السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥
قالا : اللهم بلى الخ .. (١).
الإمام الحسن عليهالسلام يصف عمرواً :
وقد اجتمع عمرو بن العاص مع المغيرة بن شعبة ، والوليد بن عقبة ، في مجلس معاوية ، وطلبوا منه أن يحضر الحسن عليهالسلام لسبه وسب أبيه ، فأرسل إليه فحضر ، وجرى بينهم وبينه كلام ، فكان مما قاله الإمام الحسن لعمرو في هذا المجلس :
«.. وضعتك أمك مجهولاً من عهر وسفاح ، فتحاكم فيك أربعة من قريش ، فغلب عليك جزارها ، ألأمهم حسباً ، وأخبثهم منصباً ..
إلى أن قال :
وقاتلت رسول الله صلىاللهعليهوآله في جميع المشاهد ، وهجوته.
وآذيته بمكة ..
وكدته كيدك كله ..
وكنت من أشد الناس له تكذيباً ..
وعداوة ..
ثم خرجت تريد النجاشي ، مع أصحاب السفينة ، لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة ..
__________________
(١) مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٤٧ ط دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان. وترجمة الإمام الحسن لابن عساكر ص ١٩٣ ط مؤسسة المحمودي ، والنصائح الكافية ص ٢٧ ط دار الثقافة قم ، إيران.
فلما أخطأك ما رجوت ، ورجعك الله خائباً ، وأكذبك واشياً ، جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد ، فوشيت به إلى النجاشي ، حسداً لما ارتكب من حليلتك ، ففضحك الله ، وفضح صاحبك ..
فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية وفي الإسلام ..
ثم إنك تعلم ، وكل هؤلاء الرهط يعلمون : أنك هجوت رسول الله صلىاللهعليهوآله بسبعين بيتاً من الشعر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله :
«اللهم إني لا أقول الشعر ، ولا ينبغي لي ، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة» ..
فعليك إذن من الله ما لا يحصى من اللعن.
وأما ما ذكرت من أمر عثمان ، فأنت سعَّرت عليه الدنيا ناراً ، ثم لحقت بفلسطين ، فلما أتاك قتله ، قلت : أنا أبو عبد الله ، إذا نكأت قرحة أدميتها.
ثم حبست نفسك إلى معاوية ، وبعت دينك بدنياه ، فلسنا نلومك على بغض ، ولا نعاتبك على ود. وبالله ما نصرت عثمان حياً ، ولا غضبت له مقتولاً ..
ويحك يابن العاص ، ألست القائل في بني هاشم ، لما خر جت من مكة إلى النجاشي :
تقول ابنتي أين هذا الرحيل |
|
وما السير مني بمستنكر |
فقلت : ذريني ، فإني امرؤ |
|
أريد النجاشي في جعفر |
لأكويه عنده كية |
|
أقيم بها نخوة الأصعر |
وشانئ أحمد من بينهم |
|
وأقولهم فيه بالمنكر |
وأجري إلى عتبة جاهداً |
|
ولو كان كالذهب الأحمر |
ولا أنثني عن بني هاشم |
|
وما اسطعت في الغيب والمحضر |
فإن قبل العتب مني له |
|
وإلا لويت له مشفري .. (١) |
ابن العاص أم ابن أبي سفيان :
ولا ندري لماذا لا يذكرون في تلك المسلسلات قصة نسب عمرو إلى العاص بن وائل ، مع أن المرجحات تشير إلى أنه ابن أبي سفيان ، فإنه قد اختصم فيه أبو سفيان ، والعاص بن وائل ، فحكَّموا أمه في ذلك ، فقالت : إنه من العاص بن وائل.
فقال أبو سفيان : أما إني لا أشك أني وضعته في رحم أمه ، فأبت إلا العاص ..
فقيل لها : أبو سفيان أشرف نسباً!!.
فقالت : إن العاص بن وائل كثير النفقة علي ، وأبو سفيان شحيح.
ففي ذلك يقول حسان بن ثابت :
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت |
|
لنا فيك منه بينات الدلائل |
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٨٥ و ٢٨٦ حتى ص ٢٩٢ عن الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات ، والغدير عن جمهرة الخطب ج ٢ ص ١٢ وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص ١٤.
ففاخر به إما فخرت ولا تكن |
|
تفاخر بالعاص الهجين بن وائل |
وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت |
|
فقالت رجاء عند ذاك لنائل |
من العاص عمرو تخبر الناس كلما |
|
تجمعت الأقوام عند المحافل .. (١) |
ماذا عن أم عمرو بن العاص! :
فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب : «ربيع الأبرار» .. قال :
كانت النابغة أم عمرو بن العاص أَمَةً لرجل من عنَزَة ، فسُبيت ، فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة ، فكانت بَغِيّاً ، ثم أعتقها ، فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف الجمحي ، وهشام بن المغيرة المخزومي ، وأبو سفيان بن حرب ، والعاص بن وائل السهمي ، في طهر واحد ، فولدت عمراً ، فادعاه كلهم ، فحُكِّمت أمه فيه ، فقالت : هو من العاص بن وائل ، وذاك لأن العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيراً.
قالوا : وكان أشبه بأبي سفيان.
وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في عمرو بن العاص :
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت |
|
لنا فيك منه بينات الشمائل .. (٢) |
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٨٤ و ٢٨٥ عن كتاب الأنساب لأبي عبيدة عمرو بن المثنى ، والغارات ج ٢ ص ٥١٤ ط سلسلة انتشارات أنجمن آثار ملي ، والبحار ج ٣٣ ص ٢٣٠.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٨٣ ، ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٤٦٦. ط المنشورات الإسلامية.
من مخزيات عمرو :
وقال المعتزلي :
«وكان عمرو أحد من يؤذي رسول الله صلىاللهعليهوآله بمكة ..
ويشتمه ..
ويضع في طريقه الحجارة ، لأنه كان صلىاللهعليهوآله يخرج من منزله ليلاً فيطوف بالكعبة ، وكان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها.
وهو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة (١) رسول الله صلىاللهعليهوآله لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة ، فروَّعوها ، وقرعوا هودجها بكعوب الرماح ، حتى أجهضت جنيناً ميتاً من أبي العاص بن الربيع بعلها.
فلما بلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله ، نال منه ، وشق عليه مشقة شديدة ، ولعنهم. روى ذلك الواقدي.
وروى الواقدي أيضاً وغيره ، من أهل الحديث :
أن عمرو بن العاص هجا رسول الله صلىاللهعليهوآله هجاء كثيراً ، كان يعلمه صبيان مكة ، فينشدونه ، ويصيحون برسول الله إذا مر بهم ،
__________________
(١) قد حققنا في كتابنا : «بنات النبي أم ربائبه» وكتاب : «القول الصائب في إثبات الربائب» : أن زينب ورقية وأم كلثوم هن بنات لرسول الله بالتربية ، لا بالولادة ، فليلتفت إلى ذلك.
رافعين أصواتهم بذلك الهجاء.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يصلي بالحجر :
«اللهم إن عمرو بن العاص هجاني ، ولست بشاعر : فالعنه بعدد ما هجاني» ..
وروى أهل الحديث أن النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، عمدوا إلى سلى جمل ، فرفعوه بينهم ، ووضعوه على رأس رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهو ساجد بفناء الكعبة ، فسال عليه.
فصبر ، ولم يرفع رأسه ، وبكى في سجوده ، ودعا عليهم.
فجاءت ابنته فاطمة عليهاالسلام ، وهي باكية ، فاحتضنت ذلك السلا ، فرفعته عنه فألقته. وقامت على رأسه تبكي ، فرفع رأسه صلىاللهعليهوآله ، وقال : «اللهم عليك بقريش» .. قالها ثلاثاً ..
ثم قال رافعاً صوته : «إني مظلوم فانتصِر» .. قالها ثلاثاً.
ثم قام فدخل منزله؛ وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب بشهرين.
ولشدة عداوة عمرو بن العاص لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، أرسله أهل مكة إلى النجاشي ليزهِّده في الدين ، وليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة ، وليقتل جعفر بن أبي طالب عنده ، إن أمكنه قتله ، فكان منه في أمر جعفر ما هو مذكور مشهور في السير ، وسنذكر بعضه .. (١).
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٨٣ ، والبحار ج ٣٣ ص ٢٢٩.
معاوية وعمرو عند عمر بن الخطاب :
هذا ، وقد ذكر ابن عبد ربه : «أن عمرواً قدم من مصر ، ومعاوية من الشام على عمر بن الخطاب ، فأقعدهما بين يديه ، وجعل يسائلهما عن أعمالهما ، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية ، فقال له معاوية : أعملي تعيب؟! هلم أخبر الخليفة عن عملي ، وأخبره عن عملك!
قال عمرو : فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله ، وأن عمر لا يدع هذا الحديث ، حتى يصير إلى آخره ، فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك ، فرفعت يدي فلطمت معاوية.
فقال عمر : تالله ما رأيت أسفه منك ، قم يا معاوية ، فاقتص منه.
فقال معاوية : إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه ..
فأرسل عمر إلى أبيه ، فأتى.
فلما قص عليه ما جرى قال : لهذا بعثت إلي؟! أخوه ، وابن عمه ، وقد أتى غير كبير ، وقد وهبت ذلك له ..» (١).
عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص في الحبشة :
فأما خبر عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، أخي خالد بن الوليد مع عمرو بن العاص ، فقد ذكره ابن إسحق في كتاب المغازي قال :
كان عمارة بن الوليد بن المغيرة ، وعمرو بن العاص بن وائل ، بعد مبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله ، خرجا إلى أرض الحبشة على
__________________
(١) العقد الفريد ج ١ ص ٣٠.
شركهما ، وكلاهما كان شاعراً ، عارماً ، فاتكاً.
وكان عمارة بن الوليد جميلاً وسيماً ، تهواه النساء ، صاحب محادثة لهن. فركبا البحر ، ومع عمرو بن العاص امرأته ، حتى إذا صاروا في البحر ليالي ، أصابا من خمر معهما ، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص : قبليني.
فقال لها عمرو : قبلي ابن عمك ، فقبلته.
فهويها عمارة ، وجعل يراودها عن نفسها ، فامتنعت منه.
ثم إن عمرواً جلس على منجاف (١) السفينة يبول ، فدفعه عمارة في البحر ، فلما وقع عمرو سبح ، حتى أخذ بمنجاف السفينة ، فقال له عمارة : أما والله لو علمت أنك سابح ما طرحتك ، ولكنني كنت أظن أنك لا تحسن السباحة ، فضغن عمرو عليه في نفسه ، وعلم أنه كان أراد قتله ، ومضيا حتى قدما أرض الحبشة.
فلما نزلاها كتب عمرو إلى أبيه العاص بن وائل :
أن اخلعني ، وتبرَّأ من جريرتي إلى بنى المغيرة ، وسائر بني مخزوم ، وخشي على أبيه أن يُتبع بجريرته.
فلما قدم الكتاب على العاص ، مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم ، فقال :
إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم ، وكلاهما فاتك صاحب
__________________
(١) المنجاف : سكان السفينة.
شر ، غير مأمونين على أنفسهما ، ولا أدري ما يكون منهما ، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته ، فقد خلعته.
فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم : وأنت تخاف عمرواً على عمارة! ونحن فقد خلعنا عمارة ، وتبرأنا إليك من جريرته ، فخلِّ بين الرجلين.
قال : فلما اطمأنا بأرض الحبشة ، لم يلبث عمارة أن دب لامرأة النجاشي ، وكان جميلاً صبيحاً وسيماً ، فأدخلته ، فاختلف إليها ، وجعل إذا رجع من مدخله ذلك يخبر عمرواً بما كان من أمره ، فيقول عمرو :
لا أصدقك أنك قدرت على هذا ، إن شأن هذه المرأة أرفع من ذلك ، فلما أكثر عليه عمارة بما كان يخبره ـ وكان عمرو قد علم صدقه ، ورأى من حاله وهيئته وما تصنع المرأة به ، إذا كان معها ، وبيتوتته عندها ، حتى يأتي إليه مع السحر ما عرف به ذلك ، وكانا في منزل واحد ، ولكنه كان يريد أن يأتيه بشيء لا يستطاع دفعه ، إن هو رفع شأنه إلى النجاشي ـ.
فقال له في بعض ما يتذاكران من أمرها : إن كنت صادقاً ، فقل لها :
فلتدهنك بدهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره ، فإني أعرفه ، وائتني بشيء منه حتى أصدقك ..
قال : أفعل.
فسألها ذلك ، فدهنته منه ، وأعطته شيئاً في قارورة ، فلما شمه عمرو عرفه ، فقال :
أشهد أنك قد صدقت! لقد أصبت شيئاً ما أصاب أحد من العرب مثله قط.
ثم سكت عنه حتى اطمأن ، ودخل على النجاشي ، فقال :
أيها الملك ، إن معي سفيهاً من سفهاء قريش ، وقد خشيت أن يعرَّني (١) عندك أمره ، وأردت أن أعلمك بشأنه ، وألا أرفع ذلك إليك حتى أستثبت أنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر. وهذا دهنك قد أعطته وادهن به.
ثم تذكر الرواية معاقبة النجاشي لعمارة ، وأن عمرو بن العاص ، قد قال : يذكر ما كان صنع به ، وما أراد من امرأته :
تعلم عمار أن من شر سنة |
|
على المرء أن يدعى ابن عم له ابنما |
أإن كنتَ ذا بردين أحوى مرجلاً |
|
فلست براع لابن عمك محرماً |
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه |
|
ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما |
قضى وطراً منه يسيراً وأصبحت |
|
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما .. (٢) |
جعفر بن أبي طالب ينجو من سم عمرو :
وروي عن عبد الله بن جعفر بن محمد عليهالسلام ، أنه قال :
لقد كاد عمرو بن العاص عمنا جعفراً بأرض الحبشة عند النجاشي ،
__________________
(١) عرَّه : لطخه بالعيب ، وفى أ : (يغيرني) ، وما أثبته عن الأغاني.
(٢) راجع : الخبر والشعر في الأغاني ج ٩ ص ٥٧ / ٥٩ (طبعة الدار) ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٧.
وعند كثير من رعيته ، بأنواع الكيد ، وردها الله تعالى عنه بلطفه.
رماه بالقتل.
والسرق.
والزنى.
فلم يلصق به شيء من تلك العيوب ، لما شاهده القوم من طهارته ، وعبادته ، ونسكه ، وسيماء النبوة عليه.
فلما نبا معوله عن صفاته هيأ له سماً قذفه إليه في طعام ، فأرسل الله هراً ، كفأ تلك الصحفة ، وقد مد يده نحوها ، ثم مات لوقته ، وقد أكل منها ..
فتبين لجعفر كيده ، وغائلته ، فلم يأكل بعدها عنده ..
وما زال ابن الجزار عدواً لنا أهل البيت .. (١).
وقال المعتزلي ما ملخصه :
أما خبر عمرو بن العاص في شخوصه إلى الحبشة ، ليكيد جعفر بن أبي طالب والمهاجرين من المؤمنين عند النجاشي ، فقد رواه كل من صنف في السيرة.
قال محمد بن إسحق في كتاب المغازي :
حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، زوجة رسول الله صلى الله عليه
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٣١٢.
وآله ، قالت :
لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار ، النجاشي ، أَمِنَّا على ديننا ، وعبدنا الله لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة ، ولا نسمع شيئاً نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين منهم جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منه الأدم. فجمعوا أدماً كثيراً ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية.
ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما :
ادفعا إلى كل بطريق هديته ، قبل أن تكلما النجاشي فيهم.
ثم قدما إلى النجاشي ، ونحن عنده في خير دار ، عند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته ، قبل أن يكلما النجاشي ، ثم قالا للبطارقة :
إنه قد فر إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم لنردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم.
فقالوا لهما : نعم.
ثم إنهما قربا هدايا الملك إليه فقبلها منهم ، ثم كلماه ، فقالا له :
أيها الملك قد فر إلى بلادك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، جاؤوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا فيهم إليك أشراف قومنا ، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ، لتردهم عليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاينوه منهم.
قالت أم سلمة : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ، من أن يسمع النجاشي كلامهم.
فقالت بطارقة الملك وخواصه : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم ، فليسلمهم الملك إليهما ، ليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب الملك وقال : لا ها الله إذاً لا أسلمهم إليهما ، ولا أخفر قوماً جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على سواي ، حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟
قالوا : نقول والله ما علمناه ، وما أمرنا به نبينا صلىاللهعليهوآله كائناً ما هو كائن.
فلما جاؤوه ، وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله ،
سألهم فقال لهم :
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟! ..
قالت أم سلمة : وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب ، فقال له :
أيها الملك ، إنا كنا قوماً في جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف.
فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل علينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا عليه نحن وآباؤنا من دونه ، من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن التجاور ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن سائر الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً ، وبالصلاة وبالزكاة والصيام.
قالت : فعدد عليه أمور الإسلام كلها ، فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأصنام والأوثان عن عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا
إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي : فهل معك مما جاء به صاحبكم عن الله شيء؟
فقال جعفر : نعم.
فقال : اقرأه علي.
فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) ..
فبكى حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا لحاهم.
ثم قال النجاشي : والله ، إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، والله لا أسلمكم إليهم.
قالت أم سلمة : فلما خرج القوم من عنده ، قال عمرو بن العاص :
والله ، لأعيبهم غداً عنده بما يستأصل به خضراءهم ، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة ـ وكان أتقى الرجلين :
لا تفعل ، فإن لهم أرحاماً ، وإن كانوا قد خالفوا.
قال : والله لأخبرنه غداً أنهم يقولون في عيسى بن مريم : إنه عبد.
ثم غدا عليه من الغد ، فقال : أيها الملك ، إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه ، فأرسل إليهم.
قالت أم سلمة : فما نزل بنا مثلها.
واجتمع المسلمون ، وقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟
فقال جعفر بن أبي طالب :
نقول فيه والله ما قال عز وجل ، وما جاء به نبينا عليهالسلام ، كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال جعفر : نقول إنه عبد الله ، ورسوله ، وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
قالت : فضرب النجاشي يديه على الأرض ، وأخذ منها عوداً ، وقال :
ما عدا عيسى بن مريم ما قال هذا العود.
قالت : فقد كانت بطارقته تناخرت حوله ، حين قال جعفر ما قال ، فقال لهم النجاشي : وإن تناخرتم!
ثم قال للمسلمين : اذهبوا فأنتم (سيوم) بأرضي ، أي آمنون ، من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، ما أحب أن لي دبراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم ـ والدبر بلسان الحبشة : الجبل ـ ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة ، حتى ردني إلى ملكي. فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ أفأطيعهم فيه؟
قالت : فخرج الرجلان من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده في خير دار ، مع خير جار .. (١).
__________________
(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٣٠٧ / ٣١١ ، وراجع السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٣٦٠ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢١ ، والكامل في التاريخ لابن
وقد روي عن الإمام الحسين عليهالسلام :
«أن ابن العاص قد ذهب إلى الحبشة مرتين ، ليكيد المسلمين ، فرد الله كيده إلى نحره ، وباء بغضبٍ من الله تعالى» (١).
___________________
الأثير ج ٢ ص ٨٠ ، وإعلام الورى ص ٤٤ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٠ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٠ ، والثقات لابن حبان ج ١ ص ٦٥ ، وحلية الأولياء ج ١ ص ١١٤ / ١١٦ عن ابن إسحاق ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٧٠ و ٧٤ و ٦٩ ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٤٤ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٧ و ٢٤ عن الطبراني وأحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٥٤ و ٣٥٧ ، عن بعض من تقدم ، وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٠ وحسن إسناده.
(١) راجع : الإحتجاج ط النجف ج ١ ص ٤١١ و ٤١٢ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢٧ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٧٦.
الفصل الثاني :
لمحات عن أبي طالب عليهالسلام