السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥
اسمه :
قيل إن اسم أبي طالب عليهالسلام : عمران ، وقيل : عبد مناف ، وقيل اسمه : لقبه.
ويؤيد الثاني ما روي من أن عبد المطلب قال :
أوصيك يا عبد مناف بعدي |
|
بموحد بعد أبيه فرد |
وقال :
وصّيت من كنيته بطالب |
|
عبد مناف ، وهو ذو تجارب .. (١) |
وقد سمي عبد مناف ، لأنه أناف على الناس وعلا (٢).
ويؤيد الأول ما قالوه ، من أنه قد ورد في زيارة النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله ، والمروية في بعض كتب أصحابنا :
__________________
(١) البحار ج ١٨ ص ٢٣٨ وراجع ج ٣٥ ص ٨٣ وراجع المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٣٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٧٨ وحول أن اسمه عبد مناف راجع كتاب : نبوة أبي طالب ص ٧ / ١٢ تأليف مزمل حسين الميثمي الغديري ، ط قم ، إيران.
(٢) راجع : إثبات الوصية ص ٤٠.
«السلام على عمك عمران أبي طالب» (١).
ويؤيد أن اسمه كنيته ، ما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام : أنه كتب في بعض الرسائل : علي بن أبو طالب (٢).
إلا أن يقال : إن كتابة الياء في الخط الكوفي تشبه كتابة الواو ..
و «قال الحاكم : أكثر المتقدمين على أن اسمه (يعني أبا طالب) كنيته (٣).
وهناك كلام مطول حول هذا الموضوع ، ذكرنا طرفاً منه في موضع آخر .. فراجع. (٤).
صفة أبي طالب عليهالسلام ومكانته :
كان أبو طالب عليهالسلام شيخاً جسيماً ، وسيماً ، عليه بهاء الملوك ، ووقار الحكماء ..
وقيل لأكثم بن صيفي : ممن تعلمت الحكمة ، والرياسة ، والحلم ، والسيادة؟
__________________
(١) البحار ج ١٠٠ ص ١٨٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٥٥٥.
(٢) البحار ج ٣٥ ص ١٣٨ وج ٣٣ ص ٥٢٤ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٢٣٥ ، وعمدة الطالب ص ٢٠ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٠٦. فإنه جعل الكنية علماً بمنزلة لفظة واحدة لا يتغير إعرابها.
(٣) الإصابة ج ٤ ص ١١٥.
(٤) راجع : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله ج ٤ ص ١٩٤ ـ ١٩٧.
فقال : من حليف العلم ، والأدب ، سيد العجم والعرب ، أبي طالب بن عبد المطلب (١).
وكان أبو طالب عليهالسلام ممن يهابه الرجال ، ويكره غضبه (٢).
وقال النويري : «كان أبو طالب حاكم قريش ، وسيدها ، ومرجعها في الملمات» (٣).
وهو ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية (٤).
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في فضل أمير المؤمنين عليهالسلام :
«ما أقول في رجل أبوه أبو طالب ، سيد البطحاء ، وشيخ قريش ، ورئيس مكة؟
وقالوا : قلَّ أن يسود فقير ، وساد أبو طالب ، وهو فقير لا مال له ..
وكانت قريش تسميه (الشيخ).
إلى أن قال : «.. وهو الذي كفل رسول الله صلىاللهعليهوآله صغيراً ، وحماه وحاطه كبيراً ، ومنعه من مشركي قريش ، ولقي لأجله عناء
__________________
(١) البحار ج ٣٥ ص ١٣٤. وراجع : الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٢ وروضة الواعظين ص ١٠١ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٠٩.
(٢) سفينة البحار ج ٥ ص ٣١٩ والبحار ج ١٦ ص ١٤ وغوالي اللآلي ج ٣ ص ٢٩٩ والمهذب البارع لابن فهد الحلي ج ٣ ص ١٧٧ والكافي ج ٥ ص ٣٧٥ ط دار الكتب الإسلامية.
(٣) نهاية الإرب ج ١ ص ٣٢٤ ط ٢.
(٤) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٥ ص ٢٩٧ عن السيرة الحلبية ج ١ ص ١١٣.
عظيماً ، وقاسى بلاء شديداً ، وصبر على نصره ، والقيام بأمره. وجاء في الخبر : أنه لما توفي أبو طالب : أوحي إليه ، وقيل له : اخرج منها ، فقد مات ناصرك» (١).
أبو طالب في كلمات النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام :
ثم إنه قد روي عن علي عليهالسلام : أن نور أبي يوم القيامة يطفئ أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار. نور محمد صلىاللهعليهوآله ونوري ، ونور الحسن والحسين ، ونور تسعة من ولد الحسين (٢).
وروي أيضاً : أن مثله كان مثل أصحاب الكهف.
وأنه كان مستودعاً للوصايا ، فدفعها إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله (٣).
وقال الصدوق : روي أن عبد المطلب كان حجة ، وأن أبا طالب كان وصيه (٤).
وقال المجلسي : بل كان من أوصياء إبراهيم (٥).
__________________
(١) البحار ج ٤١ ص ١٥١ وراجع إيمان أبي طالب ص ٢٤ وراجع البحار ج ٢٢ ص ٢٦١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٩ وج ٤ ص ١٢٨ وينابيع المودة ج ١ ص ٤٥٥.
(٢) البحار ج ٣٥ ص ٦٩ و ١١٠ عن الإحتجاج وعن الكراجكي.
(٣) البحار ج ٣٥ ص ٧٢ و ٧٣ وراجع الكافي ج ١ ص ٤٤٥.
(٤) الاعتقادات في دين الإمامية للصدوق ص ٨٥ طبع المطبعة العلمية ، قم سنة ١٤١٢ هـ.
(٥) البحار ج ٣٥ ص ١٣٨.
وفي روضة الواعظين : أن جابراً قال لرسول الله صلىاللهعليهوآله : يقولون إن أبا طالب مات كافراً؟!
قال صلىاللهعليهوآله : يا جابر ، الله أعلم بالغيب! إنه لما كانت الليلة التي أسري بي إلى السماء انتهيت إلى العرش ، فرأيت أربعة أنوار ، فقلت : إلهي ، ما هذه الأنوار؟!
فقال : يا محمد ، هذا عبد المطلب ، وهذا أبو طالب ، وهذا أبوك عبدالله ، وهذا أخوك طالب.
فقلت : إلهي وسيدي ، فيم نالوا هذه الدرجة؟!
قال : بكتمانهم الإيمان ، وإظهارهم الكفر ، وصبرهم على ذلك حتى ماتوا (١).
أبو طالب عليهالسلام كفيل النبي صلىاللهعليهوآله :
وقد روي : أنه لما ولد النبي صلىاللهعليهوآله مكث أياماً ليس له لبن ، فألقاه أبو طالب عليهالسلام على ثدي نفسه ، فأنزل الله فيه لبناً فرضع أياماً ، حتى جاءت حليمة السعدية فدفعه إليها (٢).
وقالوا : إنه في كفالته لرسول الله صلىاللهعليهوآله لم يكن يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وينيمه في فراشه ، وكان إذا أراد أن يعشي أولاده
__________________
(١) البحار ج ٣٥ ص ١٥ وروضة الواعظين ص ١٠١.
(٢) البحار ج ١٥ ص ٣٤٠ وج ٣٥ ص ١٣٦ والكافي ج ١ ص ٤٤٨ وراجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣١ وحلية الأبرار ج ١ ص ٢٩.
ويغذيهم يقول : كما أنتم حتى يحضر ابني ، فيأتي رسول الله صلىاللهعليهوآله فيأكل معهم فيبقى الطعام (١).
ولما حضرت عبد المطلب الوفاة ، دفع النبي صلىاللهعليهوآله إلى أبي طالب عليهالسلام ، وطلب منه أن يحفظه فيه ، فقال له أبو طالب :
يا أبه ، لا توصني بمحمد ، فإنه ابني ، وابن أخي ..
فلما توفي عبد المطلب كان أبو طالب يؤثره بالنفقة ، والكسوة على نفسه ، وعلى جميع أهله (٢).
إني مقتول :
وكان النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله إذا أخذ مضجعه ، ونامت العيون ، جاءه أبو طالب عليهالسلام ، فأنهضه صلىاللهعليهوآله عن مضجعه ، وأضجع الإمام علياً عليهالسلام مكانه ، ووكل عليه ولده ، وولد أخيه.
فقال الإمام علي عليهالسلام : يا أبتاه ، إني مقتول ذات ليلة.
فقال أبو طالب عليهالسلام :
إصبرن يا بني ، فالصبر أحجى |
|
كل حي مصيره لشعوب |
قد بلوناك والبلاء شديد |
|
لفداء النجيب ، وابن النجيب |
إن تصبك المنون بالنبل تترى |
|
فمصيب منها وغير مصيب |
__________________
(١) البحار ج ١٥ ص ٣٣٥ و ٤٠٧ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٥.
(٢) راجع : البحار ج ١٨ ص ٢٣٨ والإحتجاج ج ١ ص ٣٤٣ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٥ ط المطبعة الحيدرية.
كل حي وإن تطاول عمراً |
|
آخذ من سهامها بنصيب |
فقال الإمام علي عليهالسلام :
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد |
|
ووالله ما قلت الذي قلت جازعاً |
ولكنني أحببت أن تر نصرتي |
|
وتعلم أني لم أزل لك طائعاً |
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد |
|
نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعاً (١) |
وقال الإمام علي عليهالسلام أيضاً بعد ذلك :
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى |
|
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر |
رسول إله الخلق إذ مكروا به |
|
فنجاه ذو الطول الكريم من المكر |
وبت أراعيهم وهم يثبتونني |
|
وقد صبرت نفسي على القتل والأسر |
وبات رسول الله في الشعب آمناً |
|
وذلك في حفظ الإله وفي ستر |
أردت به نصر الإله تبتلاً |
|
وأضمرته حتى أوسد في قبري (٢) |
وحين أَخبَرَ الإمام علي عليهالسلام أباه بأنه قد أسلم على يد
__________________
(١) البحار ج ٣٥ ص ٩٣ وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٦٤ / ٦٥ وأسنى المطالب ص ٢١ ولم يصرح باسم (علي) وكذا في السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٢ وراجع البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٤ ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣١٢ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٤٠ / ١٤١ والغدير ج ٧ ص ٣٦٣ و ٣٥٧ و ٣٥٨ وج ٨ ص ٣ و ٤ وأبو طالب مؤمن قريش ص ١٩٤.
(٢) البحار ج ٣٦ ص ٤٦ ، وراجع ج ٣٨ ص ٢٩٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٢٣٥ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٣٠٩ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢٣٧.
الرسول صلىاللهعليهوآله ، قال أبو طالب عليهالسلام :
أما إنه لا يدعو إلا إلى خير ، فالزمه (١).
وقال لولده الإمام علي عليهالسلام حينما أخبره أنه يريد أن يتبع الرسول صلىاللهعليهوآله :
يا ولدي ، تعلم أن محمداً والله أمين منذ كان ، امض واتبعه ترشد وتفلح ، وتشهد (٢).
ويقول عليهالسلام : إنه لما رآه أبو طالب عليهالسلام هو والنبي الأكرم صلىاللهعليهوآله ساجدين.
قال : افعلتماها؟
ثم أخذ بيدي ، فقال : انظر كيف تنصره ، وجعل يرغبني في ذلك ، ويحضني عليه (٣).
ثم إنه هو الذي أمر جعفراً وحمزة بالإسلام ، وأمر زوجته فاطمة بنت أسد بأن تسلم أيضاً (٤).
__________________
(١) البحار ج ٣٨ ص ٢٠٧ و ٣٢٣ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٠١ ط المطبعة الحيدرية وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٠٠ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٨ ط مؤسسة الأعلمي.
(٢) البحار ج ٣٨ ص ٢٠٧ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٠١ ط المطبعة الحيدرية.
(٣) البحار ج ٣٨ ص ٢٠٦ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٠٠ ط المطبعة الحيدرية وشرح الأخبار للقاضي النعمان ج ١ ص ١٧٩.
(٤) ستأتي مصادر ذلك حين الحديث عن إيمانه صلوات الله وسلامه عليه.
وصية أبي طالب عليهالسلام لقريش :
قال في بلوغ الإرب :
عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي : أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جمع إليه وجوه قريش ، فأوصاهم ، فقال :
«يا معشر قريش ، أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، فيكم السيد المطاع ، وفيكم المقدام الشجاع ، والواسع الباع ..
واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلا أحرزتموه ، ولا شرفاً إلا أدركتموه ، فلكم بذلك على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب ، وعلى حربكم إلب ..
وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية ـ يعني الكعبة ـ فإن فيها مرضاة للرب ، قوةً للمعاش ، وثباتاً للوطأة ، صلوا أرحامكم ، فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل ، وزيادة في العدد ..
اتركوا البغي والعقوق ، ففيهما هلكت القرون قبلكم.
أجيبوا الداعي ، واعطوا السائل ، فإن فيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، فإن فيهما محبة في الخاص ، ومكرمة في العام ..
وإني أوصيكم بمحمد خيراً ، فإنه الأمين في قريش ، والصديق في العرب ، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به ، وقد جاءنا بأمر قبله الجنان ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب ، وأهل الأطراف ، والمستضعفين من الناس ، قد أجابوا دعوته وصدقوا
كلمته ، وعظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ، ودورها خراباً ، وضعفاؤها أرباباً ، إذ أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصفت له بلادها ، وأعطته قيادها ..
يا معشر قريش ، كونوا له ولاة ، ولحزبه حماة ، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ، ولو كان لنفسي مدة ، وفي أجلي تأخير ، لكففت عنه الهزاهز ، ولدفعت عنه الدواهي» ..
هذا ما جاء في بلوغ الإرب ، وزاد في روضة الواعظين قوله :
«غير أني أشهد بشهادته ، وأعظم مقالته» (١).
__________________
(١) راجع : شيخ الأبطح ص ٤ و ٤٩ عن بلوغ الإرب ج ١ ص ٣٢٧ و ٣٢٨ ط ٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٩ وعن السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٥٢ وعن أحمد زيني دحلان.
الفصل الثالث :
من تاريخ أبي طالب عليهالسلام
بداية :
إننا قبل أن ندخل في الحديث عن دلائل إيمان شيخ الأبطح ، نقدم إضمامة فواحة بعبير الإيمان من مواقف أبي طالب الهادفة إلى إعزاز دين الله ، ونصرة وحفظ خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله ، معتمدين في ذلك ـ بصورة عامة ـ على ما ذكرناه في كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله ، مع بعض التقليم والتطعيم ، فنقول :
المفاوضات الفاشلة :
قال ابن إسحاق وغيره : لما بادى رسول الله صلىاللهعليهوآله قومه بالإسلام ، وصدع به ، كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردوا عليه ـ فيما بلغني ـ حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا على خلافه وعداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون. وحدب على رسول الله صلىاللهعليهوآله عمه أبو طالب عليهالسلام ، ومنعه ، وقام دونه. ومضى رسول الله صلىاللهعليهوآله على أمر الله مظهراً لا يرده شيء.
فلما رأت قريش : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه ، من فراقهم ، وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب
عليهالسلام قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلمه لهم ، حاولوا مفاوضة أبي طالب عليهالسلام في شأنه.
وقد مرت هذه المفاوضات على الظاهر ، بثلاث مراحل ، انتهت كلها بالفشل الذريع.
الأولى : أنه مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب عليهالسلام.
فقالوا له : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه ..
فقال لهم أبو طالب عليهالسلام قولاً رفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه.
الثانية : أنهم حين رأوا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله مازال يظهر دينه ، ويدعو إليه ، حتى شرى الأمر بينه وبينهم ، وحتى تباعد الرجال ، وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلىاللهعليهوآله بينها ، ذهبوا إلى أبي طالب عليهالسلام ، فتهددوه :
إن لم يكف ابن أخيه عن شتم آبائهم ، وتسفيه أحلامهم ، وشتم آلهتهم ، فسوف ينازلونه وإياه ، حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا.
فأرسل أبو طالب عليهالسلام إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبره ، وطلب إليه أن يبقي على نفسه وعليه ، ولا يحمله ما لا يطيق.
فظن أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه قد ضعف عن نصرته ، والقيام دونه ، فقال له صلىاللهعليهوآله :
يا عم ، والله ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته.
فوعده أبو طالب عليهالسلام النصر.
الثالثة : عرضوا على أبي طالب عليهالسلام : أن يتخذ عمارة بن الوليد ولداً له ، ويسلمهم النبي محمداً صلىاللهعليهوآله ، الذي فارق دين أبي طالب ودين آبائه ، وفرق جماعتهم وسفه أحلامهم ، ليقتلوه. فإنما هو رجل برجل.
فقال أبو طالب عليهالسلام : والله ، لبئس ما تسومونني ، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبداً!!.
فقال المطعم بن عدي : والله يا أبا طالب ، لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه؛ فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.
فقال أبو طالب عليهالسلام : والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ، ومظاهرة القوم علي؛ فاصنع ما بدا لك ، أو كما قال.
فحقب الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضاً (١).
وهذا التدرج والتتابع الذي رسمناه ، لسير الأحداث ، إنما هو وفق الحدس والظن لما ربما يختلف ، ويتداخل.
ولكن الأمر في ذلك سهل ، غير أننا قبل أن نواصل حديثنا نسجل النقاط التالية :
__________________
(١) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٢٨٢ / ٢٨٦ ، والبدء والتاريخ ج ٤ ص ١٤٧ / ١٤٩ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٦٥ / ٦٨.
قريش لم تصل إلى نتيجة :
لقد رأينا : أن مشركي مكة ما كانوا يرغبون بادئ ذي بدء : في توريط أنفسهم في مواجهة حادّةٍ مع أبي طالب عليهالسلام والهاشميين ..
فحاولوا : أن يحملوا أبا طالب عليهالسلام نفسه على حسم الموقف ، والقضاء على ما يعتبرونه مادة متاعبهم ، ومصدر مخاوفهم ، وحاولوا أن يثيروه ضد ابن أخيه ، على اعتبار أن ابن أخيه قد جاء بما يضر بمصالح عمه نفسه ، ويجرح كرامته ، وعاطفته عمه نفسه ، فضلاً عن غيره ، فمن الطبيعي أن يبادر أبو طالب نفسه عليهالسلام لوضع حد لتصرفات ابن أخيه ، ويكفيهم مؤونة ذلك.
ولكنهم حينما وجدوا : أن أبا طالب عليهالسلام لم يستجب لأي من أباطيلهم ، لجأوا إلى التهديد والوعيد ، ثم إلى أسلوب المكر والخداع حين عرضوا عمارة على أبي طالب عليهالسلام ليتخذه ولداً ، ويسلمهم النبي محمداً صلىاللهعليهوآله ليقتلوه.
الأمر الذي كشف عن حقيقة ما يكنونه في صدورهم ، واتضح لأبي طالب عليهالسلام ولغيره أن هدفهم ليس إلا القضاء على الدين الحق ، وإطفاء نور الله بالقضاء على الداعي إليه ، فزاد ذلك من تصلب أبي طالب عليهالسلام وفي تصميمه في الدفاع عن الحق والدين ، وعن نبي الإسلام الأعظم صلىاللهعليهوآله.
ماذا بعد فشل المفاوضات؟
وبعد فشل المفاوضات ، ظهر لأبي طالب : أن السيل قد بلغ الزبى ،
وأنه على وشك الدخول في صراع مكشوف مع المشركين.
فلا بد من الحذر والاحتياط للأمر؛ فجمع بني هاشم ، وبني المطلب ، ودعاهم إلى منع الرسول ، والقيام دونه ، فأجابوه ، وقاموا معه ، باستثناء أبي لهب لعنه الله تعالى.
ومنع الله عزوجل رسوله ، فلم يكن لهم إلى أن يضروه في شعره وبشره سبيل ، غير أنهم يرمونه بالجنون ، والسحر ، والكهانة ، والشعر ، والقرآن ينزل عليه صلىاللهعليهوآله بتكذيبهم.
ورسول الله صلىاللهعليهوآله قائم بالحق ، ما يثنيه ذلك عن الدعاء إلى الله عزوجل سراً وجهراً.
وقد أدرك المشركون : أن الاعتداء على شخصه صلىاللهعليهوآله سوف يتسبب في صراع مسلح لم يعدوا له عدته ، وليسوا على يقين من أن تكون نتائجه لصالحهم ، خصوصاً مع ما كان لبني هاشم من علاقات ، ومن أحلاف مع القبائل ، كحلف المطيبين ، وحلف عبد المطلب مع خزاعة التي كانت تقطن خارج مكة.
بل قد توجب هذه الحرب ـ لو نشبت ـ التمكين لمحمد صلىاللهعليهوآله من نشر دعوته (١).
__________________
(١) ويرى بعض المحققين : أن من المحتمل : أن أبا طالب كان يستعمل أسلوب اللين تارة والشدة أخرى؛ بهدف إثارة حرب كهذه ، تهدف إلى تمكين النبي من نشر دعوته ، كما أشير إليه.
فآثر المشركون أن يبتعدوا عن الحرب ، وانتهاج أساليب أخرى لتضعيف أمر محمد صلىاللهعليهوآله ، والوقوف في وجه دعوته؛ فصاروا :
ألف : ينهون الناس عن الالتقاء به صلىاللهعليهوآله ، وعن أن يسمعوا ما جاء به من قرآن ، قال تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (١).
وقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢).
ب : يتبعون أسلوب السخرية والاستهزاء ، وإلصاق التهم الباطلة به ، بهدف :
١ ـ التأثير على شخص النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله علّه ينهزم نفسياً ، وجعله يعيش عقدة الحقارة والضعة ، فلربما يتخلى عن هذا الأمر ، ويكذب نفسه.
٢ ـ الحط من كرامة النبي صلىاللهعليهوآله ، وابتذال شخصيته ، بهدف تنفير أصحاب النفوس الضعيفة من متابعته ، وصرفهم عن الدخول فيما جاء به.
فصاروا يغرون سفهاءهم بإيذائه وتكذيبه ، وأحياناً كان يتولى ذلك منه سادتهم وكبراؤهم.
__________________
(١) الآية ٢٦ من سورة الأنعام.
(٢) الآية ٢٦ من سورة فصلت.
وقد أمروا غلاماً منهم بأن يلقي عليه سلى جزور وفرثه ، وهو قائم يصلي ، فألقاه بين كتفيه ، فغضب أبو طالب ، وأتى إليهم بذلك السلى نفسه ، فأمرَّه على سبالهم جميعاً.
وقد ألقى الله الرعب في قلوبهم (١) وأوجب ذلهم وخزيهم ، من حيث إنه قد جاء من موقع التحدي ، القوي والصريح.
وكانوا أيضاً يلقون عليه التراب (٢) ورحم الشاة (٣) وغير ذلك.
وقد أثر ذلك إلى حد ما في صرف الناس ، وإبعادهم عن الدخول في الإسلام ، حتى ليقول عروة بن الزبير وغيره :
«.. وكرهوا ما قال لهم ، وأغروا به من أطاعهم؛ فانصفق عنه عامة الناس» (٤).
__________________
(١) الكافي : ج ١ ص ٤٤٩ نشر مكتبة الصدوق ، ومنية الراغب : ص ٧٥. وراجع : الغدير : ج ٧ ص ٣٥٩ و ٣٨٨ وج ٨ ص ٤ ، وأبو طالب مؤمن قريش : ص ٧٣ عن مصادر كثيرة.
(٢) راجع : السيرة الحلبية : ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٢ ، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) : ج ١ ص ٢٠٨ و ٢٠٢ و ٢٣١.
(٣) راجع : البداية والنهاية : ج ٣ ص ١٣٤ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٧٩ ط مؤسسة الأعلمي والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٤٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٤٣٦.
(٤) تاريخ الأمم والملوك للطبري : ج ٢ ص ٦٨ ودلائل النبوة لإسماعيل الأصبهاني ص ١٠٣.
قرار المقاطعة :
و «لما رأت قريش عزة النبي صلىاللهعليهوآله بمن معه ، وعزة أصحابه في الحبشة ، وفشو الإسلام في القبائل» (١).
وأن جميع جهودها في محاربة الإسلام قد باءت بالفشل. حاولت أن تقوم بتجربة جديدة ، وهي الحصار الاقتصادي والاجتماعي ، ضد الهاشميين ، وأبي طالب عليهالسلام. فإما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم النبي محمد صلىاللهعليهوآله لها للقتل.
وإما أن يتراجع النبي محمد صلىاللهعليهوآله نفسه عن دعوته ، وإما أن يموت النبي صلىاللهعليهوآله وبنو هاشم جوعاً وذلاً ، مع عدم ثبوت مسؤولية محددة على أحد في ذلك ، يمكن أن تجر عليهم حرباً أهلية ، قد لا يمكن لأحد التكهن بنتائجها ، وعواقبها السيئة.
فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على عدم التزوج والتزويج لبني هاشم ، وبني المطلب ، وأن لا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، وأن لا يجتمعوا معهم على أمر من الأمور ، أو يسلموا لهم رسول الله صلىاللهعليهوآله ليقتلوه.
وقد وقَّع على هذه الصحيفة أربعون رجلاً من وجوه قريش ،
__________________
(١) سيرة مغلطاي ص ٢٣ ، وراجع السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٣٧٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٧ ، عن المواهب اللدنية وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٧٤ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٨.