ظلامة أبي طالب عليه السلام « تاريخ و دراسة »

السيد جعفر مرتضى العاملي

ظلامة أبي طالب عليه السلام « تاريخ و دراسة »

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥

ورد أيضاً هدية عامر بن الطفيل ، لأنه لم يكن قد أسلم بعد.

ورد أيضاً هدية ملاعب الأسنة ، وقال : لا أقبل هدية مشرك (١).

عن عياض المجاشعي : أنه أهدى إلى النبي هدية فأبى قبولها ، وقال : إني نهيت عن زبد المشركين (٢).

ولم يكن ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا لأن قبولها يوجب احتراماً ومودة من المهدى إليه بالنسبة لمن أهدى.

ملاحظة : معالجة رواية الكشي :

إلا أن الكشي ذكر رواية تقول : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرد هدية على يهودي ولا نصراني» (٣).

__________________

وسعيد بن منصور. والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٨٦ ويلاحظ هنا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين الهجرة لا يقبل ناقة أبي بكر إلا بالثمن.

(١) كنز العمال ج ٣ ص ١٧٧ طبعة أولى عن ابن عساكر ط ثانية ج ٦ ص ٥٧ عن الطبراني والمصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٤٤٦ و ٤٤٧ وفي الهامش عن مغازي ابن عقمة ومجمع البيان المجلد الأول ص ٥٣٥.

(٢) كنز العمال ج ٦ ص ٥٧ و ٥٩ عن أبي داود والترمذي وصححه وأحمد والطيالسي والبيهقي ، وراجع ما عن عمران بن حصين في الكنز نفس المجلد والصفحة والمصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ٤٤٧ وفي الهامش عن أبي داود وأحمد وعن الترمذي ج ٢ ص ٣٨٩. وراجع الوسائل ج ١٢ ص ٢١٦ عن الكافي والمعجم الصغير ج ١ ص ٩.

(٣) اختيار معرفة الرجال للكشي ط جامعة طهران ص ٦١٠ والبحار ج ٥٠ ص ١٠٧ والوسائل ج ١٢ ص ٢١٧.

١٠١

وهذا إن صح فهو يشير إلى الفرق بين هدية الكتابي وهدية المشرك ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يرد هدية الثاني ، دون الأول ، وذلك يدل على عدم صحة قوله لهم : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هدنة الحديبية قد استهدى أبا سفيان أدماً (١).

__________________

(١) راجع التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٩٨ عن الإستيعاب.

١٠٢

الفصل الخامس :

أبو طالب عليه‌السلام المظلوم المفترى عليه

١٠٣
١٠٤

الأدلة الواهية :

لقد حاول الذين يشتهون إثبات كفر أبي طالب عليه‌السلام أن يتشبثوا بطحالب واهية زعموا : أنها أدلة ، نشير ههنا إليها ، فنقول :

١ ـ حديث الضحضاح :

عن أبي سعيد الخدري ، أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ذكر عنده عمه ، فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من نار ، يبلغ كعبيه ، يغلي منه دماغه.

وحسب نص آخر : أن العباس قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أغنيت عن عمك؟! ، فوالله ، كان يحوطك ويغضب لك!!.

قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ج ٢ ص ٢٠٩ ، وج ٤ ص ٥٤ ، والمصنف ج ٦ ص ٤١ ، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٩ و ٣٠. وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٧٩ ، ومسند أحمد ج ١ ص ٢٥٦ و ٢٠٧ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٢٥ ، الغدير ج ٨ ص ٢٣ عن بعضهم ، وعن عيون الأثر ج ١ ص ١٣٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٦.

١٠٥

ونقول :

أولاً : لقد ناقش كل من الأميني والخنيزي جميع أسانيد هذه الرواية ، وبيَّنا وهنها وضعفها ، وتناقض نصوصها العجيب. إلى حد أن بعض الروايات تجزم بأنه قد جعل في ضحضاح من نار ، وأن الشفاعة قد نفعته فعلاً ..

لكن بعضها الآخر يقول : لعله تنفعه شفاعتي ، فيجعل في ضحضاح يوم القيامة ..

ونحن نحيل القارئ الذي يرغب في التوسع إلى ما ذكره الأميني والخنيزي في كتابيهما حول هذا الموضوع (١).

ثانياً : إنه إذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نفع أبا طالب عليه‌السلام ، وأخرجه من الدرك الأسفل إلى الضحضاح؛ فلماذا لا يتمم معروفه هذا ، ويخرجه من هذا الضحضاح أيضاً؟!.

ثالثاً : لقد رووا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد طلب من أبي طالب حين حضرته الوفاة : أن يقول كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله؛ ليستحل له بها الشفاعة يوم القيامة ، فلم يعطه إياها.

فهذا يدل على أنه قد أناط صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلق الشفاعة بكلمة لا إله إلا الله (٢).

__________________

(١) راجع : الغدير ج ٨ ص ٢٣ / ٢٤ وأبو طالب مؤمن قريش.

(٢) الترغيب والترهيب ج ٤ ص ٤٣٣ عن أحمد بسندين صحيحين ، وعن البزار ، والطبري بأسانيد أحدها جيد وابن حبان في صحيحه وراجع : الغدير ج ٢٥ / ٢.

١٠٦

فلماذا استحل هذه الشفاعة ، مع أنه لم يعطه الكلمة التي توجب حليتها؟!.

رابعاً : إنهم يروون : أن الشفاعة لا تحل لمشرك. فلماذا حلت لهذا المشرك بالذات ، بحيث أخرجته من الدرك الأسفل إلى الضحضاح؟ (١).

خامساً : قال المعتزلي : إن الإمامية والزيدية «قالوا : وأما حديث الضحضاح ، فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد ، وهو المغيرة بن شعبة ، وبغضه لبني هاشم ، وعلي عليه‌السلام بالخصوص مشهور ومعلوم ، وقصته وفسقه غير خاف (٢).

غير أننا نقول : إنه يمكن المناقشة في ذلك بأنهم قد رووا ذلك عن غير المغيرة أيضاً ، فراجع البخاري وغيره.

فلعل رواية غير المغيرة قد حدثت في وقت متأخر بهدف تكذيب الشيعة ، ونقض استدلالهم ، فتلقفها البخاري.

وذلك لأن من غير المعقول أن يورد الشيعة على غيرهم بذلك إن لم يكن له واقع ..

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٣٦ ، وتلخيصه للذهبي وصححاه والمواهب اللدنية ج ١ ص ٧١ والغدير ج ٨ ص ٢٤ عنهما وعن كنز العمال ج ٧ ص ١٢٨ ، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ١ ص ٢٩١ وكشف الغمة للشعراني ج ٢ ص ١٢٤ ، وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٢٠.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٧٠ والبحار ج ٣٥ ص ١١٢.

١٠٧

وقد سكت المعتزلي عن هذا الرد ، وعن جوابه ، وكأنه يحتمل ما احتملناه ، ولو وسعه التأكيد على الرد لفعل.

سادساً : سئل الإمام الباقر عليه‌السلام عما يقوله الناس : إن أبا طالب في ضحضاح من نار؟

فقال : لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة أخرى لرجح إيمانه.

ثم قال : ألم تعلموا : أن أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام كان يأمر أن يحج عن عبد الله ، وابنه ، وأبي طالب في حياته ، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم (١).

سابعاً : سئل الإمام علي عليه‌السلام في رحبة الكوفة عن كون أبيه معذباً في النار أو لا ، فقال للسائل :

مه ، فض الله فاك!! ، والذي بعث محمداً بالحق نبياً ، لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم. أبي معذب في النار ، وابنه قسيم الجنة والنار؟! (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٨ ، والدرجات الرفيعة ص ٤٩ ، والبحار ج ٣٥ ص ١١٢ والغدير ج ٨ ص ٣٨٠ ـ ٣٩٠ عنهما وعن كتاب الحجة لابن معد ص ١٨ من طريق شيخ الطائفة عن الصدوق ، والفتوني في ضياء العالمين.

(٢) البحار ج ٢٥ ص ٦٩ وج ٣٥ ص ١١٠ والإحتجاج ج ١ ص ٣٤١ ط مطبعة النعمان وكنز الفوائد للكراجكي ص ٨٠ ط حجرية وكشف الغمة للإربلي ج ٢ ص ٤٢ ط دار الأضواء والغدير ج ٧ ص ٣٨٧.

١٠٨

ثامناً : روى عبد العظيم بن عبد الله العلوي : أنه كان مريضاً ، فكتب إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : عرفني يا بن رسول الله ، عن الخبر المروي : أن أبا طالب في ضحضاح من نار ، يغلي منه دماغه.

فكتب إليه الرضا عليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم : أما بعد ، إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار (١).

تاسعاً : بالإسناد إلى الكراجكي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يا يونس ما يقول الناس في أبي طالب؟!

قلت : جعلت فداك ، يقولون هو في ضحضاح من نار ، وفي رجليه نعلان من نار ، تغلي منها أم رأسه.

فقال عليه‌السلام : كذب أعداء الله ، إن أبا طالب من رفقاء النبيين ، والصديقين ، والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً (٢).

وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام : كذبوا. والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان ، لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (٣).

__________________

(١) البحار ج ٣٥ ص ١١١ وإيمان أبي طالب للمفيد ص ٤ وسفينة البحار ج ٥ ص ٣١٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٤٤٧ و ٥٥٨ وراجع الغدير ج ٧ ص ٣٩٥ ..

(٢) البحار ج ٣٥ ص ١١١ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٨٠ والغدير ج ٧ ص ٣٩٣.

(٣) البحار ج ٣٥ ص ١١٢ وإيمان أبي طالب للمفيد ص ٤ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٦٩ ومدينة المعاجز ج ٧ ص ٥٣٥ والغدير ج ٧ ص ٣٩٠ وسفينة البحار ج ٥ ص ٣١٦.

١٠٩

٢ ـ إرث عقيل لأبي طالب عليه‌السلام :

واستدلوا : بأن ولده عقيل هو الذي ورثه ، ولم يرثه الإمام علي وجعفر عليهما‌السلام ، لأنه كان مشركاً ، وهما مسلمان.

فهما من ملتين مختلفتين ، وأهل ملتين لا يتوارثان (١).

ولكن ذلك لا يصح أيضاً.

فأولاً : من أين ثبت لهؤلاء : أن الإمام علياً وجعفراً عليهما‌السلام لم يرثاه.

وثانياً : إن قوله أهل ملتين لا يتوارثان.

نقول بموجبه؛ لأن التوارث تفاعل ، ولا تفاعل عندنا في ميراثهما ، واللفظ يستدعي الطرفين ، كالتضارب ، فإنه لا يكون إلا من اثنين ، ولأجل ذلك نقول : إن الصحيح هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، من أن المسلم يرث الكافر ، ولا يرث الكافر المسلم (١٤٠) فالإرث إذن من طرف واحد ، لا من طرفين!.

وثالثاً : لقد روي عن عمر قوله : «أهل الشرك نرثهم ولا يرثونا» (٢).

وقد حكم كثير من العلماء بأن ميراث المرتد للمسلمين لا يصح؛

__________________

(١) المصنف ج ٦ ص ١٥ ، وج ١٠ ص ٣٤٤ ، وفي هامشه أي هامش السادس عن البخاري ج ٣ ص ٢٩٣ ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٧٩.

(٢) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٩.

(٣) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج ١٠ ص ٣٣٩ وج ٦ ص ١٠٦.

١١٠

وقالوا : نرثهم ولا يرثونا (١).

ورابعاً : إنهم يقولون : إن الميراث في وقت موت أبي طالب لم يكن قد فرض بعد ، وإنما كان الأمر بالوصية؛ فلعل أبا طالب قد أوصى بماله لعقيل محبة له ، أو لما يراه من فقره وخصاصته ، فأنفذ أولاده وصيته.

أو أن علياً وجعفراً قد تركا لأخيهما نصيبهما من الإرث على سبيل الإيثار له ، لما يرونه من حاجته ، وضيق ذات يده.

بل قد يكون أبو طالب قد تنازل عن ماله لعقيل في حال حياته ، فلم يبق شيء لكي يرثه علي وجعفر بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (٢).

٣ ـ آية : (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) :

لقد ذكروا : أن آية : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) .. قد نزلت في أبي طالب عليه‌السلام ، الذي كان ينهى الناس عن أذى الرسول ، وينأى عن أن يدخل في الإسلام (٣).

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ج ٦ ص ١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ وج ١٠ ص ٣٣٨ حتى ص ٣٤١.

(٢) راجع : أسنى المطالب ص ٦٢.

(٣) الإصابة ج ٤ ص ١١٥ ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ١٢٧ ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٧٨ ، وبهجة المحافل ج ١ ص ١١٦ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٦ والغدير ج ٨ ص ٣ عنهم وعن : تفسير الخازن ج ٢ ص ١١ ، وتفسير ابن جزي ج ٢ ص ٦ ، وعن الطبري والكشاف. ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣٤٠ و ٣٤١.

١١١

ونقول :

أولاً : لقد تحدث الأستاذ الخنيزي حول أسانيد هذه الرواية بما فيه الكفاية (١) فليراجعه من أراد.

ثانياً : إن هذه الآية لا تنطبق على أبي طالب عليه‌السلام بأي وجه؛ لأن الله تعالى يقول قبلها :

(وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولينَ ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (٢).

فضمائر الجمع ، وهي كلمة : «هم» ، وفاعل «ينهون» و «ينأون» ترجع كلها إلى من ذكرهم الله في تلك الآية ، وهم المشركون ، الذين إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، ويجادلون الرسول في هذه الآيات ، ويصفونها من عنادهم بأنها أساطير الأولين.

ولا يقف عنادهم عند هذا الحد ، بل يتجاوزه إلى أنهم : ينهون الناس عن الاستماع إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنهم هم أنفسهم يبتعدون عنه.

وهذه الصفات كلها لا تنطبق على أبي طالب عليه‌السلام ، الذي لم نجد منه إلا التشجيع على اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنصرة له

__________________

) أبو طالب مؤمن قريش ص ٣٠٥ / ٣٠٦.

(٢) الآيتان ٢٥ و ٢٦ من سورة الأنعام.

١١٢

باليد واللسان.

وقد حض أشخاصاً بأعيانهم على أن يدخلوا في هذا الدين. وأن يصبروا عليه ، كما كان الحال بالنسبة لزوجته ، وحمزة ، وجعفر ، وعلي ، وملك الحبشة ، حسبما تقدم.

كما أن المفسرين قد فهموا من الآية عمومها لجميع الكفار ، وأن معناها : ينهون عن استماع القرآن ، واتباع الرسول ، ويتباعدون عنه.

وهذا هو المروي عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي معاذ ، والضحاك ، وابن الحنفية ، والسدي ، ومجاهد ، والجبائي ، وابن جبير (١).

ثالثاً : ويقول الأميني رحمه‌الله : إن هذه الرواية تقول : إن آية سورة الأنعام : وهي قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ..) .. قد نزلت حين وفاة أبي طالب عليه‌السلام.

مع أن ثمة رواية أخرى تقول : إن آية سورة القصص ، وهي قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ..) .. (٢) قد نزلت حين وفاته أيضاً.

مع أن سورة القصص قد نزلت قبل الأنعام ـ التي نزلت جملة

__________________

(١) راجع : مجمع البيان ج ٣ ص ٢٧٨ ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ١٢٧ والغدير ج ٨ ص ٣ ، والدر المنثور ج ٣ ص ٨ و ٩ كلهم ـ كلاً أو بعضاً ـ عن القرطبي ، والطبري ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن أبي شيبة وابن مردويه وعبد بن حميد ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٦ ص ٤٠٦.

(٢) الآية ٥٦ من سورة القصص.

١١٣

واحدة ـ (١) بخمس سور.

وهذا يدل على أن سورة الأنعام قد نزلت بعد وفاة أبي طالب عليه‌السلام بمدة ، فما معنى قولهم : إنها نزلت حين وفاة أبي طالب عليه‌السلام أعني السنة العاشرة من البعثة!!

بل إن البعض قد ذكر : أن سورة القصص هي من آخر ما نزل من القرآن في المدينة ولعله استند في ذلك إلى بعض ما ورد في شأن نزول بعض آياتها) فإذا تم هذا ، فإن نزولها في أبي طالب عليه‌السلام يصبح غير مقبول أيضاً ، لأن أبا طالب عليه‌السلام مات في عنفوان الإسلام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة (٢).

رابعاً : إنهم يقولون : إن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة وكانت أسماء بنت يزيد الأنصارية ممسكة بزمام ناقته صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣)

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٣ ، وفتح القدير ج ٣ ص ٩٢١ / ٩ ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ١٢٢ والغدير ج ٨ ص ٥ عنهم وعن تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٦ ص ٣٨٢ / ٣٨٣ كلهم عن : أبي عبيد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والنحاس.

(٢) راجع : البحار ج ٣٥ ص ١٥٢.

(٣) الدر المنثور ج ٣ ص ٢ عن الطبراني ، وابن مردويه.

وقد ذكر في الدر المنثور ج ٣ ص ٢ و ٣ نزولها جملة واحدة في مكة ، أو باستثناء آية أو آيتين ليست الآية المذكررة واحدة منها ، وقد قال : إن ذلك رواه عشرات الحفاظ ، مثل البيهقي في شعب الإيمان ، والخطيب في تاريخه ، وأبي الشيخ ، وابن المنذر ،

١١٤

وذلك إنما كان بعد بيعة العقبة ، التي كانت بعد وفاة أبي طالب عليه‌السلام ، بمدة طويلة.

٤ ـ آية النهي عن الاستغفار للمشرك :

روى البخاري ومسلم ، وغيرهما : عن ابن المسيب ، عن أبيه ، ما ملخصه : أن النبي محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب من أبي طالب عليه‌السلام حين وفاته أن يقول كلمة : لا إله إلا الله ، ليحاج بها له عند الله.

فقال له أبو جهل ، وعبد الله بن أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب؟!

فلم يزل الرسول يعرضها عليه ، ويقولان له ذلك ، حتى قال أبو طالب آخر كلمة : على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.

فأنزل الله : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (١).

__________________

والنحاس في ناسخه ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وإسحق بن راهويه ، والكلبي ، وأبي عبيد ، والطبراني ، وابن الضريس ، وابن مردويه ، والسلفي في الطيورات ، والإسماعيلي ، والحاكم وصححه ، وراجع : الإتقان ج ١ ص ٣٧ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٦٠.

(١) الآية ١١٣ من سورة التوبة.

١١٥

ونقول :

إننا لا نريد أن نناقش في أسانيد هذه الرواية (١) المقطوعة ، ولا أن نفيض في إيراد الدلائل والشواهد على أن ابن المسيب ، فضلاً عن غيره ، متهم في ما يرويه ، مما له ارتباط بالإمام علي عليه‌السلام ، كما نص عليه البعض (٢).

ولكننا نشير فقط إلى ما يلي :

أولاً : إن آية النهي عن الاستغفار للمشرك قد وردت في سورة التوبة ، ولا ريب في كونها من أواخر ما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، بل لقد ادَّعى البعض أنها آخر ما نزل (٣).

ولا يعقل أن تكون هذه الآية قد بقيت أكثر من عشر سنوات معلقة في الهواء ، والقرآن ينزل ، حتى إذا نزلت سورة التوبة ، أضيفت إليها ، لأن الآيات التي كانت تلحق بالسور ـ لو صح أنها كانت تلحق بها بعد أن لم تكن منها ـ فإنما تلحق بما نزل سابقاً عليها ، وكان ذلك في الأكثر في

__________________

(١) راجع في ذلك : أبو طالب مؤمن قريش ٣١٣ ـ ٣٤٥ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٥ و ٢٦ ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣٤٢ و ٣٤٣.

(٢) الغارات للثقفي ج ٢ ص ٥٦٩.

(٣) الغدير ج ٨ ص ١٠ وأبو طالب مؤمن قريش ص ٣٤١ عن : البخاري ، والكشاف ، والبيضاوي ، وتفسير ابن كثير والإتقان ، وابن أبي شيبة والنسائي وابن الضرير ، وابن المنذر ، والنحاس ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

١١٦

السور الطوال ، التي كانت تنزل أجزاء متتابعة دون سائر السور التي كانت تنزل دفعة واحدة.

فلابد إذن من أن نقول : إن النهي عن الاستغفار إنما حصل بعد نزول سورة التوبة ، فكيف بقي صلى‌الله‌عليه‌وآله يستغفر لأبي طالب عليه‌السلام طيلة هذه المدة ، ويترحم عليه؟!

ثانياً : إن الاستغفار للمشرك ، والترحم عليه من أظهر مصاديق المودة للكافر ، وقد نهى الله عن مودتهم في آيات كثيرة ، نزلت قبل سورة التوبة ، كما في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (١).

وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) (٣).

__________________

(١) الآية ٢٢ من سورة المجادلة ، وقد نزلت قبل التوبة بسبع سور كما في الإتقان ج ١ ص ١١ وفي تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٤ ص ٣٢٩ ، وفتح القدير ج ٥ ص ١٨٦ والغدير ج ٨ ص ١٠ عنهم وعن تفسير الآلوسي ج ٢٨ / ٣٧ وأخرجه ابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم : أنها نزلت في بدر أو في أحد.

(٢) الآية ١٤٤ من سورة النساء.

(٣) الآية ١٣٩ من سورة النساء.

١١٧

وقوله تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ) (١) إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه.

ثالثاً : قال تعالى : في سورة المنافقين ، التي نزلت في غزوة بني المصطلق ، سنة ست على ما هو المشهور ، ونزلت قبل سورة التوبة على كل حال : (سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (٢).

فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف أن الله لن يغفر للمنافق سواء استغفر لهم أم لا .. والمنافق هو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان ، فإنه يعرف أيضاً : أن الله لا يغفر لمن كان يبطن الشرك ، ويظهره ، ويأبى عن أن يعترف بإسلام أو بإيمان .. فلماذا يتعب نفسه في أمر يعرف أنه لا نتيجة له؟؛ فإن ذلك أمر لا يقره العقلاء ، ولا يقدمون عليه.

رابعاً : ذكر الشريف النسابة العلوي ، المعروف بالموضح ، بأسناده : أن أبا طالب لما مات لم تكن الصلاة على الموتى ، فما صلى النبي عليه ، ولا على خديجة ، وإنما اجتازت جنازة أبي طالب ، وعلي وجعفر (٣) وحمزة جلوس ، فقاموا ، وشيعوا جنازته ، واستغفروا له.

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٦ من سورة المنافقون.

(٣) لقد كان جعفر بالحبشة ، فإما أن يكون قد جاء في زيارة قصيرة ثم رجع. وإما أن يكون الراوي قد ذكره من عند نفسه سهوا أو عمداً.

١١٨

فقال قوم : نحن نستغفر لموتانا وأقاربنا المشركين أيضاً ـ ظناً منهم أن أبا طالب مات مشركاً؛ لأنه كان يكتم إيمانه ـ فنفى الله عن أبي طالب الشرك ، ونزه نبيه ، والثلاثة المذكورين رحمهم‌الله عن الخطأ في قوله : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أوْلِي قُرْبَى) (١).

فمن قال بكفر أبي طالب عليه‌السلام ، فقد حكم على النبي بالخطأ ، والله تعالى قد نزهه عنه في أقواله وأفعاله الخ .. (٢).

خامساً : لقد روي بسند صحيح ـ كما يقول الأميني ـ عن علي : أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه ، وهما مشركان؛ فذكر الإمام علي عليه‌السلام ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت آية النهي عن الاستغفار للمشركين (٣).

__________________

(١) الآية ١١٣ من سورة التوبة.

(٢) الغدير ج ٧ ص ٣٩٩ عن كتاب الحجة لابن معد ص ٦٨.

(٣) الغدير ج ٨ ص ١٢ ، وغيره عن : الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وأبي يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والضياء في المختارة ، والإتقان ، وأسباب النزول ، وتفسير ابن كثير ، والكشاف ، وأعيان الشيعة ، وأسنى المطالب ص ١٨ ، وأبو طالب مؤمن قريش ، وشيخ الأبطح ومسند أحمد ج ١ ص ١٣٠ / ١٣١.

١١٩

وفي أخرى : أن المسلمين قالوا : ألا نستغفر لآبائنا؟ فنزلت (١).

وفي رواية : أنها نزلت حينما استأذن صلى‌الله‌عليه‌وآله الله في الاستغفار لأمه فلم يأذن له ، ونزلت الآية ، فسأله أن يزور قبرها ، فأذن له (٢).

وعلى هذا فإن الجزم بأن الآية المذكورة قد نزلت في أبي طالب ، يصبح في غير محله ، خصوصاً إذا أضيف إليه ما قدمناه من شواهد وأدلة على إيمان شيخ الأبطح ، وأضيف إليه أيضاً أن الآية بصدد نهي طائفة من المؤمنين الاستغفار لأقاربهم من أهل الشرك ، ويكون ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جملتهم من أجل طمأنتهم ، وتأنيسهم ، والرفق بهم ، والمداراة لهم ، لا لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يفعل كفعلهم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليقدم على أمر حتى يعرف رضا الله به ، ويستأذنه سبحانه وتعالى فيه.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٧٦ عن الحسن ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ٣٩٣ ، وأبو طالب مؤمن قريش ص ٣٤٨ ، عنهما وعن الأعيان ج ٣٩ ص ١٥٨ و ١٥٩ عن ابن عباس والحسن ، والكشاف ج ٢ ص ٢٤٦.

(٢) جامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣١ ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٣ ، وإرشاد الساري ج ٧ ص ٢٨٢ و ١٥٨ عن مسلم في صحيحه ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ٣٩٤ وأحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه والكشاف ج ٢ ص ٤٩. وأبو طالب مؤمن قريش ص ٣٤٩.

١٢٠