موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٧

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنه يظهر ما في دعوى صاحب الجواهر من عدم الإشكال في جواز ائتمام كلّ مساوٍ بمساويه في النقص والكمال (١) ، فإنّه في حيّز المنع في ائتمام المضطجع بمثله ، لما عرفت من عدم النصّ الخاصّ ، وقصور الإطلاقات عن الشمول لمثله ومقتضى الأصل عدم المشروعية.

نعم ، لا مانع من ائتمام الجالس بمثله ، لقيام النصّ على الجواز ، وهو ما ورد في كيفية صلاة العراة كصحيح ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «عن قوم صلّوا جماعة وهم عراة ، قال عليه‌السلام : يتقدّمهم الإمام بركبتيه ، ويصلّي بهم جلوساً وهو جالس» (٢) ، ونحوه غيره.

والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : عدم جواز الائتمام لدى الاختلاف في الهيئة الصلاتية من حيث النقص والكمال ، فلا يجوز ائتمام الكامل بالناقص ولا عكسه ، ما عدا صورة واحدة وهي ائتمام القاعد بالقائم. وكذا مع الاتّحاد في النقص إلّا في ائتمام الجالس بمثله ، لقيام الدليل على الجواز في الموردين المزبورين ، فيبقى ما عداهما من بقيّة الصور العارية عن النصّ تحت أصالة عدم المشروعية ، بعد عدم الإطلاق في أدلّة الجماعة من هذه الجهة حسبما عرفت.

هذا كلّه فيما إذا كان الاختلاف في أفعال الصلاة وهيئتها.

وأمّا إذا اختلفا في الأذكار : فقد عرفت أنّ ذلك قد يكون في القراءة التي يتحمّلها الإمام ، وقد يكون فيما عداها من سائر الأذكار كالتشهّد وذكر الركوع والسجود ونحوها.

أمّا في غير القراءة كما لو كانت آفة في لسان الإمام لا يتمكّن معها من أداء الشين في التشهّد على وجهه ، ويبدله بالسين كما اتّفق لبلال ، فلا ينبغي الإشكال في جواز الائتمام ، لصحّة صلاة الإمام حينئذ حتّى واقعاً.

__________________

(١) الجواهر ١٣ : ٣٣٠.

(٢) الوسائل ٤ : ٤٥٠ / أبواب لباس المصلي ب ٥١ ح ١.

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن الواضح عدم التحمّل في الأذكار ، وأنّ المأموم هو الذي يأتي بوظيفته منها ، سواء أتى الإمام بها أم كان معذوراً فيها. فلا ائتمام بالإضافة إليها فلا مانع من صحّة الاقتداء بوجه ، إذ حال الاختلاف من هذه الجهة حال الاختلاف في الشرائط كالوضوء والتيمّم ممّا لا يوجب الاختلاف في الهيئة الصلاتية ، وقد عرفت فيما مرّ (١) عدم الإشكال في جواز الائتمام حينئذ.

وأمّا في القراءة فهل يصحّ الاقتداء بمن لا يحسنها إمّا لعدم أداء الحرف من مخرجه ، أو لحذفه ، أو لإبداله بحرف آخر كمن يبدل الضاد بالزاء في مثل (وَلَا الضّالِّينَ) أو الراء بالياء في مثل (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ونحو ذلك؟

الظاهر عدم الصحّة كما عليه المشهور ، بل ادّعي عليه الإجماع ، إذ لا يخلو إمّا أن يجتزئ المأموم بقراءة الإمام ، أو يأتي بنفسه بالمقدار الذي لا يحسنه.

لا سبيل إلى الأوّل بعد فرض الخلل في قراءة الإمام وإن كان معذوراً فيه لمكان العجز ، إذ المعذورية لا تستدعي إلّا الاجتزاء بها عن نفسه لا عن المأموم ، ومن المعلوم اختصاص أدلّة الضمان بالقراءة الصحيحة ، فهي منصرفة عن المقام.

وعلى الجملة : دليل التحمّل لا يقتضي سقوط القراءة عن المأموم رأساً ، بل مفاده كما مرّ (٢) الاجتزاء في مرحلة الامتثال بقراءة الإمام وإيكالها إليه ، وكأنّ قراءتَه قراءتُه ، فلا بدّ إمّا من الإتيان بها بنفسه بأن يصلّي فرادى ، أو ببدله بأن يكِلها إلى الإمام ، والمفروض بطلان قراءة الإمام لو صدرت عن المأموم لقدرته على الإتيان بها صحيحة ، وإن صحّت عن الإمام العاجز ، فوجودها بالإضافة إلى المأموم كالعدم. فلم تتحقّق لا بنفسها ولا ببدلها ، فلا يمكن الاجتزاء بقراءة الإمام.

وأمّا الثاني أعني الإتيان بنفسه ـ : فهو أيضاً غير صحيح ، إذ المستفاد من

__________________

(١) في ص ٣٥٥.

(٢) في ص ٣٠٦.

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أدلّة الجماعة الملازمة بين صحّتها وبين تحمّل الإمام وإيكال القراءة بتمامها إليه ولم يعهد من الشرع جماعة تجب فيها القراءة كلّاً أو بعضاً على المأموم في الأولتين للإمام ، بحيث لا يتحمّل عنه فيهما. ومع الشكّ كان المرجع أصالة عدم المشروعية.

وهل اللحن في الإعراب وإن كان لعدم استطاعته على الصحيح يلحق بما ذكر؟ اختار في المبسوط العدم ، فجوّز إمامة الملحن للمتقن ، سواء غيّر المعنى أم لا (١). وعن السرائر الجواز فيما إذا لم يغيّر المعنى (٢).

والأقوى عدم الجواز مطلقاً ، فيلحق اللحن بما سبق ، فإنّ القراءة الملحونة وإن لم تغيّر المعنى ليست من القرآن في شي‌ء ، إذ الذي نزل من السماء على قلب خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هي القراءة الصحيحة الخالية عن اللحن ، وهي المأمور بها في الصلاة ، فالإخلال بها وإن كان عن عذر يمنع عن صحّة الاقتداء ، إذ غاية ما يترتّب على العجز معذوريته ، لا صحة تحمّله كما عرفت. فالمسألتان من واد واحد.

والمتلخّص من جميع ما سردناه لحدّ الآن : أنّ الاختلاف بين الناقص والكامل إن كان في الشرائط كإمامة المتيمّم للمتوضّئ ، أو ذي الجبيرة لغيره أو مستصحب النجاسة في ثوبه أو بدنه من جهة العذر لغيره ، أو المسلوس والمبطون لغيرهما ، أو المستحاضة حتّى الكبيرة مع العمل بوظيفتها للطاهرة ففي جميع ذلك يصحّ الائتمام ، لصحّة صلاة الإمام واقعاً ، وعدم الإخلال بالمتابعة في الأفعال بعد الاتّحاد في الهيئة الصلاتية.

وقد عرفت أنّ النصوص دلّت على جواز إمامة المتيمّم للمتوضّئ ، ولا سيما التعليل الوارد في ذيل صحيحة جميل ، المستفاد منه كبرى كلّية ، وهي الاكتفاء في صحّة الاقتداء بصحّة صلاة الإمام واقعاً ، فيتعدّى إلى الاختلاف في سائر

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٥٣.

(٢) السرائر ١ : ٢٨١.

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرائط ، لما مرّ. نعم يعارضها موثّقة السكوني المانعة من إمامة المتيمّم لغيره المحمولة على الكراهة جمعاً.

وإن كان في الأفعال فلا يجوز الائتمام إلّا في القاعد بالقائم أو بمثله ، لأصالة عدم المشروعية بعد فقد النصّ في غيرهما ، وعدم إطلاق في أدلّة الجماعة من هذه الجهة ، مضافاً إلى الإخلال بالمتابعة لدى الاختلاف في الهيئة كما مرّ.

وإن كان في الأذكار التي لا يتحمّلها الإمام كالتشهّد والتسبيحات في الركعتين الأخيرتين وذكر الركوع ونحوها ، فلا ينبغي الكلام في صحّة الائتمام إذ لا متابعة ولا تحمّل في مثلها ، كما لا خلل في التبعية للهيئة الصلاتية. فحكمها حكم الاختلاف في الشرائط ، غير القادح في صحّة الاقتداء كما عرفت.

ومنه تعرف جواز الائتمام في الركعة الثالثة حتّى بمن لا يحسن القراءة ، إذ لا تحمّل حينئذ كما مرّ سابقاً ، والمفروض صحّة صلاة الإمام واقعاً ، والقراءة في عهدة المأموم نفسه. فلا مانع من الاقتداء.

وإن كان في القراءة التي يتحمّلها الإمام لم يجز الائتمام ، سواء أكان لعدم إخراج الحرف عن مخرجه ، أو لإبداله بآخر ، أو للحن في الإعراب مغيّرٍ للمعنى أو غير مغيّر ، فإنّ المأموم مكلّف بالقراءة ، غير أنّه لا يباشرها بنفسه ويكِلها إلى الإمام ، ويجتزي بقراءته عن القراءة الصحيحة المكلّف هو بها بمقتضى أدلّة الضمان ، والمفروض أنّ قراءة الإمام ليست قراءة صحيحة ، وغاية ما يترتّب على معذوريته اجتزاؤه بها عن قراءة نفسه ، لا عن قراءة المأموم. فوجودها بالإضافة إليه كالعدم ، فليس له الاجتزاء بها.

كما ليس له الإتيان بالآية التي لا يحسنها الإمام ، للملازمة بين صحّة الجماعة وبين التحمّل التام ، إذ لم يعهد من الشرع جماعة لا تحمّل فيها ، فلا يمكن الحكم بصحّة الائتمام ووجوب القراءة على المأموم.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الحال في المسألة الأُولى والثانية والثالثة التي ذكرها الماتن (قدس سره) فلا حاجة إلى التعرّض إليها بخصوصها فلاحظ.

٣٦٤

[١٩٦٤] [مسألة ٤ : لا تجوز إمامة من لا يحسن القراءة لمثله إذا اختلفا في المحلّ الذي لم يحسناه ، وأمّا إذا اتّحدا في المحلّ فلا يبعد الجواز ، وإن كان الأحوط العدم ، بل لا يترك الاحتياط مع وجود الإمام المحسن (*) ، وكذا لا يبعد جواز إمامة غير المحسن لمثله (**) مع اختلاف المحلّ أيضاً إذا نوى الانفراد عند محلّ الاختلاف ، فيقرأ لنفسه بقيّة القراءة ، لكن الأحوط العدم ، بل لا يترك مع وجود المحسن في هذه الصورة أيضاً (١).

______________________________________________________

(١) لم يستبعد (قدس سره) جواز الائتمام مع الاتّحاد في المحلّ الذي لم يحسناه ، كما لو كان كلّ منهما يبدل الراء بالياء في (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ولعلّه من أجل أنّ قراءة المأموم لا تزيد على قراءة الإمام حينئذ بشي‌ء ، فلا مانع من الائتمام ، بل لم يستبعد الجواز مع الخلاف في المحلّ أيضاً بشرط الانفراد عند محلّ الاختلاف ، فيقرأ لنفسه بقيّة القراءة.

أقول : أمّا مع الاتّحاد فان كان هناك قطع خارجي ولم يتحصّل لنا على جواز الائتمام فلا كلام ، وإلّا فإثباته بحسب الصناعة مشكل جدّاً ، إذ لو كنّا نحن ومقتضى الأدلّة الأوّلية لحكمنا بسقوط الصلاة رأساً لدى العجز عن القراءة كلّاً أو بعضاً ، إذ العجز عن الجزء عجز عن الكلّ ، فينتفي الأمر المتعلّق بالمركّب بمقتضى فرض الارتباطية الملحوظة بين الأجزاء.

لكنّا علمنا من الخارج أنّ الأمر ليس كذلك في باب الصلاة ، وأنّ المعذور في بعض الأجزاء يلزمه الإتيان بما يتمكّن ويحسن ، لا بدليل أنّ الصلاة لا تسقط بحال فحسب ، بل من جهة ما ورد في من لا يحسن القراءة لكونه جديد العهد بالإسلام من أنّه يأتي بما تيسّر له منها ، وأنّه يجتزئ بقراءته وإن كانت مغلوطة

__________________

(*) بل مع عدمه أيضاً.

(**) بل هو بعيد جدّاً.

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ملحونة عن القراءة الصحيحة ، كصحيحة ابن سنان وغيرها ممّا تقدّمت في محلّها (١).

فقد ثبت في حقّ العاجز بمقتضى الدليل الثانوي وإن كان على خلاف القاعدة الأوّلية قيام الناقص مقام الكامل وبدليّته عنه. ومن المعلوم أنّ هذا مشترك بين الإمام والمأموم بعد فرض عجزهما معاً. فكلّ واحد منهما مكلّف بالمقدار الذي يحسن ، وأنّه يجتزئ بهذه القراءة الناقصة عن الصحيحة الكاملة الثابتة في حقّه ، وأمّا الاجتزاء بها عن الصحيح الثابت في حقّ الغير فيحتاج إلى دليل مفقود.

وبالجملة : غاية ما ثبت بدليل البدليّة إجزاء الناقص من كلّ شخص عن كامل نفسه ، وأمّا إجزاؤه عن كامل غيره فلا دليل عليه ، ومقتضى الأصل عدم الإجزاء ، فلا يمكن القول بأنّ الناقص من الإمام يقوم مقام الكامل المطلوب من المأموم كي يصحّ الائتمام ، نعم يقوم مقام الكامل عن نفس الإمام كما عرفت. فجواز الائتمام حتّى مع الاتّحاد في المحلّ مشكل ، فضلاً عن الاختلاف.

وأمّا القطع الخارجي بجواز اقتداء كلّ مساوٍ بمساويه فلم نتحقّقه وإن ادّعاه صاحب الجواهر (قدس سره) (٢) وعهدته على مدّعيه بعد عدم مساعدة الأدلّة عليه ، فانّ المأموم وإن كان لا يزيد على الإمام بشي‌ء لكن لم تثبت بدليّة قراءة الإمام عن قراءته.

وأمّا مع الاختلاف : فقد ظهر حكمه ممّا مرّ. وما أفاده (قدس سره) من جواز الائتمام حينئذ إذا نوى الانفراد عند محلّ الاختلاف فهو مبني على أمرين :

أحدهما : دعوى شمول أدلّة الجماعة لمثل المقام ونحوه ممّا لا يتمكّن المكلّف من إتمام صلاته جماعة ، لنقص في الإمام ونحوه.

وهذا لم يثبت إلّا في بعض الموارد كالاختلاف من حيث القصر والتمام ، أو

__________________

(١) شرح العروة ١٤ : ٤١٦.

(٢) الجواهر ١٣ : ٣٣٠.

٣٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عروض عارض للإمام من موت أو حدث ونحو ذلك ممّا مرّ في محلّه (١) ، وأمّا ما عدا ذلك ومنه المقام فلم يتمّ دليل على جواز الائتمام ومشروعية الجماعة كما لا يخفى.

ثانيهما : جواز الدخول في الجماعة مع البناء من الأوّل على الانفراد في الأثناء. وهذا أيضاً غير ثابت ، بل غير جائز ، إذ كيف يتعلّق القصد إلى الجماعة مع هذا البناء من الابتداء كما مرّ (٢). وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى (٣). فما أفاده (قدس سره) من الجواز بشرط الانفراد لا يمكن المساعدة عليه.

وعلى كلّ تقدير أي سواء أقلنا بالجواز أم لا ، مع الاتّحاد أو مع الاختلاف فلا فرق في ذلك بين وجود الإمام المحسن وعدمه ، وإن ذكر في المتن أنّ الاحتياط لا يترك مع وجوده ، إذ وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة بعد فرض عدم وجوب الجماعة حتّى مع عجز المأموم عن القراءة كما اعترف (قدس سره) به في أوائل فصل الجماعة (٤).

وقلنا هناك : إنّ الجماعة مستحبّة مطلقاً وإن كان المأموم عاجزاً والإمام المحسن موجوداً ، لأنّ للصلاة الصحيحة بدلين عرضيين ، الجماعة والقراءة الناقصة ، فلا يتعيّن أحدهما مع التمكّن من الآخر.

فإذا لم يكن الحضور للجماعة واجباً في حدّ نفسه فلا فرق إذن في الحكم المزبور بين وجود الإمام المحسن وعدمه ، فان قلنا بصحّة الائتمام صحّ مطلقاً وإلّا فسد مطلقاً.

والمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ من لا يحسن القراءة لا تجوز إمامته ، سواء أكان المأموم محسناً أو مثله ، اتّحدا في المحلّ أم اختلفا ، كان هناك إمام آخر محسن أم لم يكن.

__________________

(١) في ص ٧٤ وما بعدها.

(٢) في ص ٨٦.

(٣) [لكن لن يأتي حسب مراجعتنا ، نعم أشار إلى ذلك إشارة خاطفة في ص ٤١٠].

(٤) في ص ١٦ المسألة [١٨٦٨].

٣٦٧

[١٩٦٥] مسألة ٥ : يجوز الاقتداء بمن لا يتمكّن من كمال الإفصاح بالحروف أو كمال التأدية إذا كان متمكّناً من القدر الواجب فيها ، وإن كان المأموم أفصح منه (١).

[١٩٦٦] مسألة ٦ : لا يجب على غير المحسن الائتمام بمن هو محسن (٢) وإن كان هو الأحوط ، نعم يجب ذلك على القادر على التعلّم إذا ضاق الوقت عنه كما مرّ سابقاً.

[١٩٦٧] مسألة ٧ : لا يجوز إمامة الأخرس لغيره وإن كان ممّن لا يحسن ، نعم يجوز إمامته لمثله (*) (٣) وإن كان الأحوط الترك خصوصاً مع وجود غيره ، بل لا يترك الاحتياط في هذه الصورة.

______________________________________________________

نعم ، لا يعتبر في الإمام أن تكون قراءته فصيحة بعد أن كانت صحيحة ومشتملة على المقدار الواجب من تأدية الحروف وإن كانت فاقدة لمحسّنات القراءة من كمال الإفصاح بالحروف ، أو كمال التأدية وكونها بالمرتبة العالية. فيجوز الائتمام به وإن كان المأموم أفصح منه ، إذ المدار في الجواز على صحّة قراءة الإمام لا على فصاحتها كما تعرّض الماتن (قدس سره) لذلك في المسألة الآتية.

(١) قد ظهر الحال فيها ممّا ذكرناه آنفاً ، فلا نعيد.

(٢) كما أشرنا إليه آنفاً وتقدّم الكلام حول ذلك مستقصى في أوائل فصل الجماعة ، فلاحظ إن شئت (١).

(٣) بل قد ظهر ممّا مرّ (٢) عدم جواز إمامته حتّى لمثله ، لعدم إجزاء الناقص من كلّ شخص إلّا عن كامل نفسه ، لا عن كامل غيره. فلا دليل على اجتزاء

__________________

(*) فيه إشكال ، والاحتياط لا يترك.

(١) ص ١٦ وما بعدها.

(٢) في ص ٣٦٥ ٣٦٦.

٣٦٨

[١٩٦٨] مسألة ٨ : يجوز إمامة المرأة لمثلها (١) ، ولا يجوز للرجل ولا للخنثى.

[١٩٦٩] مسألة ٩ : يجوز إمامة الخنثى للأُنثى دون الرجل ، بل ودون الخنثى (٢).

______________________________________________________

المأموم بناقص قراءة الإمام ، ومعلوم أنّ أدلّة الضمان منصرفة إلى القراءة الكاملة الاختيارية ، فلا تشمل المقام.

بل لو بنينا على جواز الإمامة فيما مرّ ، بدعوى إجزاء القراءة الناقصة عن الكاملة ولو بالإضافة إلى الغير ، لا نقول به في الأخرس ، إذ هو لا يتمكّن من القراءة أصلاً ، لا كاملها ولا ناقصها ، وإنّما يشير إليها.

ومن المعلوم أنّ هذه الإشارة إنّما تجزي عن قراءة نفسه وتكون بدلاً عنها ولا دليل بوجه على إجزاء الإشارة عن قراءة غيره. فما ذكره في المتن من التفرقة بين إمامته لمثله أو لغيره بالالتزام بالجواز في الأوّل لا وجه له لاشتراكهما في مناط المنع حسبما عرفت. ودعوى جواز إمامة كلّ مساوٍ لمساويه قد تقدّم ضعفها. فلاحظ.

(١) مرّ البحث حول ذلك في أوائل الفصل (١) عند التكلّم عن اشتراط ذكورة الإمام وعرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار جواز إمامة المرأة لمثلها على كراهة ، كما عرفت هناك عدم جواز إمامتها للرجل ، ومنه تعرف عدم جواز إمامتها للخنثى ، لاحتمال كونها رجلاً.

(٢) لا ريب في عدم جواز إمامة الخنثى للرجل ، لاحتمال كونها أُنثى ولا تصحّ إمامتها للرجل. كما لا ريب في عدم جواز إمامتها لمثلها ، لاحتمال كون الإمام أُنثى والمأموم رجلاً.

إنّما الكلام في إمامة الخنثى للأُنثى ، وهذا أيضاً لا إشكال فيه من ناحية الإمام ، لأنّه إمّا رجل أو أُنثى ، وعلى التقديرين تجوز إمامته للأُنثى.

لكن الإشكال ينشأ من ناحية الموقف ، بناءً على ما ذكرناه سابقاً (٢) من

__________________

(١) في ص ٣٤٩.

(٢) في ص ١٦٤ وما بعدها.

٣٦٩

[١٩٧٠] مسألة ١٠ : يجوز إمامة غير البالغ لغير البالغ (*) (١).

______________________________________________________

وجوب وقوف المأموم الواحد بحيال الإمام إن كان رجلاً ، وخلفه إن كان امرأة ، هذا إذا كان الإمام رجلاً. وأمّا إذا كان امرأة فلا تتقدّم على المأموم ، بل تقف وسطهنّ كما في النصّ (١).

وعليه فيتّجه الإشكال هنا في موقف الأُنثى ، فإنّ الإمام إن كان رجلاً وجب عليها أن تقف خلفه ، وإن كان امرأة وجب الوقوف بجانبها ، لعدم جواز تقدّم الإمام عليها حينئذ كما عرفت. فمن أجل العلم الإجمالي بوجوب أحد الموقفين يشكل اقتداؤها بالخنثى ، إذ الاحتمال في كلّ من الطرفين منجّز كما لا يخفى.

(١) تقدّم في أوّل الفصل (٢) أنّ مقتضى بعض النصوص وإن كان جواز إمامة غير البالغ لكنّها معارضة بما دلّ صريحاً على المنع ، وأنّه لا يؤمّ حتّى يحتلم والجمع بحمل الأوّل على إمامته لمثله ، والثاني على إمامته للبالغين تبرّعي لا شاهد عليه ، بل تأباه ألسنة النصوص كما مرّ. فبعد التعارض والتساقط يرجع إلى أصالة عدم المشروعية حتّى لمثله.

وأمّا ما ورد من قوله عليه‌السلام : مروهم بالصلاة والصيام (٣) فواضح أنّه ناظر إلى أصل الصلاة ، ولم يلحظ خصوصيتها من كونها جماعة كي يثبت بذلك مشروعيتها لمثله ، بحيث يترتّب أحكامها من سقوط القراءة ، واغتفار زيادة الركن ، والرجوع لدى الشكّ.

فالأقوى عدم المشروعية ، نعم لا بأس بتشكيل صورة الجماعة بعنوان

__________________

(*) فيه إشكال ، نعم لا بأس بها تمريناً.

(١) المتقدّم في ص ٣٥٠.

(٢) في ص ٣٣٧.

(٣) الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٣ ح ٥ ، ١٠ : ٢٣٤ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩ ح ٣.

٣٧٠

[١٩٧١] [مسألة ١١ : الأحوط عدم إمامة الأجذم والأبرص والمحدود بالحدّ الشرعي بعد التوبة ، والأعرابي إلّا لأمثالهم ، بل مطلقاً ، وإن كان الأقوى الجواز في الجميع (*) مطلقا (١).

______________________________________________________

التمرين كما نبّه عليه الأُستاذ (دام ظله) في التعليقة ، فتكون أصل الصلاة شرعية وجماعتها تمرينية.

(١) حكم (قدس سره) بجواز إمامة الطوائف الأربع أعني الأجذم والأبرص ، والمحدود بالحدّ الشرعي بعد التوبة ، والأعرابي وإن كان الأحوط عدم إمامتهم إلّا لأمثالهم ، بل مطلقاً.

فنقول : أمّا الأجذم والأبرص فقد وردت عدّة روايات تضمّنت المنع عن إمامتهما ولو لأمثالهما بمقتضى الإطلاق.

منها : ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه قال : خمسة لا يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص والمجذوم ...» إلخ (١).

لكنّها ضعيفة السند ، لضعف طريق الصدوق إلى ابن مسلم (٢) وإن عبّر عنها بالصحيحة في كلمات غير واحد كالمحقّق الهمداني (٣) وغيره (٤) ، اغتراراً بظاهر من وقع في السند من الصدوق الذي هو من أجلّاء الأصحاب ، وابن مسلم الذي هو من أعاظم الرواة ، بل من أصحاب الإجماع ، غفلة من إمعان النظر في الطريق الواقع بينهما وضعفه ، وقد وقع هذا الاشتباه منهم في نظير هذا السند كثيراً ، والعصمة لأهلها.

__________________

(*) لا يترك الاحتياط بترك الائتمام بالمحدود وبالأعرابي.

(١) الوسائل ٨ : ٣٢٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٣ ، الفقيه ١ : ٢٤٧ / ١١٠٥.

(٢) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٦.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٦٧٦ السطر ٥.

(٤) كالمحدّث البحراني في الحدائق ١١ : ٩١.

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيحة أبي بصير : «خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال : المجذوم والأبرص ...» إلخ (١). وهي قويّة السند ، ظاهرة الدلالة ، كصحيحة زرارة : «لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص ...» إلخ (٢).

وبإزائها روايتان : إحداهما : رواية عبد الله بن يزيد : «عن المجذوم والأبرص يؤمّان المسلمين؟ قال : نعم ، قلت : هل يبتلي الله بهما المؤمن؟ قال : نعم ، وهل كتب الله البلاء إلّا على المؤمن» (٣). لكنّها ضعيفة السند من أجل عبد الله بن يزيد ، فإنّه مهمل في كتب الرجال.

ثانيتهما : ما رواه البرقي في المحاسن بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن المجذوم والأبرص منّا أيؤمّان المسلمين؟ قال : نعم ...» إلخ (٤).

قال المحقّق الهمداني (قدس سره) عند التعرّض للروايتين : وضعف سندهما منجبر بعمل المشهور (٥).

أقول : لا نرى أيّ ضعف في الرواية الثانية كي يدّعى انجبارها بالعمل ، فإنّ البرقي معاصر ليعقوب بن يزيد ، فهو يرويها عن نفسه بلا واسطة ، إلّا أن يكون نظره (قدس سره) إلى الحسين بن أبي العلاء الخفاف. لكن النجاشي قال عند التعرّض له ولأخويه ما لفظه : روى الجميع عن أبي عبد الله عليه‌السلام وكان الحسين أوجههم (٦). فالرجل ممدوح ، فغاية ما هناك أن تكون الرواية حسنة لا موثّقة ، بل هي في أعلى درجات الحسن كما لا يخفى. على أنّه من رجال تفسير القمّي ، ومن عداه من رجال السند كلّهم أعيان أجلّاء. إذن فالرواية معتبرة في نفسها من غير حاجة إلى دعوى الانجبار.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٨ : ٣٢٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٥ ، ٦.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٢٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ١.

(٤) الوسائل ٨ : ٣٢٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٤ ، المحاسن ٢ : ٤٩ / ١١٤٧.

(٥) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٦٨٧ السطر ١٦.

(٦) رجال النجاشي : ٥٢ / ١١٧.

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف ما كان ، فمقتضى الجمع بينها وبين الروايات المتقدّمة المانعة هو الحمل على الكراهة (١) والمرجوحية. فالأقوى جواز إمامتهما لمثلهما وغيرهما على كراهة.

وأمّا المحدود بالحدّ الشرعي بعد التوبة فقد ورد المنع عن إمامته في جملة من النصوص ، عمدتها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا ، والأعرابي لا يؤم المهاجرين» (٢). وما عداها من الروايات كرواية ابن مسلم (٣) ورواية الأصبغ (٤) ضعيفة لا تصلح إلّا للتأييد.

ومقتضى الإطلاق في هذه الروايات عدم الفرق في المنع بين إمامته لمثله أو لغيره ، إذ ليس فيها إشعار فضلاً عن الدلالة على الاختصاص بالثاني. فما أفاده في المتن من التفرقة بينهما وأنّ الأحوط عدم إمامته إلّا لمثله غير ظاهر الوجه.

وكيف ما كان ، فرواية زرارة صحيحة السند ، ظاهرة الدلالة ، كدلالة غيرها من بقيّة النصوص المؤيّدة لها ، فانّ ظاهر النهي التحريم الوضعي المساوق لبطلان الجماعة.

ومع ذلك فقد ذهب غير واحد منهم الماتن وصاحب الجواهر (٥) إلى الجواز وحملوا النهي على الكراهة ، باعتبار معارضتها للروايات الدالّة على جواز الصلاة خلف كلّ من يوثق بدينه (٦) فحملوا النهي على الكراهة جمعاً.

ولكنّه لا يتمّ ، أمّا أوّلاً : فلأنّ النسبة بين الصحيحة وتلك الروايات وإن

__________________

(١) لعلّ لسان صحيحة أبي بصير يأبى عن الحمل على الكراهة.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٢٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٦.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٢٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٣.

(٤) الوسائل ٨ : ٣٢٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٤ ح ٦.

(٥) الجواهر ١٣ : ٣٨٣.

(٦) الوسائل ٨ : ٣٠٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٠ ح ٢ ، ٣١٩ / ب ١٢ ح ١ وغيرهما.

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كانت هي العموم من وجه ، فانّ المحدود يعمّ من تاب فصار عادلاً يوثق بدينه ومن لم يتب ، كما أنّ تلك الروايات تعمّ المحدود التائب وغير المحدود فيتعارضان في المحدود بعد ما تاب.

لكن لا بدّ من تقديم الصحيحة عليها لمرجّح فيها ، وهو ما أشرنا إليه في مطاوي هذا الشرح مراراً ، من أنّ في موارد التعارض بالعموم من وجه إذا لزم من تقديم أحد الدليلين إلغاء العنوان المذكور في الآخر بالكلّية تعيّن الآخر في الترجيح ، وذكرنا لهذا الضابط موارد :

منها : الروايات الدالّة على اعتصام الجاري إذا كانت له مادّة (١) المعارضة بمفهوم قوله عليه‌السلام : إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء (٢) بالعموم من وجه ، إذ مقتضى الإطلاق في الأوّل عدم الفرق بين القليل والكثير ، كما أنّ مقتضى إطلاق الثاني عدم الفرق بين الجاري وغيره ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي القليل الجاري الذي له مادّة ، فإنّ مقتضى الأوّل الاعتصام ومقتضى الثاني الانفعال.

لكن لا محذور في تقديم الأوّل ، إذ غايته تقييد المفهوم واختصاصه بالقليل غير الجاري ، وهذا بخلاف العكس ، إذ لو قدّم الثاني وحكم بانفعال القليل وإن كان جارياً لزم إلغاء عنوان الجاري المذكور في تلك الروايات بالكلّية ، إذ لم يبق تحتها إلّا الكثير المعتصم في حدّ نفسه وبعنوان الكثرة ، فلم تبق لصفة الجريان خصوصية أبداً ، ويكون ذكرها لغواً محضاً. فحذراً عن هذا المحذور يتعيّن الأوّل في الترجيح.

ومنها : ما ورد من أنّ كلّ طائر يطير بجناحيه فلا بأس ببوله وخرئه (٣) المعارض مع قوله : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٤) بالعموم من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٣ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٤ وغيره.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٢ ، ٥ وغيرها.

(٣) الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وجه ، إذ مقتضى الإطلاق في الأوّل عدم الفرق في الطائر بين مأكول اللّحم وغيره ، كما أنّ مقتضى الإطلاق في الثاني عدم الفرق فيما لا يؤكل بين الطائر وغيره ، فيتعارضان في الطائر الذي لا يؤكل لحمه.

لكن لا محذور في تقديم الأوّل ، إذ غايته ارتكاب التقييد في الثاني ، وحمله على غير الطائر من أفراد ما لا يؤكل ، وهذا بخلاف العكس ، إذ لو قدّمنا الثاني وحكمنا بنجاسة بول ما لا يؤكل من الطائر وغيره لزم إلغاء وصف الطيران وهدم هذا العنوان المأخوذ في لسان الدليل الأوّل ، إذ عليه لم يبق فرق في طهارة بول مأكول اللحم بين الطائر وغيره.

والمقام من هذا القبيل ، فانّ من الواضح أنّ ظاهر الصحيحة أنّ المحدود بعنوان كونه محدوداً موضوع للمنع ، لا من جهة كونه فاسقاً. وعليه فلو قدّمناها على ما ورد من قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» (١) لا محذور فيه عدا ارتكاب التخصيص ، والالتزام بجواز الصلاة خلف كلّ عادل إلّا المحدود.

وهذا بخلاف العكس ، إذ لازم تقديم الثاني إلغاء عنوان المحدود عن موضوعيته للمنع بالكلّية ، إذ لا فرق بينه وبين غير المحدود في عدم جواز الصلاة خلفه إذا لم يوثق بدينه ، فلا مناص من تقديم الصحيحة كي لا يلزم المحذور المزبور. ونتيجة ذلك حمل المحدود المذكور في الصحيحة على ما بعد التوبة ، تحفّظاً على استقلال عنوان المحدودية في المانعية فيحكم بأنّ مجرّد المحدودية مانع عن الإمامة إلى الأبد وإن تاب وصار عادلاً.

ولا يقاس ذلك بمثل قوله : لا تصلّ خلف شارب الخمر (٢) ، بداهة أنّ الظاهر من شارب الخمر هو الممارس لشربها فعلاً ، ومقتضى مناسبة الحكم والموضوع أنّ علّة النهي هو فسقه ، ولا ظهور له في من شرب ولو مرة واحدة ثمّ تاب ، أو

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٠٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٠ ح ٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٢٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٦ ، (نقل بالمضمون).

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

شرب عن عذر. وهذا بخلاف المحدود ، فإنّه ظاهر في من اجري عليه الحدّ في زمان ما وإن تاب بعده.

وأمّا ثانياً : فمع الغضّ عمّا ذكرناه غاية ما هناك تعارض الدليلين بالعموم من وجه وتساقطهما ، فيرجع حينئذ إلى أصالة عدم المشروعية. ولا مجال للجمع بالحمل على الكراهة في مثل ذلك كما لا يخفى. فيلتزم بأنّ المحدود في زمان ممنوع عن الإمامة دائماً ، لمثله ولغيره ، وإن تاب وأصبح عادلاً.

ولا بُعد في ذلك ، فإنّ المحدودية منقصة شرعية تسقطه عن الأنظار ويوصف صاحبها بالعيب والعار ، ولا كرامة له في أعين الناس ، ولا يرضى الشارع بتصدّي من هذا شأنه لمنصب الإمامة وزعامة الجماعة.

فهو من هذه الجهة نظير ابن الزنا ، الممنوع عن إشغال هذا المنصب وإن كان في غاية الورع والتقى ، لاشتراكهما في النقص ، غايته أنّ النقص فيه طبيعي ذاتي وفي المقام لسبب اختياري ، وهذا لا يكون فارقاً في مناط المنع.

وأمّا الأعرابي : فالمنسوب إلى جماعة من القدماء المنع عن إمامته مطلقاً ، بل عن بعض نفي الخلاف فيه إلّا من الحلّي (١). والمشهور بين المتأخّرين الكراهة ، وفصّل بعضهم بين إمامته لمثله فيجوز ولغيره فلا يجوز ، وهذا هو الأظهر كما ستعرف.

والأخبار الواردة في المقام عمدتها صحيحتا أبي بصير وزرارة ، قال عليه‌السلام في الأُولى : «خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال : المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي» (٢). وفي الثانية : «لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا ، والأعرابي لا يؤمّ المهاجرين» (٣).

وما عداهما من النصوص فهي ضعيفة سنداً وبعضها دلالة :

__________________

(١) السرائر ١ : ٢٨١.

(٢) ، (٣) الوسائل ٨ : ٣٢٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٥ ، ٦.

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : رواية عبد الله بن طلحة النهدي عن الصادق عليه‌السلام : «لا يؤمّ الناس المحدود ، وولد الزنا ، والأغلف ، والأعرابي ، والمجنون ، والأبرص والعبد» (١) والسند ضعيف إلى النهدي ، وهو بنفسه مجهول.

ومنها : رواية الأصبغ : «ستّة لا ينبغي أن يؤمّوا الناس : ولد الزنا والمرتدّ ، والأعرابي بعد الهجرة ...» (٢).

وهي ضعيفة سنداً بأبي جميلة المفضّل بن صالح ، وكذا دلالة ، لا من جهة لفظة «لا ينبغي» فإنّها غير قاصرة الدلالة على الحرمة ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّها لغة بمعنى لا يتيسّر ولا يمكن ، المساوق للمنع ، ومنه قوله تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) ... إلخ (٣). وتفسيرها بـ (لا يليق ولا يناسب) الراجع إلى الكراهة اصطلاح حادث. والكلمة في لسان الأخبار على ما هي عليه من المعنى اللغوي.

بل من جهة أنّ الظاهر من قوله : «الأعرابي بعد الهجرة» هو التعرّب بعد الهجرة ، أي الإعراض عن أرض المسلمين بعد الهجرة إليهم ، والانتقال إلى بلد الكفار ، الذي هو فسق ومعدود من الكبائر في جملة من الأخبار ، لا الأعرابي بمعنى سكنة البوادي المبحوث عنه في المقام ، لمنافاته مع كلمة بعد الهجرة المذكورة في الرواية. فهي أجنبية عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

ومنها : ما رواه في قرب الإسناد بإسناده عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : «كره أن يؤمّ الأعرابي ، لجفائه عن الوضوء والصلاة» (٤).

وهي ضعيفة سنداً بأبي البختري ، الذي قيل في حقّه : أنّه أكذب البريّة. ودلالة من جهة التعبير بـ «كره» ولا سيما التعليل بالجفاء ، الظاهر في أنّ

__________________

(١) المستدرك ٦ : ٤٦٤ أبواب صلاة الجماعة ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٢٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٤ ح ٦.

(٣) يس ٣٦ : ٤٠.

(٤) الوسائل ٨ : ٣٢٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٤ ح ٩ ، قرب الإسناد : ١٥٦ / ٥٧٥.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأعرابي من حيث هو لا خصوصية فيه ، وإنّما لا يؤتمّ به لنقص في وضوئه وصلاته وجفائه عنهما. فتكون أيضاً أجنبية عن محلّ الكلام من عدم جواز الائتمام بالأعرابي بما هو أعرابي مع استجماعه لسائر الشرائط.

فهذه الروايات غير صالحة الاستدلال ، والعمدة هي الصحيحتان المتقدّمتان ، وقد ذكر صاحب الوسائل أُولاهما أعني صحيحة أبي بصير في موضعين : أحدهما ما مرّ ، والآخر في باب ١٤ من صلاة الجماعة ح ١ معبراً عن أبي بصير في الثاني بقوله : يعني ليث المرادي. وكيف ما كان ، فسواء كان ليثاً أم غيره فهو موثّق ، والرواية صحيحة ، وقد تضمّنت عدم جواز إمامة الأعرابي حتّى لمثله ، بمقتضى الإطلاق.

لكنّ الثانية أعني صحيحة زرارة مقيّدة بالمهاجرين ، فهل يحمل المطلق على المقيّد فيختصّ النهي بإمامته للمهاجرين ، أو يعمل بكليهما معاً ، أو يحمل النهي فيهما على الكراهة؟ وجوه ، بل أقوال كما مرّ.

أمّا الأخير فلا وجه له ظاهر. ودعوى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحمل على الكراهة ، بشهادة التعليل بالجفاء عن الوضوء والصلاة في رواية قرب الإسناد المتقدّمة ، الظاهر في أنّ كراهة إمامته لأمر خارجي لا لكونه أعرابياً ، غير مسموعة. والرواية ضعيفة كما سمعت ، فلا تصلح للاستشهاد.

فيدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين ، وقد يقال بالثاني ، نظراً إلى عدم التنافي بينهما كي يجمع بحمل المطلق على المقيّد ، فانّ مورد التنافي المقتضي للحمل ما إذا كان الحكم في الدليل المطلق مجعولاً على نحو صرف الوجود ، مثل قوله : أعتق رقبة ، مع قوله : أعتق رقبة مؤمنة. فإنّ المطلوب شي‌ء واحد ، وهو صرف وجود العتق ، فيدور الأمر بين كونه مقيّداً بحصّة خاصّة وأنّ المراد من مجموع الدليلين شي‌ء واحد وهي الرقبة المؤمنة. وأن يكون مطلقاً والأمر في المقيّد محمولاً على الاستحباب لبيان أفضل الأفراد. والمقرّر في محلّه (١) أنّ

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٧٥.

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعيّن هو الأوّل ، عملاً بظاهر الأمر في دليل التقييد ، بعد أن لم تكن ثمّة قرينة تقتضي صرفه إلى الاستحباب.

وأمّا إذا كان الحكم انحلالياً ومجعولاً على نحو مطلق الوجود ، الساري إلى جميع الأفراد على سبيل تعدّد المطلوب ، فليست هناك أيّة منافاة بين الدليلين كي تحتاج إلى الجمع ، لجواز الأخذ بكلّ منهما ، نظير قوله : بول الهرة نجس (١) بالإضافة إلى قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٢) وقوله : النبيذ حرام (٣) ، مع قوله : «كلّ مسكر حرام» (٤) ، وقوله : ماء البحر طاهر» (٥) مع قوله : خلق الله الماء طهوراً (٦) إلى غير ذلك من الأحكام المجعولة على الطبيعة السارية ، التي لا تنافي بينها وبين ما دلّ على ثبوت الحكم لبعض أفرادها كي يحمل مطلقها على مقيّدها. فلا يحمل ما لا يؤكل على خصوص الهرة ، ولا المسكر على النبيذ ، ولا الماء على ماء البحر ، بل يعمل بكلا الدليلين بعد عدم التنافي في البين.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ صحيحة أبي بصير دلّت على المنع من إمامة الأعرابي بنحو مطلق الوجود ، الشامل لمثله وللمهاجر ، فلا تنافيها صحيحة زرارة الخاصّة بالمهاجر ، بل يعمل بكل منهما. ومعلوم أنّ التقييد بالمهاجر لا يدلّ على نفي الحكم عن غيره ليقع التنافي بينه وبين الإطلاق ، لعدم مفهوم للوصف. فلا تنافي بين الدليلين ، لا من ناحية صناعة الإطلاق والتقييد ، ولا من ناحية مفهوم القيد ، كي يستوجب الحمل المزبور. فلا مناص من الأخذ بكلا الدليلين.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٤ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ١ ، ٧ ، (نقل بالمضمون).

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٣٤ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١٥ ح ٣٠.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٣٢٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١٥ ح ١ ، ٣ ، ٥ وغيرها.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٦ / أبواب الماء المطلق ب ٢ ح ٤ ، (نقل بالمضمون).

(٦) الوسائل ١ : ١٣٥ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩ ، ٤.

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : قد ذكرنا في بحث الأُصول أنّ الوصف وإن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح ، أعني الدلالة على العلّية المنحصرة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء فلا معارضة بين قوله : أكرم رجلاً عادلاً ، وبين قوله : أكرم رجلاً هاشمياً ، كما تتحقّق المعارضة بينهما لو كان بنحو القضية الشرطية ، إلّا أنّ التقييد بالوصف يدلّ لا محالة على أنّ الموضوع للحكم ليس هو الطبيعة على إطلاقها وسريانها ، وإلّا كان التقييد به من اللغو الظاهر (١).

فلو ورد في دليل : أكرم رجلاً ، لكان معارضاً مع قوله : أكرم رجلاً عادلاً بطبيعة الحال ، لدلالة الأوّل على أنّ الموضوع ذات الرجل أينما سرى وحيثما تحقّق. وقد عرفت أنّ الثاني ينفي ذلك.

وعلى الجملة : لا نضايق من أنّ الوصف لا يقتضي الانحصار ، لجواز قيام خصوصية أُخرى مقامه كالهاشمية في المثال ، لكن لا مناص من الالتزام بدلالته على عدم كون الطبيعة المطلقة موضوعاً للحكم ، حذراً من لغوية القيد كما عرفت.

ودعوى جواز أن تكون النكتة في ذكره العناية بشأنه والاهتمام بأمره ، أو لبيان أفضل الأفراد لمزيّة فيه ، كلّ ذلك مخالف لظاهر الكلام ، ولا يكاد يساعده الفهم العرفي ما لم تقم عليه قرينة خاصّة ، ولعلّه إلى ما ذكرنا ينظر قول أهل الأدب من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً ، مع اعترافهم بعدم المفهوم للوصف بالمعنى المصطلح.

وعليه فصحيحتا أبي بصير وزرارة متنافيتان لا محالة ، إذ التقييد بالمهاجر الواقع في كلام الإمام عليه‌السلام في صحيح زرارة كاشف عن عدم كون موضوع الحكم مطلق الأعرابي ، وإلّا لم يكن وجه للتقييد به كما عرفت.

وقد دلّت صحيحة أبي بصير على أنّ الموضوع مطلق الأعرابي ، وأنّه لا يؤتمّ به ولا بغيره من المذكورات فيها على كلّ حال ، فلا مناص من حمل المطلق

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

٣٨٠