الغيبة

الشيخ محمد رضا الجعفري

الغيبة

المؤلف:

الشيخ محمد رضا الجعفري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-231-8
الصفحات: ٤٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

دليل الكتاب :

مقدّمة المركز : ................................................................ ٥

تمهيد : ........................................................................ ٧

موضوع البحث ................................................................ ٩

النقطة الأولى : أن مسألة الغيبة أمر قدّره الله ...................................... ٩

النقطة الثانية : الكلام عن المهدي في عقائد الشيعة الإمامية ........................ ١٢

المهدي عليه‌السلام لا يمكن أن ينفصل عن الغيبة ....................................... ١٥

المسلك الأول : وعد الله بظهور دينه على الدين كلّه .............................. ١٩

المسلك الثاني : الأئمة اثنا عشر ................................................ ٣١

المسلك الثالث : أحاديث الثقلين ................................................ ٣٥

المسلك الرابع : فيما يرويه غير الإمامية ......................................... ٣٩

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز :

لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والأفهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة ، ممّا يستدعي الإلتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الأمة وقيمها الحقّة ، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.

وانطلاقاً من ذلك ، فقد بادر مركز الأبحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الإسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.

ومن هذه المحاور : عقد الندوات العقائديّة المختصّة ، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين ، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة ، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها ، ثم يخضع ذلك الموضوع

٥

ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج.

ولأجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الإنترنت العالمية صوتاً وكتابةً.

كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.

وأخيراً ، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان « سلسلة الندوات العقائدية » بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.

وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.

سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.

مركز الأبحاث العقائدية

فارس الحسّون

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

الحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيّد رسله وخاتم أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين الأئمة الهداة المعصومين ، لا سيما أولهم مولانا أمير المؤمنين وسيد الوصيّين ، وخاتمهم مولانا الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عجّل الله فرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه ، ولعنة الله على أعدائهم والموالين لأعدائهم والمعادين لأوليائهم من الأولين والآخرين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

اللّهم صلّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والعن من آذى نبيّك فيها من الأولين والآخرين.

السلام عليكم أيّها الأخوة ورحمة الله وبركاته.

يسعدني أن أكون ممّن أمكنه الله أن يلبّي حاجة في نفوس المعتنقين لولاء أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين ، في أمسّ مسائل العقيدة التي يواجهها إيمانهم ، والتي قد يجد أعداؤهم الثغرة للطّعن في إيمانهم ، وهو ما يرجع إلى مولانا الإمام الحجّة المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه ، خاصّة فيما يرجع إلى غيبته.

٧

يسعدني أن أكون ممّن وفّقهم الله تعالى لكي ألبّي هذه الحاجة في بحثٍ أطرحه وأؤطِّره بإطارين :

الاطار الأول : الوقت الذي حدّد لي أن يكون البحث يكتمل إلى حدّ ما ، ضمن هذا الوقت.

والثاني : الايجاز الذي تتطلبه مثل هذه البحوث التي تلقى مباشرة على السامعين ، فالبحوث إن كانت طويلة وجاءت في كتاب فللقارئ أن يتجاوز صفحات أو أن يغفل صفحات ويكتفي بما يحاول أو يتلذّذ بقراءته ، وأما السامع المسكين الذي لا يملك إلاّ أن يعصر أذنيه كي لا يسمع ، فهذا من الصعب جداً أن يكون البحث بالنسبة إليه ممتعاً ، إلاّ إذا كان إلى حدٍّ لا يجد السامع منه مللاً ولا يرى فيه نقصاً في الأداء أو إيجازاً مخلاً ، فلا تكون الأسئلة التي كانت تدور في ذهنه قد بقي منها ما لم يجد الاجابة عليه فيما سمعه.

ومن الله سبحانه وتعالى ومن وليّه وحجّة عصره مولانا الإمام المهدي المنتظر ـ الذي يرانا ولا نراه والذي يعلم بحالنا ولا نعلم بحاله إلاّ ما أخبرنا الوحي به ـ أستمدّ أن يعينني على حسن الأداء وأن يعينكم أو يحقق لكم حسن الاستماع ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

٨

موضوع البحث

الموضوع الذي طلب منّي أن يكون بحثي يدور في فلكه : هو ما يرجع إلى الإمام المهدي سلام الله عليه في غيبته ، وما انتهى إليه هذا العنصر الإعتقادي الهامّ الذي يميّز الشيعة في عددهم المبارك ، يعني في العدد الإعتقادي للأئمة الذي يعبّر عنه بالشيعة الإثني عشرية.

الكلام حول المهدي سلام الله عليه فيما أنا فهرستُ ووضعتُ المنهج له ، وأنا أقرأ نقاط البحث ، فإن وفقني الله سبحانه وتعالى كي أكمل هذه النقاط في جلستنا هذه فنعمت النتيجة للمتكلّم والسامع ، وإن بقي شيء فأرجوا الله سبحانه وتعالى أن لا يكون الفاصل بين هذه الحلقة والحلقة التي تستدعيها فيما بعد ، أن لا يكون الفاصل بحيث يُنسي الأولى أو لا يمكن المستمع إلى الأخرى من استماعها للفاصل الزمني الطويل.

البحث عن غيبة الإمام المهدي سلام الله عليه يرتبط بالبحث عن إمامته كأحد الأئمة ، ولا يمكن أن يستغني عنه الباحث عن إمامة المهدي سلام الله عليه وعن البحث في غيبته ، وقبل هذا نقاط أوجزها :

النقطة الأولى :

إن غيبة المهدي سلام الله عليه وظهوره كموت الخليقة وحشرها أمرٌ

٩

قدّره الله سبحانه وتعالى ـ حسب رأينا نحن الإمامية الاثنا عشرية ـ ولم يستشر فيه أحداً ولم يوكّل أمره إلى أحّد غيره.

يعني أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلق قدّر لهم النشأة الأولى هذه ، وقدّر لهم النشأة الأخرى ، شئنا أم أبينا ، كنّا في رضىً من ذلك أم كرهناه ، وذلك لحبنا لهذه العاجلة ، أو مع الأسف الشديد لأننا أسأنا العمل فنكره المواجهة مع آثام العمل وآثاره.

إنّ الله سبحانه وتعالى قدّر للخلق أن تكون لهم نشأتان : نشأة في حياتهم الدنيا ، ونشأة أخرى في حياتهم الأخرى ، وهكذا أيضاً قدّر الله سبحانه وتعالى أن يكون عدد أوليائه إثني عشر ، لا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً ، وقدّر لهذا الثاني عشر أن يغيب من بيننا وهو حي وأن يظهر في الزمن الذي اختاره الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدّره بعلمه ، شئنا أم أبينا.

وأعني أنّنا لسنا مختارين ، ولم يجعل الله سبحانه خياراً لنا في أن نحيا ونحشر بعد أن نموت ، بحيث أننا إذا وجدنا في حياتنا الأخرى تلك منشأ لذّة أحببنا الحياة ، وإن وجدنا فيها آثاماً وسوء نتائج لسوء أعمالنا في هذه الحياة اخترنا أن يكون موتنا موتاً دائماً.

والذين قرأوا جداول أبي ماضي يعلمون بأن شبهة المعاد عنده أساسها هذه ، هذه الشبهة لو أردنا أن ننظر إليها من ناحية تندّر وظَرَفْ ، لابدّ وأنكم سمعتم أن هناك من يتندر فيقول : بأن الجوزة إن كان لابدّ لها من حامل ولا يكون إلاّ شجرة باسقة سامقة كبيرة طويلة العمر ، فكيف بالبطيخة ، البطيخة لابدّ أن تكون شجرتها أكبر من شجرة الجوزة ، مع العلم بأن هذا تندّر أو تغفّل أو شيء آخر أسوء من هذين ، لماذا ؟ لأننا واجهنا في الحياة أنّ الله سبحانه

١٠

وتعالى قدّر للجوزة أن تكون ثمرة لشجرة باسقة ، وأن لا يكون للبطيخ إلاّ هرش صغير.

فالعالم هو الذي يأخذ الحقائق كما هي ثم يستعين بها في حياته ، يعني بحيث أننا لو أردنا أن نستحصل الجوزة علينا أن نهيء أو نغرس شجرتها وننتظر وقد يكون انتظارنا يستمر سنين إلى أن نحصل على الثمرة ، وإذا أردنا أن نحصل على البطيخة ، فالبطيخة أهون بكثير في استحصالها من حيث الزمن ومن حيث الغرس ومن حيث العناية بالغرس ، وأسهل بكثير من الجوزة وشجرتها.

حقائق الحياة لا نملكها نحن ولا يملكها إلاّ الله سبحانه وهو الذي قدّرها واستمرّ عليها ويستمر عليها لحكمته ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

الإمام المهدي سلام الله عليه قدّر الله بحكمته أن يكون آخر الأئمة ، وأن يكون مهدي هذه الأمة ، وأن يكون هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، أو بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، ولا فرق بين العبارتين ، إلاّ ما يتخيله الإنسان من أنّ كاف التشبيه قد تكون أهون من البعدية ، ولا فرق بين الأثنين بحسب الواقع ، وأنا أشير إلى مناقشات حصلت في الموضوع.

فالإمام المهدي سلام الله عليه إرادة الله في عالم الشريعة ، كما أنّ حشره سبحانه وتعالى لخلقه إرادته في عالم الخليقة والتكوين ، لا فرق بين الأثنين ، لم يستشر أحداً في الأولى أي في الحشر بعد الموت ، ولا يستشير أحداً في الثانية ، أي إنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي قدّر أن يكون لهذه الأمة مهدي يظهر في آخر الزمان ، وأن يكون من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ولد أمير المؤمنين عليه‌السلام والصديقة الكبرى سلام الله عليها ، وأن يكون من ولد

١١

الحسين عليه‌السلام ، « إنّ الله تعالى عوّض الحسين من قتله أن جعل الإمامة في ذريّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ... » (١).

وهذه حقيقة هامّة يجب أنْ لا نغفل عنها ، وهي أن إيماننا بالمهدي لا يرتبط بأنفسنا من ناحية ذاتية ، بحيث أني لو أحببت المهدي أؤمن به ، ولو لم أُحبّ لا أؤمن ، إيماني بالمهدي خضوع وتسليم لإرادة الله كإيماني بكل ما أراه من سنّة الله تبارك وتعالى في هذا الكون وسنّته في الخلق ، عليّ أن أنسجم وأن أجعل نفسي وحياتي ملائمة ومنسجمة مع سنّة الله ، سنن الله سبحانه وتعالى لا تكون بحيث يرضى بها أحد فتكون سنّة ويكرهها آخر فلا تكون سنّة بالنسبة إليه.

النقطة الثانية :

إنّني حينما أتكلم عن المهدي سلام الله عليه أتكلّم عن موقع المهدي والمهدوية في عقائدنا نحن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ، وتفسير هذا أنّ المهدي سلام الله عليه قد يختلف عن باقي الأئمة ، ومنهم أمير المؤمنين سلام الله عليه ، فله جانبان : جانب اختصصنا به نحن الإمامية ، وجانب ثان اشترك فيه معنا غيرنا من فرق المسلمين ، وحتّى أمير المؤمنين سلام الله عليه له جانبان ، جانب أقرّ به غيرنا من فرق المسلمين ، وخاصة الفرق التي لها جانب رواية للسنّة وعناية بالحديث.

فلا أتكلم هنا عن المهدي والمهدوية عند المعتزلة ، لأن المعتزلة أطّروا

__________________

(١) الأمالي للطوسي ٣١٧ ج ٦٤٤.

١٢

مذهبهم باطار عقلي لا أقول بأنه صادق كلّه أو لا ، مائل عن الحق أو لا ، هذا خارج عن بحثي هنا ، أما فِرق المسلمين التي جعلت من السنّة أساساً لعقائدها فلا تشترك معنا في الإيمان بإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولكنها تشترك معنا في القول بالمهدي وأنه يخرج في آخر الزمان.

وأنا أملك نصوصاً كثيرة تدلّ بوضوح على أنّ علماءهم في الحديث والمعنيين بالدراسات الحديثية قالوا بأن أحاديث المهدي متواترة ، فقد رواها أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية ، بل وبعض الحديث الذي جاء عن بعض الصحابة كعبد الله بن مسعود ، السند إلى عبد الله عندهم متواترة لكثرة مَن يرويه من رواتهم عن عبد الله.

ولكنهم حينما يجمعون أحاديثهم ويفسّرون بعضها ببعض قد يكون منهج التفسير عندهم يختلف عن منهج التفسير عندنا نحن الإمامية ، وقد تكون النتيجة عندهم تنتهي إلى ما لا تنتهي إليه بحوثنا العقائدية.

مثلاً نجدهم يقولون بأن الاصح أنّ المهدي سلام الله عليه من ولد الحسن عليه‌السلام ، وهذا عندنا غير وارد.

أو أنّ المهدي الذي بشّر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف عرّفه ؟ يقولون بأنه جاء في كثير من الأحاديث : يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي (١) وبهذا يكون اسم أبيه الكريم عبد الله ، لا الإمام الحسن بن علي العسكري سلام الله عليهما.

أو أنه يخرج من أين ؟ في بعض رواياتهم ـ وإن كانت غريبة عندهم

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ح ٤٢٨٢.

١٣

ويستغربونها ويقولون بأنها من غريب الأحاديث ـ أنه يخرج من المغرب.

أنا حينما أتكلم عن المهدي سلام الله عليه ، أتكلم عن موقعه الخاص في عقيدتنا نحن الإمامية الإثنا عشرية خاصة ، فاذا استعنت بحديث غيرنا أستعين به فيما يؤكد ويقوّي نظرتنا نحن الإمامية ، لا أنّي أتناول حديث غيرنا تناولاً مباشراً فأحل العقد وأبيّن جهة الإشكال وأشرح جهة النقض وحلّ هذه المشكلة ، هذه كلّها اتجنبها في حديثي هذا.

وإن كنت قد ذكرت في كتابي الّذي جمعت فيه أحاديث المهدي عليه‌السلام من طرق غير الإمامية كل ما يرجع إليه عليه‌السلام ، وهذه الأحاديث لو قدّر أن تطبع لكانت أكثر من أربعمائة أو خمسمائة صفحة بترتيب خاص ، والبحوث التي تأتي بعدها قد تفوقه بصفحات وصفحات.

١٤

المهدي عليه‌السلام لا يمكن أن ينفصل عن الغيبة

أصل الدعوى التي عليّ أن أقيم الحجة على صحتها : أنّ المهدي والمهدوية ـ لا يمكن في حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه بحاجة عباده وأنه اللطيف الخبير يفعل ما يشاء ولكنه لا يفعل إلاّ لحكمة ، ويحكم بما يريد ولكنه لا يحكم إلاّ بما كان فيه رأفة ورحمة لعباده والتزام بالعدل الذي ألزم الله به نفسه ـ لا يمكن أن ينفصل عن الغيبة.

وهذه الحجة أذكرها إن شاء الله بصورة عدّة مسالك ، كلّ مسلك ينتهي الى أنّ المهدي سلام الله عليه قدّر الله له أن يكون أحد الأئمة ، فيستحيل أن لا تكون له غيبة.

فالإمام العسكري سلام الله عليه ولد سنة مائتين واثنين وثلاثين من الهجرة ، وجاءته الإمامة سلام الله عليه بعد استشهاد أبيه الإمام الهادي علي ابن محمد عليهما‌السلام سنة مائتين وأربع وخمسين من الهجرة ، وفي أشهر الأقوال عند الإمامية استشهد في يوم الجمعة الثامن من شوال سنة مائتين وستّين من الهجرة.

فلو حذفنا الجهات الخاصة بالفكرة عن الإمام العسكري سلام الله عليه عند الإمامية وقلنا : إن الإمام سلام الله عليه جاءته الإمامة في سنة ٢٥٤ ه‍ بعد موت أبيه موتاً طبيعياً ، وأنه جاءته الوفاة التي قدرها الله لكل أحد بصورة

١٥

طبيعية ، ولم تكن هناك جريمة اشترك في إيجادها بالنسبة إلى الإمام العسكري أحد لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة ، فكانت إمامته ست سنوات.

قد نقول : بأن الله سبحانه وتعالى وجد من الحكمة أنّ الإمامة للإمام العسكري كافية لمدة ست سنوات ، فالله سبحانه وتعالى جعله إماماً واستوفى حاجة الناس إلى إمامته ضمن ست سنوات ، فست سنوات كافية في أننا نملك إماماً وضعه الله إماماً علينا ، وبهذا نستفيد ما أراد الله سبحانه وتعالى من نصبه إماماً في ضمن ست سنوات.

أما الإمام المهدي سلام الله عليه فلم يملك مدّة الإمامة ولا يوماً واحداً ، لماذا ؟ لأنه مادام والده الإمام العسكري حي فالإمامة خاصة بأبيه ، وإن كان هناك إمامان لابدّ وأن يكون أحدهما صامتاً عندما يكون بقضاء الله سبحانه وتعالى غيره ناطقاً بالإمامة ، ويوم أن مات الإمام العسكري سلام الله عليه ، غاب ، فما هي الحاجة إلى إمامته ؟

لا أقول ما هي الحاجة بأن نكون نحن نتدخل في حكمة الله سبحانه وتعالى بفضول لا يرتضيه الله ، لا ، نحن نستفهم من الله سبحانه وتعالى بأنه حينما قدّر للمهدي سلام الله عليه أن تكون له إمامة آنذاك ، قدرها لكي يستفيد الخلق من إمامته ، وإلاّ فالله سبحانه وتعالى في غنى عن رسله وأنبيائه وعن أئمته وحججه ، وإنما يرسل رسله وينصب حججه لكي يستفيد الخلق منهم ، لا لحاجة من الله سبحانه وتعالى في الخلق ولا لهداية للخلق برسول يرسله إليهم أو بحجة ينصبه عليهم ، وإنّما الذي يحتاج هو الخلق والعباد ، والله رأفةً بعباده يؤمِّن لهم ما يحتاجون إليه في هدايتهم كما أمّن لهم ما يحتاجون إليه في حياتهم.

أرجو أن تكونوا قد استوعبتم الدعوى ، كي أقوم بسلوك الطرق المختلفة

١٦

لأثبت أنّ هذه الدعوى هي التي لابدّ وأن تكون الصحيحة في المجال الإعتقادي عند الإمامية الاثني عشرية ، الذين لهم تفسير خاص للإمامة لا يتجاوزونه ، وعدد خاص للأئمة لا يتجاوزونهم ، ليس لهم أن يحذفوا واحداً ، ولا أن يضيفوا واحداً ، ولا أن يؤخروا من قدّمه الله سبحانه وتعالى ، ولا أن يقدّموا من أخّره الله سبحانه وتعالى.

فالعقيدة الصحيحة لاستمرار حاجة الناس إلى النبوة وكون النبي مدّة حياته لا تتناسب مع الابدية لشريعته ، لابدّ لهذا النبي من أئمة يكونون مثله في العصمة في الأداء ، والعصمة في الهداية ، والعصمة في قيادة الخلق.

فعقيدة الإمام المهدي سلام الله عليه عند الإمامية لا يمكن أن تكون بلا غيبة ، لماذا ؟

لأنه في مقتبل عمره لم يتمكن ولا يوماً واحداً من هداية الأمة حتى بالقدر الذي كان يتمكن منه آباؤه ، ولم يتمكن لغيبته من اتّصال الشيعة به قدر ما كان يتمكن آبائه حتى في أحلك الظروف وأشدّها عليهم ، فإذن لا بد وأن تكون إمامته المتصرفة في خلقه بعد تلك الفترة ، أي بعد الغيبة ، فلابدّ لنا وأن نلتزم بأن الانتفاع بالإمام المهدي كإمام الذي يكون مشابهاً للانتفاع بآبائه الطاهرين كأئمة لابدّ وأن يأتي في فترة أخرى بعد الغيبة.

هذه خلاصة الدعوى ، وأنا إن شاء الله أبدأ بالطرق التي استخلصتها نتيجة بحثي وجمعي لمواد كثيرة من جهات شتى :

١٧
١٨

المسلك الأول

وعد الله بظهور دينه على الدين كلّه

إن الله سبحانه وتعالى وعد وعداً قاطعاً صريحاً بظهور دينه على الدين كلّه ، لا يقصد بذلك دينه الذي بدأ به من أول مَن أرسله رسولاً إلى خلقه وانتهى بمن أرسله رسولاً وسيداً على المرسلين وخاتم النبيين ، بل الدين الذي جاء به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعد الله سبحانه وعداً قاطعاً بأن يظهره على الدين كلّه.

وهذا الوعد جاء ضمن آيات ثلاث ، ومن غريب الأمر أن آيتين منها متماثلتان ، ولا أقول متشابهتان ، بل متماثلتان تماماً من أول حرف من الآية إلى آخر حرف منها ، وجاءتا في سورتين بينهما فاصل زمني وإن كانت السورتان كلتاهما مدنيتين.

الأولى : قوله تعالى في سورة التوبة (١) :

__________________

(١) سورة التوبة من آخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تنزل بعدها سورة سوى المائدة ، وهي آخر السور التي نزلت في عرفة في ذي الحجة من السنة العاشرة من هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة المنورة ، وبعدها لم يعش إلاّ أقل من ثلاثة شهور ، إن أقربنا وفاته بالثامن والعشرين من صفر ، أم أبعدنا الى الثاني عشر من ربيع الأول ، ولكن في تلك السنة التي تلت الشهر الثاني عشر من السنة العاشرة وشهر ذي الحجة لم يعش بعدها.

١٩

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) (١).

مفهوم الآية واضح ، ( هُوَ الَّذِي ) ، هذا كلّه تأكيد ، ( أَرْسَلَ رَسُولَهُ ) ، فلو قال سبحانه وتعالى : الله أرسل رسوله ، كان أوجز ، لكن هنا ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ) ، يعني أن الذي أرسل عليه لحكمته وعلمه وموقع رسوله هذا وموقع شريعته هذه التي جاء بها رسوله هذا ، يقتضي أن يكون هو الذي يظهر هذا الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون.

وهنا نكتة أشير إليها ، وهي قوله تعالى : ( بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ ) ، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسله السابقين على رسولنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهدى ودين الحق ، فلماذا سبحانه وتعالى يصف دينه هذا ورسوله هذا أنّه أرسله بالهدى ودين الحق ؟ والموجز في الجواب أن الأديان السابقة لم تكن هادية هداية عامة لجميع الخلق بالقياس إلى الهداية التي جاء بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا لأنها ناقصة ، بل لأنها تهدي الإنسانية في فترة قصيرة جداً من عمرها الطويل ، فتلك لا تقاس بالنسبة الى الهداية التي جاء بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك على ما يقولون : الفرد الأكمل الأبرز الأوضح للهدى الذي جاء به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا دين الحق ، لماذا ؟ لأن هذا الدين دين شرعه الله سبحانه وتعالى للبشرية إلى آخر أيام حياتها على ظهر هذا الكوكب ، كم تطول ؟ لا نعلم ، كم ألوف من السنن ؟ لا نعلم ، كم عصور تتوالى عليها ، لا نعلم ، ولكننا نعلم شيئاً واحداً : أنّ البشرية إن كانت قد اكتملت واكتسبت مافيه كمالها ، سواء أكان هذا الكمال من

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٣.

٢٠