موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٧

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

«ما لا يتخطّى» هو الحائل ، ليستقيم التفريع المزبور ، إذ لو أُريد به البعد فلا ارتباط بينه وبين مانعية الستر والجدار ليتفرّع أحدهما على الآخر ، فلا يحسن العطف بالفاء حينئذ.

وفيه أولاً : أنّه لا موقع للتفريع حتّى لو أُريد بما لا يتخطّى الحائل لاستلزامه التكرار الذي هو لغو ظاهر ، إذ بعد بيان اعتبار أن لا يكون حائل لا يتخطّى معه فيستفاد منه اعتبار عدم وجود الساتر والجدار بالأولوية القطعية ، فالتعرّض له لاحقاً تكرار (١) عارٍ عن الفائدة ومستلزم للغوية كما عرفت.

وثانياً : أنّه قد حكي عن بعض نسخ الوافي (٢) نقل الرواية عن الكافي مع الواو كما في الفقيه.

وثالثاً : لو سلّم اشتمال النسخة على الفاء فالتفريع ناظر إلى صدر الحديث لا إلى الفقرة السابقة كي لا يكون ملائماً مع ما استظهرناه.

وتوضيحه : أنّه عليه‌السلام ذكر في الصدر (٣) أنّه «ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة بعضها إلى بعض» ، وهذا هو الذي يساعده الاعتبار في صدق عنوان الجماعة عرفاً ، إذ لو كان المأمومون متفرّقين بعضهم في شرق المسجد والآخر في غربه وثالث في شماله والآخر في ناحية أُخرى لا يصدق معهم عنوان الجماعة المتّخذة من الاجتماع ، المتقوّم بالهيئة الاتّصالية بحيث كان المجموع صلاة واحدة.

__________________

(١) يمكن أن يقال : إنّ ظاهره إرادة المثال ، وتفريع المثال على الممثل شائع في الاستعمالات فلا تكرار ، ولو كان فلا بشاعة فيه.

(٢) راجع الوافي ٨ : ١١٩٠ / ٨٠٢٣.

(٣) هذا الصدر غير مذكور في رواية الكافي التي هي محلّ الكلام ، وإنّما هو مذكور في رواية الفقيه كما تقدّم ، هذا. وسيأتي الكلام حول مفاد الصحيحة وفقه الحديث مرّة أُخرى في ذيل الشرط الثالث [ص ١٥٩] وربما يغاير المقام فلاحظ. [لا يخفى أنّ صدر الصحيحة ذكر في الكافي والتهذيب معاً ، لكن في الذيل كما سيشار إليه في ص ١٥٩].

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم فرّع عليه‌السلام على ذلك أمرين معتبرين في تحقّق الاتّصال ، بحيث يوجب فقدهما الانفصال وتبعثر الجماعة وسلب الهيئة الاتّصالية التي أشار إلى اعتبارها في الصدر ، أحدهما : عدم البعد بمقدار لا يتخطّى ، فلا تكون المسافة أزيد من الخطوة. وثانيهما : عدم وجود الحائل من ستر أو جدار ، فكلا الحكمين متفرّعان على الصدر ، لا أنّ أحدهما متفرّع على الآخر.

وأشار عليه‌السلام بعد ذلك تفريعاً على اعتبار عدم الستر والحائل إلى عدم صحّة الاقتداء خلف من يصلّي في المقاصير التي أحدثها الجبّارون. والمقصورة : قبّة تصنع فوق المحراب ابتدعتها الجبابرة بعد مقتل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام صيانة عن الاغتيال ، فلأجل أنّها تستوجب الحيلولة بين الإمام والمأمومين منع عليه‌السلام عن الاقتداء بمن فيها.

والمتحصّل من جميع ما قدمناه : أنّ الصحيحة متكفّلة ببيان حكمين :

أحدهما : اشتراط عدم البعد ، وسيجي‌ء البحث حول هذا الشرط عند تعرّض الماتن إن شاء الله تعالى (١).

ثانيهما : اشتراط عدم الستار والحائل لا بين الإمام والمأموم ، ولا بين الصفّ المتقدّم والمتأخّر ، ولا بين المأموم ومن هو واسطة الاتّصال بينه وبين الإمام كما في الصفّ الأوّل أو المتأخّر إذا كان أطول ، فالستار مانع في جميع هذه الفروض ، للإطلاق في قوله عليه‌السلام على رواية الكليني وهي أضبط : «فإن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة» فإنّ كلمة «بينهم» تكشف عن عموم الحكم للإمام والمأموم ، وللمأمومين أنفسهم كما لا يخفى.

وقد أشرنا (٢) إلى أنّ الصحيحة على النحو الذي رواها في الوسائل المشعر باختصاص الحكم بما بين الإمام والمأمومين لم توجد في شي‌ء من الكتب الثلاثة فتذكّر ، هذا.

__________________

(١) في ص ١٥٧.

(٢) في ص ١٣٨.

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وربما تعارض الصحيحة بموثّقة الحسن بن الجهم قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يصلّي بالقوم في مكان ضيّق ويكون بينهم وبينه ستر أيجوز أن يصلّي بهم؟ قال : نعم» (١) ويقال : إنّ مقتضى الجمع العرفي حمل الصحيحة على الاستحباب ، فيراد من قوله عليه‌السلام فيها : «فليس تلك لهم بصلاة» نفي الكمال ، كما في قوله عليه‌السلام : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (٢) لا نفي الصحّة لتدلّ على المانعية.

وفيه أوّلاً : أنّ الموثّق مضطرب المتن ، فحكي تارة كما أثبتناه ، وأُخرى كما عن بعض نسخ الوافي بتبديل الستر بالشبر (٣) بالشين المعجمة والباء الموحّدة ولعل الثاني أقرب إلى الصحّة وأوفق بالاعتبار ، لكونه الأنسب بفرض ضيق المكان ، فإنّ المأموم إذا كان وحده يصلّي على أحد جانبي الإمام وجوباً أو استحباباً ، وإذا كان امرأة أو أكثر من الواحد يقف خلفه وجوباً أيضاً أو استحباباً.

والمفروض في الموثّق تعدّد المأمومين ، لقوله : «يصلّي بالقوم» ، فيلزم على الرجل أن يقف خلف الإمام ، ولكن حيث إنّ المكان ضيّق فلا يسعه الوقوف إلّا على جانب الإمام ، فسئل حينئذ أنّ الفصل بينه وبين الإمام إذا كان بمقدار الشبر فهل تجوز الصلاة ، فأجاب عليه‌السلام بقوله : «نعم». فالمعنى إنّما يستقيم على هذا التقدير ، وإلّا فالسؤال عن وجود الساتر لا يرتبط مع فرض ضيق المكان كما لا يخفى. وعليه فالموثّق أجنبي عمّا نحن فيه.

وثانياً : على تقدير كون النسخة هو الستر فحيث إنّ الجواز مع الحائل هو المعروف من مذهب العامّة فالموثّق محمول لا محالة على التقيّة كما ذكره في الوسائل ، فلا تنهض لمعارضة الصحيحة.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٠٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ٥ : ١٩٤ / أبواب أحكام المساجد ب ٢ ح ١.

(٣) الوافي ٨ : ١١٩٢ / ٨٠٢٨.

١٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن هذا الجواب مبنيّ على التأييد ، إذ مع إمكان الجمع العرفي بالحمل على الاستحباب كما مرّ لا تصل النوبة إلى المرجّح الجهتي.

والعمدة في الجواب ما ذكرناه أوّلاً من استظهار كون النسخة هو الشبر ومع التنزّل فلا أقلّ من الشكّ والترديد. فلم يثبت كونها الستر كي تقاوم الصحيحة وتعارضها.

ثمّ إنّ هناك فروعاً تتعلّق بالمقام ، تعرّض إليها الماتن في طيّ المسائل الآتية بعد انتهائه من ذكر الموانع ، وكان الأنسب التعرّض لها هنا.

منها : أنّه هل يكفي في مانعية الحائل وجوده آناً ما ، أم لا بدّ وأن يكون مستمراً من ابتداء الصلاة إلى انتهائها؟

الظاهر هو الأوّل ، لإطلاق النصّ ، فإنّ الصحيحة دلّت على أنّ السترة مانع ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين صورتي الاستمرار وعدمه ، فهي بوجودها تمنع سواء ارتفعت بعد ذلك أم لا ، كانت قبل ذلك أم لا ، فمهما وجد الحائل بطلت الجماعة وانقلبت الصلاة فرادى بطبيعة الحال.

ومنها : أنّه هل يعتبر في الحائل حيلولته في جميع حالات الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود ، أم يكفي كونه كذلك ولو في بعض الأحوال دون البعض لقصره؟

لا ينبغي الشكّ في أنّ السترة التي هي الموضوع للحكم في النصّ إنّما تطلق في مورد يكون قابلاً للرؤية وصالحاً للمشاهدة ، بحيث يستند عدمها إلى وجود الستار ، أمّا إذا كانت الحالة بمثابة لا تصلح للرؤية في حدّ نفسها ولو من غير سترة كحالة السجود أو الهويّ إليه قريباً منه فلا يصدق أنّه هناك سترة بين الإمام والمأموم.

وعليه فلو كان الحائل قصيراً بمقدار شبر أو أكثر بحيث لا يكون مانعاً عن الرؤية حالة الجلوس فمثله غير قادح في الصحّة ، لعدم تحقّق الحيلولة المانعة عن المشاهدة في المورد القابل لها.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا إذا كان الحائل أطول من ذلك بحيث يمنع عن الرؤية حال الجلوس أو الركوع وإن لم يكن كذلك حال القيام فالأقوى حينئذ هو البطلان ، لإطلاق النصّ ، إذ يصدق عندئذ أنّ بينهم سترة أو جداراً ، بعد إن لم يكن مقيّداً بحالة دون أُخرى. فإطلاقه يعمّ جميع الحالات الصالحة للرؤية.

ولكن هذا كلّه بناء على رواية الكافي التي ذكر فيها «إن صلّى قوم بينهم وبين الإمام سترة أو جدار» (١) ، وأمّا بناء على رواية الفقيه التي ورد فيها : «وإن كان ستراً أو جداراً» بعد قوله : «ما لا يتخطّى» فحيث إنّ اسم كان ضمير عائد إلى الموصول فلا جرم يكون مفادها اختصاص الساتر الممنوع بالمقدار الذي لا يتخطّى ، فلا مانعية للساتر الذي يتخطّى كما إذا كان بمقدار ثلاثة أشبار.

وحيث لم يثبت الترجيح فيكون المرجع بعد التعارض والتساقط أصالة عدم المانعية للساتر الذي يتخطّى وإن كان حائلاً ومانعاً عن المشاهدة في بعض الحالات.

إذن فالمتعيّن اختصاص المانعية بالساتر الذي لا يتخطّى خاصّة ، ويكون الحكم في الزائد عليه وإن منع عن المشاهدة وصدق عليه عنوان الحائل بل الساتر مبنياً على الاحتياط كما أشار إليه سيدنا الأُستاذ (دام ظله) في تعليقته الشريفة ، فتدبّر جيّداً.

ومنها : أنّه هل يشمل الحكم الحائل غير المانع عن الرؤية وإن منع عن الاستطراق كالجدار المصنوع من الزجاج ، أو المشتمل على الشباك ، أو على الثقوب الكثيرة غير المانعة عن المشاهدة في شي‌ء من الحالات الصالحة لها؟ قد يقال بالشمول ، استناداً إلى صدق الحائل وإطلاق الجدار المذكور في النصّ.

__________________

(١) [الموجود في الكافي : «فإن كان بينهم سترة أو جدار». وقد تقدّم منه في ص ١٣٨ عدم وجود ما ذكره هنا في نسخ الكافي].

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : لفظ الحائل لم يرد في شي‌ء من النصوص حتّى يتكلّم في سعة المفهوم وضيقه ، وإنّما الوارد لفظ السترة التي هي بمعنى الستار والحجاب ، ومنه الستارة التي تطلق على ما يوضع أطراف السطوح لأجل الحجب والستر عن الجيران. ومن الواضح اعتبار المنع عن الرؤية والمشاهدة في صدق هذا المفهوم.

وأمّا الجدار المعطوف على السترة في النصّ فالصحيح ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) (١) من أنّ المقابلة بينهما إنّما هي باعتبار ذات الساتر بمعنى أنّ الساتر قد يكون جداراً وقد يكون غيره ، لا باعتبار أصل الستر كي يكون الجدار بنفسه موضوعاً مستقلا للحكم وراء السترة حتّى يتمسّك بإطلاقه من حيث كونه ساتراً وعدمه.

وإن شئت فقل : إنّ التقابل من قبيل عطف الخاص على العام ، فإفراد الجدار بالذكر من أجل أنّه أحد مصاديق الستار الغالبة ، لا لخصوصية فيه في حدّ نفسه ليكون من حيث هو مناطاً للحكم. فتمام الموضوع إنّما هو عنوان الستار فحسب ، وقد عرفت اختصاصه بما يمنع عن المشاهدة.

وعليه فلا بأس بحيلولة الزجاج أو الشباك بل الجدار المشتمل على الثقوب الكثيرة ، ولعلّ الارتكاز العرفي أيضاً يساعد على ذلك ، فإنّ حيلولة الأُمور المذكورة لا تقدح في صدق وحدة المكان عرفاً ، إذ يصدق على المجلس المشتمل على مثل ذلك بحيث يرى من هذا الجانب كلّ من في ذاك الجانب أو أكثرهم أنّه مجلس واحد ومحفل فأرد ، وإنّما تتعدّد الجلسة عرفاً بوجود الحائل المانع عن المشاهدة ، فغير المانع عنها لا يضرّ بصدق الاجتماع ، فلا يقدح في صحّة الجماعة.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أفاده في المتن في المسألة ٢ ، ٣ ، ٥ من المنع في الموارد المذكورة استناداً إلى صدق الحائل في غير محلّه ، لما عرفت من عدم

__________________

(١) كتاب الصلاة : ٢٨٤ السطر ٢.

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ورود هذا العنوان في شي‌ء من النصوص ، وإنّما الاعتبار بالستار ، غير الصادق على المقام.

ثمّ إنّ ما استظهرناه تبعاً لشيخنا الأنصاري (قدس سره) من أنّ الجدار المذكور في النصّ في مقابل السترة من قبيل عطف الخاص على العام وليس بنفسه موضوعاً مستقلا للحكم هو الصحيح الذي يساعده الفهم العرفي فلا مجال للتمسّك بإطلاقه كما مرّ.

وعلى تقدير التنزّل فلا ريب في عدم الظهور في الخلاف ، بل غايته الإجمال والدوران بين كونه موضوعاً مستقلا حتّى يتمسّك بإطلاقه ، أم لا كي يكون الاعتبار بنفس الستار ، فلا محالة تسقط الرواية عن الاستدلال ، وتنتهي النوبة حينئذ إلى التمسّك بالأصل اللفظي أو العملي.

فإن بنينا على ثبوت الإطلاق في دليل مشروعية الجماعة من هذه الجهة كما لا يبعد فهو المطلوب ، فيقتصر في تقييده على ما إذا كان الحائل ساتراً. وأمّا لو أنكرنا ذلك فينتهي الأمر حينئذ إلى الأصل العملي.

وقد ذكر المحقّق الهمداني (قدس سره) : أنّ مقتضاه هو البراءة من مانعية الحائل غير الساتر أو عن شرطية عدمه في صحّة الجماعة (١).

وهذا بظاهره ربما لا يخلو عن الإشكال ، حيث إنّ الجماعة سنّة وليست بفريضة ، فليس في موردها تكليف مشكوك كي يتمسّك في نفيه بأصالة البراءة الشرعية أو العقلية ، بل الجماعة عند استجماع شرائطها موضوع لأحكام خاصّة من سقوط القراءة واغتفار زيادة الركن أو السجود لأجل التبعية ورجوع كلّ من الإمام والمأموم إلى الآخر لدى الشكّ في الركعات. فعند الشكّ في استجماع الشرائط كان المتّبع إطلاق الأدلّة الأوّلية لتلك الأحكام ، الراجع إلى أصالة عدم مشروعية الجماعة ، هذا.

__________________

(١) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٦٢٩ السطر ٢٤.

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن الأقوى صحّة الرجوع إلى أصالة البراءة في المقام ، فإنّ الجماعة بنفسها مصداق للواجب وأحد فرديه ، وليس شيئاً أجنبياً عنه يسقط به الفرض كالسفر بالنسبة إلى الصوم ، بل هو متّحد معه اتّحاد الطبيعي مع أفراده غايته أنّ الواجب إنّما هو الجامع المنطبق عليها تارة وعلى الفرادى اخرى ، فهما من قبيل الواجب التخييري ، كالقصر والتمام في مواطن التخيير ، وكالظهر والجمعة على القول بالتخيير بينهما.

وقد ذكرنا في محلّه أنّه لا معنى للوجوب التخييري إلّا تعلّق الحكم بالجامع بين أحد الفردين أو الأفراد ، سواء أكان مقولياً متأصّلاً أم أمراً اعتبارياً كعنوان أحد الأمرين أو الأُمور كما في خصال الكفّارات (١).

وعلى الجملة : فالواجب في المقام إنّما هو الجامع المنطبق على كلّ من الفردين ، فكلّ من الجماعة والفرادى عدل للواجب ، ولكلّ منهما حكم يخصّه.

وعليه فمرجع الشكّ في اعتبار قيد في صحّة الجماعة كعدم وجود الحائل وإن لم يكن ساتراً إلى الشكّ في متعلّق التكليف في مقام الجعل ، وأنّ الجامع الملحوظ بينهما هل لوحظ بين الفرادى وبين مطلق الجماعة ، أم لوحظ بينها وبين الجماعة المقيّدة بعدم الاشتمال على الحائل وإن لم يكن ساتراً.

ولا ريب أنّ اللحاظ على النحو الثاني يتضمّن كلفة زائدة ، وبما أنّها مشكوكة حسب الفرض فتدفع بأصالة البراءة العقلية والنقلية. وهذا الأصل حاكم على أصالة عدم المشروعية كما لا يخفى ، وبذلك تثبت مشروعية الجماعة وإن كانت فاقدة لذلك القيد.

بقيت هناك فروع أُخر تتعلّق بالمقام نتكلّم عنها عند تعرّض الماتن لها في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٤٠.

١٤٨

نعم ، إنّما يعتبر ذلك إذا كان المأموم رجلاً ، أمّا المرأة فلا بأس بالحائل بينها وبين الإمام أو غيره من المأمومين مع كون الإمام رجلاً (١)

______________________________________________________

(١) على المشهور ، بل عن التذكرة نسبة استثناء المرأة عن هذا الحكم إلى علمائنا (١). والمستند في ذلك موثّقة عمّار قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي بالقوم وخلفه دار وفيها نساء هل يجوز لهنّ أن يصلّين خلفه؟ قال : نعم ، إن كان الإمام أسفل منهنّ ، قلت : فانّ بينهنّ وبينه حائطاً أو طريقاً ، فقال : لا بأس» (٢).

فانّ ذيلها صريح في عدم قدح حيلولة الحائط بينهنّ وبين الإمام ، ويستفاد من ذلك عدم قادحية الحائل بينهن وبين المأمومين الذين هم واسطة الاتّصال بينهن وبين الإمام كما لا يخفى.

وبذلك يرتكب التخصيص في صحيحة زرارة المتقدّمة (٣) المانعة عن وجود الحائل بين الإمام والمأموم ، وكذا بين المأمومين أنفسهم ، ويلتزم باستثناء المرأة عن هذا الحكم ، هذا.

ولم ينسب الخلاف في المسألة إلّا إلى الحلّي (٤) ، وهو مبني على مسلكه من عدم العمل بأخبار الآحاد ، سيما إذا لم يكن صحيحاً بالمعنى المصطلح عند المتأخّرين ، فإنّ الرواة الواقعين في أواخر سند هذه الرواية من الفطحيّين ، فهي موثّقة لا صحيحة. وحيث بنينا على حجّية الخبر الواحد من غير فرق بين الموثّق والصحيح فلا مناص من الالتزام بهذا الاستثناء ، جمعاً بين الموثّق والصحيحة المتقدّمة كما عرفت.

وهل ينسحب الحكم فيما إذا كان الإمام امرأة فلا مانع من وجود الحائل

__________________

(١) التذكرة ٤ : ٢٥٩.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٠٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦٠ ح ١.

(٣) في ص ١٣٧.

(٤) السرائر ١ : ٢٨٩.

١٤٩

بشرط أن تتمكّن من المتابعة (١) بأن تكون عالمة بأحوال الإمام من القيام

______________________________________________________

بينهنّ وبين الإمام ، وكذا بين المأمومات أنفسهن وإن كان الإمام رجلاً ، فلا مانع من وجود الحائل بينهنّ بعضهنّ مع بعض؟

الأقوى عدم الانسحاب كما عليه الماتن (قدس سره) في ذيل عبارته الآتية فإنّ صحيحة زرارة قد دلّت بإطلاقها على قادحية الحائل ، كقادحية البعد بين الإمام والمأموم وبين المأمومين أنفسهم ، من غير فرق بين الرجل والمرأة ، قال عليه‌السلام : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة الإمام وبينهم وبين الصفّ الذي يتقدّمهم ما لا يتخطّى فليس تلك لهم بصلاة ...» إلخ (١).

فانّ عنوان القوم (٢) والإمام والصفّ صادق على الذكر والأُنثى ، بل قد صرّح في ذيلها بشمول الحكم من حيث البعد للمرأة فلاحظ. وقد خرجنا عن هذا الإطلاق بمقتضى موثّقة عمّار في خصوص صورة واحدة ، وهي وجود الحائل بين المرأة وبين الإمام إذا كان رجلاً ، فالتزمنا بالتخصيص في هذا القسم بمقتضى الموثّق ، وأمّا ما عدا ذلك أعني وجود الحائل بينها وبين الإمام إذا كان امرأة ، أو بين المأمومات أنفسهن فيبقى مشمولاً تحت إطلاق الصحيحة بعد عدم قيام دليل على التخصيص زائداً على ما ذكر من مورد الموثّق ولا مقتضي للتعدّي عن هذا المورد.

(١) فإنّ الجماعة متقوّمة بالمتابعة ، فلا بدّ لها من العلم بأحوال الإمام من

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤١٠ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦٢ ح ٢.

(٢) حكى في لسان العرب ١٢ : ٥٠٥ عن جمع من اللغويين اختصاص القوم بالرجال مستشهدين له بقوله سبحانه (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) إلى قوله تعالى : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) الحجرات ٤٩ : ١١ ، وبقول زهير : وما أدري ، وسوف إخالُ أدري ، أقومٌ آل حِصن أم نساء. وفي الحديث : «إن نسّاني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبّح القوم وليصفّق النساء».

١٥٠

والركوع والسجود ونحوها ، مع أنّ الأحوط فيها أيضاً عدم الحائل ، هذا. وأمّا إذا كان الإمام امرأة أيضاً فالحكم كما في الرجل.

[الثاني :] أن لا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المأمومين (١) علواً معتدّاً به دفعياً كالأبنية ونحوها ، لا انحدارياً على الأصحّ ،

______________________________________________________

القيام والركوع والسجود ونحوها كي تتمكّن من التبعية ، فمع الجهل بذلك ليس لها ترتيب آثار الجماعة من سقوط القراءة والرجوع إلى الإمام لدى الشكّ وزيادة الركوع أو السجود لأجل المتابعة ، للشكّ في تحقّق التبعيّة ، ومقتضى الأصل عدمها.

(١) على المشهور ، بل عند علمائنا كما عن التذكرة (١) وغيرها ، لموثّقة عمّار الآتية. وحكي عن الشيخ في الخلاف القول بالكراهة (٢) ، وتردّد فيه المحقّق في الشرائع (٣) وفي النافع (٤) ، وخالف فيه صريحاً صاحب المدارك (٥).

لكن خلاف الشيخ غير ثابت ، لاحتمال إرادته من الكراهة المبغوضية المساوقة للحرمة ، كما ربما تطلق عليها في لسان الأخبار وكلمات الأصحاب.

وخلاف المدارك مبنيّ على مسلكه من تخصيص الحجّية بالخبر الصحيح باصطلاح المتأخّرين ، فإنّ رواية عمّار الواردة في المقام ليست كذلك ، لكون الغالب من رواتها فطحيين ، وحيث بنينا على حجّية الموثّق كالصحيح فالرواية معتبرة سنداً.

نعم ، طعن فيها في المدارك مضافاً إلى ضعف السند على مسلكه بأنّها

__________________

(١) التذكرة ٤ : ٢٦٠.

(٢) الخلاف ١ : ٥٥٦ المسألة ٣٠١.

(٣) الشرائع ١ : ١٤٦.

(٤) لاحظ المختصر النافع : ٤٦.

(٥) المدارك ٤ : ٣٢٠.

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

متهافتة المتن ، قاصرة الدلالة ، فلا يسوغ التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل.

أقول : لا نرى أيّ تهافت في متن الرواية ، ولا قصور فيها من ناحية الدلالة ، نعم ربما تشتمل على بعض ألفاظ لا تخلو عن شوب من الإجمال والالتباس ، لكنّه غير ضائر بمحل الاستدلال ، وإليك نصّها.

روى الشيخ الكليني بإسناده عن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يصلّي بقوم وهم في موضع أسفل من موضعه الذي يصلّي فيه ، فقال : إن كان الإمام على شبه الدكّان أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ، فان كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ إذا كان الارتفاع ببطن مسيل. فان كان أرضاً مبسوطة أو كان في موضع منها ارتفاع فقام الإمام في الموضع المرتفع ، وقام من خلفه أسفل منه والأرض مبسوطة إلّا أنّهم في موضع منحدر ، قال : لا (فلا) بأس. قال : وسئل فان قام الإمام أسفل من موضع من يصلّي خلفه ، قال : لا بأس ، قال : وإن كان الرجل فوق بيت أو غير ذلك دكّاناً كان أو غيره وكان الإمام يصلّي على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته ، وإن كان أرفع منه بشي‌ء كثير» (١).

فإنّ صدرها إلى قوله عليه‌السلام : «لم تجز صلاتهم» كما ترى صريح في المطلوب ، وأمّا قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «فان كان أرفع ...» إلخ فجواب الشرط محذوف يعلم ممّا سبق ، وتقديره : فلا بأس. سواء أكانت أداة الشرط مصدّرة بالفاء كما في الوسائل ، أم كانت مع الواو كما عن الكافي.

نعم ، على الثاني ربما يحتمل أن تكون كلمة «إن» وصليّة. لكنّه ساقط جزماً ، إذ لا يلائمه قوله بعد ذلك : «أو أكثر» ، إذ شأن (إن) الوصلية إدراج الفرد الخفيّ ، ولا ريب أنّ الأكثر من الإصبع ليس كذلك ، إذ لو كان مقدار الإصبع

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤١١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦٣ ح ١ ، الكافي ٣ : ٣٨٦ / ٩.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قادحاً فالأكثر منه بطريق أولى. فهو من الفرد الجليّ دون الخفيّ كما لا يخفى (١).

وقوله عليه‌السلام : «إذا كان الارتفاع ...» إلخ مربوط بسابقه ، وليست شرطية مستقلة ، وقد تضمّنت هذه الفقرة التي هي من ملحقات الجملة السابقة تحديد الارتفاع في العلو الدفعي (التسنيمي) في قبال التسريحي الذي تعرّض عليه‌السلام له عند قوله : «فان كان أرضاً مبسوطة ...» إلخ.

لكن نسخ الرواية في هذه الفقرة مختلفة غاية الاختلاف. ففي الكافي هكذا : «إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» كما في الوسائل.

وكذا عن بعض نسخ التهذيب ، وعن نسخة اخرى منه «يقطع مسيلاً» وعن ثالثة «بقطع مسيل» ، وعن رابعة «بقدر يسير» ، وعن خامسة «بقدر شبر» (٢) ونحوه عن التذكرة (٣).

وعن الفقيه (٤) «يقطع سبيلاً» ، وعن نسخة اخرى «بقطع سيل» ، وعن نسخة ثالثة «بقطع سبيل».

وعن الذكرى «بقدر إصبع إلى شبر» (٥). ولعلّ الأخير استنباط من الشهيد فنقل مضمون الرواية بمقتضى ما فهمه من النسخة الموجودة عنده المشتملة على الشبر ، أو أنّها وصلت إليه كذلك بطريق يخصّه ، وإلّا فالرواية بهذه العبارة لم توجد في شي‌ء من نسخ كتب الحديث.

وكيف ما كان ، فمن أجل ذلك وقع الاختلاف في تحديد مقدار العلوّ. فعن جماعة ولعلّه الأكثر أو المشهور تحديده بالشبر ، ترجيحاً للنسخة المشتملة

__________________

(١) هذا وجيه لو كان (قدر إصبع) مذكوراً قبل (إن) الوصلية لا بعدها ، ولا سيما مع عطف الأقلّ على الأكثر.

(٢) التهذيب ٣ : ٥٣ / ١٨٥.

(٣) التذكرة ٤ : ٢٦٠.

(٤) راجع الفقيه ١ : ٢٥٣ / ١١٤٦.

(٥) الذكرى ٤ : ٤٣٥.

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه. لكنّ الترجيح لم يثبت لا فيها ولا في غيرها من سائر النسخ ، إذ لا شاهد عليه في شي‌ء منها.

ومن ثمّ قدّره بعضهم بما لا يتخطّى ، إعراضاً عن هذه الرواية المضطربة واعتماداً على صحيحة زرارة المتقدّمة (١) المشتملة عليه.

وفيه : أنّها ناظرة إلى البعد دون العلو كما تقدّم (٢) ، وتأتي الإشارة إليه قريباً إن شاء الله تعالى.

والتحقيق : هو التحديد بالشبر ، لا لترجيح النسخة المشتملة عليه ، بل لأنّ الصناعة تقتضي ذلك. أمّا إذا كانت النسخة «ببطن مسيل» أو «يقطع سبيلاً» ونحو ذلك فالرواية على هذه مجملة ، لكون ألفاظها متشابهة لم يتّضح المراد منها.

وأمّا لو كانت «بقدر يسير» فمفهوم اليسير في حدّ ذاته وإن كان صادقاً على الشبر والشبرين بل الثلاثة ، إلّا أنّه بقرينة اقترانه بذكر الإصبع أو الأكثر لا يمكن أن يراد به إلّا ما يقرب من الإصبع كثلاث أصابع أو أربع مثلاً ، دون مقدار الشبر فضلاً عن الأكثر منه.

فنبقى نحن واحتمال أن تكون النسخة هي مطلق الشبر ، ولا سيما قدر إصبع إلى شبر كما في رواية الذكرى. وهذا الاحتمال بمجرّده كافٍ في عدم ظهور لإطلاق المنع المذكور في الصدر ، أعني قوله عليه‌السلام : «أو على موضع أرفع» في الشمول لمقدار الشبر فما دونه ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

إذ من الجائز صحّة هذه النسخة ، ولا سيما على رواية الذكرى ، الموجب لتقييد الإطلاق بهذا المقدار ، نعم بالإضافة إلى الزائد على الشبر لا قصور في شمول الإطلاق له. وأمّا بالنسبة إلى الشبر فما دونه فلا دلالة في الرواية على

__________________

(١) في ص ١٣٧.

(٢) في ص ١٣٩.

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المنع عنه بعد احتفاف الإطلاق بما يصلح للتقييد.

وعليه فالرواية بالإضافة إلى هذا المقدار مجملة ، ولم يدلّ دليل آخر على المنع بالنسبة إليه ، وحينئذ فان تمّ الإطلاق في أدلّة الجماعة كقوله عليه‌السلام : صلّ خلف من تثق بدينه (١) كما لا يبعد كان هو المتّبع في الحكم بالجواز في مقدار الشبر ، وإلّا كان المرجع الأصل العملي الذي مقتضاه البراءة عن مانعيّة هذا المقدار من العلوّ بالتقريب الذي سبق (٢).

حيث عرفت أنّ الأمر متعلّق بالجامع بين الفرادى والجماعة اللذين هما عدلان للواجب التخييري. ولم يعلم أنّ الجامع الملحوظ بينهما هل لوحظ بين الفرادى ومطلق الجماعة ، أم بينها وبين الجماعة المقيّدة بعدم الاشتمال على العلوّ بمقدار الشبر. ولا ريب أنّ الثاني يتضمّن كلفة زائدة ، وحيث إنّها مشكوكة فتدفع بأصالة البراءة.

فتحصّل : أنّ الأظهر جواز العلوّ بمقدار الشبر سواء أكان المرجع الإطلاق اللفظي أم الأصل العملي بعد ما عرفت من إجمال الرواية وعدم دلالتها على المنع في هذا المقدار ، فتدبر جيّداً. هذا كلّه في العلوّ الدفعي.

وأمّا في العلوّ التسريحي الذي أشار عليه‌السلام إليه بقوله : «فان كان أرضاً مبسوطة ...» إلخ فلا مانع من الارتفاع بأزيد من الشبر ما دام يصدق على الأرض أنّها مبسوطة.

ولا يخفى أنّ المذكور في الكافي والتهذيب (٣) بعد قوله : «مبسوطة» هكذا : «أو كان ...». ولكنّ الصحيح كما في الفقيه وغيره «وكان ...» إلخ ، بالعطف بالواو لا بـ (أو). كما أنّ المذكور فيه في جزاء الشرط هكذا : «قال : لا (فلا) بأس» ، والصحيح أنّ لفظة «قال» مستدرك ، لأنّه من كلام الإمام (عليه

__________________

(١) راجع ص ٥٠ ، الهامش رقم (٣).

(٢) في ص ١٤٧ ١٤٨.

(٣) [لكن في النسخة الموجودة من التهذيب هو : «وكان»].

١٥٥

من غير فرق بين المأموم الأعمى والبصير (١) والرجل والمرأة (٢) ، ولا بأس بغير المعتدّ به مما هو دون الشبر ،

______________________________________________________

السلام) لا السائل ، ولم تذكر هذه الكلمة في رواية الفقيه (١).

وكيف ما كان ، ففي الأراضي المبسوطة في قبال الملفوفة كالجبلية إذا دقّقنا النظر ولاحظناها بالآلات الهندسية فربما يوجد فيها انخفاض وانحدار من أجل إصابة الأمطار بما يزيد على الشبرين ، بل الثلاثة كما في الصحاري والبراري ، فأشار عليه‌السلام في هذه الفقرة إلى أنّه في مثل هذه الأراضي إذا وقف الإمام في موضع مرتفع والقوم في مكان منحدر صحّت صلاتهم وإن اختلف الموقفان بما يزيد على الشبر ، ما دام يصدق على الأرض أنّها مبسوطة وإن كانت مسرّحة منحدرة ، وأنّ التحديد بالشبر إنّما هو في العلوّ الدفعي كالدكّة والدكّان ونحوهما ، ويلحق بذلك الأراضي الجبليّة التي لا يصدق معها انبساط الأرض ، فإنّ اللازم فيها أيضاً مراعاة التحديد بالشبر ، أخذاً بالإطلاق في صدر الموثّق ، بعد أن لم تكن هذه الفقرة شاملة لها كما هو ظاهر.

(١) خلافاً للمحكي عن ابن الجنيد حيث قال : لا يكون الإمام أعلى في مقامه بحيث لا يرى المأموم فعله ، إلّا أن يكون المأمومون إضراراً فإنّ فرضَ البصراء الاقتداء بالنظر ، وفرض الإضرار الاقتداء بالسماع إذا صحّ بهم التوجّه (٢). ولم يعرف له مستند أصلاً ، وإطلاق النصّ حجّة عليه.

(٢) للإطلاق ، مضافاً إلى التصريح به في الموثّقة الأُخرى لعمّار التي تقدّمت ، حيث ذكر فيها : «هل يجوز لهنّ أن يصلّين خلفه؟ قال : نعم ، إن كان الإمام أسفل منهنّ ...» إلخ (٣).

__________________

(١) ولكن أثبتها في جامع أحاديث الشيعة ٧ : ٣٦١ / أبواب صلاة الجماعة / ب ٣٢ ح ١١١٨٩ عن الفقيه ، فليلاحظ.

(٢) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٥١٥ المسألة ٣٧٧.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٠٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦٠ ح ١.

١٥٦

ولا بالعلو الانحداري حيث يكون العلوّ فيه تدريجياً على وجه لا ينافي صدق انبساط الأرض ، وأمّا إذا كان مثل الجبل فالأحوط ملاحظة قدر الشبر فيه (١). ولا بأس بعلوّ المأموم على الإمام ولو بكثير (٢).

الثالث : أن لا يتباعد المأموم عن الإمام بما يكون كثيراً في العادة (٣) إلّا إذا كان في صفّ متّصل بعضه ببعض حتى ينتهي إلى القريب ، أو كان في صفّ ليس بينه وبين الصف المتقدّم البعد المزبور ، وهكذا حتّى ينتهي إلى القريب والأحوط احتياطاً لا يترك أن لا يكون بين موقف الإمام ومسجد المأموم أو بين موقف السابق ومسجد اللاحق أزيد من مقدار الخطوة التي تملأ الفرج

______________________________________________________

إذ لا ريب أنّ المراد بالشرطية نفي كون الإمام أعلى لا لزوم كونه أسفل فإنّه لا شبهة في جواز المساواة بينهما بضرورة الفقه ، وقد ورد في غير واحد من النصوص أنّ المرأة تصلّي خلف الرجل (١) من غير تقييد بكونه أسفل ، بل لعلّ التساوي أفضل ، كما دلّ عليه إطلاق رواية محمّد بن عبد الله (٢) المحمولة على الاستحباب.

(١) كما تقدّم.

(٢) كما دلّ عليه ذيل موثّقة عمّار المتقدّمة (٣) فلاحظ. لكنّه يختصّ بغير العلوّ المفرط الذي لا يصدق معه عنوان الجماعة كالاقتداء من شاهق ، لا لأجل التخصيص اللفظي ، بل لاقتضاء مفهوم الجماعة المتّخذة من الاجتماع.

(٣) ذكر (قدس سره) أنّ من شرائط الجماعة عدم وجود البعد المفرط بين المأموم والإمام ، أو من هو واسطة الاتّصال بينه وبين الإمام. وحدّده على سبيل الاحتياط الذي لا يترك بأن لا يكون بين موقف الإمام ومسجد المأموم

__________________

(١) منها صحيحة الفضيل المتقدّمة في ص ٥٠.

(٢) الوسائل ٨ : ٤١٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦٣ ح ٣.

(٣) في ص ١٥٢.

١٥٧

وأحوط من ذلك مراعاة الخطوة المتعارفة ، والأفضل بل الأحوط أيضاً أن لا يكون بين الموقفين أزيد من مقدار جسد الإنسان إذا سجد ، بأن يكون مسجد اللاحق وراء موقف السابق بلا فصل.

______________________________________________________

أو موقف السابق ومسجد اللاحق أزيد ممّا يتخطّى ، وفسّره بالخطوة التي تملأ الفُرَج ، وأحوط من ذلك مراعاة الخطوة المتعارفة ، وأحوط من الكلّ مراعاة الاتّصال التام بأن يكون مسجد اللاحق وراء موقف السابق بلا فصل.

فنقول : ذكر جماعة ولعلّه المعروف أنّ التباعد الذي يعتبر عدمه في صحّة الجماعة هو المقدار القادح في صدق عنوان الاجتماع ، وهو الذي يكون كثيراً في العادة ، فمهما تحقّق القرب العرفي بحيث تحقّق معه مفهوم الجماعة صحّ الاقتداء ، ولا يعتبر الزائد على ذلك.

وعن جماعة آخرين تحديده بالمقدار الذي لا يتخطّى ، فلا يغتفر من البعد إلّا المقدار الذي يمكن معه التخطّي.

والأصل في المسألة ما رواه المشايخ الثلاثة بسند صحيح مع اختلاف يسير من حيث التقديم والتأخير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة بعضها إلى بعض ، لا يكون بين الصفّين ما لا يتخطّى ، يكون قدر ذلك مسقط جسد إنسان إذا سجد. قال وقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة الإمام وبينهم وبين الصفّ الذي يتقدّمهم ما لا يتخطّى فليس تلك لهم بصلاة إلى أن قال ـ : أيّما امرأة صلّت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطّى فليس تلك بصلاة ...» إلخ (١).

هكذا في الفقيه ، وكذا في الكافي والتهذيب ، غير أنّ صدر الحديث فيهما

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤١٠ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦٢ ح ١ ، ٢ ، وقد تقدّمت في ص ١٣٧.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

هكذا : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ...» إلخ المذكور في هذه الرواية متأخّراً ، وقوله عليه‌السلام : «ينبغي أن تكون الصفوف ...» إلخ المذكور في صدر هذه الرواية متأخّر فيهما عن الفقرات الثلاث المتقدّمة.

وكيف ما كان ، فقد تضمّنت الصحيحة تحديد البعد القادح بالمقدار الذي لا يتخطّى.

وأُورد عليه : بأنّ لفظة «ينبغي» ظاهرة في الاستحباب ، ولأجل ذلك يضعف ظهور التحديد في بقيّة الفقرات في الوجوب ، بل هي محمولة على الفضل ، لوحدة السياق.

أقول : ظاهر التحديد المذكور في الفقرات الثلاث المتقدّمة هو الاعتبار والدخل في الصحّة ، ولا موجب لرفع اليد عنه ، وقرينة السياق لا تقتضيه لتغاير الجملة المشتملة على لفظة «ينبغي» المذكورة صدراً أو ذيلاً على اختلاف النسخ مع بقيّة الفقرات موضوعاً ومحمولاً ، وأحدهما ينظر إلى غير المورد الذي ينظر إليه الآخر.

وتوضيحه : أنّه عليه‌السلام ذكر أولاً على رواية الفقيه أنّه ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة ، فأشار عليه‌السلام بذلك بمقتضى لفظة ينبغي إلى أنّ من فضل الجماعة وآدابها تماميّة الصفوف باستوائها وعدم نقص بعضها عن بعض.

وحيث إنّ التواصل الحقيقي يتعذّر رعايته في صفوف الجماعة بعد ملاحظة اشتمال الصلاة على الركوع والسجود فسّره عليه‌السلام بعد ذلك بقوله : «لا يكون بين الصفّين ما لا يتخطّى» ، أي لا يكون بين الموقفين من الفصل إلّا المقدار القابل للتخطّي ، وهو المعادل لمتر واحد تقريباً.

ثم قدّره عليه‌السلام بعد ذلك بقوله : «يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان إذا سجد» ، فإنّ المسافة التي يستوعبها مسقط الجسد لدى السجود لا تزيد على المتر ، فهو قابل للتخطّي ، وإنّما فسّرنا بين الصفّين بقولنا بين

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الموقفين لأنّ ذلك هو مقتضى كلمة (الصفّ) ، فإنّه لغة عبارة عن الوقوف بانتظام.

فيكون المتحصّل من هذه الفقرة : أنّ من كمال الجماعة أن تكون المسافة بين موقف الصفّ اللاحق وموقف الصف السابق مقداراً يمكن التخطّي معه ، بحيث تمتلئ هذه الفرجة لدى السجود على نحو يتّصل مسجد اللاحق بموقف السابق بلا فصل ، ولا شكّ أنّ هذه غاية التواصل الممكن مراعاته في صفوف الجماعة بعد ملاحظة افتقار الصلاة إلى الركوع والسجود.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ موضوع الحكم في هذه الفقرة إنّما هو ملاحظة المسافة بين نفس الموقفين على ما تقتضيه كلمة الصفّ على ما عرفت.

ثم قال عليه‌السلام بعد ذلك أو قبله حسب اختلاف نسختي الفقيه والكافي كما مرّ ـ : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام». دلّت هذه الفقرة على نفي الجماعة وعدم انعقادها فيما إذا كان بين الإمام وبين القوم ما لا يتخطّى.

وهذا بظاهره يناقض ما تقدّم في الفقرة السابقة من أنّ ذلك من مستحبّات الجماعة وآدابها لا من شرائطها ومقوّماتها ، فيعلم من ذلك أنّ النظر في هذه الفقرة معطوف على ملاحظة المسافة بين الإمام ومَن خلفه في جميع حالات الصلاة التي منها حال السجود ، لا خصوص حالة الاصطفاف كي يختصّ بحال القيام كما كان كذلك في الفقرة السابقة ، وقس عليه الحال في الفقرتين اللاحقتين ، أعني قوله : «أيّ صفّ كان ...» إلخ ، وقوله : «أيّما امرأة ...» إلخ.

ونتيجة ذلك ملاحظة الحدّ المزبور بين مسجد المأموم وموقف الإمام ، أو بين مسجد الصف اللاحق وموقف الصف السابق ، وأنّ البون بين هذين يجب أن لا يكون بمقدار لا يتخطّى.

وهذا كما ترى موضوع آخر غير الموضوع السابق الذي كان متضمّناً للحكم الاستحبابي. وظاهر التحديد اعتبار ذلك في صحّة الجماعة ، ولا موجب

١٦٠