موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٦

الشيخ مرتضى البروجردي

ولا يجوز الاستئجار ولا التبرّع عن الأحياء في الواجبات (١) وإن كانوا عاجزين عن المباشرة.

______________________________________________________

(١) لعدم نهوض دليل معتبر على جواز النيابة استئجاراً أو تبرّعاً عن الأحياء في مثل الصلاة ونحوها بعد كونها في نفسها على خلاف القاعدة ، نعم ورد ذلك في بعض الروايات

فمنها : خبر محمّد بن مروان قال «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيّين وميّتين يصلّي عنهما ، ويتصدّق عنهما ، ويحجّ عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك ، فيزيده الله عزّ وجل ببرّه وصلته خيراً كثيراً» (١).

وهو ضعيف السند من جهة محمّد بن علي ، فانّ الظاهر كونه الصيرفي الكوفي الملقّب بأبي سمينة ، المشهور بالكذب والوضع. وكذا محمّد بن مروان فإنّه مردّد بين الثقة والضعيف ، ولأجل ذلك لا يجدي وقوعه في أسناد كامل الزيارات للترديد المذكور (٢).

ومنها : مرسلة أحمد بن فهد في عدة الداعي (٣) المتّحدة متناً مع الرواية السابقة إلّا في يسير ، ممّا يوجب الاطمئنان باتّحادهما ، وعليه فيتوجّه على الاستدلال بها مضافاً إلى إرسالها ما عرفت من ضعف السند في الخبر السابق.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٧٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ١٢ ح ١.

(٢) قد بنى (دام ظله) في المعجم ١٨ : ٥٣ / ١١٤١٢ على أنّ المراد بمحمّد بن علي هو غير الصيرفي الملقّب بأبي سمينة ، وهو من رجال الكامل [راجع معجم رجال الحديث ١٧ : ٣١٩ / ١١٢٨٦] كما بنى (دام ظله) أيضاً في ١٨ : ٢٢٩ / ١١٧٦٧ على أنّ المراد بمحمّد ابن مروان هو الذهلي الثقة. إذن فتصبح الرواية معتبرة ، إلّا أن يناقش في دلالتها بانصرافها إلى خصوص باب المستحبّات.

(٣) الوسائل ٢ : ٤٤٤ / أبواب الاحتضار ب ٢٨ ح ٥ ، عدّة الداعي : ٧٦.

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : رواية علي بن أبي حمزة قال «قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام) : أحجّ وأُصلّي وأتصدّق عن الأحياء والأموات من قرابتي وأصحابي؟ قال : نعم ، تصدّق عنه وصلّ عنه ، ولك أجر بصلتك إيّاه» (١).

لكنّها ضعيفة بعلي بن أبي حمزة البطائني ، مضافاً إلى روايتها عن كتاب غياث سلطان الورى لسكّان الثرى ، وقد عرفت آنفاً حال الكتاب المذكور وأنّ رواياته محكومة بالإرسال.

وعلى الجملة : فليس في البين رواية معتبرة يعتمد عليها تدلّ على جواز النيابة عن الأحياء على سبيل العموم بالنسبة إلى الواجبات والمستحبّات ، بعد فرض أنّ الحكم على خلاف القاعدة كما عرفت.

نعم ، قد ثبت ذلك في باب الأُمور الاعتبارية كالوكيل في البيع والإجارة والتزويج والطلاق وغيرها من أبواب العقود والإيقاعات ، وكذا فيما يلحق بالأُمور الاعتبارية كالقبض ، فانّ فعل الوكيل مسند إلى الموكّل إسناداً حقيقياً بمقتضى السيرة العقلائية ، لعدم اعتبار المباشرة في صدق هذه الأُمور وتحقّق عناوينها بوجه الحقيقة بفعل الوكيل كنفس الموكّل.

وأمّا الأُمور التكوينية فلا يكاد يصح الإسناد الحقيقي بمثل ذلك ، فلا يكون أكل زيد أو نومه أكلاً لعمرو أو نوماً له وإن أمر بهما ونواهما عنه. وإذا صحّ الإسناد أحياناً كما في قولهم غلب الأمير أو فتح الأمير البلد أو أنّه انهزم باعتبار غلبة جيشه أو فتحهم أو هزيمتهم ، فهو من باب التوسعة والمجاز.

وعليه ففي مثل الصلاة والصيام ونحوهما من سائر العبادات الواجبة أو المستحبّة التي هي من الأُمور التكوينية لا يكاد يستند الفعل حقيقة إلّا إلى المباشر ، دون غيره من الأحياء وإن نوى المباشر ذلك عنهم. فلا تقبل النيابة بحيث يكون فعل النائب هو فعل المنوب عنه المستتبع ذلك تفريغ ذمّته إلّا فيما قام الدليل عليه بالخصوص ، ولم يقم ذلك في الأحياء إلّا في الحجّ وتوابعه كما

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٧٨ / أبواب قضاء الصلوات ب ١٢ ح ٩.

٢٠٢

إلّا الحجّ إذا كان مستطيعاً وكان عاجزاً عن المباشرة (١) ، نعم يجوز إتيان المستحبّات وإهداء ثوابها للأحياء كما يجوز ذلك للأموات (٢). ويجوز النيابة عن الأحياء في بعض المستحبّات (٣).

______________________________________________________

سنشير إليه.

(١) فقد دلّت النصوص الخاصة على جواز النيابة عن الحيّ في الحجّ الواجب ، وفي بعض أجزائه كالطواف ونحوه لدى عجز الحيّ المنوب عنه عن المباشرة ، وسيجي‌ء الكلام في ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى (١).

(٢) لا ينبغي الإشكال في جواز ذلك في الأحياء فضلاً عن الأموات من دون حاجة إلى النصّ الدالّ عليه بالخصوص ، لعدم كون ذلك من مصاديق الهبة التمليكيّة المصطلحة حتّى تتوقّف صحّة التمليك في مثل المقام على قيام دليل يدلّ عليها بالخصوص ، لوضوح كون الثواب المترتّب على الأعمال من باب التفضّل دون الاستحقاق ، فلا يملك العبد على مولاه شيئاً كي يملّك الغير ذلك.

فمرجع الإهداء إلى الدعاء والطلب من الربّ عزّ وجل إعطاء الثواب المتفضّل به لو شاء ذلك لشخص معيّن حياً كان أو ميتاً بدلاً منه ، وهو تعالى إن شاء استجاب له دعاءه وإلّا فلا ، كما هو الحال في سائر الدعوات. ومعلوم أنّ الدعاء أمر سائغ ومشروع في المقام وغيره. فلا يحتاج الإهداء الذي هو من مصاديق الدعاء حقيقة إلى قيام دليل خاصّ يدلّ عليه.

(٣) لعلّ مراده (قدس سره) من بعض المستحبّات الزيارة ، كما دلّ على ذلك ما رواه في كامل الزيارات عن هشام بن سالم في حديث طويل يتضمّن فضل زيارة الحسين (عليه السلام) وتجهيز من ينوب عنه في ذلك (٢).

ومورد الرواية وإن كان هو الاستنابة لزيارة الحسين (عليه السلام) إلّا أنّه بالقطع بعدم الفرق بينه وبين سائر المعصومين (عليهم السلام) يحكم بالتعميم في

__________________

(١) شرح المناسك ٢٨ : ٧٤ ، ١٤٤.

(٢) الوسائل ١٤ : ٤٤٢ / أبواب المزار ب ٤٢ ح ١ ، كامل الزيارات : ١٢٣ / ب ٤٤ ح ٢.

٢٠٣

[١٨١٣] مسألة ١ : لا يكفي في تفريغ ذمّة الميّت إتيان العمل وإهداء ثوابه (١) بل لا بدّ إما من النيابة عنه بجعل نفسه نازلاً منزلته ، أو بقصد إتيان (*) ما عليه له ولو لم ينزّل نفسه منزلته (٢) ، نظير أداء دين الغير. فالمتبرع بتفريغ ذمّة الميّت له أن ينزّل نفسه منزلته ، وله أن يتبرع بأداء دينه من غير تنزيل ، بل الأجير أيضاً يتصوّر فيه الوجهان ، فلا يلزم أن يجعل نفسه نائباً ، بل يكفي أن يقصد إتيان ما على الميت وأداء دينه الذي لله.

______________________________________________________

الجميع.

ويؤكّد ذلك ما ورد في زيارة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) من التسليم عليه نيابة عن جميع الأقرباء ثمّ إخبارهم بتبليغه السلام عليه عنهم (١) مع صدقه في ذلك. وهي وإن كانت ضعيفة السند إلّا أنّها تصلح للتأييد بها.

بل يمكن القول بأنّ الحكم في خصوص باب الزيارة على طبق القاعدة من دون حاجة إلى ورود النصّ عليه ، لقيام السيرة العقلائية على ذلك فضلاً عن سيرة المتشرّعة ، فقد جرت العادة على إيفاد من يمثّلهم في المجاملات والمناسبات عند العجز عن المباشرة ، أو لغير ذلك من الموجبات ، وهو شائع ومتعارف عند أهل العرف.

(١) لوضوح عدم كفاية الإتيان بالعمل عن نفسه في تفريغ ذمّة الميّت وإن أهدي إليه ثوابه ، ما لم يستند العمل إليه ويضاف إلى الميّت نفسه. ومجرّد الإهداء المزبور لا يصحّح الإضافة والاستناد بوجه.

حقيقة النيابة :

(٢) ذكر (قدس سره) في بيان حقيقة النيابة وجهين :

__________________

(*) هذا هو المتعيّن ، والتنزيل يرجع إليه ، وإلّا فلا أثر له.

(١) الوسائل ١٤ : ٣٥٧ / أبواب المزار ب ١٤ ح ١.

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه ، فكأنّه هو هو ، وكأنّ فعله هو فعله.

ثانيهما : إضافة العمل إليه والإتيان به بقصد ما ثبت في ذمّته ، نظير التبرّع بأداء الدين.

أمّا الوجه الأوّل : وهو التنزيل ، فإنّما ينفع ويترتّب عليه الأثر إذا صدر ممّن بيده الجعل والاعتبار ، فإنّه مجرّد ادعاء وفرض أمر على خلاف الواقع ، فلا يملكه إلّا من بيده زمام الأُمور ، وهو الشارع الأقدس ، ولا يكاد يصح ذلك من آحاد المكلّفين الذين هم بمعزل عن مقام التشريع ، والمفروض عدم قيام دليل على التنزيل في خصوص المقام.

ثمّ إنّه على تقدير التسليم بتصدّي الشارع للتنزيل في المقام فلازمه أن يكون الفعل الصادر من النائب بذاته بمثابة الفعل الصادر عن المنوب عنه ، من دون حاجة إلى اعتبار قصد النائب ذلك ، بل حتّى وإن كان المباشر للعمل قد قصد الإتيان بالفعل عن نفسه ، فانّ المفروض هو تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه فيكون هو هو وفعله فعله. وهو كما ترى ، لا يظنّ الالتزام به من أحد ، بل هو باطل جزماً.

نعم ، ورد نظيره في من سنّ سنّة حسنة أو سيّئة ، وأنّ له أجرها وأجر من عمل بها أو وزرها ووزر من عمل بها ، فيؤجر الإنسان أو يحمل الوزر بمجرّد صدور الفعل المذكور عن غيره ممّن تبعه وإن لم يقصد التابع عنه. لكن ذلك إنّما يرتبط بمقام الجزاء على العمل والثواب والعقاب ، ولا يرتبط بمرحلة استناد العمل نفسه وحصول تفريغ ذمّة الغير به كما هو محلّ الكلام.

وعلى الجملة : إن أُريد تحقّق التنزيل المذكور من قبل الشارع فلا دليل عليه وإن أُريد تحقّقه من قبل المكلّف نفسه فلا يكاد يترتّب عليه الأثر. فالتنزيل بالمعنى المتقدّم لا محصّل له ، اللهم إلّا أن يرجع ذلك إلى الوجه الثاني.

وأمّا الوجه الثاني : وهو إضافة الفعل وإسناده إلى المنوب عنه والإتيان به بقصد أدائه عنه وبداعي تفريغ ذمّته ، نظير التبرّع بأداء دين الغير ، فهذا في حدّ

٢٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

نفسه وإن كان على خلاف القاعدة ، بلا فرق في ذلك بين باب الدين وغيره من العبادات والتوصّليات ، فانّ الإسناد إلى الغير بمجرّده لا يصيّر العمل عملاً للغير ، بحيث يترتّب عليه تفريغ ذمّته عنه ، إلّا أنّه لا مانع من الالتزام به إذا ساعد عليه الدليل.

ودعوى كون الحكم في باب الدين على طبق القاعدة ، فإنّ المال الذي يدفعه المتبرّع كدينار مثلاً مصداق حقيقي لما اشتغلت به ذمّة المدين ، فيقع هذا العمل مصداقاً للوفاء بالدين قهراً من دون توقّف في ذلك على قيام دليل شرعي عليه. مدفوعة بأنّ الدينار في مفروض المثال إنّما يكون مصداقاً حقيقة لكلّي الدينار ، لا الكلّي المضاف إلى ذمّة المدين الذي هو متعلّق الدين.

وقد ذكرنا في بحث المكاسب (١) أنّ الكلّي بما هو كلّي لا مالية له ، ولا يكاد يملكه أحد ، وإنّما المالية الاعتبارية من العقلاء ثابتة للكلّي عند إضافته إلى ذمّة من تعتبر ذمّته عندهم ، وبهذا الاعتبار صحّ بيعه وشراؤه ، وصحّ بذل الأموال بإزائه ، ووقع متعلّقا لحقّ الدائن وغير ذلك من آثار الملك. وأما مع الغض عن هذه الإضافة فهو كسراب بقيعة ، لا يكاد يبذل بإزائه شي‌ء من المال بتاتاً.

وعلى الجملة : فالدينار في المثال وإن كان مصداقاً للكلّي بما هو كلّي ويكون انطباقه على المدفوع قهريّاً ، لكن هذا الكلّي ليس ممّا تعلّق به الحقّ كي يتّصف الفعل بكونه وفاء للدين ، وإنّما الذي يستحقّه الدائن هو الكلّي المضاف إلى ذمّة المدين ، وهو الذي اشتغلت ذمّته به بواسطة الدين.

ومن الواضح أنّ الدينار المدفوع لا يكون مصداقاً لهذا الكلّي ولو كان قصد الدافع هو الوفاء بما اشتغلت به ذمّة المدين ، لعدم تأثير القصد المذكور في صيرورة المال المدفوع مصداقاً للكلّي بالعنوان المزبور كما لا يخفى.

وكيف ما كان ، فلا ينبغي الإشكال في كون الحكم بتفريغ الذمّة بذلك على خلاف القاعدة كما ذكرناه ، إلّا أنّه بعد قيام الدليل عليه شرعاً ينبغي رفع اليد

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٢ : ١٦.

٢٠٦

[١٨١٤] مسألة ٢ : يعتبر في صحّة عمل الأجير والمتبرّع قصد القربة ، وتحقّقه في المتبرّع لا إشكال فيه ، وأمّا بالنسبة إلى الأجير الذي من نيّته أخذ العوض فربما يستشكل فيه ، بل ربما يقال من هذه الجهة : إنّه لا يعتبر فيه قصد القربة بل يكفي الإتيان بصورة العمل عنه.

لكنّ التحقيق : أنّ أخذ الأُجرة داعٍ (*) لداعي القربة ، كما في صلاة الحاجة وصلاة الاستسقاء ، حيث إنّ الحاجة ونزول المطر داعيان إلى الصلاة مع القربة. ويمكن أن يقال : إنّما يقصد القربة من جهة الوجوب عليه من باب الإجارة. ودعوى أنّ الأمر الإجاري ليس عباديا بل هو توصّلي ، مدفوعة بأنّه تابع للعمل المستأجر عليه ، فهو مشترك بين التوصّلية والتعبّدية (١).

______________________________________________________

عمّا تقتضيه القاعدة.

والدليل على ذلك في باب الدين إنّما هي السيرة العقلائية ، فقد جرت السيرة على الحكم بالوفاء وتفريغ ذمّة المدين بدفع المتبرّع المال بدلاً عنه. مضافاً إلى النصوص الخاصّة الدالّة عليه المذكورة في محلّها (١).

وأمّا في باب الأعمال من العبادات وغيرها فيدلّ على ذلك الروايات الخاصّة المتقدّم ذكرها (٢) الدالّة على صحّة النيابة عن الأموات مطلقاً ، وعن الأحياء في موارد خاصّة على التفصيل المتقدّم ، ولأجل ذلك ينبغي الحكم بتفريغ ذمّة المنوب عنه بفعل النائب ، سواء أكان قد أتى به تبرعاً لأجل حبّه للمنوب عنه أم أتى به وفاءً لعقد الإجارة أو الجعالة أم لغير ذلك من الدواعي.

(١) لا إشكال في صحّة النيابة في باب التوصّليات ، وأمّا العبادات ولا سيما في فرض الإجارة أو الجعالة فربما يستشكل ذلك من وجهين :

__________________

(*) بل التحقيق أنّ حال العبادة المستأجر عليها كحال العبادة المنذورة ، وأنّ الداعي الناشئ من قبل الإيجار وهو تفريغ الذمّة مؤكّد للعبادية ، لا أنّه ينافيها.

(١) الوسائل ٢٠ : ٤٦ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٢ ح ٦ وغيره.

(٢) في ص ١٩٨ وما بعدها.

٢٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : الإشكال في تمشّي قصد القربة من النائب ، فإنّ العمل العبادي موقوف عليه لا محالة ، وهو موقوف على ثبوت الأمر بالعبادة ، والمفروض أنّه لا أمر بها بالنسبة إلى النائب ، إذ قد لا تكون ذمّته مشغولة بفائتة أصلاً ، أو يكون ما اشتغلت به ذمّته مخالفاً لما ثبت في ذمّة المنوب عنه كما إذا استنيب في الصلاة قصراً مع فرض اشتغال ذمّة النائب بالفائتة تماماً.

وأمّا الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه فهو لا يكاد يدعو إلّا من خوطب به وتوجّه إليه وهو المنوب عنه نفسه ، فكيف يقصده النائب الأجنبي عنه ليتقرّب به ، فلا يكاد يتمشّى من النائب قصد القربة المعتبر في باب العبادة ، ولا سيما في موارد الإجارة أو الجعالة حيث كان الداعي والباعث الحقيقي للنائب على العمل إنّما هو أخذ العوض غالباً ، وإن أمكن فرض غيره من الدواعي الفرعيّة كالإحسان إلى الميت أو حبّه له ونحو ذلك أحياناً ، إلّا أنّها اتفاقيّة لا دائمية ، وإنّما الغالب هو أن يكون الداعي أخذ الجعل أو الأُجرة المنافي ذلك لقصد التقرّب بالعمل.

ثانيهما : أنّه كيف يتقرّب المنوب عنه كالميّت بهذا العمل ويثاب على شي‌ء لم يفعله ولا سيما إذا لم يتسبّب هو إليه بوصيّة ونحوها ، مع أنّ التقرّب والثواب من آثار الطاعة المفروض انقطاعها بالموت؟ وأنّه كيف تفرغ ذمّة الميت عمّا اشتغلت به بعمل صادر من غيره ، وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى؟

والجواب عن الوجه الأوّل قد ظهر ممّا مرّ ، وملخصه : أنّ النيابة في حدّ نفسها إنّما وقعت متعلّقاً للأمر الاستحبابي النفسي كما هو مقتضى النصوص المتقدّم ذكرها (١). ولا ينبغي الشك في كون الأمر المذكور عباديّاً فيما إذا كان مورد النيابة من العبادات كالصلاة والصيام ونحوهما ، كما أنّه لا بدّ من قصد التقرّب بالأمر المذكور في سقوطه ، وإلّا لم تتحقّق العبادة وبالتالي لم تتحقّق النيابة المأمور بها حسب الفرض.

__________________

(١) في ص ١٩٨ وما بعدها.

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فعباديّة العمل النيابي تستدعي تعبّدية الأمر المتعلّق به بعنوان النيابة لا محالة ، فلا مناص للنائب من قصد التقرّب بهذا الأمر لكي يتّصف متعلّقه بصفة العبادة التي هي مورد النيابة ، فإنّه بدونه لم تصدر منه العبادة التي تصدّى للنيابة فيها كما هو أوضح من أن يخفى.

فما في بعض الكلمات من أنّ الأمر النيابي توصّلي لا تعبدي فلا يلزم على النائب قصد التقرّب به كلام لا أساس له ، وكيف لا يكون عباديا بعد فرض تعلّقه بما هو عبادة ، ضرورة أنّ مورد النيابة ليس هو ذات الصلاة كيف ما اتفقت ، وإنّما هي على النحو الذي اشتغلت به ذمّة المنوب عنه.

ولا شكّ في اتّصاف ذمّة المنوب عنه بالصلاة المتّصفة بكونها عبادة المتقوّمة بقصد القربة ، فلو لم يقصدها النائب كذلك لم يكن آتياً بما اشتغلت الذمّة به ، ولا كان ممتثلاً للأمر النيابي ، فالصادر عن النائب بما هو نائب إنّما هي الصلاة المقترنة بقصد القربة قطعاً.

ثمّ إنّ الداعي إلى هذا المجموع المركّب من الصلاة وقصد القربة تارة يكون هو استحبابها الذاتي ، نظراً إلى كونه إحساناً إلى الميت وصلة له ، أو لأجل حبّه له وشفقته عليه كالأب بالنسبة إلى الولد أو العكس ، فيتبرّع بالنيابة عنه.

وأُخرى يكون الداعي إليه هو الوفاء بعقد الإجارة كما في الأجير ، حتّى لا يكون أخذ الأُجرة أكلاً للمال بالباطل ، فإنّه وإن كان قد ملكها أي الأُجرة بنفس العقد إلّا أنّ استحقاقه للمطالبة بها على الوجه الشرعي يتوقّف على تسليم العمل المستأجر عليه ، فينتهي ذلك بالأخرة إلى الخوف من الله تعالى.

ولذا لو لم يكن مبالياً بأمر الدين لأمكنه المطالبة بالأُجرة ولو باخباره كذباً بإتيانه بالعمل ، حيث لا سبيل للمؤجر إلى الامتناع ، لعدم إمكان الاطّلاع على الحال من غير طريق إخباره حتّى ولو كان قد شاهده يصلّي ، لجواز أن لا يكون قاصداً للقربة أصلاً أو كان قد قصدها عن نفسه لا عن الميت ، فانّ قوام العبادة بالقصد النفسي الذي لا كاشف عنه خارجاً.

فليس الداعي للأجير هو التسلّط على العوض كي ينافي ذلك قصد التقرّب

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وإنّما الداعي له التسلّط عليه بوجه شرعي ، إذ ما لم يسلّم المعوّض لا يكون له حقّ المطالبة بالعوض ، وكان تصرّفه فيه حراماً. فالداعي بالتالي منتهٍ إلى الخوف من الله تعالى ، فيكون الأمر الإجاري مؤكّداً للعبادية لا منافياً لها ومعاضداً لا معارضاً ، كما هو الحال في النذر والشرط ضمن العقد ونحوهما.

ومنه تعرف الحال في الجعالة ، فإنّ العامل وإن كان لا يستحقّ الجعل ، كما أنّه لم يملكه أيضاً إلّا بعد تسليم العمل ، إلّا أنّ الذي يدعوه إلى الإتيان بالعبادة على وجهها مقدّمة لاستلام العوض على الوجه الشرعي إنّما هو الخوف من الله تعالى ، حتّى لا يكون تصرّفه فيه من أكل المال بالباطل.

بل قد ذكرنا في بحث المكاسب (١) عند التكلّم في المسألة أنّ هذا مطّرد في كافّة العبادات ، إذ قلّ من يعبده تعالى لكونه أهلاً لها من دون ملاحظة أيّة غاية أُخرى ، إلّا الأوحدي من البشر كمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

أمّا عامّة الناس فيعبدونه تعالى لدواعٍ أُخرويّة كالخوف من النار أو الطمع في الجنة ، أو دنيويّة كطلب التوسعة في الرزق المترتّبة على صلاة الليل مثلاً ، أو قضاء الحاجة أو الاستسقاء كما في صلاتي الحاجة والاستسقاء ، فانّ الطمع في الأُمور المذكورة يدعو إلى الإتيان بالصلاة بداعٍ قربي ، للعلم بعدم ترتّب الأُمور المذكورة عليها بدون ذلك.

فكما لا يكون مثل ذلك منافياً لعباديّة العمل كذلك الطمع في أخذ العوض في الإجارة أو الجعالة في مفروض الكلام ، لانتهاء ذلك بالأخرة إلى الداعي الإلهي ، وهو الخوف منه تعالى كما عرفت.

وأمّا الإشكال من الجهة الثانية فهو في محلّه ، ولا مدفع عنه بناءً على كون الثواب من باب الاستحقاق ، إذ كيف يعقل أن يعمل شخص ويستحقّ غيره الأجر عليه ويحصل له التقرّب أيضاً بذلك ، لا سيما إذا لم يكن هناك أيّ ارتباط

__________________

(١) مصباح الفقاهة ١ : ٤٦٣.

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بين المثاب وبين العامل حتّى ولو كان ذلك مثل التسبيب بالوصية أو الاستنابة ونحوهما.

لكنّ المبنى باطل جزماً ، فانّ الثواب المترتّب على الأعمال في باب الطاعات والعبادات ليس هو من قبيل العوض والأجر الثابتين في باب المعاملات من العقود والإيقاعات كي يكون المطيع مستحقاً على الله ثواب عمله كما يستحقه العامل ، وإنّما هو تفضّل محض ولطف بحت ، فإنّه له الملك وله الأمر (لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) فإن شاء تفضّل على عبده المسكين وجعله مشمولاً لعنايته ، وإلّا فلا.

وعليه فلا مانع من تفضّله تعالى على المنوب عنه كالنائب وحصول التقرّب لكليهما. أمّا النائب فلصدور الفعل العبادي منه قاصداً للتقرّب ، وأمّا المنوب عنه فلإضافة النائب العمل إليه وإتيانه من قبله بقصد تفريغ ذمّته ، فانّ هذا المقدار من الإضافة يكفي لكونه أي المنوب عنه مشمولاً للتفضّل وحصول التقرّب من الله تعالى كما لا يخفى.

بل ورد في بعض الأخبار : أنّ الكفّار أيضاً ينتفعون بعمل الحي لهم ، وذلك بتخفيف العذاب عنهم (٢). ولا محذور في ذلك على مبنى الالتزام بمسلك التفضّل في باب الثواب.

وأمّا الحكم بتفريغ ذمّة الميّت عمّا اشتغلت به ذمّته فهو ممّا يكشف لا محالة عن أنّ اشتغال ذمّته كان من الأوّل مشروطاً بعدم إتيان النائب بالعمل بعد موت المنوب عنه ، فهو في حال الحياة مكلّف بالعمل وتكون ذمّته مشغولة به ولا تبرأ ما لم يأت هو بالعمل ، إلّا أن يأتي به النائب بعد موته.

فتحصّل : أنّ الإشكال في الحكم بالتفريغ مدفوع بالاشتراط ، وأنّ إشكال الثواب مدفوع بالبناء على التفضّل ، وإشكال تنافي القربة مع أخذ العوض

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٢٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٧٨ / أبواب قضاء الصلوات ب ١٢ ح ٨ ، ١١ : ١٩٧ / أبواب النيابة في الحج ب ٢٥ ح ٥.

٢١١

(١٨١٥) مسألة ٣ : يجب على من عليه واجب من الصلاة أو الصيام أو غيرهما من الواجبات أن يوصي به خصوصاً مثل الزكاة والخمس والمظالم والكفّارات (*) من الواجبات الماليّة (١) ، ويجب على الوصي إخراجها من أصل التركة في الواجبات الماليّة (٢)

______________________________________________________

مدفوع بانتهاء الداعي المذكور بالأخرة إلى الخوف منه تعالى المؤكّد للعبادية كما عرفت كلّ ذلك بما لا مزيد عليه. فاندفع الإشكال في المسألة بحذافيره.

وجوب الوصية :

(١) بعد الفراغ عن صحّة النيابة وجواز الاستئجار عليها وتفريغ ذمّة المنوب عنه بعمل النائب كما مرّ كلّ ذلك ، لا ينبغي الإشكال في وجوب التسبيب إليها بالوصية لدى اشتغال الذمّة وعدم التصدّي للتفريغ مباشرة عجزاً أو عصياناً لحكومة العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف وتفريغ الذمّة عنها بامتثالها مباشرة في زمان الحياة أو بالتسبيب إلى الإتيان بها بعد الوفاة ، بعد وضوح عدم سقوط ما ثبت في الذمّة بالموت وإن انقطع به التكليف.

إذ لا مانع من اعتبار شي‌ء على الذمّة وبقائه إلى ما بعد الموت ، كما هو الحال في اعتبار الملكيّة للميّت. فوجوب الوصية مطابق للقاعدة من غير حاجة إلى ورود نصّ يدلّ عليه.

ولا فرق في ذلك بين الواجبات الماليّة كالديون والزكوات والأخماس والمظالم والكفّارات ونحوها ، وبين الواجبات البدنيّة كالصوم والصلاة ونحوهما. فتجب الوصيّة في الكلّ بمناط واحد.

(٢) من الديون وما يلحق بها ، بلا إشكال فيه كتاباً وسنة ، قال الله تعالى

__________________

(*) في خروج الكفارات عن أصل التركة إشكال بل منع ، وكذلك الحج الواجب بالنذر ونحوه.

٢١٢

ومنها الحجّ الواجب (١) ولو بنذر ونحوه.

______________________________________________________

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (١) ، حيث قدّم فيها الدين كالوصيّة على الميراث. وقد دلّت النصوص المتظافرة على أنّه يبدأ أوّلاً بتجهيز الميّت فإنّه أولى بماله ، ثمّ الدين ، ثمّ الوصيّة ، ثمّ الميراث (٢).

(١) بلا إشكال فيه أيضاً نصاً وفتوى ، سواء أوصى به أم لم يوص ، أُطلق عليه لفظ الدين أم لم يطلق ، كما سيجي‌ء البحث عنه في محلّه إن شاء الله تعالى (٣).

وأمّا الحجّ الواجب بالنذر ونحوه فهو ملحق بسائر الواجبات في عدم الخروج من الأصل ، نعم قد يظهر من بعض النصوص خروجه منه ، وهي صحيحة مسمع قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : كانت لي جارية حبلى فنذرت لله عزّ وجل إن ولدت غلاماً أن أُحِجَّه أو أحجّ عنه ، فقال : إنّ رجلاً نذر لله عزّ وجل في ابن له إن هو أدرك أن يحجّ عنه أو يُحِجَّه ، فمات الأب وأدرك الغلام بعد ، فأتى رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الغلامُ فسأله عن ذلك ، فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يُحَجَّ عنه ممّا ترك أبوه» (٤).

ويتوجّه عليه أولاً : أنّ مورد الصحيحة هو نذر الإحجاج ، بأن يحجّ بالغلام أو يبعث من يحجّ عنه إذا كان قوله : «أو أُحجّ عنه» بصيغة باب الإفعال ، أو الجامع بين الإحجاج وبين حجّه بنفسه عنه لو كان من الثلاثي المجرّد ، وعلى

__________________

(١) النساء ٤ : ١١.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٢٩ / كتاب الوصايا ب ٢٨ ح ١ [والمذكور في النصوص نصاً هو الكفن ، وأمّا غيره فلم يصرح به ، راجع شرح العروة ٩ : ١٣٨].

(٣) شرح المناسك ٢٨ : ٩١.

(٤) الوسائل ٢٣ : ٣١٦ / أبواب النذر والعهد ب ١٦ ح ١.

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التقديرين تكون الرواية أجنبية عن الحجّ الواجب على نفسه بسبب النذر الذي هو محلّ الكلام.

وثانياً : أنّ الرواية معارضة في موردها بصحيحتين دلّتا على الإخراج من الثلث دون الأصل ، وهما :

صحيحة ضريس الكناسي قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل عليه حجّة الإسلام فنذر نذراً في شكر ليحجّنّ به رجلاً ، فمات الذي نذر قبل أن يحجّ حجّة الإسلام ومن قبل أن يفي بنذره الذي نذر ، قال : إن ترك مالاً يحجّ عنه حجّة الإسلام من جميع المال ، وأُخرج من ثلثه ما يحجّ به رجلاً لنذره ، وقد وفى بالنذر ...» (١).

وصحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : رجل نذر لله إن عافى الله ابنه من وجعه ليحجّنّه إلى بيت الله الحرام ، فعافى الله الابن ومات الأب ، فقال : الحجّة على الأب يؤدّيها عنه بعض ولده ، قلت : هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه؟ فقال : هي واجبة على الأب من ثلثه أو يتطوّع ابنه فيحجّ عن أبيه» (٢).

وثالثاً : أنّ صحيحة مسمع غير صريحة في الخروج عن الأصل ، بل غايته الإطلاق في قوله (عليه السلام) : «ممّا ترك أبوه» ، فيمكن تقييده بالثلث جمعاً بينها وبين الصحيحتين الصريحتين في ذلك ، فانّ الثلث أيضاً مصداق لما ترك.

ورابعاً : أنّ التصديق بمضمون الصحيحة مشكل جدّاً ، لمخالفته للقواعد المقرّرة ، إذ المفروض هو موت الناذر قبل حصول الشرط المعلّق عليه النذر وهو إدراك الغلام ، المستلزم ذلك انحلال النذر ، فلم يفت منه حال الحياة شي‌ء كي يقضى عنه بعد موته ويقع الكلام في خروجه من الثلث أو الأصل. فعلى تقدير العمل بها لا بدّ وأن يقتصر على موردها ، جموداً في الحكم المخالف

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٧٤ / أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ب ٢٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٧٥ / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٢٩ ح ٣.

٢١٤

بل وجوب إخراج الصوم والصلاة من الواجبات البدنيّة أيضاً من الأصل لا يخلو عن قوة (*) ، لأنّها دين الله ، ودين الله أحقّ أن يقضى (١).

______________________________________________________

للقاعدة على مورد النصّ.

(١) وقع الخلاف بينهم في وجوب إخراج المذكورات من الأصل كما اختاره الماتن (قدس سره) وعدمه.

وقد استدلّ للوجوب بأنّها دين ، وكلّ دين لا بدّ وأن يخرج من الأصل. مضافاً إلى رواية الخثعمية الآتية الدالّة على أنّ دين الله أحقّ أن يقضى كما أُشير إليه في المتن.

أمّا الصغرى وهو إطلاق الدين على ذلك ففي جملة من النصوص.

منها : ما رواه السيد ابن طاوس (قدس سره) في كتابه غياث سلطان الورى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قلت له : رجل عليه دين من صلاة قام يقضيه ، فخاف أن يدركه الصبح ولم يصلّ صلاة ليلته تلك ، قال : يؤخّر القضاء ويصلّي صلاة ليلته تلك» (١).

ويتوجّه عليه : مضافاً إلى قصور السند ، لعدم الاعتداد بروايات هذا الكتاب ، لكونها في حكم المراسيل كما مرّ (٢) قصور الدلالة أيضاً ، فإنّ الإطلاق غير وارد في كلام الإمام (عليه السلام) كي يصحّ الاحتجاج به ، وإنّما وقع ذلك في كلام زرارة زعماً منه أنّه بمنزلة الدين أو كونه منه توسّعاً وتجوزاً ولا عبرة بمثله.

ومنها : ما رواه الصدوق (قدس سره) بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في جملة وصايا لقمان لابنه : «يا بنيّ إذا جاء وقت الصلاة

__________________

(*) فيه منع ، وبه يظهر الحال في المسألة الآتية.

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٦ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٩.

(٢) في ص ٢٠٠.

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا تؤخّرها لشي‌ء ، صلّها واسترح منها ، فإنّها دين ...» (١).

ويتوجّه عليه أوّلاً : أنّها ضعيفة السند ، فانّ طريق الصدوق (٢) وكذا طريق الكليني (٣) والبرقي (٤) إلى سليمان بن داود المنقري الواقع في السند ضعيف بالقاسم بن محمّد الأصفهاني ، فإنّه مجهول ولم يوثق ، نعم صحّحه العلامة (قدس سره) (٥). لكن الظاهر هو ابتناؤه على مسلكه من أصالة العدالة في كلّ إماميّ لم يرد فيه قدح.

وثانياً : أنّ إطلاق الدين عليه في كلام لقمان لا يثبت المدّعى ، وليس ذلك بحجّة عندنا. ومجرّد حكاية الإمام (عليه السلام) لذلك لا يكشف عن الإمضاء حتّى من هذه الجهة ، نظراً إلى أنّ المقصود هو الاستشهاد بكلامه لإثبات أهميّة الصلاة وحسن المبادرة إليها ، ولا نظر له (عليه السلام) إلى التنزيل المسامحي الوارد في كلامه.

ثم إنّ السيد ابن طاوس (قدس سره) في كتابه المذكور روى الحديث الثاني بعين المتن المزبور (٦). فان كان السند هو السند المتقدّم فقد عرفت حاله ، وإن كان غيره فقد سبق أنّ روايات هذا الكتاب بحكم المراسيل وغير صالحة للاعتماد عليها ، وإن كان الأقرب بل المطمأنّ به هو الأوّل. ورواها أيضاً في أمان الأخطار عن محاسن البرقي (٧). وقد عرفت ضعفه.

ومنها : ما رواه الصدوق (قدس سره) في معاني الأخبار بإسناده عن محمّد

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٤٠ / أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره ب ٥٢ ح ١ ، ٢ الفقيه ٢ : ١٩٤ / ٨٨٤.

(٢) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٦٥.

(٣) الكافي ٨ : ٣٤٨ / ٥٤٧.

(٤) كما سيأتي مصدره بعد قليل.

(٥) الخلاصة : ٤٤٠ ، الفائدة الثامنة.

(٦) الوسائل ٨ : ٢٨٢ / أبواب قضاء الصلوات ب ١٢ ح ٢٦.

(٧) الوسائل ١١ : ٤٤٠ / أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره ب ٥٢ ح ١ ، ٢ ، أمان الأخطار : ٩٩ ، المحاسن ٢ : ١٢٥ / ١٣٤٨.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ابن الحنفيّة في حديث الأذان لمّا اسري بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء : «ثم قال : حيّ على الصلاة ، قال الله جلّ جلاله : فرضتها على عبادي وجعلتها لي ديناً ...» (١) بناءً على رواية «ديناً» بفتح الدال ، وإن كان الأولى حينئذ إبدال كلمة «لي» بـ «عليهم» كما لا يخفى.

ويتوجّه عليه : ضعف السند بالإرسال ، فإنّ ابن الحنفيّة لم يكن موجوداً في زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلا بدّ وأن تكون الرواية مرسلة ، ولم يعلم طريق ابن الحنفية إلى ذلك.

فالمتحصّل : أنّه لم يثبت إطلاق الدين على مثل الصلاة ونحوها من الواجبات البدنية في شي‌ء من الروايات المعتبرة.

وعلى فرض التسليم وثبوت الإطلاق فالكبرى وهي أنّ كلّ ما يطلق عليه الدين يخرج من الأصل ممنوعة ، فإنّ ما يستدلّ به لذلك أحد أمرين :

الأوّل : ما يظهر من المتن من أنّ دَين الله أحقّ بالقضاء. وهذه الفقرة مقتطعة من رواية الخثعميّة لما سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقالت : «إنّ أبي أدرك فريضة الحج شيخاً زمناً لا يستطيع أن يحجّ ، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان ينفعه ذلك؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحقّ بالقضاء» (٢).

لكنّ الرواية ضعيفة السند ، فإنّها غير مرويّة من طرقنا. على أنّها قاصرة الدلالة ، إذ ليس مفادها سوى كون دين الله أحقّ بالقضاء من سائر الديون اهتماماً بشأن هذا الدين ، وهذا لا يستوجب الخروج من الأصل ، إذ لا دلالة للرواية عليه بوجه.

الثاني : الأدلّة العامّة من الكتاب والسنة الدالّة على أنّ الدين يخرج من

__________________

(١) المستدرك ٤ : ٧٠ أبواب الأذان والإقامة ب ٣٧ ح ٢ ، معاني الأخبار : ٤٢ / ٤.

(٢) [لم نعثر على النص المذكور في رواية الخثعمية ، راجع السنن الكبرى ٤ : ٣٢٨ ، نعم في سنن النسائي ٥ : ١١٨ : ... قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق].

٢١٧

[١٨١٦] مسألة ٤ : إذا علم أنّ عليه شيئاً من الواجبات المذكورة وجب إخراجها من التركة وإن لم يوص به (١).

______________________________________________________

الأصل كما مرّ.

ويتوجّه عليه : أنّ تلك الأدلّة خاصّة بالديون المالية بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، وباعتبار السنخية بين الخارج والمخرج عنه ، فانّ المناسب للإخراج عن تركة الميت قبل التقسيم وما يصحّ استثناؤه من أمواله إنّما هي الديون المالية دون الواجبات البدنية وإن كان قد أُطلق الدين عليها ، إذ لا دليل على أنّ كلّ ما أُطلق عليه لفظ الدين يخرج من الأصل.

فتلخّص من جميع ما مرّ : أنّ الخارج من الأصل إنّما هي الديون فحسب أوصى بها أم لم يوص ، دون سائر الواجبات مثل الصلاة ونحوها ، لمنع صدق الدين عليها أوّلاً ، ومع تسليم الصغرى فالكبرى في حيّز المنع.

بل إنّ الحكم المذكور لا يعمّ مثل النذور والكفّارات ، لعدم كونها من الواجبات المالية وإن احتاجت إلى صرف المال ، فانّ الواجب المالي عبارة عن كون الواجب هو المال ، بحيث تكون الذمّة مشغولة بنفس المال ، كما في مورد الديون.

وأمّا في مورد النذور والكفّارات فالثابت في الذمّة إنّما هو الفعل أعني الإنفاق على الفقراء أو الإعطاء للمنذور له ، غايته أنّ امتثال هذا التكليف يحتاج إلى صرف المال ، كما هو الحال في غالب الواجبات مثل الحج والصوم والوضوء ونحوها. فليس في مواردها سوى التكليف المحض ، دون الحكم الوضعي.

ولو سلّم صدق عنوان الواجب المالي عليها لم يستلزم ذلك وجوب الإخراج من الأصل ، إذ لم يثبت وجوب إخراج كل واجب مالي من الأصل حيث لا دليل على ذلك في غير الدين كما عرفت.

(١) لا شبهة في أنّ كلّ واجب محكوم عليه بالإخراج من أصل التركة

٢١٨

والظاهر أنّ إخباره بكونها عليه يكفي في وجوب الإخراج من التركة (٢).

______________________________________________________

لا يفرق فيه بين صورتي الإيصاء به وعدمه ، فإنّه دين في ذمّته وخروج الدين من الأصل غير موقوف على الوصية.

إلّا أنّ مصداق هذه الكبرى منحصر عندنا في الديون المالية وحجّة الإسلام كما مر آنفاً ، خلافا للماتن حيث عمّم ذلك لجميع الواجبات حتى البدنية كالصلاة والصوم ، وقد عرفت ضعفه.

(٢) الحكم في فرض ثبوت اشتغال الذمّة بالعلم أو بطريق علمي ظاهر وأمّا إذا أخبر الميّت بذلك وشكّ في ثبوته لأجل الشك في صدقه فهل يكون إخباره هذا حجّة في حقّ الوارث بحيث يكون ملزماً بالإخراج من الأصل أو لا؟

أمّا في الإخبار عن الدين المالي فلا ينبغي الشك في حجّيته ونفوذه ، فإنّه إقرار بالدين ، وهو بمجرّده كافٍ لإثبات اشتغال الذمّة به. ولذا لو أقرّ بذلك عند المقرّ له وهو الدائن لكان له أن يطالبه بذلك ، ووجب عليه الوفاء به عملاً بإقراره.

وهكذا الحال في الإخبار عن حجّة الإسلام ، حيث إنّه كان مأموراً بأن يبعث أحداً ليحجّ عنه فيما لو كان عاجزاً عن المباشرة بنفسه ، فيكون هذا الإخبار الراجع إلى الإقرار محقّقاً لموضوع الدين أو الحجّ ، المحكوم بالخروج من الأصل.

نعم ، ورد في بعض النصوص أنّه إذا أقرّ بالدين في حال مرضه وكان متّهماً لاحتمال أن يكون ذلك منه احتيالاً لحرمان الورثة من التركة لم ينفذ في الزائد على مقدار الثلث (١). إلّا أنّ هذا بحث آخر أجنبي عن المقام ، وسوف

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٢٩١ / كتاب الوصايا ب ١٦ ح ٢ وغيره.

٢١٩

[١٨١٧] مسألة ٥ : إذا أوصى بالصلاة أو الصوم ونحوهما ولم يكن له تركة لا يجب على الوصيّ أو الوارث إخراجه من ماله ولا المباشرة إلّا ما فات منه لعذر (*) من الصلاة والصوم حيث يجب على الوليّ (١) وإن لم يوص بها.

______________________________________________________

يجي‌ء الكلام حوله في محلّه إن شاء الله تعالى (١). فالإقرار في حال الصحّة بالدين ممّا لا إشكال في نفوذه.

وأمّا الإخبار عن غير الديون مثل كونه مشغول الذمّة بقضاء صلوات أو صيام لفترة معينة فلا دليل على حجيّته كي يكون نافذاً على الوارث ، إذ لا يترتّب عليه أثر في حال الحياة ، وإنّما يظهر أثره بعد الموت لو كان صادقاً ، فلم يتحقّق به عنوان الدين في حال الحياة حتّى يجب على الوارث إخراجه من الأصل.

والتمسّك لذلك بما ورد من أنّ «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» فيه :

أوّلاً : أنّ هذه الرواية لم ترد من طرقنا (٢) وإن صحّ مضمونها ، وإنّما هي نبويّة حكاها في عوالي اللئالي (٣).

وثانياً : أنّ مضمونها غير منطبق على المقام ، فإنّ إقرار العقلاء إنّما يجوز على أنفسهم لا على ورّاثهم. فلا ينفذ ذلك في حقّ الغير.

فالصحيح : أنّ الإخبار بمثل هذه الأُمور لا يكون حجّة ، فلا يجب العمل به.

(١) وهو الولد الأكبر ، فإنّه يجب عليه مباشرته لما فات من والده من الصلاة والصيام ، أوصى بهما أم لا ، كان له مال أم لم يكن ، فانّ هذا حقّ ثابت

__________________

(*) بل مطلقاً على الأحوط ، بل الأظهر.

(١) [لم نعثر عليه].

(٢) يمكن الاستدلال له بصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) «... ولا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه» الوسائل ٢٧ : ٣٧٨ / أبواب الشهادات ب ٣٢ ح ٤ ، بعد وضوح التعدّي إلى العادل بالفحوى.

(٣) المستدرك ١٦ : ٣١ / أبواب الإقرار ب ٢ ح ١ ، عوالي اللئالي ١ : ٢٢٣ / ١٠٤.

٢٢٠