السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥
وختموها بخواتيمهم ، وعلقت الوثيقة في الكعبة مدة ويقال : إنهم خافوا عليها السرقة؛ فنقلوها إلى بيت أم أبي جهل) (١).
وكان ذلك في سنة سبع من البعثة على أشهر الروايات. وقيل في سنة ست.
في شعب أبي طالب :
وأمر أبو طالب عليهالسلام بني هاشم أن يدخلوا برسول الله صلىاللهعليهوآله الشعب ـ الذي عرف بشعب أبي طالب ـ ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف ، فدخلوا معه ، باستثناء أبي لهب لعنه الله وأخزاه (٢).
واستمروا فيه إلى السنة العاشرة.
ووضعت قريش عليهم الرقباء ، حتى لا يأتيهم أحد بالطعام.
وكانوا ينفقون من أموال السيدة خديجة عليهاالسلام ، وأبي طالب عليهالسلام ، حتى نفدت ، حتى اضطروا إلى أن يقتاتوا بورق الشجر.
وكان صبيتهم يتضاغون جوعاً ، ويسمعهم المشركون من وراء الشعب ، ويتذاكرون ذلك فيما بينهم ، فبعضهم يفرح ، وبعضهم يتذمم من ذلك.
وزعموا أن هذا كان يصدر غالباً ممن يتصل بهم نسباً ، كأبي العاص
__________________
(١) هكذا جاء في بعض الروايات في البحار ج ١٩ ص ١٦ عن الخرائج والجرائح. ولا يهمنا تحقيق هذا الأمر كثيرا ..
(٢) وقيل : إن أبا سفيان بن الحارث أيضاً لم يدخل الشعب معهم ، ولكنه قول نادر. والاكثر على الاقتصار على أبي لهب لعنه الله ... ولسنا هنا في صدد تحقيق ذلك ..
بن الربيع ، وحكيم بن حزام ، وإن كنا نحن نشك في ذلك ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب عليهالسلام إلا في موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكانوا يشترون حينئذ ويبيعون ضمن ظروف صعبة جداً ، حيث إن المشركين كانوا يلتقون بكل من يقدم مكة أولاً ، ويطمعونه بمبالغ خيالية ثمناً لسلعته ، شرط أن لا يبيعها للمسلمين.
وكان أبو لهب هو رائدهم في ذلك؛ فكان يوصي التجار بالمغالاة عليهم حتى لا يدركوا معهم شيئاً ، ويضمن لهم ، ويعوضهم من ماله كل زيادة تبذل لهم.
بل لقد كان المشركون يتهددون كل من يبيع المسلمين شيئاً بنهب أمواله ، ويحذرون كل قادم إلى مكة من التعامل معهم.
والخلاصة :
أن قريشاً قد قطعت عنهم الأسواق ، فلا يتركون لهم طعاماً يقدم مكة ، ولا بيعاً إلا بادروهم إليه ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلىاللهعليهوآله (١).
وقد استمرت هذه المحنة سنتين أو ثلاثاً.
__________________
(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٦ ط دار إحياء التراث والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٤ ط دار المعرفة والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٦٧.
تضحيات علي عليهالسلام :
وكان الإمام علي أمير المؤمنين عليهالسلام أثناءها يأتيهم بالطعام سراً من مكة ، من حيث يمكن ، ولو أنهم ظفروا به لم يُبْقُوا عليه ، كما يقول الإسكافي وغيره (١).
ابو طالب عليهالسلام يضحي بولده :
وكان أبو طالب عليهالسلام كثيراً ما يخاف على النبي محمد صلىاللهعليهوآله البيات في الشعب؛ فإذا أخذ الناس مضاجعهم ، اضطجع النبي محمد صلىاللهعليهوآله على فراشه ، حتى يرى ذلك جميع من في شعب أبي طالب ، فإذا نام الناس جاء وأقامه ، وأضجع ابنه الإمام علياً عليهالسلام مكانه (٢).
وإنما يفعل ذلك ليكون علي عليهالسلام فداءً لرسول الله إذا ما فكرت قريش باغتياله صلىاللهعليهوآله.
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٥٦.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٥٦ وج ١٤ ص ٦٤ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٦٦ / ٦٥ وأسنى المطالب ص ٢١ ولم يصرح باسم (علي) وكذا في السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٢ وراجع البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٤ ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣١٢ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٤١ / ١٤٥ والغدير ج ٧ ص ٣٦٣ و ٣٥٧ و ٣٥٨ وج ٨ ص ٣ و ٤ وأبو طالب مؤمن قريش ص ١٩٤. وذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٤ من دون تصريح بالاسم. وتيسير المطالب ص ٤٩.
وثمة أبيات شعر له رحمهالله مخاطباً بها ولده الإمام علياً عليهالسلام بهذه المناسبة ، يشجعه فيها على هذا الأمر ، وسوف نوردها فيما يأتي ، حين الحديث عن إيمان أبي طالب عليهالسلام ، إن شاء الله تعالى ..
نقض الصحيفة :
وبعد ثلاث سنوات تقريباً من حصر المسلمين في شعب أبي طالب ، أخبر النبي محمد صلىاللهعليهوآله عمه أبا طالب عليهالسلام بأن الأرضة قد أكلت كل ما في صحيفتهم من ظلم وقطيعة رحم ، ولم يبق فيها إلا ما كان اسماً لله.
وفي نص آخر : أنها قد أكلت كل اسم لله تعالى فيها ، ولم تبق إلا كل ظلم وشر ، وقطيعة رحم (١).
والأصح هو الأول ، كما هو صريح كلام أبي طالب عليهالسلام.
__________________
(١) ولربما يقال : إن استمرار قريش على عدائه صلىاللهعليهوآله إلى حين نقض الصحيفة ، يدل على أن الأرضة إنما محت اسم الله تعالى. وأبقت قطيعة الرحم ، وسائر المواد التي اتفقوا عليها.
وقد استبعد ذلك بان أكل الأرضة لاسم الله بعيد. فلعلهم التزموا بمضمونها وإن كانت قد محيت ، أو أنهم أعادوا كتابتها.
ولربما يجاب عن ذلك بان الارضة إنما محت اسم الله عنها تنزيهاً له عن أن يكون في صحيفة ظالمة كهذه ، وهذا إعجاز مطلوب وراجح من أجل إظهار الحق ، وليس في ذلك إهانة.
فخرج أبو طالب عليهالسلام من شعبه ، ومعه بنو هاشم إلى قريش ، فقال المشركون : الجوع أخرجهم.
وقالوا له : يا أبا طالب ، قد آن لك أن تصالح قومك.
قال : قد جئتكم بخير ، ابعثوا إلى صحيفتكم ، لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها.
فبعثوا ، فأتوا بها. فلما وضعت وعليها أختامهم.
قال لهم أبو طالب عليهالسلام : هل تنكرون منها شيئاً؟!
قالوا : لا.
قال : إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط : أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة ، فأكلت كل قطيعة وإثم ، وتركت كل اسم هو لله؛ فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا ، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه.
فصاح الناس : أنصفتنا يا أبا طالب. ففتحت ، ثم أخرجت ، فإذا هي كما قال صلىاللهعليهوآله : فكبر المسلمون ، وامتعقت وجوه المشركين.
فقال أبو طالب عليهالسلام : أتبين لكم : أينا أولى بالسحر والكهانة؟.
فأسلم يومئذ عالم من الناس.
ولكن المشركين لم يقنعوا بذلك ، بل استمروا على العمل بمضمون الصحيفة ، حتى قام جماعة منهم بالعمل على نقضها ، ومنهم :
هشام بن عمرو بن ربيعة ، وزهير بن أمية بن المغيرة ، والمطعم بن عدي ، وأبا البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وكلهم له رحم ببني هاشم والمطلب. وتكلموا في نقضها؛ فعارضهم أبو جهل ، فلم يلتفتوا
إلى معارضته ، ومزقت الصحيفة ، وبطل مفعولها.
وخرج الهاشميون حينئذ من شعب أبي طالب رضوان الله تعالى عليه (١).
حنكة .. وإيمان :
وإن من يطالع أحداث ما قبل الهجرة النبوية الشريفة يجد الشواهد الكثيرة الدالة على حنكة أبي طالب وحكمته عليهالسلام.
وخير شاهد نسوقه هنا على ذلك ، هو ما ذكرناه آنفاً ، من أنه طلب منهم أن يحضروا صحيفتهم ، ومزج ذلك بالتعريض بإمكان أن يكون ثمة صلح في ما بينهم وبينه. وذلك من أجل أن لا تفتح الصحيفة إلا علناً ، بحيث يراها كل أحد ، وأيضاً ، حتى يهيئهم للمفاجأة الكبرى ، ويمهد السبيل أمام طرح الخيار المنطقي عليهم ، ليسهل عليهم تقبله ، ثم الالتزام به.
ولاسيما إذا استطاع أن ينتزع منهم وعداً بما يريد ، ويضعهم أمام شرف الكلمة ، وعلى محك قواعد النبل واحترام الذات ، حسب المعايير التي كانوا يتعاملون على أساسها ..
وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد ، حتى ليصيح الناس : أنصفتنا يا أبا طالب.
ثم تبرز لنا من النصوص المتقدمة حقيقة أخرى ، لها أهميتها
__________________
(١) راجع فيما تقدم : السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٦ ودلائل النبوة ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣١٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٨٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٣٧ و ١٣٨ ط دار المعرفة وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣١ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٨٥ و ٨٦.
وانعكاساتها ، وهي ما ظهر من عمق ثقة أبي طالب عليهالسلام بصدق النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله ، وبسداد أمره ، وواقعية وحقانية ما جاء به.
حتى لقد كان يتألم جداً من اتهام ابن أخيه بالسحر والكهانة ، ويعتبر ذلك افتراءً ظاهراً ، ويغتنم الفرصة السانحة للتعبير عن خطل رأيهم ، وسفه أحلامهم ، فيقول لهم :
«أتبين لكم : أينا أولى بالسحر والكهانة»؟.
ويلاحظ : أنه يعتبر اتهام النبي بالسحر ، والكهانة اتهام له أيضاً بذلك ، حيث قال : «أينا».
وكانت النتيجة : هي أن أسلم بسبب هذه المعجزة يومئذ ، وبسبب حكمة أبي طالب وحنكته ، عالم من الناس.
التحدي في أقصى مداه :
ثم هو يقف ذلك الموقف العظيم من جبابرة قريش وفراعنتها ، حينما جاءه النبي محمد صلىاللهعليهوآله ـ وقد ألقت عليه قريش سلى ناقة ـ فأخذ رحمهالله السيف ، وأمر حمزة عليهالسلام بأن يأخذ السلى ، وتوجه إلى القوم ، فلما رأوه مقبلاً عرفوا الشر في وجهه ، ثم أمر حمزة عليهالسلام أن يلطخ بذلك السلى سبالهم ، واحداً واحداً ، ففعل (١).
__________________
(١) الكافي نشر مكتبة الصدوق ج ١ ص ٤٤٩ ومنية الراغب ص ٧٥ وراجع السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٢ والسيرة النبوية لدحلان مطبوع بهامش الحلبية ج ١ ص ٢٠٢ و ٢٠٨ و ٢٣١ والبحار ج ١٨ ص ٢٥٩.
وفي نص آخر : أنه نادى قومه ، وأمرهم بأن يأخذوا سلاحهم؛ فلما رآه المشركون أرادوا التفرق؛ فقال لهم :
«ورب البنية ، لا يقوم منكم أحد إلا جللته بالسيف ، ثم وجأ أنف من فعل بالنبي الأكرم صلىاللهعليهوآله ذلك حتى أدماها ـ وفاعل ذلك هو ابن الزبعرى ـ وأمَرَّ بالفرث والدم على لحاهم» (١).
من مواقف أبي طالب عليهالسلام :
قلنا : إن أبا طالب شيخ الأبطح عليهالسلام هو الذي حامى وناصر النبي محمداً صلىاللهعليهوآله بيده ولسانه ، وحدب عليه منذ طفولته ، وواجه المصاعب الكبيرة ، والمشاق العظيمة ، في سبيل الدفع عنه ، والذود عن دينه ورسالته ، ومنح بذلك هذا الدين الفرصة للتوسع والانتشار ، ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وكان عليهالسلام يقدِّم النبي صلىاللهعليهوآله على أولاده جميعاً ، وقد أرجعه بنفسه من بصرى إلى مكة عندما حذره بحيرا من مكر اليهود.
نعم ، وهو الذي رضي بعداء قريش له ، وبمعاناة الجوع والفقر ، والنبذ الاجتماعي ، ورأى الاطفال يتضاغون جوعاً ، حتى اقتاتوا ورق الشجر.
__________________
(١) راجع : الغدير ج ٧ ص ٣٨٨ و ٣٥٩ وج ٨ ص ٣ / ٤ وأبو طالب مؤمن قريش ص ٧٣ كلاهما عن العديد من المصادر وثمرات الأوراق ص ٢٨٥ / ٢٨٦ ونزهة المجالس ج ٢ ص ١٢٢ والجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٤٠٥ / ٤٠٦ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٤ / ٢٥.
بل لقد أعلن بصراحة : أنه مستعد لأن يخوض حرباً طاحنة ، تأكل الأخضر واليابس ، ولا يسلِّم النبي محمداً صلىاللهعليهوآله لهم ، ولا يمنعه من الدعوة إلى الله ، بل هو لا يطلب منه ذلك على الأقل.
وتقدم : أنه هو الذي أمرَّ السلى على لحى جبابرة قريش ، وفي الشعب كان يحرس النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله بنفسه وينقله من مكان إلى آخر.
وهو الذي كان ينيم ولده الإمام علياً عليهالسلام مكانه ، ليكون ولده فداء لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، ويصاب به دونه.
وكان يدفع قريشاً عنه باللين تارة ، وبالشدة أخرى. وينظم الشعر السياسي ، ليثير العواطف ، ويدفع النوازل ، ويهيء الأجواء لإعلاء كلمة الله ، ونشر دينه ، وحماية أتباعه.
وقد افتقد النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله مرة «فلم يجده؛ فجمع الهاشميين ، وسلحهم ، وأراد أن يجعل كل واحد منهم إلى جانب عظيم من عظماء قريش ليفتك به ، لو ثبت أن محمداً أصابه شر» (١).
كل ذلك في سبيل الدفع عن الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله ونصر دينه ، وإعلاء كلمته ، ورفعة شأنه.
وواضح : أن الإلمام بكل مواقف أبي طالب عليهالسلام ، وتضحياته
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٦ وأبو طالب مؤمن قريش ص ١٧١ ومنية الراغب ص ٧٥ / ٧٦ والغدير ج ٢ ص ٤٩ و ٣٥٠ و ٣٥١.
الجسام يحتاج إلى وقت طويل ، وجهد مستقل.
ونحن نكتفي بهذه الإشارة ، ونعترف أننا لم نقض حقه كما ينبغي له.
نتائج ، وآثار :
يظهر مما تقدم أن أبا طالب عليهالسلام ، شيخ الأبطح ، قد :
١ ـ تخلى حتى عن مكانته في قومه ، إلى بديل آخر هو في الاتجاه المضاد تماماً ، وهو العداء لهم ، ولسائر أهل بلده ، بل والدنيا بأسرها ، بل ويتحمل النفي والنبذ الاجتماعي له ، ولكل من يلوذ به ، ولا يستسلم للضغوط المتنوعة التي يتعرض لها ، ولا تلين له قناة ، ولا تصدع صفاة.
٢ ـ رضي بتحمل الجوع والفقر والمحاصرة الاقتصادية ، بل هو يبذل أمواله وكل ما لديه في سبيل هذا الدين.
٣ ـ وطن نفسه على خوض حرب طاحنة ، ربما تنتهي بإبادة الهاشميين وأعدائهم ، إذا لزم الأمر.
٤ ـ ضحى حتى بولده الأصغر سناً الإمام علي عليهالسلام ، وتحمل آثار غربة ولده الآخر جعفر عليهالسلام ، المهاجر إلى الحبشة.
٥ ـ جاهد بيده ولسانه ، واستخدم كل ما لديه من إمكانات مادية ومعنوية ، ولم يبال بكافة الصعاب والمشاق ، في دفاعه عن النبي ، وحياطة دينه بالرعاية والعناية ، ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
سؤال وجوابه :
ويرد سؤال ، هو : لماذا لا يكون ذلك كله بدافع عاطفي ، ونابعاً عن حمية النسب والقبيلة؟!
أو على حد تعبير البعض : بدافع من «حبه الطبيعي» لابن أخيه (١).
وجوابه :
١ ـ ما يأتي من أدلة قاطعة على إيمان أبي طالب عليه الصلاة والسلام.
٢ ـ يؤيد ذلك : أنه إذا كان النبي محمد صلىاللهعليهوآله ابن أخيه؛ فإن الإمام علياً عليهالسلام ولده ، فلو كانت العاطفة النسبية هي الدافع ، فلماذا يضحي بولده ويرضى بأن يغتاله المشركون دون ابن أخيه ، طائعاً مختاراً ، بعد تفكير وتأمل وتدبر لعواقب ذلك؟!
أم يعقل أن يكون حبه الطبيعي لابن أخيه أكثر منه لولده ، وفلذة كبده؟!.
٣ ـ أما الحمية القبلية ، والرابطة النسبية ، فلو كانت هي السبب في موقفه ذاك ، فلماذا لم تدفع أبا لهب لعنه الله لأن يقف موقف أبي طالب عليهالسلام؟ فيدفع عن النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله ، ويضحي في سبيله؟ حتى بولده ، وبمكانته ، وبكل ما يملك؟!.
بل كان لعنه الله من أشد الناس على النبي محمد صلىاللهعليهوآله ، وأكثرهم جرأة عليه ، وإيذاء له.
وأما ساير بني هاشم ، فإنهم وإن دخلوا الشعب مع النبي محمد صلىاللهعليهوآله ، إلا أن تضحياتهم في سبيل النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله لم تبلغ عشر معشار تضحيات أبي طالب عليهالسلام ، كما أنهم إنما وقفوا
__________________
(١) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٤.
هذا الموقف تحت تأثير نفوذ أبي طالب عليهالسلام ، وإصراره ..
وهكذا يتضح : أن حمية الدين أقوى من حمية النسب ، ولذلك نرى المسلمين يصرحون بأنهم على استعداد لقتل آبائهم وأولادهم في سبيل دينهم.
وقد استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلىاللهعليهوآله بقتل أبيه (١).
وفي صفين أيضاً لم يرجع الأخ عن أخيه ، حتى أذن له أمير المؤمنين عليهالسلام بتركه (٢).
وقد قتل أهل الكوفة إخوانهم ، وأبناءهم ، وأبناء عمهم ، حين أصبحوا خوارج (٣) إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة ، التي لا حاجة لاستقصائها هنا.
٤ ـ ثم إنه لو كان أبو طالب عليهالسلام يفعل ذلك من أجل الدنيا؛ فقد كان يجب أن يضحي بابن أخيه دون ولده ، ويضحي به دون عشيرته؛ لأنه يحصل على الدنيا من هذا الطريق؛ كما قتل المأمون أخاه ، وسممت أم الهادي ولدها ، لا أن يضحي بكل شيء دونه ، ويصر على ذلك ، حتى بقيمة خوض حرب تكون نتيجتها أن يقتل هو ، ويقتل معه
__________________
(٣) تفسير الصافي ج ٥ ص ١٨٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٢٤ عن عبد بن حميد ، وابن المنذر والإصابة ج ٢ ص ٣٣٦.
(٢) صفين للمنقري ص ٢٧١ / ٢٧٢ والبحار ج ٣٢ ص ٤٧٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ٢١٥.
(٣) راجع كتابنا : علي والخوارج ج ٢ ص ٧٧ فما بعدها.
الهاشميون ، وطائفة كبيرة من قومهم الذين عاشوا معهم.
٥ ـ وأيضاً ، فإن الحمية القبلية ـ لو كانت ـ فإنما تؤثر أثرها في حدود مصالح القبيلة ، والحفاظ على شؤونها ، ومستقبلها ، أما إذا أصبحت هذه الحمية سبباً في تدمير القبيلة ، والقضاء عليها ، وتعطيل مصالحها ، وتعريض مستقبلها للأخطار الجسام؛ فإن هذه الحمية لا يمكن أن يفسح لها المجال ، ولا أن يظهر لها أثر لدى عقلاء الرجال.
عام الحزن :
وفي السنة العاشرة من البعثة كانت وفاة الرجل العظيم ، أبي طالب عليه الصلاة والسلام ناصر النبي صلىاللهعليهوآله ، وحافظ الدين وحامل لواء الدعوة إليه.
ثم توفيت بعده بمدة وجيزة ـ قيل : بثلاثة أيام ، وقيل بعده بحوالي شهر (١) ـ السيدة خديجة أم المؤمنين صلوات الله وسلامه عليها ، أفضل أزواج النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله ، وأحسنهن سيرة وأخلاقاً.
ونستطيع أن نعرف : كم كان لأبي طالب عليهالسلام ، وللسيدة خديجة صلوات الله وسلامه عليهما من خدمات جلى في سبيل هذا الدين من تسمية النبي صلىاللهعليهوآله عام وفاتهما بـ : «عام الحزن» (٢).
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٣٢ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٢٧ والتنبيه والأشراف ص ٢.
(٢) سيرة مغلطاي ص ٢٦ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠١ والمواهب اللدنية ج ١ ص
الحب في الله والبغض في الله :
ومن الواضح : أن النبي صلىاللهعليهوآله لم يكن ينطلق في حبه لهما ، وحزنه عليهما من مصلحته الشخصية ، أو من عاطفة رحمية ، وإنما هو يحب في الله تعالى ، وفي الله فقط. ويقدِّر أي إنسان ، ويحزن لفقده ، ويرتبط به روحياً وعاطفياً ، بمقدار ارتباط ذلك الإنسان بالله ، وقربه منه ، وتفانيه في سبيله ، وفي سبيل دينه ورسالته.
أي أنه صلىاللهعليهوآله لم يتأثر على أبي طالب والسيدة خديجة عليهماالسلام؛ لأن هذه زوجته وذاك عمه. وإلا فقد كان أبو لهب عمه أيضاً. وإنما لما لمسه فيهما من قوة إيمان ، وصلابة في الدين ، وتضحيات وتفان في سبيل الله ، والعقيدة. وفي سبيل المستضعفين في الأرض ، ولما خسرته الأمة فيهما ، من جهاد وإخلاص قل نظيره في تلك الظروف الصعبة والمصيرية.
وقد ألمح النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله إلى ذلك حينما جعل موت أبي طالب والسيدة خديجة عليهماالسلام ، مصيبة للأمة بأسرها ، كما هو صريح قوله في هذه المناسبة :
«.. اجتمعت على هذه الأمة مصيبتان ، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً» (١).
__________________
٥٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٣٩ ط دار المعرفة وأسنى المطالب ص ٢١.
(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥ ط صادر.
الفصل الرابع :
إيمان أبي طالب عليهالسلام
إيمان أبي طالب عليهالسلام عند أهل البيت عليهمالسلام :
ولا بد لنا هنا من الحديث بإيجاز عن موضوع ما زال بين أخذ ورد بين المسلمين.
ألا وهو إيمان أبي طالب رحمهالله ، فمن مؤيد ، ومن منكر.
فأما أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم ، فإنهم مجمعون على إيمانه وإسلامه عليهالسلام (١) بل في بعض الأحاديث عنهم عليهمالسلام : أنه من الأوصياء (٢).
وأن نوره يطغى في يوم القيامة على كل نور ، ما عدا نور النبي محمد صلىاللهعليهوآله ، والأئمة عليهمالسلام ، والسيدة فاطمة الزهراء
__________________
(١) روضة الواعظين ص ١٣٨ ، وأوائل المقالات ص ١٣ والطرائف لابن طاووس ص ٢٩٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٦٥ ، والبحار ج ٣٥ ص ١٣٨ والغدير ج ٧ ص ٣٨٤ عنهم ، وعن : التبيان ج ٢ ص ٣٩٨ ، وكتاب الحجة لابن معد ص ١٣ ، ومجمع البيان ج ٢ ص ٢٨٧.
(٢) الغدير ج ٧ ص ٣٨٩.
عليهاالسلام (١).
أهل البيت عليهمالسلام أدرى :
والأحاديث الدالة على إيمانه ، والواردة عن أهل بيت العصمة عليهمالسلام لا تنحصر بما ذكرناه في هذه الدراسة ، وقد جمعها العلماء في كتب مفردة (٢).
وقد ذكر العلامة المجلسي في كتابه العظيم «بحار الأنوار» ج ٣٥ والطبسي في كتاب «منية الراغب» وكذلك الخنيزي في كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» صاحب كتاب : «مواهب الواهب» وغيرهم الشيء الكثير جداً مما يدل على إيمانه صلوات الله وسلامه عليه .. ونحن سوف نقتصر في هذا المعرض على أقل القليل من ذلك ونحيل من أراد التوسع إلى كتاب البحار الآنف الذكر ، وإلى غيره ..
غير أننا نقول هنا : إن هذه الأخبار هي من الكثرة والصراحة بحيث تعطي الانطباع الحاسم عما لأبي طالب ، من شأن عظيم ، ومقام كريم عند الله تعالى.
__________________
(١) الغدير ج ٧ ص ٣٨٧ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٨٠ وأمالي الطوسي ص ٣٠٥ و ٧٠٢ ط مؤسسة البعثة والإحتجاج ج ١ ص ٣٤١ ط مطبعة النعمان والبحار ج ٣٥ ص ٦٩ و ١١٠ وبشارة المصطفى لمحمد بن علي الطبري ص ٣١٢ ط مؤسسة النشر الإسلامي وكشف الغمة للإربلي ج ٢ ص ٤٢ ط دار الأضواء ومائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي ص ١٧٤.
(٢) ومن هذه الكتب كتاب : منية الراغب في إيمان أبي طالب للشيخ الطبسي ومواهب الراهب في إيمان أبي طالب ، وغير ذلك.
وواضح : أن أهل البيت أدرى بما فيه ، من كل أحد.
يقول ابن الأثير :
«وما أسلم من أعمام النبي صلىاللهعليهوآله غير حمزة والعباس ، وأبي طالب عند أهل البيت» (١).
تآليف في إيمان أبي طالب عليهالسلام :
وعدا عن ذلك ، فما أكثر الأدلة الدالة على إيمانه ، وقد أُلف في إثبات إيمانه ، الكثير من الكتب من السنة والشيعة على حد سواء.
وقد أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كتاباً ، ومنها كتاب : «أبو طالب مؤمن قريش» للأستاذ عبد الله الخنيزي ، الذي كاد أن يدفع مؤلفه حياته ثمناً له ، حين حاول الوهابيون اتخاذ ذلك ذريعة ، للتخلص منه ، فتداركه الله برحمته ، وتخلص من شرهم.
هذا عدا عن البحوث المستفيضة المبثوثة في ثنايا الكتب والموسوعات ، ونخص بالذكر هنا ما جاء في كتاب الغدير للعلامة الأميني قدسسره .. (٢).
وقد نقل العلامة الأميني عن جماعة من أهل السنة : أنهم ذهبوا إلى ذلك أيضاً ، وكتبوا الكتب والبحوث في إثبات ذلك ، كالبرزنجي في
__________________
(١) البحار ج ٣٥ ص ١٣٩ والغدير ج ٧ ص ٣٦٩.
(٢) راجع : ج ٧ وج ٨.
أسنى المطالب (١) والأجهوري ، والإسكافي ، وأبي القاسم البلخي ، وابن وحشي في شرحه لكتاب : شهاب الأخبار ، والتلمساني في حاشية الشفاء ، والشعراني ، وسبط ابن الجوزي ، والقرطبي ، والسبكي ، وأبي طاهر ، والسيوطي ، وغيرهم.
بل لقد حكم عدد منهم ـ كابن وحشي والأجهوري ، والتلمساني ـ بأن من أبغض أبا طالب فقد كفر ، أو من يذكره بمكروه فهو كافر (٢).
من أدلة إيمان أبي طالب عليهالسلام :
ونحن نذكر فيما يلي طرف من الأدلة على إيمان أبي طالب ، فنقول :
أهل البيت أعرف :
وقد تقدم بعض ما روي عن الأئمة عليهمالسلام ، والنبي الأكرم صلىاللهعليهوآله مما يدل على إيمانه ، وقد قلنا : إن أهل البيت أدرى بما فيه ، وأعرف بأمر كهذا من كل أحد.
التضحيات والمواقف :
ويدل على ذلك أيضاً : ما تقدم من مناصرته للنبي صلىاللهعليهوآله ، وتحمله المشاق والصعاب العظيمة ، وتضحيته بمكانته في قومه ، وحتى بولده ، وتوطينه نفسه على خوض حرب طاحنة تأكل الأخضر
__________________
(١) راجع : ص ٦ و ١٠.
(٢) راجع : الغدير ج ٧ ص ٣٨٢ و ٣٨٣ وغير ذلك.