من وحي الثورة الحسينية

هاشم معروف الحسني

من وحي الثورة الحسينية

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٠

على اخيها الحسين في كربلاء وغيرها من المواقف وبعد وقعة الحرة واستباحة المدينة كانت تقيم النياحات والمآتم على الحسين وتشنع على يزيد وجوره وهي التي نفاها عمرو بن سعيد الاشدق الى مصر وتوفيت فيها ودفنت في المكان الذي يقدسه المصريون ويتبركون به الى غير ذلك من الأقوال التي لا تعتمد على غير الحدث والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا.

ولقد تعرض الشيخ المفيد في ارشاده لأخوات الحسين عليه‌السلام خلال حديثه عن اولاد امير المؤمنين وعد من نباته اللواتي ولدن له من غير فاطمة زينب الصغرى ، وخلال حديثه عن أحداث كربلاء وما رافقها من تقتيل وسلب وأسر وسبي لم يتعرض لغير زينب العقيلة شقيقة الحسين لأمه وابيه وأسهب في الحديث عنها وتعداد مواقفها وما تجرعته من آلام وغصص من اجل اخيها وعياله وأطفاله ، اما زينب الصغرى هذه فلم يتعرض هو وغيره من المؤلفين في مقتل الحسين لها ولم يسجلوا لها موقفها من المواقف خلال أحداث كربلاء وما تلاها من المواقف من الكوفة وقصر الحمراء وغيرهما وجميع أحاديثهم كانت عن العقيلة الحوراء. كما وان الذين كتبوا عن اهل البيت من أعلام الشيعة الأوائل كالكليني والصدوق والمرتضى والطوسي والحلي وغيرهم من المتقدمين لم يتعرضوا لزينب العقيلة وما جرى عليها بعد رجوعها من السبي الى المدينة بأكثر من انها كانت لا تدع البكاء والنحيب على اخيها ومن قتل معه ولا لمرقدها ومراقد غيرها من الزينبيات كما لم يتعرض لذلك أحد من المؤرخين القدامى ومن مجموع ذلك تبين ان اقرب الأقوال الى الواقع انها دفنت في المدينة وفي البقيع مقبرة المسلمين الأوائل ولم تخرج من المدينة بعد رجوعها اليها من السبي مع النساء والاطفال وابن اخيها السجاد ، واذا صح بأنه وجد على القبر الموجود في ضواحي الشام هذا

١٤١

قبر زينب الوسطى بنت علي بن أبي طالب كما يدعي الشيخ فرج القطيفي يمكن ان يكون القبر المذكور لاحدى بنات امير المؤمنين عليه‌السلام ولكن ذلك وحده لا يبعث على الاطمئنان بهذا الأمر ولا يمنع من ان تكون الصخرة وضعت على القبر بعد ذلك بمئات السنين حينما بني القبر وشيد بشكله الحالي اعتمادا على الشهرة او لأسباب اخرى. لعل أيدي الذي حكموا بلاد الشام من الشيعة ضالعة في ذلك.

١٤٢

المرقد الزينبي في القاهرة وضاحية الشام

الظاهر ان هذين المرقدين كما لعله اقرب الاحتمالات وبخاصة بالنسبة الى المرقد المصري ، ان احدهما وهو الموجود في ضاحية الشام وفي المكان الذي يعرف حاليا بقرية الست هو لزينب بنت عبدالله الاصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى بنت امير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء عليها‌السلام (١) ، والمرقد الزينبي الموجود في محلة الفسطاط عند قناطر السباع من القاهرة الذي يقدسه المصريون ويقصدونه من سائر الجهات ويبذلون الاموال الطائلة في سبيله تقريبا الى الله تعالى هو لزينب بنت يحيى المتوح بن الحسن الانور بن زيد بن الحسن السبط عليه‌السلام ولأجل وضع هذا الظن موضع الاعتبار والعناية وحتى لا يكون كغيره من

__________________

١ ـ لقد نص في تاريخ الخميس ص ٢٨٦ من المجلد الثاني ان عبدالله الاصغر كان متزوجا من أم كلثوم الصغرى بنت امير المؤمنين ، وجاء في اهل البيت لابي علم ان زينب الشام هي ابنة أم كلثوم كما سنتعرض لذلك خلال هذا الفضل وهي غير أم كلثوم التي تزوجها ابن الخطاب ومات عنها.

١٤٣

الاقوال العابرة حول هذا الموضوع ، لا بد من المرور ببعض الجوانب عن حياة الحسن الانور وابنته السيدة نفسية المعروفة عند المصريين بكريمة الدارين.

لقد ذكر جماعة من المؤلفين في احوال اهل البيت ومن بينهم المؤلف المصري توفيق ابو علم رئيس ادارة مسجد السيدة نفسية ووكيل وزارة العدل الصادر بتاريخ ١٩٧٠ ، فلقد عد في كتابه المذكور كغيره من جملة اولاد الحسن زيد بن الحسن السبط ووصفه بكرم الطبع وجلالة القدر وكثرة البر والإحسان وان الناس كانوا يقصدونه من جميع الآفاق طمعا في بره واحسانه وانه كان يتولى صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبقيت في يده الى ان جاء للحكم سليمان بن عبد الملك فعزله عنها وأرجعها اليه عمر بن عبد العزيز الخليفة الاموي العادل ، ومضى يقول : ان محمد بن بشير الخارجي كان من جملة الشعراء الذين مدحوه وقال فيه :

اذا نـزل ابن المصطفى بطن تلعـة

نفى جدبها واخضر بالنبت عودهـا

وزيد ربيع النـاس في كـل شتـوة

اذا اخفقت انـواؤهـا ورعودهـا

وقد توفى زيد بن الحسن وله من العمر تسعون عاما وبكاه الناس ورثاه عدد من الشعراء ، ومن اولاده الحسن الانور ، وكان من علماء اهل البيت المبرزين وولاه ابو جعفر المنصور العباسي سنة ١٥٠ هجرية امارة المدينة بعد ان عزل عنها جعفر بن سليمان وبقي على المدينة لسنة ٦٥ فعزله عنها لوشاية عليه بأنه يساند الثوار العلويين لإعادة الخلافة اليهم ووضعه في حبسه الى ان جاء ولده المهدي الى الحكم فأخرجه من الحبس ، وكان معروفا بالصلاح والتقوى والبر والاحسان ومستجاب الدعاء على حد تعبير المؤلف.

١٤٤

وقد تخلف الحسن الانور كما يدعي توفيق ابو علم بتسعة ذكور وبنتين وهما نفيسة وأم كلثوم ومن اولاده الذكور يحيى المتوج ، واشتهرت نفيسة من بين اولاده بالزهد والصلاح والمعرفة وكانت تلقب بنفيسة الدارين ونفيسة العلم والطاهرة والعابدة ، ولما بلغت سن الزواج خطبها العلماء والاشراف من شباب العلويين وفتيانهم ، فكان والدها يأبى عليهم ويردهم ردا جميلا ، وحينما خطبها اسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام زوجها اياه وذلك سنة ١٦١ وكان من المعروفين بالفضل والصلاح والخير ومن المحيطين بأحاديث ابيه وأجداده كما وصفه المقريزي في خططه وأولدها ولدين القاسم وأم كلثوم ، ومن نسل القاسم السادة بنو زهرة في حلب ونواحيها (١).

ورحلت السيدة نفيسة الدارين مع زوجها من المدينة الى القاهرة وفي طريقها الى القاهرة مرت على دمشق الشام وزارت فيها بغوطة دمشق مقام السيدة زينب بنت ام كلثوم بنت امير المؤمنين وأم كلثوم هذه هي المعروفة بالصغرى من بنات امير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء وكانت زوجة لعبدالله الاصغر بن عقيل بن ابي طالب كما جاء في ص ٢٨٦ من المجلد الثاني تاريخ الخميس والظاهر ان زينب التي زارت قبرها نفيسة هي ابنتها لان أم كلثوم الكبرى ابنة الزهراء كانت زوجة لعمر بن الخطاب وقد اولدها ولداً سماه زيدا وبعد وفاة ابن الخطاب عنها تزوجها محمد بن عبدالله بن جعفر ولم تنجب منه كما جاء في تاريخ الخميس (٢).

ثم زارت قبر عمتها فاطمة بنت الحسن بن علي عليه‌السلام وقبر فضة جارية الزهراء عليها‌السلام وقد استقبلها جمهور كبير من اهالي دمشق وعلمائها مرحبين بقدومها ، وبعد دخولها دمشق بأيام قليلة رحلت منها الى

__________________

١ ـ انظر ص ٢٨٣ و٢٨٤ و٥٣٨ لتوفيق ابو علم.

٢ ـ انظر ص ٢٨٥ و٢٨٦.

١٤٥

القاهرة ودخلتها في شهر رمضان سنة ١٩٣ قبل ان يدخلها الشافعي بخمس سنين فاستقبلها المصريون رجالا ونساء احسن استقبال ونزلت دارا لاحد التجار الكبار وأخيرا استقرت في البيت الذي أعد لها مع زوجها وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها يأخذون عنهما العلم والحديث واستفادوا من علمهما واستمر الناس يتدفقون عليهما وأصبحت رمزا للطهر والقداسة في تلك الديار.

ولم يكن لاخيها يحيى المتوج سوى بنت واحدة تدعى زينب وكانت قد رحلت مع ابيها الى مصر وحينما دخلتها عمتها وغمرتها بعطفها وحنانها وعلقت بها وأبت ان تتزوج من احد بالرغم من توافد الخطاب على ابيها ولازمت عمتهاولاقت من عطف عمتها عليها والاحسان اليها ما جعلها تتفانى في خدمتها وتسهر على حوائجها لمدة طويلة من الزمن وبخاصة بعد ان بلغت من العمر سنا أقعدها عن القيام بأكثر حوائجها.

وروى عنها ابو علم انها كانت تقول : لقد خدمت عمتي نفيسة اربعين سنة فما رأيتها تامت بليل ولا أفطرت في نهار الا في العيدين وأيام التشريق.

ومضت تقول كما جاء في ص ٥٤٠ من كتاب ابو علم وكيل وزارة العدل المصرية : كانت عمتي نفيسة تحفظ القرآن وتفسيره وتقرأه وتبكي وكنت اجد عندها ما لا يخطر بخاطري ولا اعلم من يأتيها به فكنت أتعجب من ذلك فتقول لي : يا ابنة اخي من استقام مع الله كان الكون بيده وفي استطاعته.

ويدعي توفيق ابو علم في كتابه اهل البيت بأن للسيدة نفيسة عشرات الكرامات التي لا تجوز على غير الانبياء والصديقين ومن عباده الصالحين وهي جائزة عقلا ومن جملة الممكنات التي لا تستحيل على القدرة الالهية وقد غمر الله سبحانه آل بنت نبيه بفضله وشملهم بفيوضاته حتى ظهرت

١٤٦

على ايديهم الكرامات وتتابعت على الناس منهم البركات والنفحات من اجابة الدعوات وكشف الكربات وقضاء الحاجات ، وأضاف الى ذلك ان علماء اهل السنة قد اتفقوا على جوازها واختص بها الله من أحب من عباده وأوليائه وأصفيائه آل بيت نبيه الطاهرين.

وبقيت السيدة نفيسة في القاهرة نحوا من عشرين سنة ولما جاء أجلها على اثر مرض ألمّ بها احتضنتها ابنة اخيها زينب بنت يحيى وتوفيت في حضنها سنة ٢٠٨ وكانت قد أعدت لنفسها قبراً فدفنت فيه وراح الناس بعد ذلك يعدون قبورهم حولها تبركا بمرقدها وفي سنة ٥٤٤ أمر الحافظ لدين الله ببناء قبة على قبرها ولا تزال من اعظم المزارات عند المصريين ، وكان اخوها يحيى قد توفي قبلها في مصر وقبره لا يزال من المقدسات عند المصريين يتبركون به ويتوسلون الى الله في قضاء حوائجهم ، وبعدهما توفيت زينب بنت يحيى ودفنت بجوار قبر عمرو ابن العاص ، ومضى ابو علم يقول : وكان اهل مصر يأتون لزيارة قبرها من كل فج ، وحتى ان الظاهر الخليفة الفاطمي كان يأتي لزيارتها ماشيا على قدميه ومعه جمهور من الناس ، وأضاف الى ذلك ان النيل توقف في بعض السنين عن الجريان فتوسل المصريون بقبرها الى الله فجرى النيل على عادته ، الى غير ذلك مما جاء في كتابه عن نفيسة الدارين وابنة اخيها زينب.

بعد هذه اللمحات عن حياة السيدة نفيسة حفيدة الحسن السبط عليه‌السلام يمكن القول بأن المرقد المنسوب لزينب العقيلة في مصر والذي لا يزال المصريون يقدسونه ويعظمونه هو لزينب بنت يحيى المتوج وبتعاقب العصور والاجيال اصبح ينسب لزينب العقيلة لانها اشتهرت من نساء العلويين الأوائل وأصبح اسمها مقرونا باسم اخيها الحسين عليه‌السلام بعد معركة الطف وتحدث الكتاب والمؤلفون عن مواقفها الخالدة من تلك المجزرة وما رافقها والالفاظ المشتركة تنصرف في الغالب الى أكمل الافراد

١٤٧

وأكثرها شيوعا ، وبلا شك فان أكمل الزينبيات وأعلاهن شأنا هي زينب العقيلة ، كما يحتمل ان يكون للفاطميين ضلع في نسبة ذلك المرقد لها ونسبة المرقد الثاني لرأس اخيها الحسين وهم الذين اشاعوا بأن الرأس كان مدفونا في عسقلان ونقلوه الى القاهرة وراحوا يعظمون المرقدين لاسباب سياسية أو لغيرها.

اما المرقد الموجود في ضاحية الشام وفي بلدة الست بالذات الذي زارته السيدة نفيسة في طريقها الى مصر فليس لزينب الكبرى عقيلة الطالبيين وبطلة كربلاء كما هو الراجح ، ومن الجائز ان يكون لزينب بنت عبدالله الاصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى ابنة امير المؤمنين عليه‌السلام من غير الزهراء وهي ليست بأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب وأولدها ولده زيدا ، وهذه قد تزوجت بعد ابن الخطاب من محمد بن جعفر ولم تنجب منه وهي شقيقة الحسين لأمه وأبيه.

ومهما كان الحال فلا يمكن الجزم بشيء حول واقع تلك المراقد ، وأعود لأكرر ما ذكرته سابقا من ان المراقد التي يقدسها الشيعة وبقية المسلمين المعتدلين لا يقدسونها الا بصفتها رمزا لمن تنتسب اليه وتقديرا لما كان يتمتع به من القيم والمثل العليا والجهاد والتضحيات في سبيل المبدأ والعقيدة ، لا للبناء والأحجار المزخرفة والنفائس التي فيها ، وسواء كانت رفات ذلك الشخص صاحب تلك الفضائل في داخل ذلك المرقد او لم تكن في واقع الامر ، فمادام يرمز اليه فان زيارته والتوسل به الى الله سبحانه من الأمور الراجحة وتعظيما للدين وللقيم التي كان ذلك الشخص يجسدها ويستهين بحياته من اجلها.

ان الزائر حينما يتجه الى المسجد الذي فيه مقام رأس الحسين في القاهرة ومقام السيدة زينب في ضاحية الشام وفي محلة الفسطاط من القاهرة انما يتجه بقلبه وأحاسيسه لمن ترمز اليه تلك القباب الشامخة اي لرأس الحسين وللسيدة زينب وان لم تكن في واقع الأمر قد ضمنت

١٤٨

رفاتهما ، وليس بغريب على الله سبحانه اذا استجاب للموالين لأهل البيت علي والزهراء ومن تناسل منهما من الائمة الاطهار والصلحاء الابرار الذين عناهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله ، كما جاء في رواية ابي بكر بن ابي قحافة انه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيم خيمة وهو متكىء على قوس له عربية وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين وهو يقول : معاشر المسلمين انا سلم لمن سالم اهل هذه الخيمة وحرب لمن حاربهم وولي لمن والاهم لا يحبهم الا سعيد الجد طيب المولد ولا يبغضهم الا شقي الجد رديء الولادة (١).

ليس بغريب اذا اجار الله من استجار بمراقدهم واستجاب لمن توسل اليه بهم في قضاء حوائجه لانهم قد بذلوا انفسهم وكل ما يملكون في سبيل وتركوا الدنيا ومتعها ونعيمها بعد ان اصبحت تحت أقدامهم من اجل اعلاء كلمة الله وخير الناس أجمعين ، ورحم الله القائل في وصفهم :

هم القوم من أصفاهم الود مخلصـا

تمسك في اخـراه بالسبب الاقـوى

هـم القوم فاقوا العالميـن منـاقبـاً

محـاسنهـم تحكى وآياتهم تـروى

موالاتهـم فرض وحبهـم هـدى

وطـاعتهـم ود وودهـم تقـوى

__________________

١ ـ اهل البيت لابو علم ص ٨.

١٤٩

المآتم الحسينية

لقد كانت العشرة الأولى من شهر المحرم ولا تزال مأتما سنويا للأحزان والآلام عند الشيعة منذ مجزرة كربلاء التي كان على رأس ضحاياها الحسين بن علي سبط الرسول وسيد شباب اهل الجنة في اليوم العاشر من المحرم سنة احدى وستين للهجرة فكان الشيعة ولا يزالون في مختلف انحاء دنيا الإسلام يجتمعون في مجالسهم وندواتهم يرددون مواقف اهل البيت وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة وكرامة الإنسان التي داستها أمية بأقدامها ، وما حل بهم من أحفاد أمية وجلاديهم من القتل والسبي والتشريد والاستخفاف بجدهم الاعظم الذي بعثة الله رحمة للعالمين.

هذه الذكريات الغنية بالقيم والمثل العليا والتي تعلمنا كيف نعيش احرارا وكيف نموت في مملكة الجلادين سعداء منتصرين لو ادركنا اهداف تلك الثورة وأحسنا استغلالها هذه الذكريات قد اقترنت كما يبدو بعد الاحصاء الدقيق لتاريخها بتلك المجزرة الرهيبة التي ايقظت المسلمين على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم ، وأدركوا بعدها ان

١٥٠

كرامة الاسلام والمسلمين قد اصبحت بسبب تخاذلهم تحت أقدام الأمويين وفراعنة العصور ، فاستولى عليهم الخوف والندم لتقصيرهم في نصرته وتخاذلهم عن دعواتهم ففريق وجدوا ان التكفير عن تخاذلهم لا يكون الا بالثورة والثأر له من اولئك الطغاة وآخرون سيطر عليهم الخوف فخلدوا الى الهدوء ينتظرون الظروف المناسبة ولكن ذلك لم يكن ليمنعهم عن الاحتفال بذكراه كلما هلّ شهر المحرم من كل عام واستبدال جميع مظاهرهم بمظاهر الحزن والاسف وتريد الاحداث التي رافقت تلك المجزرة من تمثيل بالضحايا وأسر وسبي وما الى ذلك من الجرائم التي لم يعرف المسلمون لها نظير في تاريخ المعارك والغزوات قبل ذلك اليوم.

ومما يشير الى ان المآتم الحسينية يقترن تاريخها بتلك المجزرة ما جاء في تاريخ العراق في ظل العهد الاموي للدكتور علي الخرطبولي ان بيعة ابي العباس السفاح بدأت في الكوفة وشاء لها القدر ان تتم لابي العباس كأول خليفة من خلفاء تلك الاسرة في عيد الشيعة الاكبر وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة ١٣٢ وفي نفس الوقت الذي كان الشيعة يحتفلون فيه بذكرى الحسين بن علي عليه‌السلام (١).

ومعلوم ان كلمة عيد الشيعة الاكبر يوم العاشر من المحرم تشير الى ان الشيعة كانوا معتادين من زمن بعيد على الاحتفال بذكرى الحسين عليه‌السلام في ذلك اليوم من كل عام وانه كان من اعظم المناسبات التي اعتادوا فيها ان يندبوا الحسين ويبكونه ويرددون مواقفه وتضحياته من اجل الحق والمبدأ والعدالة التي تمكن كل انسان من حقه وتحفظ له كرامته وحريته.

وكما اتخذ الشيعة وأهل البيت تلك الايام ايام حزن وأسف وبكاء

__________________

١ ـ انظر ص ٢٢٦ من تاريخ العراق عن الاخبار الطوال للدينوري.

١٥١

على ما جرى للحسين وأسرته من قتل وأسر وسبي اتخذها غيرهم من الاعياد يتبادلون فيها التهاني والزيارات ويتباهون بكل مظاهر الفرح والسرور في ملابسهم وندواتهم ومآكلهم وما الى ذلك من مظاهر الفرح تحديا لشعور الشيعة واستخفافا بأهل بيت نبيهم الذين فرض الله ولاءهم على كل من آمن بمحمد ورسالته.

وجاء في ص ٢٠٢ من البداية والنهاية لابن كثير المجلد الثامن ان النواصب من اهل الشام لقد عاكسوا الرافضة والشيعة فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون افخر ثيابهم ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه انواع الاطعمة ويظهرون الفرح والسرور فرحا بقتله لانه حاول ان يفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها على حد تعبيره.

ولا يزال المسلمون في اهل السنة يعتبرون اول يوم من المحرم عيدا اسلاميا يتبادلون فيه التهاني والزيارات ويصرفون اكثر ساعاته في نوادي اللهو والطرب والحفلات ويسمونه بعيد الهجرة مع العلم بأن هجرة النبي من مكة الى المدينة كانت في السادس من ربيع الاول وفي الثاني عشر منه دخل المدينة ونزل ضيفاً على ابي ايوب الانصاري.

ومهما كان الحال فلقد رافقت هذه الذكرى في اوساط الشيعة مصرع الحسين عليه‌السلام وكان الائمة يحرصون على تخليدها واستمرارها لتكون حافزا للاجيال على مقاومة الظلم والطغيان والاستهانة بالحياة مع الظالمين تقودهم بمعانيها السامية الخيرة للتضحية والبذل بسخاء في سبيل المبدأ والعقيدة.

لقد دخل الامام علي بن الحسين زين العابدين الى المدينة بعد ان أطلق سراحه وسراح عماته وأخواته يزيد بن معاوية وهو يبكي أباه وأهله واخوته وظل لفترة طويلة من الزمن يبكيهم حتى عده الناس من

١٥٢

البكائين ، وكان عندما يساله سائل عن كثرة بكائه يقول : لا تلوموني فان يعقوب النبي فقد ولدا من اولاده فبكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو حي في دار الدنيا ، وقد نظرت الى عشرين رجلا من اهل بيتي على رمال كربلاء مجزرين كالاضاحي أفترون حزنهم يذهب من قبلي.

وروى الرواة عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال ما وضع بين يدي جدي علي بن الحسين طعام الا وبكى بكاء شديدا وان احد مواليه قال له : جعلت فداك اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين ، فقال : انما اشكو ثبتي وحزني الى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون اني لم اذكر مصارع بني فاطمة إلى وخنقتني العبرة.

وأحيانا كان الإمام السجاد يطلب المناسبة ويخلقها احيانا ليحدث الناس بما جرى للحسين وأهل بيته فيذهب الى سوق القصابين في المدينة ليسألهم عما اذا كانوا يسقون الشاة قبل ذبحها وانه ليعلم انهم يفعلون ذلك لانه من السنن المأثورة ولكنه يريد ان يحدثهم عما جرى لابيه ليبعث في نفوسهم النقمة على الظلم والظالمين ، فيقول لهم : لقد ذبح ابو عبدالله عطشانا كما تذبح الشاة فيجتمعون عليه ويبكون لبكائه ، وكان اذا رأى غريباً دعاه إلى بيته لضيافته ثم يقول : لقد ذبح ابو عبدالله غريباً جائعاً ، واستمر طيلة حياته حزيناً كئيباً ، وهكذا كان غيره من الائمة يحرصون على بقاء تلك الذكرى حية في نفوس الاجيال خالدة خلود الدهر لانها لا تنفصل بمعانيها السامية عن اهداف الاسلام العليا ومقاصده الكريمة.

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام لجماعة من اصحابه دخلوا عليه في اليوم العاشر : أتجتمعون وتتحدثون؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : أتذكرون ما صنع بجدي الحسين لقد ذبح والله كما يذبح الكبش وقتل

١٥٣

معه عشرون شابا من اهله وبنيه واخوته ما لهم على وجه الأرض من مثيل.

وروى عنه معاوية بن وهب وقد دخل عليه في اليوم العاشر من المحرم فرآه حزينا كاسف اللون وهو يدعو ويقول : الله يا من خصنا بالكرامة ارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر ابي عبدالله الحسين وارحم تلك الصرخة التي كانت لأجله ، ومضى يقول في دعائه لزوار الحسين والباكين عليه كما جاء في رواية ابن وهب : اللهم ارحم تلك الأنفس والابدان حتى توفيهم على الحوض يوم العطش الاكبر ، ولما استغرب معاوية بن وهب ما رآه من بكاء الإمام ومن دعواته لزوار قبر ابي عبدالله والباكين عليه ، قال له : يا ابن وهب ان من يدعو لزوار قبر الحسين والباكين لما اصابه في السماء اكثر ممن يدعون لهم في الأرض ، ودعاء الاماء لزوار قبر الحسين يشير إلى ان الشيعة كانوا يتوافدون لزيارته من ذلك التاريخ.

ودخل جعفر بن عفان عليه فقال له : بلغني انك تقول الشعر في الحسين وتجيده فأنشدني من شعرك فيه ، ثم قام وأجلس نساءه خلف الستر فلما قرأ عليه من شعره في الحسين جعل يبكي وارتفع الصراخ والعويل من داخل الدار حتى ازدحم الناس على باب الدار مخافة ان يكون قد حدث فيها حادث فلما وقف الناس على واقع الأمر تعالى الصراخ من كل جانب ثم قال له : لقد شهدت ملائكة الله المقربون قولك في الحسين وبكوا كما بكينا.

وكان جعفر بن عفان من شعراء اهل البيت ، وله مواقف مع ابن ابي حفصة شاعر العباسيين الذي كان يتملق اليهم بانتقاص العلويين ، وهجائهم ومن قصائده التي كان يتملق بها للعباسيين قوله في ابيات يخاطب لها العلويين :

١٥٤

خلـو الطريـق لمعشـر عاداتهـم

حطـم المناكب كل يـوم زحـام

ارضوا بمـا قسـم الاله لكـم بـه

ودعـوا وراثـة كل اصيـد حـام

انى يكـون وليـس ذلـك بكائـن

بـني البـنـات وراثـة الاعمـام

فرد عليه جعفر بن عفان بقوله :

لـم لا يكـون وان ذاك لكـائـن

لـبـني البنـات وراثـة الاعمـام

للبنت نـصف كـامل مـن مـاله

والعم متـروك بـغـيـر سهـام

ما للـطـلـيق وللتراث وانـمـا

صلـى الطليـق مخافة الصمصام (١)

وكان الامام الرضا عليه‌السلام يجلس للعزاء في العشرة الأولى من شهر المحرم ولا يرى ضاحكا قط ، كما كانت مظاهر الحزن والاسف تستولي على الائمة الاطهار وأصحابهم وتبدو ظاهرة في بيوتهم ومجالسهم ويقولون لمن يحضر مجالسهم من الخاصة والعامة : قولوا متى ما ذكرتم الحسن وأصحابه : يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزاً عظيماً ، انهم كانوا يريدون من اصحابهم وشيعتهم وجميع المسلمين ان يكونوا مع الحسين وأصحاب الحسين العاملين بمبادئ القرآن وسنن الانبياء والمصلحين العاملين لخير الانسان في كل زمان ومكان بأرواحهم وعزيمتهم وقلوبهم ، وبقاء هذه الذكرى خالدة خلود الانسان وأن يشحنوا النفوس بالنقمة على الظالمين وفراعنة العصور الذين يتحكمون بكرامة الانسان وخيرات الارض التي اوجدها الله لأهل الأرض لا للحاكمين والجلادين.

ويريدون منهم ان يكونوا في كل زمان ومكان ثورة عارمة على من يحمل روح يزيد وجلاديه ولا يختلف عنهما الا بالإسم ويضحوا بأنفسهم

__________________

١ ـ انظر مقتل المقرم عن رجال الكشي ومعاهد التنصيص ص ١١٩.

١٥٥

من اجل الحق والعدل كما ضحى الحسين وأصحابه في ثورته على يزيد زمانه ، لقد ارادوا منهم ذلك صراحة تارة وتلميحا اخرى كما يبدو ذلك من حثهم وترغيبهم على زيارة الحسين وتحمل المشاق وان عظمت في سبيلها لتبقى مواقفه وتضحياته ماثلة لدى الاجيال تتخذ منها دروساً في الجهاد والتضحيات في سبيل العقيدة والمبدأ.

انهم كانوا يحثون ويرغبون في زيارته في اكثر من فصل من فصول السنة لان الزائر عندما يقف امام ضريحه الطاهر اذا كان مدركا لواقعه لا بد وأن يتصور موقف الحسين وحيدا في مقابل تلك الحشود التي اجتمعت لقتاله غير هياب ولا وجل يدافع ويناضل عن شريعة جده وكرامة الانسان بعزيمة أثبت من الجبال الرواسي كما وصفها بعض شعراء الطف بقوله :

من تحتهم لو تزول الارض لاتنصبوا

على الهوى هضبا ارسى من الهضب

هذه الخواطر التي تعترض زائر الحسين لا بد وأن تحدث في نفسه نقمة على الظلم والظالمين وتدفعه على الصمود في الشدائد والأهوال وتؤكد صلاته بأهل هذا البيت الذين يجسدون الإسلام فكراً وقولا وعملا ، هذا بالإضافة الى ان الزائر يعاهد الله ورسله وملائكته بالمضي على خطا الحسين وآبائه وأبنائه ومتابعتهم في القول والعمل ومواقفهم من الظالمين حينما يقف على ضريحه ويخاطبه بقوله : وأشهد الله وملائكته ورسله اني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم وولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم واني بكم مؤمن ولكم تابع في ذات نفسي وشرائع ديني وخواتيم عملي في منقلبي ومثواي.

ان هذا التأكيد من الائمة الاطهار على زيارة الحسين عليه‌السلام والترغيب المغري بها في عدد من المواسم خلال كل عام لم يصدر منهم بالنسبة لزيارة غيره من الائمة ولا لزيارة من هو اعظم منه كجده المصطفى وأبيه

١٥٦

المرتضى في حين ان كل واحد منهم كل يجسد الإسلام بجميع فصوله وخطوطه في اقواله وأفعاله وقد وهب حياته لله ولخير الناس اجمعين وهانت عنده الدنيا بكل ما فيها من متع ونعيم مغريات. ان ذلك لم يكن إلا لأن شهادة الحسين عليه‌السلام بما رافقها من الجرائم والفظائع تثير الاحاسيس وتحرك الضمائر الهامدة وتحث على مقارعة الظلم والصبر في الشدائد والأهوال في سبيل المبدأ والعقيدة ولأجل ما رافقها من تلك الاحداث القاسية التي لم يسجل التاريخ لها نظيراً فقد اتخذها الائمة عليهم‌السلام وسيلة لاثارة العواطف والهاب المشاعر وبعث الروح النضالية في نفوس الجماهير المسلمة لتكون مهيأة للثورة على الظلمة والجبابرة في كل ارض وزمان وفي الوقت ذاته فان تلك المآتم والذكريات تكشف عن طبيعة القوى التي تناهض اهل البيت وتناصبهم العداء ومدى بعدها عن الإسلام ، وتبين في الوقت ذاته ان جوهر الصراع بينهم وبين الحاكمين ليس ذاتيا ولا مصلحيا كما جرت العادة عليه في الصراعات بين الناس بل هو من اجل الإسلام وتعاليم الإسلام والجور الذي اصاب الناس.

لقد كان موقف الائمة عليهم‌السلام من تلك المآتم والحث عليها والترغيب بها منذ قتل الحسين عليه‌السلام من جملة الدوافع التي جعلت الشيعة يلتزمون بها بدون انقطاع في كل بلد حلوا فيه بالرغم مما كانوا يتعرضون له من الحاكمين وأعداء اهل البيت من التنديد والتنكيل والسخرية ومع كل ما قام به الحاكمون من جور وارهاب فلم يفلحوا في كبح ذلك التيار الشيعي الجارف الذي بقي يتعاظم باستمرار مع الزمن وبقي في تصاعد مستمر حتى في عهد العباسيين الذين وصلوا الى الحكم على حساب العلويين كما تؤكد ذلك عشرات الشواهد ومع ذلك فقد كانوا عليهم أشد من الأمويين وحاربوهم على جميع الجبهات وتعرضوا في عهودهم لأسوأ انواع العسف والجور والتشريد.

١٥٧

فلقد قال المنصور العباسي عندما عزم على قتل الإمام الصادق : قتلت من ولد فاطمة الفا او يزيدون وتركت إمامهم وسيدهم جعفر بن محمد كما جاء في شرح ميمية ابي فراس والادب في ظل التشيع (١).

وترك لخليفته المهدي ميراثا من رؤوس العلويين كان قد وضعها في غرفة من غرف قصره ودفع مفاتيحا لزوجة خليفته ريطة وأوصاها بأن لا تفتحها إلا هي وزوجها بعد وفاته فأيقنت انها مملوءة من التحف والأموال ، ولما توفي فتحها المهدي هو وزوجته ليلا فوجدها مملوءة من رؤوس العلويين بينها رؤوس شيوخ وأطفال وشبان وفي كل رأس رقعة باسمه ونسبه (٢).

وهو القائل لعمه عبد الصمد بن علي عندما لامه على تسرعه في القتل والعقوبات ان بني مروان لم تبلى رممهم وآل ابي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا نستطيع ان نبسط هيبتنا الا بنسيان العفو واستعمال العقوبة (٢).

لقد وصل المنصور الى الحكم على حساب آل ابي طالب كما ذكرنا وبعد ان استتبت له الأمور قتل منهم الفا او يزيدون ووضع السيف في رقابهم لا لشيء الا لانه يخاف منهم على هيبته وسلطانه والخوف وحده يبرر له ويغره من الحاكمين قتل الملايين من البشر في كل عصر وزمان وفي الوقت ذاته يتغنون بالحرية والديمقراطية والسلام وما الى ذلك من الشعارات كما كان العباسيون والامويون يتسترون بالإسلام ورسالة الاسلام ويتقربون من الوعاظ وشيوخ السوء ليصنعوا لهم المبررات

__________________

١ ـ ص ١٥٩ من الميمية وص ٦٨ من الادب في ظل التشيع وتاريخ الطبري والنزاع والتخاصم للمقريزي.

٢ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي.

١٥٨

لجرائمهم.

وجاء في مناقب ابن شهر اشوب ان المنصور قال للإمام الصادق عليه‌السلام : لاقتلنك ولأقتلن اهلك حتى لا ابقي على الأرض منكم قامة سوط ولقد هم بقتله اكثر من مرة وكان يستعين عليه بالله وحده فأنجاه الله من شره.

ويدعي عبد الجواد الكليدار آل طعمة في كتابه تاريخ كربلاء أنه اول من تجرأ على قبر الحسين وهدمه عندما رأى الشيعة يتوافدون الى زيارته ويرددون تلك المأساة الدامية التي حلت بأهل البيت.

وجاء في مروج الذهب للمسعودي انه جلس يوما مع المسيب بن زهرة وكان من أعوانه وجلاديه فذكر الحجاج بن يوسف ووفاءه للمروانيين في معرض التعريض والتنديد بأعوانه ففهم المسيب غايته فقال له المسيب : يا امير المؤمنين والله ان الحجاج لم يسبقنا الى امر من الأمور ، ولم يخلق الله على وجه الأرض احدا أحب الينا من نبينا محمد ابن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع ذلك فقد أمرتنا بقتل اولاده وعترته فأطعناك وقتلناهم فهل كان الحجاج أنصح لبني مروان منا لك ، فسكت المنصور ولم يرد عليه.

وروى الرواة عن اساليب تعذيبه للعلويين انه كان يضع العلويين في الاسطوانات ويسمرهم في الحيطان وأحيانا يضعهم في سجن مظلم ويتركهم يموتون جوعا ويترك الموتى بين الاحياء فتقتلهم الروائح الكريهة ثم يهدم السجن على الجميع كما جاء في تاريخ اليعقوبي. ولقد فر ابو القاسم الرسي بن ابراهيم بن طباطبا المعروف باسماعيل الديباج الى بلاد السند خوفا من المنصور وقال كما جاء عنه :

لم يروه ما اراق البغـي مـن دمنـا

في كل ارض فلم يقصر مـن الطلب

وليس يشفي غليلا في حشاه سـوى

ان لا يرى فوقهـا ابنا لـبنت نبـي

١٥٩

وحكم المسلمين من بعده ولده المهدي بنفس الروح اللئيمة الحاقدة على العلويين وصلحاء المسلمين وخفت في عهده حدة القتل الجماعي للعلويين وشيعتهم ومطاردتهم ولكنه سخر جماعة من أعوانه ومرتزقته لانتحال صفة الزندقة لكل من يناوئه من العلويين وشيعتهم ، وأصبح الاتهام بالزندقة من أيسر التهم التي تلصق بالابرياء كما جاء في التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية.

وقال عبد الرحمن بدوي : ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الى جنب مع الانتساب الى مذهب الرافضة وفي ذلك يقول الطغرائي من جملة أبات له :

ومتى تولى آل احمد مسلم

قتلـوه ووصموه بـالالحاد

ولما جاء دور خليفته الهادي العباسي سلط على العلويين جلاديه وجلاوزته فألحوا في طلبهم ومطاردتهم وقطع ارزاقهم وأعطياتهم وكتب الى سائر المقاطعات الاسلامية يهدد ويتوعد كل من يأويهم ويحسن اليهم وكانت معركة فخ التي قتل فيها اكثر من مائة وخمسين من رجال العلويين ونسائهم وأطفالهم بسبب ما لحقهم من الاضطهاد يومذاك وتولى قيادتها الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان موسى الهادي قد استخلف على المدينة اسحاق بن عيسى فأوعز اسحاق الى رجل من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبدالعزيز بن عبدالله فحمل على الطالبيين وأفرط في التحامل عليهم ومضايقتهم فاجتمع على الحسين بن علي صاحب فخ جماعة من الشيعة فخرج بهم وكانت المعركة في القرب من مكة وفي المكان المعروف بفخ وقتل الحسين ومن معه من العلويين وشيعتهم وحملت رؤوسهم الى موسى الهادي ، ولما بلغ العمري

١٦٠