موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٧

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

اللغوي ، أي لا يتيسّر ولا يجوز ، المساوق للمنع وعدم الإمكان ، ومنه قوله تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) (١) أي يمتنع ولا يتيسّر لها ذلك.

وعليه فالصحيحة ظاهرة في التحريم ، وملحقة بالروايات السابقة الدالّة على المنع ، لا أنّها معارضة لها.

ومع التنزّل فلا أقلّ من عدم ظهورها في الكراهة ، بل في الجامع بينها وبين الحرمة ، وحيث لا قرينة في المقام على التعيين فيحكم عليها بالإجمال ، فتسقط عن الاستدلال.

الثانية : رواية البصري عن جعفر بن محمد عليه‌السلام : «أنّه سأل عن القراءة خلف الإمام ، فقال : إذا كنت خلف الإمام تولّاه وتثق به فإنّه يجزيك قراءته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه ...» إلخ (٢).

وفيه : أنّها ضعيفة السند جدّاً ، لاشتماله على جمع من الضعفاء والمجاهيل وإن تمّت دلالتها. فهي ساقطة ، ولا تصل النوبة إلى الجمع الدلالي كي يحمل النهي في تلك الأخبار الصحيحة على الكراهة.

ودعوى الانجبار بعمل المشهور ممنوعة صغرى وكبرى كما مرّ مراراً. مضافاً إلى عدم تحقّق الشهرة في المقام بنحو يكون القول الآخر شاذاً ، فإنّ القائلين بالحرمة أيضاً كثيرون ، والمسألة ذات قولين ، وليست شهرة في البين كي يدّعى الانجبار بها.

الثالثة : وهي العمدة صحيحة [الحسن بن] علي بن يقطين عن أخيه عن أبيه في حديث قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الركعتين اللّتين يصمت فيهما الإمام أيقرأ فيهما بالحمد وهو إمام يقتدى به؟ فقال : إن قرأت

__________________

(١) يس ٣٦ : ٤٠.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٥٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٥.

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا بأس ، وإن سكتّ فلا بأس» (١). وفي بعض النسخ : «إن قرأ فلا بأس ، وإن سكت فلا بأس».

وتقريب الاستدلال يتوقّف على مقدّمات :

الاولى : أنّ المراد بالصمت ليس هو السكوت ، إذ ليس في الصلوات ركعة يسكت فيها الإمام. وحمله على السكوت عن القراءة كما عن الوافي (٢) بعيد جدّاً كما لا يخفى ، بل المراد هو الإخفات ، فإنّه أقرب المجازات بعد تعذّر الحقيقة. فقوله : «يصمت» بمثابة قوله : يخفت ، لما بينهما من المشاكلة والمشابهة.

الثانية : أنّ المراد من الركعتين هما الأُوليان من الإخفاتية دون الأخيرتين فإنّ الجهر والإخفات إنّما يطلقان بلحاظ القراءة التي موطنها الركعتان الأُوليان غالباً.

الثالثة : أنّ الصحيحة ناظرة إلى السؤال عن وظيفة المأموم ، وأنّه هل يقرأ الحمد خلف إمام يقتدى به في الركعتين الأوّلتين من الإخفاتية ، فأجاب عليه‌السلام بالتخيير ، وأنّه إن قرأ فلا بأس وإن سكت فلا بأس ، أو إن قرأت فلا بأس وإن سكت فلا بأس. فينتج بعد ضمّ المقدّمات جواز القراءة في الأوّلتين من الإخفاتية.

أقول : أمّا المقدّمة الأُولى فحقّ لا مساغ لإنكارها كما عرفت.

وأمّا الثانية فغير واضحة ، بل لعلّ الصحيحة ظاهرة في الأخيرتين ، إذ لو أُريد الأُوليان والمفروض أنّ الصلاة إخفاتية لم يكن وجه لتخصيص الخفت بهما ، لكون ركعاتها حينئذ إخفاتية بأجمعها ، فلا يحسن التعبير بالركعتين اللتين يصمت فيهما.

بل كان الأولى أن يعبّر هكذا : عن الركعتين من الصلاة التي يصمت فيها. وإنّما يحسن تخصيص الخفت بالركعتين وإسناده إليهما فيما لو أُريد بهما

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٥٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٣.

(٢) الوافي ٨ : ١٢٠٤ ذيل ح ٨٠٥٥.

٢٠٢

ويستحبّ مع الترك أن يشتغل بالتسبيح والتحميد والصلاة على محمد وآله (١).

______________________________________________________

الأخيرتان المحكومتان بالإخفات في كافة الصلوات.

وبالجملة : فالركعتان ظاهرتان في الأخيرتين ، ولا أقلّ من احتمال ذلك الموجب لإجمال الصحيحة ، فتسقط عن الاستدلال.

وأمّا الثالثة فغير واضحة أيضاً ، بل من الجائز كما ربما يساعده السياق أن يكون السؤال عن وظيفة الإمام ، وأنّه هل يقرأ فيهما بالحمد والحال إنّه إمام يقتدى به. فكأنّ السائل تخيّل أنّ التصدّي للإمامة يستدعي القراءة حتّى في الأخيرتين ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه إن قرأ فلا بأس ، وإن سكت فلا بأس.

والمراد هو السكوت الإضافي ، لامتناع الحقيقي ، فكما أنّ الصمت المذكور في الصدر يحمل على الخفت مجازاً بعد تعذّر الحقيقي كما مرّ فكذا السكوت هنا يحمل على الإضافي ، لما ذكر.

وما استظهرناه إن صحّ وتمّ فهو ، وإلّا فلا أقلّ من احتماله وعدم الظهور في الخلاف ، فغايته الإجمال فلا تصلح للاستدلال.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ القول بالحرمة لو لم يكن أقوى فلا ريب أنّه أحوط ، عملاً بالروايات الصحيحة المانعة السليمة عمّا يعارضها حسبما عرفت.

(١) لصحيحة بكر بن محمد الأزدي : «إنّي أكره للمرء أن يصلّي خلف الإمام صلاة لا يجهر فيها بالقراءة فيقوم كأنّه حمار ، قال قلت : جعلت فداك فيصنع ماذا؟ قال : يسبّح» (١). وقد رويت بطرق ثلاثة (٢) كلّها صحيحة ، وفي بعضها :

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٦٠ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٢ ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦١ ، التهذيب ٣ : ٢٧٦ / ٨٠٦ ، قرب الإسناد : ٣٧ / ١٢٠.

٢٠٣

وأمّا في الأُوليين من الجهرية (١) فإن سمع صوت الإمام ولو همهمة وجب عليه ترك القراءة ،

______________________________________________________

للرجل المؤمن (١) بدل قوله : للمرء.

ولا يخفى أنّ قوله : «فيصنع ماذا» يكشف عمّا ذكرناه آنفاً وقوّيناه من حرمة القراءة ومغروسيتها في ذهن السائل ، ولذا سأل عن أنّه ماذا يصنع ، وإلّا فلو كانت القراءة جائزة كانت الوظيفة الاستحبابية معلومة من غير حاجة إلى السؤال ، كما أنّ اقتصار الإمام على التسبيح في الجواب شاهد آخر عليه.

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل يصلّي خلف إمام يقتدي به في الظهر والعصر يقرأ؟ قال : لا ، ولكن يسبّح ويحمد ربّه ويصلّي على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

وصحيحة سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : إذا كنت إمام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الأوّلتين ، وعلى الذين خلفك أن يقولوا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر» (٣). فإنّ أبا خديجة ثقة على الأصحّ ، وتضعيف الشيخ (٤) له مبنيّ على أمر غير صحيح كما نبهنا عليه في محلّه (٥). وباقي رجال السند كلّهم موثّقون. فالرواية محكومة بالصحّة كما عبّرنا نعم هي مطلقة تشمل الجهريّة كالإخفاتيّة ، ولا مانع من الأخذ بالعموم كما ستعرف.

(١) يقع الكلام تارة فيما إذا سمع قراءة الإمام ولو همهمة ، وأُخرى فيما إذا

__________________

(١) [وهو ما رواه في قرب الإسناد كما في الوسائل. لكنّ الموجود في نسخة قرب الإسناد هو : إني لأكره للمؤمن].

(٢) الوسائل ٨ : ٣٦١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٦٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٢ ح ٦.

(٤) الفهرست : ٧٩ : ٣٢٧.

(٥) معجم رجال الحديث ٩ : ٢٤ / ٤٩٦٦.

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لم يسمع ، فهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال كما لا خلاف من أحد في مرجوحيّة القراءة حينئذ ، ولعلّ المشهور أو الأشهر جوازها مع الكراهة. وذهب جمع من الأصحاب من القدماء والمتأخّرين إلى الحرمة.

والكلام يقع أوّلاً في المقتضي للمنع ، وأُخرى في المانع عنه المعارض له.

أمّا المقتضي : فقد وردت روايات كثيرة معتبرة تضمّنت النهي عن القراءة إمّا عموماً كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدّمة ، قالا «قال أبو جعفر عليه‌السلام : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : من قرأ خلف إمام يأتمّ به فمات بعث على غير الفطرة» (١).

أو في خصوص الجهرية كصحيحة زرارة : «إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئاً في الأوّلتين ، وأنصت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين ، فإنّ الله عزّ وجل يقول للمؤمنين (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) يعني في الفريضة خلف الإمام (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فالأخيرتان تبع للأوّلتين» (٢).

وصحيحة قتيبة : «إذا كنت خلف إمام ترتضي به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلم تسمع قراءته فاقرأ أنت لنفسك ، وإن كنت تسمع الهمهمة فلا تقرأ» (٣).

وصحيحة علي بن جعفر : «عن الرجل يكون خلف الإمام يجهر بالقراءة وهو يقتدي به ، هل له أن يقرأ من خلفه؟ قال : لا ، ولكن لينصت للقرآن» (٤). ونحوها غيرها وهي كثيرة كما لا يخفى على من لاحظها.

وأمّا المانع : فقد استدلّ بأُمور تمنع من الأخذ بظواهر النصوص المتقدّمة وتصلح قرينة لصرف النهي الوارد فيها إلى الكراهة.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٥٦ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٤.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٣.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٥٧ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٧.

(٤) الوسائل ٨ : ٣٥٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٦.

٢٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام المتقدّمة آنفاً ، فقد قيل : إنّها تتضمّن قرينتين تشهدان بذلك :

إحداهما : اقتران النهي عن القراءة في الأُوليين بالنهي عنها في الأخيرتين حيث قال عليه‌السلام فيها : «ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين» ، ومن الواضح أنّ النهي في الأخيرتين تنزيهي ، فكذا في الأُوليين ، لاتحاد السياق.

وفيه أوّلاً : ما ذكرناه في الأُصول (١) من أنّ الوجوب والحرمة وكذا الاستحباب والكراهة ليسا من مداليل الألفاظ ، وإنّما يستفادان من حكومة العقل بمناط وجوب الطاعة ، فإنّ صيغة الأمر لا تدلّ إلّا على إبراز اعتبار الشي‌ء وجعله في ذمّة المكلف ، كما أنّ النهي لا يدلّ إلّا على اعتبار محروميته عنه. فان لم يقترن بالترخيص في الترك أو في الفعل انتزع منه الوجوب أو الحرمة بحكم العقل عملاً بوظيفة العبودية وخروجاً عن عهدة الطاعة ، وإن اقترن بالترخيص في أحدهما انتزع منه الاستحباب أو الكراهة ، من دون أن تكون الصيغة بنفسها مستعملة في شي‌ء من ذلك.

وحيث قد ثبت الترخيص من الخارج بالإضافة إلى الأخيرتين ، ولم يثبت في الأوّلتين التزمنا بالكراهة في الأوّل وبالحرمة في الثاني ، من دون أن يستلزم ذلك تفكيكاً في ظاهر اللفظ كي يتنافى مع اتحاد السياق.

وثانياً : سلّمنا استفادتهما من اللفظ ودلالة الصيغة بنفسها عليهما لكن الصحيحة تضمّنت حكمين لموضوعين في جملتين مستقلّتين ، غاية الأمر أنّهما اجتمعا في كلام واحد ، فأيّ مانع من إرادة الحرمة في إحداهما والكراهة في الأُخرى بعد تغاير الجملتين موضوعاً وحكماً. ومجرّد الاجتماع في كلام واحد لا يستوجب الاتّحاد في الحكم. وحديث السياق لو سلّم فمورده ما إذا كان هناك حكم واحد لموضوعين في جملة واحدة مثل قوله : اغتسل للجمعة والجنابة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣٠ ١٣٢ ، [وقد ذكر ذلك في صيغة الأمر فقط].

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثاً : لا نسلّم كون النهي عن القراءة تنزيهياً في الأخيرتين ، بل الظاهر أنّه تحريمي ، لعدم الدليل على جواز القراءة في الأخيرتين بالإضافة إلى المأموم في الصلوات الجهرية التي هي مورد الصحيحة. ومن هنا ذكرنا في بحث القراءة (١) وسيجي‌ء قريباً إن شاء الله تعالى (٢) أنّ الأحوط وجوباً اختياره التسبيح ، إذ لم يثبت التخيير بينه وبين القراءة في الأخيرتين إلّا في المنفرد أو المأموم في الصلوات الإخفاتية.

وعليه فلا مانع من الأخذ بظاهر النهي الوارد في الصحيحة في كلتا الفقرتين والحكم بالحرمة في الأوّلتين والأخيرتين معاً.

ثانيتهما : تعليل النهي عن القراءة بالإنصات ، وحيث إنّه مستحبّ إجماعاً إلّا من ابن حمزة (٣) كان النهي للكراهة لا محالة ، لامتناع أن يكون الحكم الاستحبابي علّة لحكم إلزامي.

وربما يؤيّد الاستحباب باستفادته من نفس الآية الكريمة ، قال تعالى (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤) فانّ تعريض النفس للرحمة غير واجب ، وإن وجب تعريضها للغفران ودفع العذاب.

أقول : ظاهر الأمر بالإنصات في الآية المباركة المفسّرة بالفريضة خلف الإمام في الصحيحة المتقدّمة هو الوجوب. والإجماع المدعى ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام البتة ، فلا يصلح لرفع اليد به عن ظاهر الأمر.

ولا ينافي ذلك استحباب التسبيح في النفس المأمور به في بعض النصوص إمّا لعدم المنافاة بين الإنصات والإصغاء وبين التسبيح الخفيّ ، بناءً على ما يظهر

__________________

(١) شرح العروة ١٤ : ٤٧٧ ، ٤٨٠.

(٢) في ص ٢١٨ ٢١٩.

(٣) الوسيلة : ١٠٦.

(٤) الأعراف ٧ : ٢٠٤.

٢٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

من بعض اللغويين من أنّ الإنصات ليس هو السكوت المطلق ، بل بمعنى عدم الجهر ، ولذا لو اشتغل بعض المستمعين بالذكر الخفيّ والخطيب على المنبر لا يصادم ذلك مع الإنصات والاستماع كما لا يخفى ، أو على تقدير التنافي فغايته الالتزام بالتخصيص واستثناء التسبيح.

وأمّا الاستشهاد للاستحباب بقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بدعوى عدم وجوب تعريض النفس للرحمة وإن وجب تعريضها لدفع العذاب. ففيه : أنّه لا واسطة بين الأمرين إمّا العذاب أو الرحمة ، وأنّ تعريض النفس للرحمة مساوق لتعريضها لدفع العذاب ، وأحدهما عين الآخر.

كما يكشف عن عدم الواسطة وأنّه إمّا عذاب أو جنّة جملة وافرة من الآيات الكريمة ، قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) ... إلخ (١) ، دلّت على اختصاص الرحمة بالمؤمنين المطيعين لله ورسوله. فغير المؤمن وهم الكفار أو المنافقون معذّبون.

وقال تعالى (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٢) ، دلّت على أنّ المشمول للرحمة هو الذي يصرف عنه العذاب. فهو إمّا معذّب أو مشمول للرحمة مصروف عنه العذاب ، ولا ثالث.

وقال تعالى (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) ... إلخ (٣) ، دلّت على أنّ المرحوم هو المصون عن السيئات. فهو إما مسي‌ء ففي الجحيم ، أو مرحوم ففي النعيم.

وقال تعالى (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. إِلّا مَنْ

__________________

(١) التوبة ٩ : ٧١.

(٢) الأنعام ٦ : ١٥ ١٦.

(٣) المؤمن ٤٠ : ٩.

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

رَحِمَ اللهُ ...) إلخ (١) ، دلّت على عدم النصر يوم الفصل إلّا لمن رحمه الله. فغير المرحوم غير منصور في ذلك اليوم ، فهو معذّب لا محالة.

وهذه الجملة أعني (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواردة في آية الإنصات قد وردت في غير واحد من الآيات ، ولا يحتمل فيها الاستحباب.

قال تعالى (وَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢) ، فإنّ الرحمة مترتّبة على إطاعة الله ورسوله باختيار الإسلام والفرار عن النار التي أُعدّت للكافرين ، ووجوبه واضح.

وقال تعالى (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٣) ، ترتّبت الرحمة على التقوى ومتابعة القرآن ، الواجب على كلّ أحد.

وقد ذكرنا في تفسير سورة الفاتحة حول قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ... إلخ (٤) أنّه تعالى قسّم المكلّفين إلى ثلاثة أقسام ، ولا رابع. فمنهم من يمشي في صراط مستقيم وهم الذين أنعم الله عليهم ، وغيرهم إمّا معاند وهو المغضوب عليه ، أو غير معاند وهو الضال (٥).

وعلى الجملة : فليست في قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) دلالة على الاستحباب ليرفع اليد به عن ظهور الأمر بالإنصات في الوجوب. وقد عرفت أنّ الإجماع المدّعى على استحبابه ليس تعبّدياً ليعتمد عليه.

ودعوى السيرة المستمرّة على الترك كما قيل غير ثابتة.

فالأقوى وجوب الإنصات خلف الإمام ، عملاً بظاهر الأمر في الآية

__________________

(١) الدخان ٤٤ : ٤١ ٤٢.

(٢) آل عمران ٣ : ١٣١ ١٣٢.

(٣) الانعام ٦ : ١٥٥.

(٤) الفاتحة ١ : ٦.

(٥) البيان : ٤٩٢.

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المباركة ، السليم عمّا يوجب صرفه إلى الاستحباب.

وممّا يؤكّد الوجوب قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج : «وأمّا الصلاة التي يجهر فيها فإنّما أُمر بالجهر لينصت من خلفه ، فان سمعت فأنصت ...» إلخ (١) ، فانّ تعليل وجوب الجهر على الإمام بإنصات من خلفه يكشف عن وجوب الإنصات لا محالة ، وإلّا فكيف يكون الحكم الاستحبابي علّة لحكم إلزامي.

وعليه فليس في تعليل النهي عن القراءة بالإنصات في صحيحة زرارة المتقدّمة قرينة على الكراهة ، لتوقّفها على استحباب الإنصات ، وقد عرفت أنّ الأقوى وجوبه. فتركها عزيمة لا رخصة.

وقد يجاب عن هذه القرينة بأنّ تطبيق الآية في الصحيحة المتقدّمة يمكن أن يكون بلحاظ الأمر بالإنصات ، لا بلحاظ النهي عن القراءة ، فالتعليل راجع إلى الأوّل دون الثاني كي يدلّ على الكراهة.

وفيه : أنّ هذا بعيد جدّاً ، فانّ توسّط قوله عليه‌السلام : «ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين» بين قوله : «فانّ الله عزّ وجلّ يقول ...» إلخ ، وبين قوله : «وأنصت لقراءته» مانع عن رجوع التعليل إلى الأمر بالإنصات كما لا يخفى.

بل الظاهر أنّ التعليل راجع إلى الجملة المتّصلة به ، أعني قوله عليه‌السلام : «ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين» بقرينة فاء التفريع في قوله عليه‌السلام : في آخر الصحيحة : «فالأخيرتان تبع للأوّلتين» ، ويكون حاصل المعنى : أنّ القراءة ممنوعة في الأخيرتين ، لأنّ الإنصات واجب في الأوّلتين بمقتضى الآية المباركة ، الملازم لترك القراءة فيهما ، فكذا تترك في الأخيرتين لأنّهما تابعتان للأولتين في هذا الحكم.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ هذه الصحيحة لا تصلح للقرينية ليصرف النهي الوارد فيها وفي غيرها عن القراءة إلى الكراهة.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٥٦ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٥.

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : أي من القرائن موثّقة سماعة : «عن الرجل يؤمّ الناس فيسمعون صوته ولا يفقهون ما يقول ، فقال : إذا سمع صوته فهو يجزيه ، وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه» (١) ، فانّ التعبير بالإجزاء يكشف عن جواز القراءة ، غير أنّ السماع يجزي عنها.

وفيه : أنّ الإجزاء لا يدلّ إلّا على جواز السماع بالمعنى الأعمّ والاكتفاء به عن القراءة ، وأمّا أنّها مكروهة أو محرّمة وأنّ تركها بنحو الرخصة أو العزيمة فلا دلالة فيه على ذلك بوجه.

بل يمكن أن يقال بدلالة الموثّقة على أنّ الترك بنحو العزيمة وأنّ القراءة ليست بجائزة ، بقرينة المقابلة بين هذه الفقرة وبين قوله عليه‌السلام : «وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه» ، فإنّ القراءة لدى عدم السماع جائزة لا واجبة نصاً وفتوى كما ستعرف ، ومقتضى المقابلة عدم الجواز لدى السماع ، إذ لو جاز معه أيضاً لما صحّ التقابل ، مع أنّ التفصيل قاطع للشركة.

وبعبارة اخرى : لا شكّ أنّ القراءة في الصورة الثانية ليست بواجبة للنصوص الدالّة على جواز الترك ، فتركها حينئذ رخصة قطعاً ، فان كان الترك في الصورة الأُولى أيضاً رخصة لم يبق فرق بين الصورتين فلا يصح التقابل فلا مناص من كونه عزيمة.

وعليه فالموثّقة تعاضد النصوص المانعة ، لا أنّها تعارضها كي تصلح قرينة لصرف النهي الوارد فيها إلى الكراهة.

فالإنصاف : أنّه ليست هناك قرينة يعتمد عليها في رفع اليد عن ظاهر النهي الوارد في تلك النصوص كي يحمل على الكراهة. فالأقوى حرمة القراءة وأنّ سقوطها بنحو العزيمة ، كما يؤكّده قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ومحمّد ابن مسلم المتقدّمة (٢) : «من قرأ خلف إمام يأتمّ به فمات بعث على غير الفطرة».

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٥٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٠.

(٢) في ص ٢٠٥.

٢١١

بل الأحوط والأولى الإنصات ، وإن كان الأقوى جواز الاشتغال بالذكر ونحوه (١).

______________________________________________________

فانّ مثل هذا التعبير ممّا يأبى عن الحمل على الكراهة كما لا يخفى ، وإن خصّصت بالإخفاتيّة وبصورة عدم السماع في الجهريّة كما عرفت وستعرف.

ثمّ إنّه لا فرق في الحكم المزبور بين سماع الصوت أو الهمهمة ، للتصريح بالمنع عن القراءة لدى سماعها أيضاً في موثّقة (١) عبيد بن زرارة عنه عليه‌السلام : «إنّه إن سمع الهمهمة فلا يقرأ» (٢) ، ولا يقدح في السند وجود الحكم بن مسكين في طريق الصدوق إلى عبيد (٣) فإنّه موجود في أسانيد كامل الزيارات (٤) وإن لم يوثّق صريحاً في كتب الرجال. وكذا في صحيحة قتيبة «... وإن كنت تسمع الهمهمة فلا تقرأ» (٥).

(١) ولا ينافي ذلك وجوب الإنصات ، إمّا لتفسيره بعدم الإجهار دون السكوت المطلق كما تقدم عن بعض اللغويين فلا تدافع بينه وبين الذكر الخفيّ غير المانع عن الإصغاء ، أو للالتزام بالتخصيص لو فسّر بالسكوت المطلق ، للنص الصحيح الدال على الجواز ، وهي صحيحة أبي المغراء حميد بن المثنّى قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله حفص الكلبي فقال : أكون خلف الإمام وهو يجهر بالقراءة فادعوا وأتعوّذ؟ قال : نعم ، فادع» (٦).

__________________

(١) [الظاهر كونها صحيحة بناءً على رأيه السابق في مشايخ ابن قولويه لعدم التصريح بكون أحد رجال السند غير إمامي كما سيصرح بكونها صحيحة في ص ٢٢٠].

(٢) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٢.

(٣) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٣١.

(٤) ولكنّه لم يكن من مشايخ ابن قولويه بلا واسطة ، فلا يشمله التوثيق. والعمدة صحيحة قتيبة.

(٥) الوسائل ٨ : ٣٥٧ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٧.

(٦) الوسائل ٨ : ٣٦١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٢ ح ٢.

٢١٢

وأمّا إذا لم يسمع حتّى الهمهمة جاز له القراءة بل الاستحباب قويّ ، لكن الأحوط القراءة بقصد القربة المطلقة لا بنيّة الجزئيّة ، وإن كان الأقوى الجواز بقصد الجزئيّة أيضاً (١).

______________________________________________________

وقد نوقش في سندها تارة وفي الدلالة اخرى :

أمّا السند : فلأنّ في طريق الصدوق إلى أبي المغراء عثمان بن عيسى (١) ، وقد توقّف فيه العلامة في رجاله (٢) ، وضعّفه في كتبه الاستدلالية لكونه واقفياً.

وفيه : أنّ تضعيف العلامة مبنيّ على مسلكه من عدم الاعتماد على غير الإمامي وإن كان ثقة ، وحيث بنينا على الاكتفاء بوثاقة الراوي وإن لم يكن إمامياً فالرواية معتبرة ، لكون الرجل موثّقاً في كتب الرجال ، بل عدّه الكشي من أصحاب الإجماع على قول (٣).

وأمّا الدلالة : فبإمكان حملها على صورة عدم السماع. وفيه من البعد ما لا يخفى ، نعم لو كانت العبارة هكذا : أكون خلف الإمام في الصلاة الجهرية. لم يكن الحمل المزبور بعيداً ، لجواز أن لا يسمع صوت الإمام لبعده عنه. لكن العبارة هكذا : «وهو يجهر بالقراءة» ، وهذا التعبير كما ترى يدل على سماعه للقراءة وتشخيص أنّه يجهر بها حسّا لا حدساً كما لا يخفى.

وأوضح دلالة صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «إذا كنت خلف إمام تأتمّ به فأنصت وسبّح في نفسك» (٤) ، فإنّ الإنصات للقراءة لا يتحقّق إلّا مع الجهر بها وسماعها. فلا يحتمل الحمل على عدم السماع ، وقد دلّت كسابقتها على استحباب التسبيح.

(١) المقام الثاني : فيما إذا لم يسمع حتّى الهمهمة ، ولا ينبغي الاستشكال في

__________________

(١) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٦٥.

(٢) الخلاصة : ٣٨٢ / ١٥٣٥.

(٣) رجال الكشي : ٥٥٦ / ١٠٥٠.

(٤) الوسائل ٨ : ٣٦١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٢ ح ٤.

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

جواز القراءة حينئذ ، بل عن الرياض أنّه أطبق الكلّ على الجواز بالمعنى الأعمّ (١). وفي الجواهر : بلا خلاف أجده بين الأصحاب ، بل ولا حكي عن أحد منهم عدا الحلّي ، مع أنّه لا صراحة في عبارته في السرائر (٢) بذلك ، بل ولا ظهور ، ولا يبعد أنّه وهم من الحاكي (٣). انتهى.

وكيف ما كان ، فيظهر منهم أنّ الأقوال في المسألة أربعة :

أحدها : الوجوب كما هو ظاهر الشيخ في المبسوط (٤) والنهاية (٥) ، والمحقّق في النافع (٦) ، والمرتضى (٧) وأبي الصلاح (٨) وغيرهم.

الثاني : الاستحباب كما اختاره في المتن تبعاً لغير واحد من الأصحاب ، بل نسب إلى المشهور تارة وإلى الأشهر أُخرى.

الثالث : الإباحة كما نسب إلى ظاهر القاضي (٩) والراوندي (١٠) وابن نما (١١) وغيرهم.

الرابع : التحريم ، ولم ينسب إلّا إلى الحلّي ، وإن ناقش في الجواهر في صدق النسبة وأنّه اشتباه من الحاكي كما عرفت ، إلّا أنّه قول منسوب إليه ، سواء أصحّت النسبة أم لا. هذه هي حال الأقوال.

أمّا الأخير فساقط جزماً ، إذ ليس له وجه ظاهر عدا الاغترار بعموم بعض

__________________

(١) الرياض ٤ : ٣٠٨.

(٢) السرائر ١ : ٢٨٤.

(٣) الجواهر ١٣ : ١٩٢.

(٤) المبسوط ١ : ١٥٨.

(٥) النهاية : ١١٣.

(٦) المختصر النافع : ٤٧.

(٧) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٤٠.

(٨) الكافي في الفقه : ١٤٤.

(٩) المهذّب ١ : ٨١.

(١٠) فقه القرآن ١ : ١٤١.

(١١) حكاه عنه في الذكرى ٤ : ٤٦٠.

٢١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخبار الناهية عن القراءة خلف الإمام ، اللازم تخصيصه بالنصوص الكثيرة الواردة في المقام كما ستعرف المتضمّنة للأمر بالقراءة الذي لا أقلّ من دلالته على الترخيص.

وأمّا القول بالوجوب : فمستنده الأخذ بظاهر الأمر الوارد في غير واحد من النصوص ، ففي صحيح الحلبي : «... إلّا أن تكون صلاة تجهر فيها بالقراءة ولم تسمع فاقرأ» (١) ، وفي صحيح ابن الحجاج «... وإن لم تسمع فاقرأ» (٢) ، وفي صحيح قتيبة : «.. إذا كنت خلف إمام ترتضي به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلم تسمع قراءته فاقرأ أنت لنفسك ...» إلخ (٣) ، وفي موثّق سماعة : «وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه» (٤) ، ونحوها غيرها.

وفيه أوّلاً : أنّ الأمر في هذه النصوص لا يدلّ على الوجوب ، بل ولا الاستحباب ، لوروده موقع توهّم الحظر ، بناء على ما عرفت من المنع عن القراءة لدى السماع. فغايته الدلالة على الجواز ومجرّد الترخيص.

وثانياً : أنّه محمول على الاستحباب بقرينة الترخيص في الترك الثابت في صحيح علي بن يقطين ، قال : «سألت أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام عن الرجل يصلّي خلف إمام يقتدى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلا يسمع القراءة ، قال : لا بأس إن صمت وإن قرأ» (٥). فهذا القول يتلو سابقه في الضعف. فيدور الأمر بين القولين الآخرين ، أعني الاستحباب أو الإباحة.

والتحقيق : أنّ القول بالإباحة ساقط ، ولا يمكن المصير إليه في المقام ، سواء أقلنا بظهور الأمر الوارد في تلك النصوص في الوجوب ورفع اليد عنه بقرينة صحيح ابن يقطين الذي نتيجته الاستحباب ، أم قلنا بأنّها من أجل وقوعها موقع توهّم الحظر غير ظاهرة إلّا في الإباحة ومجرّد الترخيص ، لعدم تصوّر

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٥٦ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٥.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٥٧ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٧.

(٤) ، (٥) الوسائل ٨ : ٣٥٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٠ ، ١١.

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الإباحة في أجزاء العبادة لا في جزء الطبيعة ولا في جزء الفرد ، وأنّها متى جازت كانت مستحبة بأمر عباديّ استقلاليّ ظرفه الواجب.

وتوضيح المقام : أنّا قد ذكرنا في الأُصول في بحث الصحيح والأعم (١) أنّ التركيب بين أجزاء الصلاة ليس تركيباً حقيقياً ، لأنّها مؤلّفة من ماهيات مختلفة ومقولات متباينة ، فبعضها من مقولة الكيف المسموع كالتكبير والقراءة ، وبعضها من مقولة الوضع كالركوع والسجود وهكذا ، ولا جامع ماهوي بين المقولات المتأصّلة بالضرورة.

وإنّما التركيب بينها اعتباري محض ، فلاحظ الشارع الطبيعة المؤلّفة من المقولات المتشتّتة واعتبرها شيئاً واحداً في عالم اللحاظ والاعتبار. فكلّ ما اعتبره في الطبيعة كان جزءاً منها مقوّماً لها وإلّا كان خارجاً عنها ، ولأجل ذلك امتنع اتّصاف الجزء بالاستحباب فضلاً عن الإباحة ، إذ مقتضى الجزئية الدخل في الطبيعة وتقوّمها بها ، ومقتضى الاستحباب جواز الترك المساوق لعدم الدخل ، فكيف يجتمعان. هذا حال الطبيعة نفسها.

وكذا الفرد ، إذ لا يتّصف شي‌ء بكونه فرداً للطبيعة إلّا إذا أُضيف إليها ولا تكاد تتحقّق الإضافة إلّا إذا كان مصداقاً للطبيعة بانطباقها بشراشر أجزائها عليه ومطابقتها معه في كلّ ما يشتمل عليه ، فينطبق التكبير على التكبير الخارجي ، ومثله الركوع والسجود ، وهكذا إلى نهاية الأجزاء المعتبرة في الطبيعة ، فلا يزيد الفرد عليها بشي‌ء. فكلّ ما هو جزء للفرد جزء للطبيعة وما ليس جزءاً لها لم يكن جزءاً للفرد أيضاً وإن اقترن معه خارجاً ، فجزء الفرد من الطبيعة لا يكون إلّا جزءاً لنفس الطبيعة لا محالة.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ القراءة في المقام بعد أن لم تكن واجبة حسب الفرض فهي ليست بجزء لا للطبيعة ولا للفرد ، فلا معنى للقول بأنّها جزء مباح من الصلاة لا توجب أفضلية الفرد المشتمل عليها من الفرد الخالي عنها ، أو جزء

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ١ : ١٦١ ، ١٤٧.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مستحب يوجب أفضلية الفرد المشتمل من الفرد الخالي.

ولا يقاس ذلك بسائر الملابسات التي يتّصف بها الفرد المحكومة بالإباحة تارة وبالاستحباب أو الكراهة أُخرى ، نظير الماهية التشكيكية المنطبقة على المرتبة القويّة مرّة والضعيفة اخرى كالصلاة في الدار أو في المسجد أو الحمام ضرورة أنّ خصوصية المكان أو الزمان من ملابسات وجود الفرد وملازماته ومقارناته التي لا ينفكّ عنها خارجاً. فهي ملازمة للوجود ، لا جزء من الموجود ، فيمكن أن توجب المزيّة تارة والنقيصة أُخرى ، أو لا هذا ولا ذاك فيحكم عليه بالإباحة.

وأين هذا من القراءة أو القنوت أو الذكر الزائد على الأذكار المعتبرة في الركوع أو السجود ونحوها ممّا لا يتقوّم به الفرد في تحقّقه ، بل قد يكون وقد لا يكون.

وعلى الجملة : فجزئية هذه الأُمور للفرد أو الطبيعة مع فرض استحبابها فضلاً عن الإباحة أمر غير معقول.

فما يقال من أنّه بناءً على مشروعية القراءة ولو على القول بالإباحة لا مانع من الإتيان بها بقصد الجزئية والوجوب ، فإنّها وإن لم تكن جزءاً من الماهية الواجبة لكنّها جزء من الفرد الذي تنطبق الماهية الواجبة عليه بتمام أجزائه التي منها القراءة ، فتتّصف بالوجوب بعين اتّصاف سائر أجزاء الصلاة. في غاية الضعف.

وليت شعري كيف تنطبق الطبيعة غير الملحوظ فيها القراءة حسب الفرض على الفرد المشتمل عليها بوصف الاشتمال ، وهل هناك معنى للانطباق الذي هو مناط اتّصاف الفرد بكونه فرداً للطبيعة كما عرفت عدا تطبيق الطبيعة الواجبة بما لَها من الأجزاء على الموجود الخارجي بما لَه من الأجزاء. فمع الاعتراف بعدم الدخل في الطبيعة والماهية المأمور بها كيف يمكن دعوى انطباقها على الفرد المشتمل على ما لا يكون جزءاً من الطبيعة حتّى يمكن الإتيان بالقراءة بقصد الوجوب والجزئية.

٢١٧

وأمّا في الأخيرتين من الإخفاتية أو الجهريّة فهو كالمنفرد (*) في وجوب القراءة أو التسبيحات مخيّراً بينهما ، سواء قرأ الإمام فيهما أو أتى بالتسبيحات سمع قراءته أو لم يسمع (١).

______________________________________________________

وملخّص الكلام : أنّا لا نعقل التوفيق بين الجزئية وبين الإباحة أو الاستحباب ، سواء أُريد بها الجزئية للطبيعة أم للفرد.

نعم ، بعد أن رخّص الشارع في إتيان شي‌ء في الصلاة بعنوان أنّها صلاة وكان مسانخاً لأجزائها كما في المقام ، فبما أنّ الصلاة عبادة كان الشي‌ء المرخّص فيها أيضاً عباديا بحسب الفهم العرفي ، فيكون محبوباً ومأموراً به لا محالة لتقوّم العبادة بالأمر. فالجواز والترخيص مساوق للاستحباب في خصوص المقام.

وحيث قد عرفت المنافاة بين الجزئية وبين الاستحباب فلا مناص من الالتزام بكونه مأموراً به بأمر استحبابي استقلالي ، غاية الأمر أنّ موطنه وظرفه الصلاة كما في القنوت ، وكذا القراءة في المقام والأذكار المستحبّة في الركوع والسجود.

وبذلك تمتاز هذه الأُمور عن مثل التصدّق في الصلاة ، فإنّه وإن كان مستحبّاً أيضاً لكنّه لا يختصّ بالصلاة ، ولا يرتبط بها. فهو والتصدّق خارج الصلاة على حدّ سواء ، بخلاف تلك الأُمور فإنّها بما هي كذلك وظائف مقررة حال الصلاة ، ومربوطة بها ارتباط المظروف بظرفه. وهذا هو المراد من الجزء المستحب ، ولا نعقل له معنى صحيحاً وراء ذلك.

فاتّضح من جميع ما قدّمناه أنّ الأقوى استحباب القراءة في المقام كما اختاره في المتن ، وجواز الإتيان بها بقصد الجزئية بالمعنى الذي ذكرناه.

(١) قدّمنا في بحث القراءة (١) أنّ مقتضى الجمع بين النصوص هو الحكم

__________________

(*) الأحوط تعيّن التسبيح له في الصلاة الجهريّة كما مرّ.

(١) شرح العروة ١٤ : ٤٧٥.

٢١٨

[١٩٢٤] مسألة ٢ : لا فرق في عدم السماع بين أن يكون من جهة البعد ، أو من جهة كون المأموم أصم ، أو من جهة كثرة الأصوات ، أو نحو ذلك (١).

______________________________________________________

بالتخيير بين القراءة والتسبيح في الركعتين الأخيرتين بالإضافة إلى المنفرد والإمام ، وكذا المأموم في الصلوات الإخفاتية ، وأمّا المأموم في الصلوات الجهرية فلم ترد رواية تدلّ على جواز القراءة بالنسبة إليه ، بل قد ورد في بعض النصوص النهي عنها وهي صحيحة زرارة المتقدّمة (١) : «إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئاً في الأولتين ، وأنصت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين إلى أن قال عليه‌السلام : فالأخيرتان تبعاً للأولتين» ، وموردها الجهرية كما لا يخفى.

وقد ورد في صحيحة معاوية بن عمّار الأمر بالتسبيح ، الظاهر في الوجوب التعييني : «عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين ، فقال : الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبّح» (٢).

نعم ، هي مطلقة من حيث الجهر والإخفات فتقيّد بما دلّ على جواز القراءة في الإخفاتية وهي صحيحة ابن سنان (٣) ، فتبقى الجهرية تحتها.

ومن أجل ذلك كان الأحوط لزوماً تعيّن التسبيح على المأموم في الصلوات الجهرية كما نبّه عليه الأُستاذ (دام ظله) في تعليقته الشريفة. ولمزيد التوضيح يرجع إلى ما قدّمناه في مبحث القراءة (٤).

(١) فإنّ الموضوع المذكور في النصّ لسقوط القراءة رخصة أو عزيمة على الخلاف المتقدّم إنّما هو عنوان عدم السماع ، الظاهر في السماع الفعلي ، ومقتضى

__________________

(١) في ص ٢٠٥.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٢.

(٣) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٢.

(٤) شرح العروة ١٤ : ٤٧٧ ، ٤٨٠.

٢١٩

[١٩٢٥] مسألة ٣ : إذا سمع بعض قراءة الإمام فالأحوط الترك مطلقاً (١).

______________________________________________________

الإطلاق عدم الفرق بين أسبابه ومناشئه من قصور في المأموم لكونه أصمّ ، أو في الإمام لكونه ضعيف الصوت ، أو لمانع خارجي كالضوضاء وكثرة الأصوات ، أو من جهة البعد وكون المأموم في الصفوف المتأخّرة ، كلّ ذلك لإطلاق النصّ كما هو ظاهر.

(١) هل المسموع بعضاً ملحق بالمسموع تماماً فتسقط القراءة رخصة أو عزيمة بدعوى إطلاق السماع المعلّق عليه السقوط في النصّ (١) ، فإنّه شامل للكلّ وللبعض. أو يلحق بغير المسموع تماماً بدعوى انصراف النصّ إلى ما إذا سمع القراءة بتمامها ، فسماع البعض في حكم العدم. أو يلحق كلّ منهما بكلّ منهما قضاء لفعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فيسقط في مورد السماع ولا يسقط في مورد عدمه؟ وجوه ، ذكرها في الجواهر واختار الأخير منها (٢). لكن الأقوى هو الوجه الأوّل.

أمّا أولاً : فلإطلاق النصّ كما عرفت ، فانّ سماع القراءة صادق على سماع أبعاضها ، ولا يتوقّف الصدق على سماع الجميع. ودعوى الانصراف غير مسموعة كما لا يخفى.

وأمّا ثانياً : فلأنّه على تقدير الخدش في الإطلاق تكفينا في المقام صحيحتا عبيد بن زرارة وقتيبة الواردتان في الهمهمة (٣) ، فقد تضمّنتا سقوط القراءة لدى سماع الهمهمة. ومن الضروريّ أنّ الهمهمة غير مسموعة في تمام القراءة من البدء إلى الختم ، وإنّما تسمع في أبعاضها بطبيعة الحال.

فالصحيحتان بعد ملاحظة هذا العلم الخارجي في قوّة أن يقال : إن سمع

__________________

(١) المتقدم في ص ٢١٥ وغيرها.

(٢) الجواهر ١٣ : ١٩٥.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٢ و ٧ ، وقد تقدّمتا في ص ٢١٢.

٢٢٠