موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٦

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

بطبيعي الصلاة المفروض فيه الشك في سقوطه بدون الإتيان بجزء أو شرط.

وأنت خبير بأنّ صدور هذا الكلام من مثله عجيب ، فإنّ الأمر بالقضاء لازم أعم لتعدّد المطلوب ، فكما يمكن فيه أن يكون لأجل ذلك يمكن أن يكون لأجل مصلحة أُخرى دعت المولى إلى الأمر به عند الفوت مع فرض وحدة المطلوب في الوقت. فلا ملازمة إذن بين وجوب القضاء وبين تعدّد المطلوب كي يكون ثبوت الوجوب كاشفاً عن ذلك.

والذي ينبغي أن يقال هو التفصيل بين تنجّز التكليف الموجب للاحتياط في الوقت ، وبين حدوث المنجّز خارج الوقت.

فعلى الثاني كما إذا بنى في الوقت على وجوب القصر مثلاً في بعض الفروض الخلافية ثمّ بعد خروجه انقدح في نفسه التشكيك في الدليل وتردّد فيما هو وظيفته من القصر والتمام ، فكانت وظيفته حينئذ الجمع بين الأمرين احتياطاً ، لأجل العلم الإجمالي المنجّز الحادث بعد الوقت يجب عليه الاحتياط بالنسبة إلى الصلوات الآتية ما لم يستقرّ رأيه في المسألة على أحد الأمرين.

وأمّا بالنسبة إلى الصلاة التي مضى وقتها فلا يجب الاحتياط عليه بقضاء الصلاة تماماً ، لأنّه تابع لصدق الفوت وهو غير محرز ، لاحتمال أن تكون الوظيفة هي التي أتى بها في الوقت وهي الصلاة قصراً فلم يفت منه شي‌ء. فما كانت وظيفته في الوقت قد أتى بها على وجهها على الفرض ، وما هو موضوع القضاء أعني فوت الفريضة غير محرز وجداناً ، ومقتضى الأصل البراءة عنه. ولعلّ نفي القضاء في هذه الصورة متسالم عليه وخارج عن محلّ الكلام.

وأمّا على الأوّل أعني ثبوت المنجّز في الوقت ووجوب الاحتياط بقاعدة الاشتغال والعلم الإجمالي.

فبناء على وجوب الاحتياط شرعاً المستفاد ذلك من الأخبار كما التزم به بعضهم فلا ينبغي الشكّ في وجوب القضاء حينئذ ، لأنّ الوظيفة الشرعية

٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهراً هو الاحتياط من دون فرق في ذلك بين الشبهة الحكمية كالقصر والتمام والظهر والجمعة ، والموضوعية كما في صورة تردّد الساتر بين الطاهر والنجس وقد أخلّ بما هو وظيفته في أمثال ذلك على الفرض فلم يعمل بالاحتياط ولم يأت في الوقت إلّا ببعض الأطراف ، فلم يكن قد امتثل الفريضة الواجبة عليه في مرحلة الظاهر أعني الجمع بين الصلاتين الذي هو مصداق الاحتياط الواجب عليه ظاهراً فقد فاتته الفريضة الظاهرية وجداناً ، فيشمله لا محالة عموم أدلّة القضاء المأخوذ في موضوعها عنوان فوت الفريضة وهو أعم من فوت الفريضة الواقعية والظاهرية بلا إشكال.

ومن هنا لم يستشكل أحد في وجوب القضاء فيما لو صلّى في ثوب مستصحب النجاسة ، مع أنّ فوت الفريضة الواقعية غير محرز هنا ، لاحتمال طهارة الثوب واقعاً وعدم إصابة الاستصحاب للواقع ، وليس ذلك إلا لأجل أنّ وظيفته الظاهرية بمقتضى الاستصحاب كان هو الاجتناب عن الثوب المذكور وإيقاع الصلاة في ثوب طاهر ولكنّه أخلّ بذلك ففاتته الفريضة الظاهرية ، فيندرج لذلك تحت عموم أدلّة القضاء.

ولا فرق بين الاستصحاب وبين قاعدة الاحتياط بعد البناء على وجوبه شرعاً كما هو المفروض ، لكون كلّ منهما حكماً ظاهرياً مقرّراً في ظرف الشكّ.

وأمّا بناءً على وجوب الاحتياط بحكم العقل بمناط قاعدة الاشتغال والعلم الإجمالي لا بحكم الشارع كما هو الصحيح ، وقد بيناه في محلّه (١) فاللازم حينئذ هو القضاء أيضاً ، وذلك لأنّ المفروض تنجّز الواقع في الوقت ، وبعد الإتيان بأحد طرفي العلم الإجمالي كالقصر يشكّ في سقوط التكليف المتعلّق بطبيعي الصلاة ومقتضى الاستصحاب بقاؤه ، بناءً على ما هو الصواب من جريانه في القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

فإنّ المقام من هذا القبيل ، إذ لو كان المأمور به هو القصر فقد سقط

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٤٤ وما بعدها.

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالامتثال قطعاً ، وإن كان هو التمام فهو باقٍ يقيناً ، فيستصحب شخص الوجوب المضاف إلى طبيعي الصلاة ، فإنّ الحصّة من الطبيعي المتحقّقة في ضمن الفرد تكون ذات إضافتين حقيقيتين ، إحداهما إلى الفرد والأُخرى إلى الطبيعي. فالحصّة من طبيعي الإنسان الموجودة في ضمن زيد تضاف مرّة إلى الفرد فيقال : هذا زيد ، وأُخرى إلى الطبيعة فيقال : هذا إنسان ، وكلتا الإضافتين على سبيل الحقيقة ، ولا يعتبر في استصحاب الكلّي في القسم الثاني أكثر من إضافة الحصّة إلى الطبيعة كما تقرّر في محلّه (١).

وعلى هذا فالحصّة المتشخّصة من الوجوب الحادثة في الوقت وإن كانت باعتبار إضافتها إلى الفرد مشكوكة الحدوث ، لتردّد الحادث بين القصر والتمام حسب الفرض لكنّها بالقياس إلى طبيعي الصلاة متيقّنة الحدوث مشكوكة الارتفاع ، فيستصحب بقاؤها بعد تمامية أركان الاستصحاب.

وبهذا البيان يندفع ما قد تكرّر في بعض الكلمات في هذا المقام وأمثاله من المنع عن جريان الاستصحاب لكونه من استصحاب [الفرد] المردّد ولا نقول به إذ لا نعقل معنى صحيحاً لاستصحاب الفرد المردّد ، حيث إنّه لا وجود للمردّد خارجاً كي يجري استصحابه أو لا يجري ، فانّ الوجود يساوق التشخّص. فكلّ ما وجد في الخارج فهو فرد معيّن مشخّص لا تردّد فيه ، غاية الأمر أنّ ذلك الفرد المعيّن قد يكون ممّا نعلمه وقد لا نعلمه ، فالتردّد إنّما يكون في أُفق النفس ، لا في وجود الفرد خارجاً الذي هو الموضوع للأحكام.

وجه الاندفاع : أنّ المستصحب كما عرفت إنّما هو شخص الوجوب الحادث الذي هو فرد مشخّص معيّن ، لكن لا باعتبار إضافته إلى الفرد لعدم العلم به بعد تردّده بين القصر والتمام ، بل باعتبار إضافته إلى الطبيعة ، وهو بهذا الاعتبار متيقّن الحدوث مشكوك البقاء.

وكيف كان فهذا الاستصحاب وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلّي

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٠٥ وما بعدها.

٨٣

ولا يجب على الصبيّ إذا لم يبلغ في أثناء الوقت ، ولا على المجنون في تمامه مطبقاً كان أو أدوارياً (١).

______________________________________________________

جارٍ في المقام ، وبمقتضاه يحكم ببقاء الوجوب المتعلّق بطبيعي الصلاة ، ولا يكاد يحرز فراغ الذمّة عن هذا الواجب إلّا بالإتيان بالطرف الآخر للعلم الإجمالي ، فما لم يؤت به كانت الفريضة الشرعيّة الظاهرية الثابتة ببركة الاستصحاب باقية بحالها ، فاذا كان الحال كذلك حتّى خرج الوقت فقد فاتته الفريضة الظاهرية وجداناً ، من دون حاجة إلى إثبات ذلك بالأصل.

وقد عرفت آنفا أنّ الفوت المأخوذ في موضوع وجوب القضاء أعم من فوت الفريضة الواقعية والظاهرية. فالمقام نظير ما لو شك في الوقت في الإتيان بالفريضة فوجب عليه ذلك استصحاباً إلّا أنّه لم يصلّ نسياناً أو عصياناً ، فإنّه لا إشكال في وجوب القضاء عليه حينئذ مع أنّ فوت الفريضة الواقعية غير محرز ، وإنّما المحرز فوت الفريضة الظاهرية الثابتة بمقتضى الاستصحاب ، فاذا كان هذا المقدار ممّا يكفي للحكم بوجوب القضاء هناك كفى في المقام أيضاً لوحدة المناط.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا فرق في وجوب القضاء بين ما إذا كانت الجزئية أو الشرطية ثابتة بدليل شرعي أو بحكومة العقل من باب الاحتياط مع فرض ثبوت المنجّز في الوقت ، وأمّا مع حدوثه في خارجه فلا يجب القضاء. ولعلّ هذا كما سبق هو المتسالم عليه بين الأصحاب وخارج عن محلّ الكلام.

الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق :

(١) للإجماع على عدم وجوب القضاء على الصبي والمجنون ، بل قد عدّ ذلك من ضروريات الدين ، وعليه فيستدلّ لسقوط القضاء بالإجماع والضرورة.

ولا يخفى أنّ الأمر وإن كان كذلك ، إذ لم يعهد من أحد من الأئمة (عليهم

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

السلام) أو غيرهم أمرُ أولادهم بقضاء ما فاتتهم من الصلوات أيّام الصبا ، ولا سيما الفائتة منهم في دور الرضاعة. إلّا أنّ ذلك ليس من باب الاستثناء وتخصيص أدلّة وجوب القضاء كي نحتاج في المسألة إلى الاستدلال بالإجماع والضرورة.

بل الوجه في ذلك خروجها عن موضوع دليل القضاء تخصّصاً وعدم شموله لهما من الأوّل ، فإنّ موضوعه كما أُشير إليه في ذيل صحيح زرارة المتقدّم (١) فوت الفريضة ولو أنّها كانت كذلك بالقوة والشأن لأجل الاقتران بمانع خارجي كالنوم أو النسيان أو الحيض ونحو ذلك يحول دون بلوغ مرحلة الفعلية.

وهذا المعنى غير متحقّق في الصبي والمجنون ، لعدم أهليتهما للتكليف ، وأنّه لم يوضع عليهما قلم التشريع من الأوّل ، فلم يفتهما شي‌ء أبداً. فلا مقتضي ولا موضوع لوجوب القضاء بالإضافة إليهما.

بل الحال كذلك حتّى بناءً على تبعية القضاء للأداء وعدم كونه بأمر جديد إذ لا أمر بالأداء في حقّهما كي يستتبع ذلك الأمر بالقضاء كما هو ظاهر.

وبهذا البيان تظهر صحة الاستدلال للحكم المذكور بحديث «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق» (٢) ، ولا يتوجّه عليه ما أورده المحقّق الهمداني (قدس سره) عليه من أنّ الحديث ناظر إلى سقوط التكليف بالأداء حال الصغر والجنون ، ولا يدلّ على نفي القضاء بعد البلوغ والإفاقة الذي هو محلّ الكلام ، ولا ملازمة بين الأمرين كما في النائم وهو ممّن رفع عنه القلم حتى يستيقظ ، حيث يجب عليه القضاء (٣).

وذلك لأنّ الاستدلال إنّما يكون بالمدلول الالتزامي للحديث ، فانّ لازم

__________________

(١) في ص ٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٥٩٨ السطر ٣١ مع الهامش.

٨٥

ولا على المغمى عليه في تمامه (١).

______________________________________________________

ارتفاع قلم الأداء عن الصبي والمجنون هو عدم فوت شي‌ء منهما ، فلم يبق موضوع لوجوب القضاء. فهذا الحديث بمثابة المخصّص لأدلّة التكاليف الأولية ويكشف عن اختصاصها بغيرهما ، فحيث لا تكليف لهما فلا فوت أيضاً. فالاستدلال بالحديث في محلّه.

الإغماء المستوعب للوقت :

(١) على المشهور من عدم وجوب قضاء الصلوات الفائتة حال الإغماء إلّا الصلاة التي أفاق في وقتها ولكن لم يأت بها لنوم أو نسيان أو عصيان ، فيجب قضاؤها خاصة ، لعدم استناد الفوت حينئذ إلى الإغماء. فالمناط في السقوط هو الإغماء المستوعب لتمام الوقت.

وعن الصدوق (قدس سره) في المقنع وجوب القضاء (١) ، وظاهر كلامه وإن كان هو الوجوب خلافاً للمشهور إلّا أنّه لا يأبى عن الحمل على الاستحباب كما اختاره في الفقيه (٢).

وكيف ما كان ، فالكلام يقع تارة في ثبوت المقتضي للقضاء ، وأُخرى في وجود المانع منه.

أمّا المقتضي : فلا ينبغي الشك في ثبوته ، ضرورة عدم كون المغمى عليه بمثابة الصغير والمجنون في الخروج عن أدلّة التكاليف تخصّصاً ذاتياً لأجل فقد الاستعداد وعدم القابلية لتعلّق الخطاب ، بل حال الإغماء هو حال النوم ، بل لعلّه هو النوم بمرتبته الشديدة ، فيكونان مندرجين تحت جامع واحد.

وعليه فكما أنّ النائم تكون له شأنية الخطاب ويصلح لأنّ يتعلّق التكليف

__________________

(١) المقنع : ١٢٢.

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٧ / ذيل ح ١٠٤٢.

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

به ذاتاً ويكون واجداً للملاك غير أنّ اقترانه بالمانع وهو النوم يمنع الخطاب عن الفعلية والتنجّز ، كما في موارد النسيان والعجز ، كذلك المغمى عليه يكون بحسب ذاته صالحاً للخطاب وأهلاً له.

وبهذا الاعتبار صحّ إطلاق الفوت في حقّه ، كما في الحائض والنائم ونحوهما فيشمله عموم أدلّة القضاء ، لانطباق موضوعها وهو الفوت عليه ، فانّ العبرة بفوت الفريضة ولو شأناً وملاكاً كما في النائم ، لا خصوص ما هو فريضة فعلية. فلا قصور إذن من ناحية المقتضي ، وإنّما لم يحكم فيه بالقضاء لأجل المانع ، وهي الروايات الخاصّة الواردة في المقام كما ستعرفها إن شاء الله.

ويكشف عمّا ذكرناه التعبير بالفوت في لسان كلتا الطائفتين من الأخبار الواردة في المقام ، أعني بهما المثبتة للقضاء والنافية له ، إذ لولا ثبوت المقتضي للقضاء وهو صلوحه لأن يتوجّه إليه التكليف بالأداء ولو شأناً لما صحّ إطلاق الفوت في حقّه ، لعدم فوت شي‌ء منه أصلاً ، كما هو الحال في الصبيّ والمجنون الفاقدين لاستعداد توجّه التكليف إليهما حسبما مرّ. فنفس هذا التعبير خير شاهد على تمامية المقتضي.

وأمّا المانع عن ذلك فهي الروايات المعتبرة المتضمّنة لنفي القضاء ، وهي بين مطلق وبين مصرّح باليوم أو أكثر. ولكن بإزائها روايات أُخر معتبرة أيضاً دلّت على وجوب القضاء مطلقاً أو قضاء يوم واحد ، أو ثلاثة أيام مطلقاً ، أو الثلاثة من شهر فيما إذا استمر الإغماء شهراً واحداً ، فهي متعارضة المضمون بين ناف للقضاء ومثبت له على وجه الإطلاق أو التقييد.

أمّا النافية للقضاء فمنها : صحيح الحلبي «أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن المريض هل يقضي الصلوات إذا أُغمي عليه؟ فقال : لا ، إلّا الصلاة التي أفاق فيها» (١).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٥٨ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ١.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وخبر معمر بن عمر قال : «سألت أبا جعفر (أبا عبد الله) (عليه السلام) عن المريض يقضي الصلاة إذا أُغمي عليه؟ قال : لا» (١).

وصحيح أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال : «سألته عن المريض يغمى عليه ثم يفيق كيف يقضي صلاته؟ قال : يقضي الصلاة التي أدرك وقتها» (٢).

وصحيح علي بن مهزيار قال : «سألته عن المغمى عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته من الصلاة أم لا؟ فكتب (عليه السلام) : لا يقضي الصوم ، ولا يقضي الصلاة» (٣).

وصحيح أيّوب بن نوح «أنّه كتب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) يسأله عن المغمى عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته من الصلوات أو لا؟ فكتب : لا يقضي الصوم ، ولا يقضي الصلاة» (٤).

وفي الخبرين الأخيرين التصريح باليوم أو أكثر.

وأمّا المثبتة مطلقاً فكصحيح رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن المغمى عليه شهراً ما يقضي من الصلاة؟ قال : يقضيها كلّها ، إنّ أمر الصلاة شديد» (٥).

وأمّا المفصّلة فمنها : ما دلّ على قضاء اليوم الواحد كصحيح حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن المغمى عليه ، قال فقال : يقضي صلاة يوم» (٦).

ومنها : ما دلّ على القضاء ثلاثة أيام كموثّق سماعة قال : «سألته عن

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٦١ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ١٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٦٢ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ١٧ ، ١٨.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٦٢ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ١٧ ، ١٨.

(٤) الوسائل ٨ : ٢٥٩ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ٢.

(٥) الوسائل ٨ : ٢٦٥ / أبواب قضاء الصلوات ب ٤ ح ٤.

(٦) الوسائل ٨ : ٢٦٧ / أبواب قضاء الصلوات ب ٤ ح ١٤.

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المريض يغمى عليه ، قال : إذا جاز عليه ثلاثة أيّام فليس عليه قضاء. وإذا أُغمي عليه ثلاثة أيّام فعليه قضاء الصلاة فيهنّ» (١). فقد دلّت الموثّقة على التفصيل بين ما إذا تجاوز الإغماء عن ثلاثة أيام فلا قضاء عليه أصلاً ، وبين عدم التجاوز عن الثلاثة فيجب القضاء.

ومنها : ما دلّ على قضاء ثلاثة من الشهر كصحيح أبي بصير قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : رجل أُغمي عليه شهراً أيقضي شيئاً من صلاته؟ قال : يقضي منها ثلاثة أيّام» (٢).

وهذه التفاصيل منافية لما تضمّنته الروايتان المتقدّمتان وهما روايتا ابن مهزيار وأيّوب بن نوح ، المصرّحتان بنفي قضاء اليوم الواحد والأكثر ، فتقع المعارضة بينهما في ذلك لا محالة.

هذه هي روايات الباب ، وهي كما ترى بين نافية ومثبتة للقضاء مطلقاً أو على وجه التقييد ، وقد اختلفت كلمات القوم في وجه الجمع بينها.

فالمشهور هو الجمع بينها بالحمل على الاستحباب ، تقديماً للنصّ على الظاهر لصراحة الطائفة الاولى في نفي الوجوب ، وظهور الثانية في الوجوب فيتصرف في الثاني بالحمل على الاستحباب ، كما هو الحال في أمثال ذلك من الموارد.

ويؤيّد الجمع المذكور رواية أبي كهمس قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وسئل عن المغمى عليه ، أيقضي ما تركه من الصلاة؟ فقال : أمّا أنا وولدي وأهلي فنفعل ذلك» (٣) ، فإنّها ظاهرة في الاستحباب ، إذ لو كان الحكم المذكور ثابتاً بنحو الوجوب لم يكن وجه لتخصيصه بنفسه وولده.

وعن بعضهم الجمع بالحمل على التقيّة ، لموافقة الروايات النافية لمذهب العامة.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٦٥ / أبواب قضاء الصلوات ب ٤ ح ٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٦٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ٤ ح ١١ ، ١٢.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٦٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ٤ ح ١١ ، ١٢.

٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنه كما ترى ، فانّ التصرّف في جهة الصدور يتفرّع على استقرار التعارض الموقوف ذلك على امتناع الجمع الدلالي ، وإلّا فمع إمكانه بتقديم النصّ على الظاهر كما في المقام ، حيث إنّ الحمل على الاستحباب من أنحاء التوفيق العرفي بين الدليلين لا تصل النوبة إلى الحمل على التقية. فالصحيح هو الجمع المشهور.

وأمّا الاختلاف بين الطائفة المثبتة للقضاء من الحكم في بعضها بقضاء يوم وفي بعضها الآخر بقضاء ثلاثة أيام ، وفي ثالث بالقضاء مطلقاً فهو محمول على الاختلاف في مراتب الفضل ، فالأفضل هو قضاء جميع الصلوات ، ودونه في الفضل قضاء ثلاثة أيام من الشهر فيما لو استمر الإغماء شهراً كاملاً كما هو مورد النصّ وقد تقدّم ودونهما في الفضل قضاء اليوم الذي أُغمي فيه ، وبهذا يندفع التنافي المتراءى بين الأخبار.

وأمّا قضاء الصلاة التي أفاق في وقتها ثم تركها لعذر آخر من نوم ونحوه فقد عرفت في صدر البحث وجوبه ، وأنّه خارج عن محلّ الكلام ، فانّ موضوع الحكم في المقام نصاً وفتوى هو الإغماء المستوعب للوقت ، بحيث يستند ترك الأداء إليه دون الترك المستند إلى غير الإغماء.

الإغماء الاختياري :

هل يختص الحكم وهو نفي القضاء بما إذا كان الإغماء قهرياً ، أو يعمّ الحاصل بالاختيار وبفعل المكلّف نفسه كما لو شرب شيئاً يستوجب الإغماء عن علم وعمد فأُغمي عليه حتى انقضى الوقت ، فهل يسقط القضاء حينئذ إمّا مطلقاً أو في خصوص ما إذا لم يكن على وجه المعصية كما إذا كان مكرهاً أو مضطرّاً في فعله؟ وجوه ، بل أقوال ، وقد تعرّض الماتن (قدس سره) لذلك في ضمن المسائل الآتية ، ولكنّا نقدم البحث عنه هنا لمناسبة المقام فنقول :

لا بدّ من فرض الكلام فيما إذا لم يحصل السبب الاختياري بعد دخول الوقت وتنجّز التكليف ، أمّا لو دخل وبعده ولو بمقدار نصف دقيقة ، بحيث لم يسعه

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الإتيان بالصلاة فيه فعل باختياره ما يوجب الإغماء ، سواء أكان ذلك على وجه المعصية أم لا ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في وجوب القضاء ، فانّ المستفاد من قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ... (١) وكذلك الروايات توجّه الخطاب الفعلي وتنجّز التكليف بمجرّد دخول الوقت ، فيكون التسبيب منه إلى الإغماء تفويتاً للفريضة المنجّزة ، وبذلك يتحقّق الفوت الذي يكون موضوعاً لوجوب القضاء. ولا ينبغي الشك في انصراف نصوص السقوط عن مثل الفرض.

وأوضح منه حالاً ما إذا حصل الإغماء بعد مضي مقدار من الوقت يسعه إيقاع الصلاة فيه ، فإنّه لا إشكال حينئذ في وجوب القضاء ، كما لا إشكال في خروجه عن محلّ الكلام. فمحطّ البحث ما إذا حصل السبب الاختياري قبل دخول الوقت.

المعروف والمشهور بينهم هو سقوط القضاء ، كما في السبب القهري ، عملاً بإطلاق النصوص. ولكن قد يدّعى اختصاص الحكم بالثاني وعدم ثبوته في السبب الاختياري ، ويستدلّ له بأحد وجهين :

الأوّل : ما يظهر من بعض الكلمات وبنى عليه المحقّق الهمداني (قدس سره) أخيراً من دعوى انصراف نصوص السقوط إلى الفرد المتعارف من الإغماء وهو الحاصل بالطبع ، فلا يعمّ الحاصل بفعله الذي هو فرد نادر (٢).

وهذا كما ترى ، فانّ الموضوع في نصوص الإغماء صادق على الكلّ ، ومجرّد التعارف الخارجي وغلبة الوجود لا يصلح لتوجيه الانصراف كي يمنع عن الإطلاق. وبالجملة : فالانصراف المزبور بدويّ لا يعبأ به ، نعم لا يمكن حمل المطلق على الفرد النادر وحصره فيه ، وأمّا شموله للأفراد النادرة والمتعارفة معاً فلا قبح فيه ولا استهجان.

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٢) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٦٠٠ السطر ٢٤ ٦٠١ السطر ٢.

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : أنّ جملة من نصوص الإغماء قد اشتملت على قوله : كلّ ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر (١) الذي هو بمنزلة التعليل للحكم. وواضح أنّ العلّة يدور مدارها المعلول وجوداً وعدماً ، فيختصّ الحكم بسقوط القضاء بموارد ثبوت العلّة ، وهي استناد الإغماء المستوجب لفوت الصلاة في الوقت إلى غلبة الله وقهره ، دون المكلّف نفسه. وبذلك يقيّد الإطلاق في سائر النصوص العارية عن التعليل ، عملاً بقانون الإطلاق والتقييد.

بل إنّ صاحب الحدائق (قدس سره) تعدّى عن ذلك فجعل العلّة المذكورة مقيّدة للمطلقات الواردة في باب الحيض والنفاس ، فالتزم بثبوت القضاء على الحائض والنفساء إذا حصل العذر بفعلهما ، أخذاً بعموم العلة (٢).

وعليه فنصوص المقام قاصرة عن شمول السبب الاختياري ، فيشمله عموم أدلّة القضاء السالم عن المخصّص.

واعترض المحقّق الهمداني (رحمه الله) (٣) على هذا الوجه بمنع ظهور التعليل في العلّية المنحصرة المستتبعة للمفهوم حتّى يقيّد به الإطلاق في سائر الأخبار بل القضية الكلّية إنّما سيقت لبيان علّة نفي القضاء عند ترك الواجب في وقته لعذر الإغماء ونحوه من الأعذار الخارجة عن الاختيار ، وأنّ العلّة للحكم المذكور هي غلبة الله.

وأمّا حصر العلّة في ذلك كي يقتضي ثبوت القضاء في غير موردها أعني الإغماء المسبّب عن الاختيار فلا دلالة لها عليه فضلاً عن التعدّي عن المورد إلى سائر المقامات كالحائض والنفساء ممّا لا مساس له بمورد الحكم ، إذ لا مفهوم للتعليل المستفاد من تطبيق الكبريات على مصاديقها ، فمن الجائز أن يحكم بنفي القضاء في غير مورد العلّة أيضاً بملاك آخر ولعلّه اخرى.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٥٩ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ٣ ، ٧ وغيرهما.

(٢) الحدائق ١١ : ١٢.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٦٠٠ السطر ١٦.

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فاذن هذه الأخبار المذيّلة بالتعليل وإن لم تشمل السبب الاختياري لكنّها لا تنهض لتقييد المطلقات العارية عن الذيل ، فينبغي على هذا الحكم بالعموم في الجميع ، عملاً بتلكم المطلقات السليمة عن التقييد لولا دعوى الانصراف التي اعتمد عليها (قدس سره) كما مرّ.

أقول : ما أفاده (قدس سره) من عدم دلالة التعليل على السببية المنحصرة وإن كان صحيحاً ، فلا ينعقد للقضية مفهوم بالمعنى المصطلح كما في الشرط ونحوه ، فلا ينافي ثبوت الحكم في غير مورد العلّة بمناط آخر كاحترام شهر رمضان مثلاً (١) لكن لا ينبغي الشك في دلالته على أنّ طبيعي الإغماء لا يكون بنفسه موضوعاً لنفي القضاء ، وإلّا لكان التعليل بغلبة الله من اللغو الظاهر ، فاذا ورد دليل آخر تضمّن التصريح بأنّ موضوع الحكم هو الطبيعي على إطلاقه وسريانه كان معارضاً لهذا الدليل لا محالة.

وبعبارة اخرى : أنّ حيثية الإغماء ذاتية بالإضافة إلى الإغماء نفسه ، وحيثية استناده إلى غلبة الله سبحانه حيثية عرضية ، فلو كان المقتضي لنفي القضاء هو طبيعي الإغماء أعني الحيثية الذاتية لم يحسن العدول عنه في مقام التعليل إلى الجهة العرضية. فإذا فرضنا أنّ العالم يجب إكرامه لذاته لم يحسن حينئذ تعليل الوجوب المذكور بأنّه شيخ أو هاشمي أو من أهل البلد الفلاني ونحو ذلك.

فاذا بنينا على دلالة النصوص المذكورة على أنّ العلّة في نفي القضاء عن المغمى عليه هي غلبة الله في الوقت كما هو المفروض فطبعاً نستكشف من ذلك أنّ طبيعي الإغماء بذاته لا يستوجب نفي القضاء ، فإنّه وإن احتمل وجود علّة أُخرى للنفي أيضاً لما عرفت من عدم ظهور التعليل في الانحصار لكن ظهوره في عدم ترتّب الحكم على الطبيعي غير قابل للإنكار ، فلا محيص من رفع اليد عن المطلقات لأجل هذه النصوص الدالّة على أنّ الموجب لنفي القضاء

__________________

(١) [لعلّ المذكور لا يتناسب مع المورد ، لأنّ المورد هو عدم القضاء لا القضاء].

٩٣

ولا على الكافر الأصلي إذا أسلم بعد خروج الوقت بالنسبة إلى ما فات منه حال كفره (١)

______________________________________________________

إنّما هي غلبة الله تعالى.

والصحيح في الجواب عن الوجه المذكور هو ما أشرنا إليه سابقاً (١) من عدم وجود نصّ صحيح يدلّ على التعليل ويتضمّن الملازمة بين غلبة الله في الوقت ونفي القضاء ، لضعف الروايات التي استدلّ بها لذلك سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو ، فانّ عمدتها رواية الصدوق (رحمه الله) عن الفضل بن شاذان (٢) ، وهي ضعيفة السند وإن عبّر عنها المحقّق الهمداني (٣) وصاحب الحدائق (٤) (قدس سرّهما) بالصحيحة ، وذلك لضعف سند الصدوق (رحمه الله) إلى الفضل بكلا طريقيه كما مرّت الإشارة إليه.

فالجواب الحقّ هو إنكار وجود النصّ الصحيح الدالّ على ذلك ، فتبقى المطلقات سليمة عن المقيّد ، وإلّا فمع الاعتراف به لا مناص من التقييد كما عرفت.

فتحصّل من ذلك : أنّ الأقوى نفي القضاء عن المغمى عليه مطلقاً ، سواء أكان ذلك بفعله أم كان بغلبة الله وقهره كما عليه المشهور ، عملاً بالمطلقات السالمة عن المقيّد.

الكافر إذا أسلم :

(١) بلا خلاف فيه ولا إشكال ، وقد استدلّ له بالإجماع والضرورة. والأمر

__________________

(١) في ص ٧٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٦٠ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ٧ ، علل الشرائع : ٢٧١ ، وقد تقدّمت في ص ٧٤.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٥٩٩ السطر ٢٣.

(٤) الحدائق ١١ : ٥.

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان كذلك ، إذ لم يعهد من أحد ممّن أسلم زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا في زمن المتصدّين للخلافة بعده إلى زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده أنّه أُمر بقضاء ما فاته في زمن الكفر ، ولو كان ذلك ثابتاً لظهر وبان ولنقل إلينا بطبيعة الحال.

إلّا أنّ التمسك بالإجماع والضرورة هو فرع ثبوت المقتضي ، بأن يكون مقتضى القاعدة هو وجوب القضاء كي يخرج عنها في الكافر بهذين الدليلين ولا ريب في أنّ تمامية المقتضي يبتني على الالتزام بتكليف الكفّار بالفروع كتكليفهم بالأُصول ، كما عليه المشهور ، وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من عدم تكليفهم بذلك فلا وجه للاستدلال بهما.

ويشهد لما ذكرناه ما ورد من أنّ الناس يؤمرون بالإسلام ثمّ بالولاية (١) ، فإنّ ظاهر العطف بـ «ثمّ» هو عدم تعلّق الأمر بالولاية إلّا بعد الإسلام ، فإذا كان هذا هو الحال في الولاية وهي من أعظم الواجبات وأهمّ الفروع ، بل إنّه لا يقبل عمل بدونها كما ورد في غير واحد من النصوص (٢) فما ظنّك بما عداها من سائر الواجبات كالصلاة والصيام ونحوهما.

ويؤكّده أنّه لم يعهد من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مطالبة من أسلم بدفع زكاة المال أو الفطرة ونحوهما من الحقوق الفائتة حال الكفر.

وعليه فلا تصل النوبة في المقام إلى الاستدلال لنفي القضاء بالأمرين المتقدّمين ، بل إنّما يعلّل نفي القضاء بقصور المقتضي حتى ولو لم يكن هناك إجماع ولا ضرورة ، فإنّ المقتضي للقضاء إنّما هو الفوت ، ولا فوت هنا أصلاً بعد عدم ثبوت التكليف في حقّه من أصله ، فلم يفته شي‌ء كي يتحقّق بذلك موضوع القضاء ، إذ لا تكليف له حال الكفر إلّا بالإسلام فقط.

وفوت الملاك وإن كان كافياً في ثبوت القضاء إلّا أنّه لا طريق لنا إلى

__________________

(١) [لم نعثر عليه ، نعم ذكر مضمونه في الكافي ١ : ١٨٠ / ٣].

(٢) الوسائل ١ : ١١٨ / أبواب مقدمة العبادات ب ٢٩.

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إحرازه إلّا من ناحية الأمر أو الدليل الخاص القاضي بالقضاء ، ليستكشف منه تمامية الملاك كما في النائم ، والمفروض هو انتفاء كلا الأمرين في المقام ، ولا غرو في قصور الملاك وعدم تعلّق الخطاب به حال الكفر ، فإنّه لأجل خسّته ودناءته ، وكونه في نظر الإسلام كالبهيمة ، وفي منطق القرآن الكريم (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) ... (١) ، ومن هنا ورد في بعض النصوص وإن كانت الرواية غير معمول بها أنّ عورة الكافر كعورة الحمار (٢).

والحاصل : أنّه لأجل اتّصافه بالكفر لا يليق بالاعتناء ، ولا يستحقّ الخطاب ، فليست له أهلية التكليف ، فهو كالصبيّ والمجنون والحيوان بنظر الشرع ، فلا مقتضي للتكليف بالنسبة إليه. وسيظهر لذلك أعني استناد نفي القضاء إلى قصور المقتضي دون وجود المانع ثمرة مهمّة في بعض الفروع الآتية إن شاء الله.

تكليف الكفّار بالفروع :

لا يخفي عليك أنّ محلّ الكلام في تكليف الكفّار بالفروع إنّما هي الأحكام المختصّة بالإسلام ، وأمّا المستقلات العقلية التي يشترك فيها جميع أرباب الشرائع كحرمة القتل وقبح الظلم وأكل مال الناس عدواناً فلا إشكال كما لا كلام في تكليفهم بها.

فما في الحدائق (٣) من الاستدلال لتكليف الكفّار بالفروع بقوله تعالى (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٤) ليس كما ينبغي ، لكونه خروجاً عمّا هو محلّ الكلام.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٧٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٥ / أبواب آداب الحمام ب ٦ ح ١.

(٣) [لم نعثر عليه. ثم إنّ صاحب الحدائق (قدس سره) ممن يرى عدم تكليف الكفار بالعبادات ، راجع الحدائق ٣ : ٣٩ ، ٦ : ٢٨١].

(٤) التكوير ٨١ : ٨ ٩.

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كما أنّ استدلاله لذلك (١) وقد تبعه على ذلك في الجواهر (٢) أيضاً بقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) ... (٣) في غير محلّه ، إذ المراد بالموصول في الآية هو ذنب الكفر ، لا ترك الفروع كي يدلّ على تكليفهم بها كما لا يخفى. ولتحقيق الكلام محلّ آخر لا يسعه المقام.

ثمّ إنّه ربما يستدلّ لنفي القضاء عن الكافر كما عن صاحبي الحدائق (٤) والجواهر (٥) (قدس سرهما) وغيرهما بحديث الجب ، وهو النبويّ المشهور : «الإسلام يجبّ ما قبله ويهدم» ، بل قد اشتهر الاستدلال بذلك في كلام غير واحد من المتأخّرين.

لكنّ الحديث ضعيف السند جدّاً ، فانّا لم نظفر عليه من طرقنا عدا ما رواه في عوالي اللئالي مرسلاً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «الإسلام يجبّ ما قبله» (٦). ولكن ضعفه ظاهر.

إذ مضافاً إلى ضعف سنده بالإرسال ، قد ناقش في الكتاب وفي مؤلّفه من ليس من دأبه ذلك كصاحب الحدائق (قدس سره) (٧).

وما رواه ابن شهرآشوب (قدس سره) مرسلاً في المناقب في من طلّق زوجته في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين ، قال علي (عليه السلام) : «هدم الإسلام ما كان قبله ، هي عندك على واحدة» (٨).

__________________

(١) لاحظ الحدائق ٦ : ٢٨١ ، ١١ : ٣.

(٢) لاحظ الجواهر ١٥ : ٦٢.

(٣) الأنفال ٨ : ٣٨.

(٤) الحدائق ١١ : ٣.

(٥) الجواهر ١٣ : ٦.

(٦) المستدرك ٧ : ٤٤٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٥ ح ٢ ، عوالي اللئالي ٢ : ٥٤ / ١٤٥.

(٧) الحدائق ١ : ٩٩.

(٨) البحار ٤٠ : ٢٣٠ ، المناقب ٢ : ٣٦٤.

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو مضافاً إلى ضعف سنده بالإرسال قاصر الدلالة ، لعدم اشتماله على عموم أو إطلاق يستدلّ به للمقام ، فانّ المراد بالموصول بقرينة صدر الرواية وذيلها إنّما هو خصوص الطلاق الواقع حال الشرك ، لا كلّ فعل أو ترك صدر منه ، وأنّ ذلك بعد إسلامه يفرض بحكم العدم ، وإن كان ممّا يعتنى به لو كان باقياً على شركه عملاً بقوله (عليه السلام) : لكلّ قوم نكاح (١) ، ولكنّه حينما أسلم فلا يعتدّ إلّا بالتطليقتين الواقعتين حال إسلامه ، وأنّ تمام الثلاث يتوقّف على تطليقة أُخرى. وهذا هو المراد بقوله:«هي عندك على واحدة».

ودعوى انجبار ضعف السند بعمل المشهور ساقطة جدّاً ، لعدم احتمال استناد المشهور إلى هذا الحديث المروي في كتاب المناقب بعد عدم تعرّض قدماء الأصحاب (قدس سرهم) لذكره ، وإنّما حدث الاستدلال به على ألسنة المتأخّرين. والعبرة في الجبر بعمل القدماء كما لا يخفى ، هذا بالإضافة إلى المناقشة في أصل الانجبار كبروياً ، فإنّها غير ثابتة كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك مراراً.

وما رواه علي بن إبراهيم القمّي في تفسير قوله تعالى (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا) ... (٢) عن أمّ سلمة في حديث : «أنّها قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة : بأبي أنت وأُمي يا رسول الله ، سعد بك جميع الناس إلّا أخي من بين قريش والعرب ، ورددت إسلامه ، وقبلت إسلام الناس كلّهم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا أُمّ سلمة ، إنّ أخاك كذّبني تكذيباً لم يكذّبني أحد من الناس ، هو الذي قال (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... إلى قوله كِتاباً نَقْرَؤُهُ) قالت : بأبي أنت وأُمي يا رسول الله ، ألم تقل : إنّ الإسلام يجبّ ما قبله؟ قال : نعم ، فقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إسلامه» (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ١٩٩ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٨٣ ح ٢.

(٢) الإسراء ١٧ : ٩٠.

(٣) المستدرك ٧ : ٤٤٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٥ ح ٣ ، تفسير القمي ٢ : ٢٧.

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لكنّ الحديث مضافاً إلى ضعف السند بالإرسال مقطوع البطلان ، فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أجلّ شأناً من أن لا يعمل بما قاله ، أو يعرضه النسيان حتّى تؤاخذه على ذلك أُمّ سلمة فيعدل آن ذاك عمّا فعله أوّلاً ويقبل إسلام أخي أُمّ سلمة.

بل إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إمّا لم يصدر منه هذا الكلام ، أو أنّه كان يقبل إسلام الرجل ، لأنّ الوظيفة المقرّرة في الشريعة إن كانت قبول الإسلام فلا محالة كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحيد عنها أيضاً فكان يقبل إسلام الرجل ، وإلّا لم يكن ليقبل إسلام أحد ، من دون أن تصل النوبة إلى شفاعة أحد كأُمّ سلمة وأضرابها.

فهذا الحديث ممّا لا نحتمل صدقه ، ولم نظفر من طرقنا على ما سوى هذه الروايات البالغة غاية الضعف. ودعوى الانجبار ممنوعة صغرى وكبرى كما مرّ.

فلا ينبغي الالتفات إلى هذه الأحاديث والتكلّم في مدى دلالتها سعة وضيقاً لعدم صلاحيتها للاستناد إليها في شي‌ء من الأحكام بعد ما عرفت حال أسنادها من الضعف. فحديث الجبّ على هذا ممّا لا أساس له ، ولا يستحقّ البحث حوله.

كلام صاحب المدارك :

ثمّ إنّ صاحب المدارك (قدس سره) (١) بعد ما تعرّض لمسألة سقوط القضاء عن الكافر إذا أسلم قال : إنّ هذا يستدعي أن لا يكون الكافر مكلّفاً بالقضاء لا أنّه يكون مكلّفاً به ويسقط التكليف عنه بإسلامه ، وعليه فلو بنينا على تكليف الكفّار بالفروع كتكليفهم بالأُصول كان اللازم استثناء الفرع المذكور فانّ البناء على سقوط القضاء بالإسلام يستلزم عدم تكليف الكفّار بالقضاء حال كفرهم.

__________________

(١) المدارك ٤ : ٢٨٩.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والوجه في ذلك : أنّ التمكّن من القضاء غير ثابت في شي‌ء من الأحوال لا في حال الكفر ولا في حال الإسلام ، فإنّه بعد الإسلام لا يجب القضاء عليه على الفرض ، وفي حال كفره لا يتمكّن من الامتثال لبطلان عمله ، فكيف يؤمر بالقضاء مع كونه تكليفاً بما لا يطاق؟

وهذا الكلام متين جدّاً ، لاستحالة الأمر بالقضاء ، من جهة العجز عن الامتثال في كلتا الحالتين كما ذكره (قدس سره).

وما ذكره بعضهم من جواز تكليف الكافر بالقضاء وفائدته تسجيل العقوبة عليه فهو من عجائب الكلمات التي لا ينبغي الإصغاء إليها ، لعدم تماميته على مسلك العدلية ، وإلّا لصحّ التكليف بالطيران إلى السماء تسجيلاً للعقوبة على تركه ، وهو كما ترى.

وقد تصدّى بعض الأكابر (قدس سره) (١) لتصحيح الأمر بالقضاء في حال الكفر بما حاصله : أنّ الأمر المذكور وإن كان ممتنعاً بعد خروج الوقت الذي هو حال القضاء إلّا أنّه ممكن في حال الأداء وقبل انقضاء الوقت ، فيؤمر في الوقت أوّلاً بالإسلام وبالصلاة المشروطة بالإسلام أداءً ، كما ويؤمر في نفس الحال بالقضاء على تقدير الترك ، فيقال له : أسلم ، وإذا أسلمت أدّ الصلاة ، وإن لم تفعل فاقضها. فكما أنّه يكون مأموراً في الوقت بالأداء أمراً فعلياً كذلك يكون في ذلك الحين مأموراً بالقضاء أمراً فعلياً على تقدير الترك.

والمفروض قدرته على الامتثال ، بأن يسلم فيصلّي أداءً ، وعلى تقدير الترك قضاء ، ولكنّه بسوء اختياره فوّت على نفسه كلا الأمرين ، فلم يسلم ولم يصلّ لا في الوقت ولا في خارجه. فترك القضاء وعدم القدرة عليه ممّا يستند إلى اختياره ، حيث إنّه لم يسلم في الوقت ، فيصحّ عقابه على ترك القضاء كما صحّ عقابه على ترك الأداء ، نظراً إلى استناد كلا الأمرين إلى اختياره ، وذلك لأجل

__________________

(١) المحقّق آقا ضياء الدين العراقي (قدس سره) في شرح تبصرة المتعلمين ١ : ١٨٦.

١٠٠