السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥
ملاحظة :
قد أثبتنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله إيمان آبائه صلىاللهعليهوآله إلى آدم وكانت أمه صلىاللهعليهوآله موحدة ، بل إن الروايات التي تحدثت عن أنه لا يريد أن تكون لكافر أو مشرك عنده نعمة تجزى تدل على ذلك أيضاً.
فإن التربية للنبي صلىاللهعليهوآله من النعم ، والأيادي عنده ، والتي تستوجب منه الشكر والجزاء.
وهذا ما يجعلنا نعتقد : أن الرواية الأخيرة التي ذكرت كفر والدة النبي صلىاللهعليهوآله بعيدة عن الصحة أيضاً.
سادساً : إن آية النهي عن الاستغفار للمشركين ، قد جاءت عامة ولا يظهر منها : أنها تتحدث عن أمر قد حصل أصلاً ، ولو سلمنا : أنها تشير إلى واقعة من نوع ما ، فلا يمكن أن تكون هي استغفار النبي صلىاللهعليهوآله لأمه ، لأنه صلىاللهعليهوآله لا يفعل إلا ما يعلم أنه مرضي لله تعالى ، ولا يقدم على أي فعل من تلقاء نفسه.
على أنه لابد من الإجابة على السؤال عن السبب الذي جعل النبي صلىاللهعليهوآله ينسى الاستغفار لأمه إلى آخر أيام حياته؟
سابعاً : إن قول أبي طالب : بل على دين عبد المطلب ، هو من أدلة إيمانه ، لا من أدلة كفره؛ إذ إن عبد المطلب لم يكن كافراً ولا مشركاً ، بل كان مؤمناً على دين الحنيفية.
وقد صرح المسعودي في بعض كتبه أيضاً بأنه قد مات مسلماً (١).
فقول أبي طالب عليهالسلام : بل على ملة عبد المطلب ، قد جاء على سبيل التورية ، حيث إنه بذلك يكون قد أثبت إيمانه ، وأقر به من جهة. ثم يكون قد عمىّ الأمر على فراعنة قريش ، لمصالح يراها ، لا بد له من ملاحظتها في تلك الفترة ، من جهة أخرى.
٥ ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) :
ويقولون : إن الله تعالى قد أنزل في أبي طالب عليهالسلام : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (٢) حيث ادَّعى الزجاج إجماع المسلمين على نزول هذه الآية في أبي طالب عليهالسلام (٣).
ونقول في الجواب :
أولاً : قد تقدم : النهي عن موادة من حاد الله ، وعن اتخاذ الكافرين أولياء.
ثانياً : قد تقدم : أن النبي صلىاللهعليهوآله دعا الله ، وتعامل مع الناس كلهم على قاعدة : أن لا يجعل لكافر ولا لمشرك نعمة عنده.
ثالثاً : إن آية : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، يقال : إنها نزلت يوم
__________________
(١) الروض الأنف ج ٢ ص ١٧٠ / ١٧١.
(٢) الآية ٥٦ من سورة القصص ، والرواية في صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ج ٣ ص ١١١ ، وغير ذلك.
(٣) راجع : شيخ الأبطح ص ٨٢.
أحد ، حينما كسرت رباعيته ، وشج وجهه صلىاللهعليهوآله ، فقال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، فأنزل الله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) .. إلخ (١).
وقيل : إنها نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل ، الذي كان الرسول صلىاللهعليهوآله يرغب في إسلامه ، بل لقد ادعي الإجماع على ذلك (٢).
رابعاً : إذا كان النبي صلىاللهعليهوآله يحب إيمان أبي طالب عليهالسلام ، فالله يحب ذلك أيضاً ، لأن الرسول لا يحب إلا ما أحب الله.
وقولهم : كان صلىاللهعليهوآله يكره إيمان وحشي ، ثم آمن ، لا يصح ، لأنهما لو لم يتوافقا فإنه يدخل في دائرة التضاد بين الرسول وبين مرسله ، لأن الرسول صلىاللهعليهوآله يكره إيمان شخص ومرسله يحب إيمان ذلك الشخص نفسه .. وإذا توافقا ، بأن كان الله ورسوله يكرهان إيمان ذلك الشخص ، فإن السؤال هو : كيف يمكن أن يكره الله
__________________
(١) راجع التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٩٨ عن الإستيعاب. وأبو طالب مؤمن قريش ص ٣٦٨ عن أعيان الشيعة ج ٣٩ ص ٢٥٩ والحجة ص ٣٩. ولربما يأتي بعض مصادر ذلك في وقعة أحد.
(٢) أبو طالب مؤمن قريش ص ٣٦٩ وشيخ الأبطح ص ٨٢ عن أسباب النزول لابن رشادة الواعظي الواسطي ، وراجع : البحار ج ٣٥ ص ١٥١ وفيه : الحارث بن نعمان بن عبد مناف.
ورسوله إيمان أحد (١).
خامساً : إن قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لا يمنع من إيمان أبي طالب عليهالسلام ، فإن الله قد شاء الهداية لأبي طالب عليهالسلام أيضاً كما دلت عليه النصوص.
والآية إنما تريد تعليم النبي صلىاللهعليهوآله : أن محبته لهداية شخص غير كافية. بل لا بد معها من مشيئة الله سبحانه.
وأما دعوى إجماع المسلمين على نزول هذه الآية في أبي طالب عليهالسلام ، فيكذبها : أن الأئمة عليهمالسلام وشيعتهم ، وأكثر الزيدية ، وكثير من علماء السنة يثبتون إيمان أبي طالب عليهالسلام ، وتآليفهم في هذا الصدد كثيرة وشهيرة ..
٦ ـ (وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) :
زعموا : أن قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (٢) قد نزلت في أبي طالب عليهالسلام ..
ونقول :
إن سياق الآيات قبلها وبعدها يعطي أن الآية إنما نزلت في اليهود .. وهذا كاف في رد هذه المزعمة.
__________________
(١) راجع هامش أنساب الأشراف ج ٢ ص ٢٨ عن الدكتور زرزور في مقدمته على تفسير الحاكم الجشمي.
(٢) الآية ١١٩ من سورة البقرة.
وقد قال النقدي في كتابه مواهب الواهب في فضائل أبي طالب : وأما ما قيل من أن قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) نزلت في أبي طالب فقد قال ابن دحلان : هو ضعيف جداً كالقول بأنها نزلت في أبوي النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فإن ذلك ضعيف أيضاً. بل قيل : إن ذلك باطل لا أصل له والآية إنما نزلت في اليهود.
قال أبو حيان في البحر : وسوابق الآيات ولواحقها تدل على ذلك .. الخ (١).
٧ ـ الذي ينجي من الوسوسة :
زعموا : أن الرسول صلىاللهعليهوآله قال لأبي بكر ، حول ما ينجي من الوسوسة : «ينجيكم من ذلك : أن تقولوا مثل الذي أمرت به عمي عند الموت؛ فلم يفعل.
يعني شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله» (٢).
وفي رواية عن عمر : إن كلمة التقوى التي ألاص عليها نبي الله عمه أبا طالب عند الموت : شهادة إلخ (٣).
__________________
(١) مواهب الواهب في فضائل أبي طالب للنقدي ص ١٣٠ ط حجرية النجف الأشرف سنة ١٣٤١ هـ.
(٢) حياة الصحابة ج ٢ ص ١٤٠ / ٥٤٥ وكنز العمال ج ١ ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ـ ٢٦١ عن أبي يعلى والبوصيري في زوائده ، وعن طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٣١٢.
(٣) مجمع الزوائد ج ١ ص ١٥ ، وكنز العمال ج ١ ص ٢٦٢ و ٦٣ عن أبي يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان والبيهقي وغيرهم كثير جداً.
ونقول :
إنه فضلاً عن سقوط الرواية من ناحية السند. نلاحظ :
أولاً : إن من الواضح : أن الذين يسألونه صلىاللهعليهوآله عما ينجي من الوسوسة كانوا يقولون تلك الكلمة ، ويشهدون الشهادتين ، ولكنهم كانوا ـ مع ذلك ـ مبتلين بالوسوسة ، فكيف يأمرهم صلىاللهعليهوآله بقولها للنجاة من ذلك؟!.
إلا أن يقال : إن المراد هو : كثرة التلفظ بها وتكرارها.
غير أننا نقول : إن إرادة هذا المعنى بعيدة عن مساق الرواية ، فإن ما طلبه من أبي طالب ـ لو صحت الرواية ـ هو مجرد التلفظ بالشهادتين ..
ثانياً : إن نفس هذه الرواية مروية بسند صحيح ، وتفيد : أن الخلاف كان بين سعد وعثمان ، وأن الذي حكم بينهما هو عمر بن الخطاب ، وذكر : دعوة ذي النون : (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّيِ كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). ولم يذكر أبا طالب عليهالسلام (١).
أبو بكر حين أسلم أبوه :
وزعموا أيضاً : أنه لما مد أبو قحافة يده ليسلم ، بكى أبو بكر ، فقال له صلىاللهعليهوآله : ما يبكيك؟!
__________________
(١) مجمع الزوائد ج ٧ ص ٦٨ عن أحمد ورجاله رجال الصحيح ، باستثناء إبراهيم بن محمد بن سعد وهو ثقة ، وحياة الصحابة عنه وعن الترمذي وعن كنز العمال ج ١ ص ٢٩٨ عن أبي يعلى والطبراني ـ وصُحِّح.
قال : لأن تكون يد عمك مكان يده ، ويسلم ، ويقر الله به عينك أحب إلي من أن يكون (١).
ونقول :
أولاً : قد تقدمت هذه الرواية بنحو يدل على إيمان أبي طالب عليهالسلام عن عدد من المصادر ، فلا نعيد.
وتلك الرواية هي التي تنسجم مع هذا الحشد الهائل من دلائل إيمانه صلوات الله وسلامه عليه.
ثانياً : قد جاء أنه لما أسلم أبو قحافة لم يعلم أبو بكر بإسلامه ، حتى بشره النبي صلىاللهعليهوآله بذلك (٢) فكيف يكون أبو بكر قد قال ذلك حين مد أبو قحافة يده؟!.
ابو طالب عليهالسلام الشيخ المهتدي :
وزعموا أيضاً : أنه لما توفي أبو طالب ، جاء علي عليهالسلام إلى النبي صلىاللهعليهوآله ، وقال له : إن عمك الشيخ الضال قد توفي.
بل في رواية : أن الإمام علياً عليهالسلام رفض ما أمره به النبي
__________________
(١) الإصابة ج ٤ ص ١١٦ والحاكم وصححه على شرط الشيخين ، وعن عمر بن شبة وأبي يعلى ، وأبي بشر سفويه في فوائده ، ونصب الراية ج ٦ ص ٢٨١ / ٢٨٢ عن عدد من المصادر في هامشه ، والمصنف ج ٦ ص ٣٩ ، وفي هامشه عن ابن أبي شيبة ج ٤ ص ١٤٢ و ٩٥ ، ومسند أحمد ج ١ ص ١٣١.
(٢) المحاسن والمساوئ ج ١ ص ٥٧.
صلىاللهعليهوآله من تغسيله ، ودفنه ، فأمر أن يتولى ذلك غيره (١).
ونقول :
أولاً : قد روى أحمد في مسنده هذه الرواية ، وفيها : إن عمك الشيخ قد توفي ، من دون ذكر كلمة «الضال» (٢).
ثانياً : إن نفس أن يخاطب علي عليهالسلام رسول الله صلىاللهعليهوآله بهذه الطريقة : «إن عمك الشيخ الضال .. الخ ..» لهو أمر لا ينسجم مع أدب الخطاب مع الرسول ، في الوقت الذي كان يمكن له يقول : إن أبي الشيخ الضال قد توفي. ولا يمكن أن يحتمل أحد أن يصدر من علي عليهالسلام ما ينافي الآداب مع رسول الله صلىاللهعليهوآله أو مع غيره.
ثالثاً : لو لم يكن مؤمناً فلماذا يأمره بتغسيله؟. فهل يغسل الكافر؟!
رابعاً : كيف يتناسب هذا مع كونه صلىاللهعليهوآله قد حزن ، وترحم عليه ، ودعا له ، وعارض جنازته ، ومشى فيها ، وغير ذلك مما تقدم ، مع أنهم يروون : أنه لا يجوز المشي في جنازة المشرك؟! (٣).
__________________
(١) المصنف ج ٦ ص ٣٩ وراجع كنز العمال ج ١٧ ص ٣٢ و ٣٣ ونصب الراية ج ٢ ص ٢٨١ و ٢٨٢ وفي هامشه عن عدد من المصادر.
(٢) مسند الإمام أحمد ج ١ ص ١٢٩ / ١٣٠ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٤ وفيه : أنه أمره هو فواراه.
(٣) قد تقدمت بعض مصادر ذلك في أوائل هذا البحث ، وعن عدم جواز المشي في جنازة المشرك ، راجع كتب الحديث كسنن البيهقي وغيره.
خامساً : ماذا يصنع هؤلاء بما ورد في كثير من المصادر ، من أن الإمام علياً عليهالسلام هو الذي تولى تغسيل أبي طالب ودفنه ، واغتسل بعد تغسيله إياه غسل المس الواجب على من مس أي ميت مسلم (١).
هل صلى أبو طالب عليهالسلام؟ :
قالوا : إنه لم ينقل عن أحد : أن أبا طالب عليهالسلام قد صلى ، وبالصلاة يمتاز المؤمن عن الكافر (٢).
ونقول في الجواب :
أولاً : إنه لم ينقل أيضاً عن كثير من الصحابة أنهم قد صلوا ..
فهل يمكن الحكم عليهم بأنهم لم يسلموا؟! فإن عدم نقل ذلك لا يعني عدم حدوثه.
ثانياً : إنه إذا كان مثل أبي طالب عليهالسلام كمثل مؤمن آل فرعون ، الذي كان يكتم إيمانه ، فعلينا أن لا نتوقع مجاهرة أبي طالب عليهالسلام بالصلاة ، أو بغيرها من الشعائر الدينية أمام الملأ ، فإن ذلك لا يتلاءم مع كتمان الإيمان.
أبو طالب عليهالسلام خير الأخيار :
وزعموا : أن محمد بن عبد الله بن الحسن ، قد كتب إلى المنصور يقول مفتخراً : أنا ابن خير الأخيار ، وأنا ابن شر الأشرار.
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠١.
(٢) راجع : شيخ الأبطح.
وهذه الرسالة هي التي أوجبت توقف ابن أبي الحديد المعتزلي في إيمان أبي طالب عليهالسلام ، كما زعم في شرحه لنهج البلاغة (١).
ونقول :
أولاً : إن أبا طالب عليهالسلام لم يكن شر الأشرار ، إذ إنه عليهالسلام لم يكن أشر من أبي لهب ولا من أبي جهل ، ولا من ابن ملجم ، ولا من الشمر ، ولا .. ولا ..
فهذا كذب صريح ، هل يمكن صدوره من مدَِّعي المهدية .. الذي يطالب الناس بالبيعة له؟!
ثانياً : ما معنى أن يفتخر إنسان بأنه ابن شر الأشرار؟! فهل في هذا مفخرة لأحد؟
ثالثاً : إنه ليس في الرواية ما يدل على أن المقصود بهذا الكلام هو أبو طالب عليهالسلام ، إذ لعل المقصود به طلحة بن عبيد الله ، الذي هو أبو أم إسحق ، جدة محمد بن عبد الله بن الحسن ، أو لعله يقصد زمعة بن الأسود ، أو عبد العزى؟! أو غير هؤلاء من آبائه ..
رابعاً : لماذا أخذ المعتزلي بشهادة محمد بن عبد الله بن الحسن ، الذي قتل في أواسط القرن الثاني للهجرة ، ولم يأخذ بشهادة الإمام علي أمير المؤمنين عليهالسلام ، في حق أبيه ، وهو القائل : والذي بعث محمداً بالحق نبياً ، إن أبي لو شفع في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله.
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٨٢.
بالإضافة إلى كثير من النصوص الأخرى التي سلفت عنه عليهالسلام في حقه.
هذا فضلاً عن شهادات الإمام السجاد ، والباقر ، والصادق عليهمالسلام.
ألم يكن عهد هؤلاء الأطهار عليهمالسلام بأبي طالب عليهالسلام أقرب من عهد محمد بن عبد الله بن الحسن؟! ..
خطابيات وأرجاز المديني :
وبعد ما تقدم ، فإنه إذا كان أبو طالب عليهالسلام مسلماً مصدقاً؛ فلا يصغى لأرجاز وخطابيات أمثال المديني ، التي لا توافق العقل والدين مهما حاول أن يتظاهر هو بالصلاح ، أو أن يسطر التملقات الباردة ، مثل أن يقول :
«وددت أن أبا طالب كان أسلم ، فسر به رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأني كافر» (١).
__________________
(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٦٣.
الفصل السادس :
مؤمن آل فرعون
سرية إيمان أبي طالب عليهالسلام :
إننا إذا تتبعنا سير الدعوة ، ومواقف أبي طالب عليهالسلام فإننا نجد : أنه كان بادئ ذي بدء يكتم إيمانه ، تماما كمؤمن آل فرعون ، والظاهر أنه قد استمر يظهر ذلك تارة ، ويخفيه أخرى إلى أن حصر الهاشميون في الشعب ، فصار يكثر من إظهار ذلك وإعلانه.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام قوله :
«إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الإيمان ، وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين» (١).
وعن الشعبي ، يرفعه ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال :
كان والله أبو طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف مؤمناً مسلماً ، يكتم إيمانه؛ مخافة على بني هاشم أن تنابذها قريش.
__________________
(١) أمالي الصدوق ص ٥٥١ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٧٠ ، وأصول الكافي ج ١ ص ٣٧٣ ، وروضة الواعظين ص ١٣٩ ، والبحار ج ٣٥ ص ٧٢ و ١١١ والغدير ج ٧ ص ٣٨٠ ـ ٣٩٠ عنهم وعن : الحجة لابن معد ص ١٧ و ١١٥ وتفسير أبي الفتوح ج ٤ ص ٢١٢ ، والدرجات الرفيعة ، وضياء العالمين.
وكذا عن ابن عباس (١).
وقد تقدم : أن محمد بن الحنفية حمل في حرب الجمل على رجل من أهل البصرة ، قال : فلما غشيته قال : أنا على دين أبي طالب ، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه (٢).
وثمة أحاديث أخرى عديدة بهذا المعنى لا مجال لذكرها (٣).
لابد من كتمان الإيمان :
ونستطيع أن نقول : إن سرية إيمان أبي طالب عليهالسلام كانت ضرورة لا بد منها؛ لأن الدعوة كانت بحاجة إلى شخصية اجتماعية قوية تدعمها ، وتحافظ على قائدها ، شرط أن لا تكون طرفاً في النزاع.
فتتكلم من مركز القوة لتتمكن الدعوة من الحركة ، مع عدم مواجهة ضغط كبير يشل حركتها ، ويحد من فاعليتها.
قال ابن كثير وغيره :
«إذ لو كان أسلم أبو طالب ـ ونحن نقول لابن كثير : إنه قد أسلم ، ولكنه كتم إيمانه وإسلامه مدة؛ ـ لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ،
__________________
(١) الغدير ج ٧ ص ٣٨٨ عن كتاب الحجة ص ٢٤ و ٩٤ و ١١٥. وراجع أمالي الصدوق ص ٥٥٠.
(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٦٧.
(٣) راجع الغدير ج ٧ ص ٣٣٨ ـ ٣٩٠ عن : الفصول المختارة ص ٨٠ وإكمال الدين ص ١٠٣ ، وكتاب الحجة لابن معد عن أبي الفرج الأصفهاني.
ولا كلمة ، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ، ولا اجترأوا عليه ، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه» (١).
مفارقات محيِّرة :
وكيف يحكمون لزيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر بن الخطاب ، ولولده سعيد بن زيد ، ولورقة بن نوفل ، وقس بن ساعدة ، ولأبي سفيان الذي ما فتئ كهفاً للمنافقين ، والذي ذكرنا لمحة عن تصريحاته ومواقفه في أواخر غزوة أحد ، في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله.
نعم ، كيف يحكمون لهؤلاء بالإسلام؟! بل يروون عنه صلىاللهعليهوآله : أنه قال عن أمية بن أبي الصلت : ‘نه كاد أن يسلم في شعره (٢).
ويقول الشافعي عن صفوان بن أمية : «وكان كأنه لا يشك في إسلامه» ، لأنه حين سَمع يوم حنين قائلاً يقول : غلبت هوازن ، وقُتل محمد ، قال له :
«بفيك الحجر ، فوالله ، لرب قريش أحب إلي من رب هوازن».
نعم ، كيف يحكمون لكل هؤلاء بالإسلام ، أو بالاقتراب منه ، وهم لم يدركوا الإسلام ، أو أدركوه ولم يسلموا ، أو أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر.
__________________
(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ٤١ ، وراجع السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٤٦.
(٢) صحيح مسلم ج ٧ ص ٤٨ / ٤٩ ، والأغاني ط ساسي ج ٣ ص ١٩٠. والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢١٣.
ثم يحكمون بالكفر على أبي طالب عليهالسلام ، الذي ما فتئ يؤكد ويصرح عشرات المرات ، في أقواله وفي أفعاله ، ويعلن بالشهادة لله بالوحدانية ، ولنبيه صلىاللهعليهوآله بالنبوة والرسالة؟!.
ذنب أبي طالب عليهالسلام الذي لا يغفر :
ولكننا رغم كل ذلك نقول :
إنه يؤخذ على أبي طالب عليهالسلام شيء واحد ، هو من أكبر الذنوب ، وأعظم السيِّئات والعيوب ، التي يستحق من يتلبس بها ـ شاء أم أبى ـ الحساب العسير ، ولابد أن يحرم لأجلها من كل امتياز ، ويسلب منه كل وسام.
وهذا الذنب العظيم والجسيم هو أنه كان أباً لذلك الرجل الذي تكرهه قريش ، ويبغضه الحكام ، ويشنؤه أهل الباطل .. وكانوا وما زالوا يتمنون له كل سوء ، وكل ما يسوء. وقد قطعوا رحمه ، وجهدوا للحط من شأنه ، وصغَّروا عظيم منزلته ، لا لشيء ، سوى أنه كان قد قتل آباءهم وإخوانهم على الشرك والكفر ، وهو يدافع عن دين الله سبحانه ، ويجاهد في سبيل الله ، بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وهذا الرجل هو ـ بصراحة ـ ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وهو المسمى بـ «علي» أمير البررة ، وقاتل الكفرة الفجرة ، الذي كان مدينة علم النبي صلىاللهعليهوآله ، وكان الولي ، والوصي صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبيه ، وعلى الأئمة الأطهار من بنيه.
فكان لابد ـ بنظرهم ـ من نسبة كل عظيمة إليه ، وإلى أبيه أبي طالب عليهالسلام ، ووضع الأحاديث المكذوبة في حقهما ، وتزوير تاريخهما ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
فحفلت مجاميعهم الحديثية والتاريخية بألوان من الدجل والتزوير ، وأفانين من الكذب والبهتان ، والأفائك والأباطيل ، حتى لقد نسبوا إلى أبي طالب عليهالسلام الكفر ـ والعياذ بالله ـ ولو كان ثمة شيء أعظم من الكفر لنسبوه إليه ، ووصموه به ، كيداً منهم لعلي ، وسعياً منهم للنيل من مقامه ، وهو الذي كان ولا يزال الشوكة الجارحة في أعين الأمويين ، والزبيريين ، وجميع الحاقدين على الحق وأهله ، فظهرت منهم أنواع من الافتراءات عليه ، وعلى أخيه جعفر ، وأبيه أبي طالب ، وعلى كل شيعتهم ومحبيهم ، والمدافعين عنهم.
وحين بدا لهم أن ذلك لا يشفي صدورهم شفعوه بنوع آخر من الكيد والتجني ، حين سعوا إلى إطراء أعدائه ، أعداء الله ورسوله ، وأعداء الحق ، فنسبوا فضائل أولياء الله إلى أعداء الله ، حتى إنك لا تكاد تجد فضيلة ثبتت لعلي عليهالسلام بسند صحيح عند مختلف الفرق الإسلامية ، إلا ولها نظير في مخالفيه ، ومناوئيه ، والمعتدين عليه ، ولكنها ـ في الأكثر ولله الحمد ـ قد جاءت بأسانيد ضعيفة وموهونة ، حتى عند واضعيها ..
هذا ، ويلاحظ : أن هذه الأفائك الظالمة في حق أبي طالب عليهالسلام قد ظهرت بعد عشرات السنين من وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، الذي كان المدافع الأول عن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه ، كما يظهر
من كثير من المواقف له صلىاللهعليهوآله ، حدثنا عنها التاريخ ، وحفظتها لنا كتب الحديث والرواية. رغم ما بذله الحاقدون من جهود لطمسها ، وطمس سواها من الحقائق الناصعة ، والشواهد والبراهين الساطعة.
ولو أن أبا طالب رحمهالله ، كان أباً لمعاوية مثلاً ، أو لمروان ، أو لأي من الذين تصدوا للحكم من المناوئين والمنحرفين عن أهل البيت عليهمالسلام ، وعن خطهم ومنهجهم ، لرأيت ثم رأيت من آيات الثناء عليه ، ما يتلى آناء الليل ، وأطراف النهار ، ولوجدت الأوسمة تلاحقه ، وتنهال عليه من كل حدب وصوب ، وبلا كتاب ولا حساب. ولألفيت الذين ينبزونه بتلكم الأكاذيب والأباطيل ، ويرمونه بالبهتان ، هم أنفسهم حملة رايات التعظيم والتبجيل ، والتكبير والتهليل له رحمهالله.
ولوجدت من الأحاديث في فضائله ومناقبه وما له من كرامات ، وشفاعات إن دنيا ، وإن آخرة ، ما يفوق حد الحصر ، وما يزيد ويتضاعف باطراد في كل عصر ومصر ..
ولربما تجد من يدَّعي : أن أبا طالب عليهالسلام قد آمن بالنبي حتى قبل أن يبعث صلىاللهعليهوآله ـ كما ادَّعوه لبعض من يوالونهم ويحبونهم!!
ولعل بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، فيقول فيه ، كما قالوه في بعض أسلافهم : لو لم أبعث فيكم لبعث فلان!! أو ما شاكل ذلك.
هذا إن لم يدَّعوا له مقام النبوة ، أو ما هو أعظم من ذلك كما ادَّعوا ذلك ليزيد لعنه الله ، قاتل الإمام الحسين عليهالسلام ، وهادم الكعبة ..