدهم امير المؤمنين عليه‌السلام الذي عفا من عمرو بن العاص في صفين وعن مروان بن الحكم في البصرة وهما رأس الفتن يومذاك وسقى معاوية وجنده الماء بعد ان منعه معاوية عن اهل العراق وكادوا يموتون عطشا لا ينسون كلمته التي كان يرددها : اذا قدرت على خصمك فاجعل العفو شكرا على المقدرة والذي كان يقول : اذا ظفرك بخصمك فليكن العفو احلى الظفرين ، وكانوا يسيرون على خطاه اذا كانوا من المعصومين حقا ، وإذا لم يكونوا منهم فلا أعتقد بأنهم سيسرفون في اراقة الجماء اسراف غيره.

وجاء في تاريخ ابن الاثير ان داود بن علي بن عبدالله لما اراد ان يقتل من كان في المدينة ومكة من الأمويين وأنصارهم جاءه عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط عليه‌السلام وقال له : يا بن العم إذا قتلت هؤلاء فيمن تباهي بالملك؟ أما يكفيك ان يروك غاديا رائحا فيما بذلهم ويسوءهم

١٨٣

فلم يقبل منه وقتلهم عن آخرهم.

لقد كانت السنوات الأربع التي حكم فيها السفاح مرحلة انتقالية بين عهدين عهد مضى وعهد أطل على العالم الإسلامي استقبله المسلمون بشوق ولهفة وبخاصة الشيعة الذي قام على أكتافهم وبني بسواعدهم راجين ان يحقق لهم عدالة الإسلام ورحمته وسماحته ولكن آمالهم قد تبددت وظنونهم قد خابت فما ان استتبت لهم الأمور وقضوا على أخصامهم الاساسيين حتى عادوا الى سيرتهم وسياستهم ولكن بشكل اسوأ وأفظع مما كانوا عليه.

صحيح لم يتعرض السفاح في عهده لأحد من العلويين وشيعتهم ولكن ذلك لم يكن منه شرفا ووفاء لمن مهدوا له الأمور وأجلسوه على كرسي الحكم بل لأنه كان يتتبع فلول الأمويين ويطاردهم من مكان الى مكان وخلال تلك المدة بالإضافة الى الشطر الأخير من عهد الأمويين حيث كانت الدولة في طريقها الى الانهيار وجد الإمامان الباقر والصادق عليهما‌السلام فرصة مؤاتية لبث علوم أهل البيت ونشرها بين الناس وللوقوف في وجه تلك التيارات الغريبة التي غزت الفكر الإسلامي ومهد لها الحاكمون لإلهاء المسلمين بتلك الصراعات العقائدية عن واقعهم المرير.

لقد وقف الائمة من أهل البيت في وجه تلك التيارات الغريبة التي غزت القلوب والافكار بحزم وصلابة وتركوا للعالم صورا عن العقيدة الإسلامية خيالة من كل ما كان يخططه لها الحاقدون من زيف وتحريف. بعد الرقابة الشديدة والتهديد بالقتل لمن كان يروي حديثا عن علي وبنيه او ينسب لهم فضلا او اثرا كريما ، وكان يروي حديثا عن علي وبنيه او ينسب لهم فضلا او اثرا كريما ، وكان علماء التابعين اذا ارادوا ان يحدثوا عن علي يتحاشون التصريح باسمه فيقولون روي عن ابي زينب وجاء عن ابي حنيفة انه كان يقول : لقد كانت العلامة بيننا وبين المشايخ

١٨٤

اذا اردنا ان ننقل عن علي عليه‌السلام ان نقول قال الشيخ حتى لا نتعرض للأذى والمطاردة وكان من آثار تلك الفترة الانتقالية التي امتدت من اواخر العهد الأموي الى السنين الأولى من عهد المنصور شيوع الحديث والآثار العلية التي اغنت المكتبة العربية في مختلف العلوم وبخاصة ما كان منها في التشريع والفلسفة والأخلاق والتفسير وغير ذلك من أنواع المعرفة ، وقد انتشر التشيع في تلك الفترة وأحس الناس بالإنفراج وراحوا يتحدثون عن العلويين وآثارهم في كل بلد ومكان فدب الخوف في نفس المنصور وأسرته فأخذوا يقربون فقهاء المذاهب ويعملون على انتشار آثارهم واعتنقوا هم مذاهبهم للحد من انتشار التشيع ومذهب اهل البيت واشتدت الحملات المسعورة على العلويين وبدأت الفجوة تتسع بين البيتين حتى بلغت اقصى حدودها.

قال المسعودي في مروجه والمقريزي في كتابه النزاع والتخاصم : ان المنصور جمع ابناء الحسن وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم وحملهم في محامل مكشوفة للناس وبغير وطاء كما فعل يزيد بن معاوية بأسرى كربلاء وأودعهم مكانا تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ولا اوقات الصلاة وعز عليهم ان تفوتهم الصلاة حتى وهم في أشد الأحوال ضيقاً وحرجا فجزأوا القرآن خمسة أجزاء وكانوا يصلون عند فراغ كل واحد من حزبه ، ويقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم فاشتدت عليهم الروائح الكريهة وتورمت أجسامهم وماتوا من الجوع والعطش والمرض.

وجاء في المجلد الرابع من ابن الاثير ص ٣٧٥ ان المنصور دعا محمد ابن عبدالله بن عثمان وكان شقيقا لعبدالله بن الحسن من امه فأمر بشق ثيابه حتى بانت عورته وضربه مائة وخمسين سوطا فأصاب سوط منها وجهه فقال للجلاد : ويحك اكفف عن وجهي ، فسمعه المنصور فقال

١٨٥

للجلاد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطا فأصابت سياطه احدى عينيه فسالت على وجهه. ومضى ابن الاثير يقول : وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن وكان يعرف بالدبياج لجمال صورته فقال له : انه الديباج الاصغر لأقتلنك قتلة لم اقتلها احدا ، ثم أمر به فبني عليه أسطوانة وهو حي فمات منها.

ومع كثرة الجرائم التي ارتكبها الامويون مع العلويين وشيعتهم فلم يحدث التاريخ عن احد منهم انه كان يعذب ويقتل بهذا النحو ونظراً لأنهم كانوا يتفنون في جرائمهم بشكل لم يسبقهم اليه احد ، قال بعض الشعراء : والله ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس.

وطلب الدوانيقي القاسم بن ابراهيم طباطبا ففر منه إلى بلاد السند ، فأرسل في طلبه وهو يقر من بلد الى بلد على قدميه حافيا والدم يسيل منهما فقال :

عسى جابر العظيم الكسير بلطفه

سيرتـاح للعظم الكسـير فيجبر

عسى الله لا تيأس مـن الله أنه

ييسر منـه ما يعـز ويعسر

وقد ذكرنا سابقا بعض جرائمه خلال حديثنا عن زيارة الشيعة لقبر الحسين وقبور الائمة والاولياء ، وكان هو يتباهى بجرائمه ويقول : لقد قتلت من ذرية فاطمة الفا او يزيدون هذا بالإضافة الى عشرات الالوف الذين أبادهم وشردهم في الآفاق ، وكان يتفنن في اساليب القتل والتعذيب بنحو لم يعرف عمن سبقه من الحاكمين كما تتفنن الدول الكبرى في عصنا الحالي باختراع وسائل الخراب والدمار والتسلط على عباد الله والشعوب الضعيفة وكما تتفنن دول البترول بوسائل اللهو الطرب والفساد ومعاشرة الشقراوات اللواتي يتهافتن عليهم من كل انحاء اوربا ، وكان المنصور مع تلك الجرائم بقرابته القريبة من رسول

١٨٦

المحبة والعفو والرحمة كما تتباهى دول البترول بعروبتها واسلامها وتستعمل جميع امكانياتها لمساعدة حكم العراق في حربهم لمن يسمونهم بالمجوس في حين ان اسرائيل جاثمة على رؤوسهم وقلوبهم تعلن عن أطماعها في بلادهم وخيراتها.

وبعد ان استعرض المقريزي جرائم المنصور وما ارتكبه مع العلويين وغيرهم قال : وأين قال الجور والقسوة الشنيعة مع القرابة القريبة من رحمة النبوة ، وتالله ما هذا من الدين في شيء بل هو من باب قول الله سبحانه فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم اولئك الذين لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم.

هذا كله بالإضافة الى ما كان يصنعه المنصور مع الإمام الصادق من التهديد والوعيد بين الحين والاخر ولكن الله سبحانه أنجاه من شره ومن وعيده وتهديده وهلك المنصور وذهب في متاهات الفناء مع الجبابرة والطغاة وبقي جعفر الصادق مع الخالدين من ذوي الرسلات الى قيام يوم الدين.

وكان المنصور مع كل ذلك يقرب اليه العلماء والوعاظ ليستر بذلك جرائمه ، وجاء في المجلد الاول من عقد الفريد ان المنصور كان يجلس والى جانبه احد الوعاظ فتأتيه الجلاوزة وفي أيديهم السيوف يضربون بها أعناق فإذا وصلت الدماء الى ثيابه يقول للواعظ عظني فإذا ذكره الواعظ بالله اطرق برأسه كالمنكر ، ثم يعود الجلاد لضرب الأعناق فإذا اصابت الدماء ثياب المنصور ثانية يقول للواعظ عظني.

ان المنصور وغيره من الحاكمين حينما يقربون رجل الدين والوعاظ انما يفعلون ذلك لإلهاء الناس عن جورهم وظلمهم واستخفافهم بأوامر الله ونواهيه وحقوق عباده ، لقد كان المنصور يقول : القينا الحب الى العلماء

١٨٧

فالتقطوه الا ما كان من سفيان الثوري فانه أعيانا فرارا وكلمة القينا الحب تكاد تكون صريحة في انه كان باتصاله بهم كالصياد الذي يلقي الحب للطيور لتقع في شباكه.

لقد هلك المنصور مع الهالكين ولم يترك احدا ممن بقي حيا من العلويين الا وهو خائف مشرد من جور ظلمه وترك غرفة من غرف قصره مملوءة ممن رؤوس العلويين لولده المهدي ليسير من بعده على خطاه مع العلويين ، وبالفعل لقد مارس المهدي سياسة ابيه فيمن استطاع ان يقبض عليه ممن بقي مع الاحياء منهم وكانوا قد تفرقوا في البلدان خائفين متسترين وظفر بعلي بن العباس بن الحسن المثنى بن الحسن السبط عليه‌السلام فأخذه ووضعه في سجنه واخيراً دس اليه السم فتفسخ لحمه وتفشت اعظاؤه واشتد طلبه لعيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام وكان كما يصفه المؤرخون من افضل الطالبيين دينا وعلما وورعا وزهدا وأشدهم بصيرة في امره ومذهبه على حد تعبير الاصفهاني في مقاتله ففر من طريقه الى الكوفة واختبأ في بعض دور الشيعة واتفق مع صاحب جمل لينقل عليه الماء لقاء أجر زهيد يسد فيه رمقه وتزوج من امرأة فقيرة لا تعرف عن اصله ونسبه شيئا وأولدها بنتا بلغت سن الزواج وماتت وهي لا تعرف عن ابيها شيئا ، وظل عيسى في الكوفة بزي الأعراب متنكراً يكتم نسبه عن جميع الناس وكان اذا لم يجد عملا يعتاش منه يلتقط ما يرمي به الناس من الخبز وقشور الفواكه والخضار ليتقوت به هو وعائلته.

لقد عاش عيسى بن زيد ما بقي من حياته مشرداً ينفر من الناس كما ينفر من الوحوش الضواري ولم يعلم احد من العلويين بمكانه سوى اخيه الحسين بن زيد ودل عليه ولده يحيى فذهب الى الكوفة متخفيا يفتش عنه حتى انتهى اليه واجتمع به لفترة قصيرة كانت اخر عهده به.

١٨٨

لقد عاش ابن رسول الله وابن عم الخليفة مشردا متنكرا ينفر من الانس كما ينفر من الوحوش الضواري لا لشيء الا لأنه كان عالما عاملا بما امر الله ويطالب بالحق والعدل ، وعاش المخنثون والعاهرات وأهل الفسق والجور في دعة وأمان يوفر لهم الخليفة وأعوانه جميع الملذات ويغدق عليهم الأموال بلا حساب ، ومضى المهدي العباس وهو يتتبع فلول العلويين ليتشفى بقتلهم والتنكيل ، ومضى المهدي العباسي وهو يتتبع فلول العلويين ليتشفى بقتلهم والتنكيل بهم وترك الحكم لولده موسى الملقب بالهادي وكان كما يصفه المؤرخون قاسي القلب شرس الاخلاق يتلذذ بالتنكيل بأبناء عمومته العلويين وغيرهم من الصلحاء والابرياء ، وفي عهده كان على المدينة رجل من ولد عمر بن الخطاب يتحامل على الطالبيين ويسومهم صنوف الألوان من العذاب ويفرض عليهم الاقامة الجبرية في المدينة على ان يثبتوا وجودهم لدى السلطة الحاكمة بين الحين والاخر ويلصق بهم التهم المشينة كالخمر والفجور ونحو ذلك ليبرر اساءته اليهم ، وفي عهده كانت معركة فخ التي قتل فيها اكثر من مائة وخمسين علويا قيادة الحسين بن علي بن الحسن كما اشرنا الى ذلك في الفصول السابقة ، والحسين قائد المعركة في فخ امه زينب بنت عبدالله بن الحسن بن الحسن ابن امير المؤمنين علي بن ابي طالب ، وقد قتل المنصور اباها واخوتها وعمومتها وزوجها علي بن الحسن وقتل حفيد المنصور ابنها الحسين وكانت تلبس المسوح على جسدها لا تلبس بينها وبينه شيئاً حتى لحقت بالله باكية نادبة.

وما اشبهها بالعقيلة الكبرى زينب ابنة علي عليها‌السلام فلقد اشترك معاوية في قتل ابيها وقتل اخاها الحسن بالسم وقتل ولده يزيد بن ميسون اخاها الحسين وولداها عونا ومحمدا وأخيها العباس وخمسة عشر شابا من اولاد اخوتها وبني عمومتها وظلت تندبهم حتى ماتت كمدا وحزنا ، وقد

١٨٩

لاقت تلك ما لاقته من اعداء رسالة جدها الأمويين وهذه لاقت ما لاقته من ابناء عمومتها الذين قامت دولتهم على حساب العلويين ورحم الله القائل :

فانظر الى حظ هذا الاسم كيف لقي

مـن الأواخر مـا لاقى مـن الأول

وهلك موسى الهادي بعد مضي خمسة عشر شهراً من حكمه ليترك الحكم لاخيه هارون الرشيد الذي مثل أدوار جده المنصور مع العلويين وشيعتهم وأدوار الأمويين في الفسق والفجور والملاهي ونثر الملايين من الدنانير تحت أقدام الراقصات والمغنيات العاهرات ، ومع انه كان من اسوأ حكام تلك الاسرة الظالمة فقد شاع عنه انه كان من أعظم ملوك العالم شأنا وأسماهم مكانة ، وتحدث المؤرخون والناس عن شهرته وأدواره في تشجيع العلوم والآداب وادارة شؤون الملك وبناء المساجد والقناطر والمستشفيات وما الى ذلك من المشاريع العمرانية والاقتصادية التي تشبه الاساطير ، وألبسته تلك الاساطير ثوبا فضفاضا من العظمة والجلالة تركته في الاذهان من اعاظم ملوك العالم وأقواهم ، في حين انه كان كغيره من السلاطين منصرفا الى الملذات والشهوات والجواري والتنكيل بالعلويين وكل من ينكر عليه جوراً وظلما وفسادا في الأرض ، وفي الوقت ذاته كان محظا وموفقاً بتلك الاسرة الكريمة البرامكة التي كانت تدير شؤون الدولة وتعمل ليل نهار لبنائها وادارة شؤون البلاد ، وكانت مقدرة تلك الاسرة ونزاهتها ونزعة التشيع التي ظهرت عليها هي السبب لإنزال تلك النكبة بها واستئصالها ولا صحة لما يرويه المؤرخون عن قصة اخته العباسية وزواجها المشروط من جعفر البرمكي وحملها منه الذي اغضب الرشيد بل هو من الاساطير المفتعلة لتغطية تلك الجريمة

١٩٠

وتبرير ما أنزله فيهم من الظلم والتنكيل ، ولعل نزعة التشيع التي ظهرت في بعض تصرفاتهم ومواقفهم من بعض العلويين كان لها الدور الاكبر في القضاء عليهم واستئصالهم.

ومهما كان الحال فلقد جاء في ثمرات الاوراق والاغاني ان الرشيد كان منصرفا الى الملذات والشهوات وانه اول خليفة لعب بالصولجان والشطرنج والنرد وكان من ذلك مصمما على القضاء على العلويين واستئصالهم على حد تعبير المؤلف.

١٩١

ستون شهيداً

لقد جاء في كتاب عيون اخبار الرضا ص ١٠٩ ان حميد بن قحطبة الطائي الطوسي قال : طلبني الرشيد في بعض الليالي وقال لي فيما قال : خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم فجاء بي الخادم الى دار مغلقة ففتحها واذ فيها ثلاثة بيوت وبئر ففتح البيت الأول وأخرج منه عشرين نفسا عليهم الشعور والذوائب وفيهم الشيوخ والكهول والشبان وهم في السلاسل والاغلال وقال لي : يقول لك امير المؤمنين اقتل هؤلاء وكلهم من ولد علي وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقتلتهم الواحد بعد الواحد والخادم يرمي رؤوسهم وأجسامهم في البئر ، ثم فتح البيت الثاني واذا فيه ايضا عشرون من نسل علي وفاطمة وكان مصيرهم كمصير من تقدمهم ، ثم فتح البيت الثالث واذا فيه عشرون من ابناء علي وفاطمة فألحقتهم بمن سبقهم وبقي منهم شيخ فقال : تباً لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة عند جدنا رسول الله ، فارتعشت يدي وارتعدت مفاصلي فنظر اليّ الخادم مغضباً وهددني فقتلت الشيخ ورمى به في البئر كما

١٩٢

فعل بأصحابه.

وجاء في مقاتل الطالبيين عن ابراهيم بن رياح ان الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبدالله بن الحسن بنى عليه أسطوانة وهو حي كما كان يفعل جده المنصور معهم ، وأضاف الى ذلك مؤلف أخبار عيون الرضا : ان المنصور لما بنى الابنية ببغداد جعل يطلب العلويين طلباً شديدا ويضع من ظفر به منهم في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه اسود الشعر من ولد الحسن بن علي عليه‌السلام فسلمه الى الباني وأمره ان يجعله في جوف اسطوانة ويبني عليه ووكل من يراقبه في ذلك وحين اراد الباني ان يدخله حيا الى الاسطوانة اخذته الرقة والشفقة فأدخله الاسطوانة وترك فيها فرجة صغيرة يدخل منها الهواء وقال للغلام لا بأس عليك فاجر فاني سأخرجك في جوف الليل ، وفي الليل جاءه وأخرجه وقال له اتقي الله في دمي وغيب وجهك فاني قد اخرجتك خوفا من ان يكون جدك خصمي يوم القيامة ، فقال له الغلام : سأفعل ولكن أريد منك ان تذهب الى امي وتخبرها بأني قد نجوت ، فذهب الباني الى الموضع الذي وضع له فسمع فيه البكاء والنحيب فدخله وأخبرها بنجاة ابنها.

وطلب الرشيد يحيى بن عبدالله بن الحسن وكان قد فر منه الى الديلم واجتمع عليه الناس وأخيرا استسلم الى الرشيد بعد ان اعطاه الامان والعهود بأن لا يمسه بسوء ولكنه لم يف بعهوده ولا بمواثيقه وقتله بفتوى بعض الشيوخ الذين أفتوه بأن عهوده لا يجب الوفاء بها وحبس محمد بن يحيى بن عبدالله وقتله في حبسه كما ضرب الحسين ابن اسماعيل بن عبدالله بن جعفر ضربا مبرحا حتى مات ودخل عليه احد العلويين من نسل الحسين عليه‌السلام فقذف هارون امه فرد عليه العلوي بالمثل فأمر جلاديه بقتله فضربوه بعمود من حديد فمات لأول ضربة وأخيرا لم يستطع ان يرى الإمام موسى بن جعفر طليقا يتابع رسالته والشيعة

١٩٣

يزدحمون على بابه فأرسل جلاوزته اليه وهو الى جانب قبر جده رسول الله فأخرجوه ووضعوا سلاسل الحديد في يديه ورجليه وأرسله الى البصرة وكان عليها عيسى بن جعفر بن المنصور فوضعه في سجنه سنة كاملة فانصرف الى العبادة فكتب عيسى بن جعفر الى الرشيد : اني قد اجتهدت ان آخذ عليه حجة فما قدرت على ذلك وما وجدته خلال هذه المدة الا صائماً مصليا فان لم تستلمه خليت سبيله ، فاستدعاه الرشيد ووضعه في سجون بغداد وأخيرا دس اليه السم القاتل بواسطة السندي ابن شاهك ، الى غير ذلك من الجرائم التي ارتكبها مع العلويين هو وغيره ممن حكم بعده من العباسيين وقد عرضت بعض الجوانب من سيرتهم مع العلويين أحياء وأمواتا بنحو لم يسبقهم اليه الامويون من قبل خلال حديثنا عن المآتم الحسينية في الفصل السابق ويجد المتتبع لتاريخ الحاكمين في تلك العصور عشرات الشواهد على ان العباسيين كانوا أشد على ابناء عمومتهم العلويين من الأمويين وغيرهم من الحاكمين لانهم لم يستطيعوا بسط هيبتهم الا بنسيان العفو واستعمال العقوبة كما قال المنصور لابن عمه عبد الصمد بن علي بن عبدالله.

ومن مجموع ذلك يتبين ان الانسان مهما بلغ من المرتبة والعظمة اذا لم يكن معصوما مسير لمصالحه وأهوائه والمصالح وحدها هي التي تكيفه وتخلق منه بعد وجودها انسانا اخر ويتحول من حقيقته قبل الحكم وغيره من المصالح الى حقيقة اخرى بعد ان يصبح حاكما.

لقد انحدر الامويون والهاشميون من اب واحد وأم واحدة ولما شب وترعرع هاشم ونبغ من بين اخوته وبخاصة أمية صاحب الطموح استحكم الصراع والعداء بينه وبين هاشم على الزعامة ومضى يتصاعد مع الزمن واتساع شهرة هاشم الى ان اصبح العداء أصيلا بين الحيين ، وبعد ان ظهر محمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله برسالته ودعوته اتسع العداء بين الحيين واكتسب أبعاداً جديدة لان الاسلام يقضي على جميع امتيازات الحزبين

١٩٤

القرشي والأموي ، وبلا شك لو ان قريشاً وجدت ان الإسلام لا يتعارض مع مصالحه لم تقف منه ذلك الموقف ، ولو ان عليا عليه‌السلام صاحب الحق الشرعي في الخلافة وقف من المهاجرين الذين استولوا على الخلافة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله موقفاً أشد صرامة واستمر عليه لوقفوا منه نفس الموقف الذي وقفه الحزب الاموي منه ومن ولديه الحسن والحسين وشيعتهم ، ولكنه كان مسيرا لمصلحة الإسلام وقد وجد ان مصلحة الإسلام تفرض عليه ان يهادن ويسالم ويقف الى جانبهم لإرساء قواعده وانتشاره ، وما كان من الامويين معه ومع ولديه وشيعتهم لم يكن من اجل العداء المستحكم بين الحيين بل من اجل الملك والحكم الذي يغير حقيقة الانسان قريباً كان او بعيداً ، وبلا شك فان البيت العباسي كان على وفاق تام مع البيت العلوي وكان يحس بأحاسيسهم ويتلوى لما اصابهم من الامويين والزبيريين ، وحينما تجسدت له الآمال بالوصول الى السلطة والحكم وانهارت دولة الأمويين وتمت البيعة للسفاح تصوروا ان خطر ابناء عمومتهم على ملكهم من أشد الاخطار ومن اجل ذلك تتبعوهم بالقتل والتشريد وقتل منهم المنصور وحده الفا ويزيدون ولو كان الحسين ابن علي موجودا في عهدهم لقتلوه وأصحابه ونساءه وأطفاله ومثلوا بهم كما كانوا يصنعون مع الأمويين ولو حكم العلويون من ابناء الحسن والحسين فلا أستبعد ان يصنعوا مع من يخافون منهم على حكمهم ما كان يصنعه معهم ابناء عمومتهم لان لمصالح وبخاصة ما كان منها من نوع الحكم والزعامة هي التي تكيف الانسان علويا كان او أمويا وتجعل منه انسانا اخر ما لم يكن معصوما او حائزاً على مرتبة عالية من العدالة تجعله قادراً على التحكم بميوله وأهوائه وحتى ان الزعيم الدين لا يبقى على ما كان عليه قبل الزعامة ويصبح وكأنه انسان اخر بالقياس الى ما كان عليه قبل زعامته ومن اجل ان الانسان حينما يصل الى الحكم والسلطة يصبح انسانا اخر مسيرا لمصالحه كانت العصمة او المرتبة العليا

١٩٥

من العدالة من الضرورات الاولية التي لا بد منها في الحاكم.

وسلام الله على الامام الصادق الذي قال : والله ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم باشد فتكا في تلك الزريبة من فتك الجاه والمال في دين المسلم. وصدق من قال :

والظلم من شيم النفوس فان تجد

ذا عفـة فلعلة لا يظلـم

١٩٦

مصادر الكتاب

تاريخ الطبري

تاريخ ابن الاثير

مروج الذهب للمسعودي

تاريخ الخميس

مقاتل الطالبيين للإصفهاني

زينب الكبرى للشيخ رجب القطيفي

عيون اخبار الرضا

الشيعة والحاكمون

اهل البيت لتوفيق ابو علم

ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين

بطلة كربلاء لبنت الشاطئ

تاريخ ابن كثير

تاريخ ابي الفداء

١٩٧

زينب بنت علي لعبد العزيز سيد الزجل

كتاب ابراهيم باشا لاحد المستشرقين

العراق في ظل العهد الاموي للخرطبولي

مقتل الحسين للسيد عبدالرزاق المقرم

تاريخ اليعقوبي طبع النجف

النزاع والتخاصم والخطط للمقريزي

الكنى والالقاب للشيخ عباس القمي

١٩٨

الفهرس

المقدمة ٧

موقف الحسين عليه‌السلام من معاوية وتحركاته ١١

لماذا حارب الحسين يزيداً ولم يحارب معاوية ١٧

موقف الحسين من بيعة يزيد بن ميسون ٢٢

سنة احدى وستين ٢٨

بين هجرة الرسول وهجرة الحسين ٣١

ما أروع يومك يا أبا الشهداء ٤٣

لقد شاء الله ان يراهُن سبايا ٤٧

صور من بطولات الشباب في كربلاء ٥٤

بطلة كربلاء زينب بنت علي عليه‌السلام ٦٣

ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك ٧١

ما بعد مجزرة كربلاء ٧٦

لمحات عن حياة العقيلة قبل معركة ٨٤

زواجها من عبدالله بن جعفر ٨٩

لمحات عن جعفر الطيار وهجرته ووفاته ٩٤

افتراءات الأمويين على عبدالله بن جعفر ١٠٥

المصائب التي رافقت حياة العقيلة ١٠٨

مرقد العقيلة زينب بنت علي عليه‌السلام ١١٤

١٩٩

مع الوهابيين بمناسبة الحديث عن مرقد مراقد اهل البيت ١١٦

تتمة الحديث عن مرقد العقيلة ١٢٦

المرقد الزينبي في الشام ١٢٨

المرقد الزيني في مصر ١٣٢

اين مرقدها اذن؟ ١٣٨

لمحات عن نسب السيدة نفيسة وتاريخها ١٤٥

المآتم الحسينية ومواقف الأئمة منها ١٥٠

مقارنات بين العهدين الاموي والعباسي ١٥٨

المتوكل ومرقد الحسين وزواره ١٦٤

توافد الزوار عليه بعد هدمه ١٦٦

المراحل التي مرت بها المآتم الحسينية ١٧٠

صور من جرائم العباسيين على العلويين ١٧٦

ستون شهيداً ١٩١

المصالح تسير الحاكمين ١٩٤

مصادر الكتاب ١٩٧

٢٠٠