موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٦

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى الجملة : أنّ الصحيحة مسوقة لبيان حكم الفائتة في حدّ ذاتها ، وأنّ البدار إليها حينما يذكرها محبوب مطلقاً في أيّ مورد ذكرها ولو كان ذلك بعد دخول وقت الحاضرة وبعد الاشتغال بها مع إمكان العدول.

والتفريع الوارد فيها مترتّب على هذا الحكم ، وليست بناظرة إلى حكم الحاضرة واعتبار الترتيب بينها وبين الفائتة تعبّداً مع الغضّ عن محبوبية البدأة بالفائتة في حدّ ذاتها كي يستفاد منها اشتراط الحاضرة بسبق الفائتة.

ومنها : صحيحة زرارة الطويلة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «إذا نسيت صلاة ، أو صلّيتها بغير وضوء ، وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ فأذّن لها وأقم ثمّ صلّها ، ثم صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة. وقال قال أبو جعفر (عليه السلام) : وإن كنت قد صلّيت الظهر وقد فاتتك الغداة فذكرتها فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر ، ومتى ما ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها. وقال : إذا نسيت الظهر حتى صلّيت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاولى ثمّ صلّ العصر ، فإنّما هي أربع مكان أربع. وإن ذكرت أنّك لم تصلّ الاولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين فانوها الاولى ، ثمّ صل الركعتين الباقيتين وقم فصلّ العصر. وإن كنت قد ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتى دخل وقت المغرب ولم تخف فوتها فصلّ العصر ثمّ صلّ المغرب ، فان كنت قد صلّيت المغرب فقم فصلّ العصر. وإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ، ثمّ ذكرت العصر فانوها العصر ثمّ قم فأتمّها ركعتين ثمّ تسلّم ، ثمّ تصلّي المغرب. فان كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب فقم فصلّ المغرب ، وإن كنت ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ثمّ سلّم ، ثمّ قم فصلّ العشاء الآخرة. فإن كنت قد نسيت العشاء الآخرة حتى صلّيت الفجر فصلّ العشاء الآخرة ، وإن كنت ذكرتها وأنت في الركعة الأُولى أو في الثانية من الغداة فانوها العشاء ، ثمّ قم

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

فصلّ الغداة وأذّن وأقم. وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعاً فابدأ بهما قبل أن تصلّي الغداة ، ابدأ بالمغرب ثمّ العشاء ، فان خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بهما فابدأ بالمغرب ثمّ صلّ الغداة ثمّ صلّ العشاء ، وإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثمّ صلّ المغرب والعشاء ، ابدأ بأوّلهما لأنّهما جميعاً قضاء ، أيّهما ذكرت فلا تصلّهما إلّا بعد شعاع الشمس. قال قلت : ولم ذاك؟ قال : لأنّك لست تخاف فوتها» (١).

ومحلّ الاستشهاد بالرواية ثلاث فقرأت منها :

الاولى : قوله (عليه السلام) : «وإن كنت قد ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتّى دخل وقت المغرب ولم تخف فوتها فصلّ العصر ، ثمّ صلّ المغرب ...» ، حيث دلّ على لزوم تقديم العصر الفائتة على المغرب ما لم يخف فوتها.

ويتوجّه عليه أوّلاً : أنّ المراد من خوف فوت المغرب فوتها في وقت الفضيلة ، دون الإجزاء كما تقدّم (٢) ، فانّ الغالب بل الشائع في تلكم العصور هو تفريق الصلوات الخمس اليوميّة بالإتيان بكلّ واحدة منها في وقت فضيلتها وعليه فيكون مفاد الفقرة : أنّه لدى خوف فوت وقت فضيلة المغرب يقدّم المغرب على الفائتة. فتكون إذن على خلاف المطلوب أدلّ.

وثانياً : أنّ المنظور إليه في الصحيحة كما يشهد به قوله (عليه السلام) في صدر الرواية : «وقد فاتتك الغداة فذكرتها فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر ، ومتى ما ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها» بيان حكم الفائتة في حدّ نفسها ، وأنّ البدأة بها متى ما ذكرها محبوبة وجوباً أو استحباباً ، وأنّ المبادرة إليها في أيّ ساعة ذكرها أمر مرغوب فيه بنحو اللزوم أو الندب ، على الخلاف المتقدّم في مسألة المواسعة والمضايقة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

(٢) في ص ١٧٦.

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فهذه الفقرة وما يضاهيها من فقرأت الرواية متفرّعة على هذا الحكم ، ومبتنية على هذا الأساس ، وليست الصحيحة ناظرة إلى بيان حكم الحاضرة من حيث هي كي تدلّ على اشتراط الترتيب بين الفائتة والحاضرة تعبّداً مع قطع النظر عن تلك المسألة ، فإنّ سياقها يشهد بعدم كونها في مقام البيان من هذه الناحية أصلاً كما ذكرنا ذلك في صحيحة عبد الرحمن ، لتوافقهما مضموناً من هذه الناحية. والجواب هنا بعينه هو الجواب هناك.

الثانية : قوله (عليه السلام) : «وإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ثمّ ذكرت العصر فانوها العصر» ، حيث حكم (عليه السلام) بالعدول من الحاضرة إلى الفائتة فيما إذا كان التذكّر في الأثناء ، فإنّه لولا اعتبار الترتيب بين الأمرين لم يكن وجه للحكم بالعدول.

ويتوجّه عليه : أنّ الوجه في الحكم بالعدول إنّما هو التنبيه على محبوبية البدار والإتيان بالفائتة فوراً متى ما تذكّر الفائتة وفي أيّة ساعة ذكرها ، حتّى ولو كان ذلك أثناء الحاضرة مع إمكان العدول كما نبّه على ذلك في صدر الرواية.

والأمر بالعدول إنّما وقع دفعاً لما قد يتوهّم من عدم إمكان التدارك بعد الشروع في الحاضرة ، فيكون وارداً مورد توهّم الحظر ، فلا يدلّ على الوجوب ليثبت الاشتراط ، بل أقصاه الجواز أو الاستحباب ، رعاية لما في المبادرة إلى الفائتة من المحبوبية النفسية. فهذا الحكم أيضاً من فروع الحكم في تلك المسألة ولا يرتبط بحكم الحاضرة.

الثالثة : قوله (عليه السلام) : «وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعاً فابدأ بهما قبل أن تصلّي الغداة» ، حيث دلّ على لزوم تقديم الفائتتين على الغداة الحاضرة.

وجوابه أيضاً يعلم ممّا سبق ، فانّ التقديم المزبور إنّما يكون من متفرّعات

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم بمحبوبية البدار إلى الفائتة ، وليس ذلك بحكم تعبّدي مستقل متعلّق بالحاضرة من حيث هي.

وعلى الجملة : أنّ الجواب عن الصحيحة بكلمة واحدة ، وهي أنّها مسوقة لبيان حكم الفائتة في نفسها ، وتدلّ على محبوبية المبادرة إليها متى ما ذكرها وجوباً أو استحباباً ، وغير ناظرة إلى بيان حكم الحاضرة ليثبت بها الاشتراط. وعليه فيسقط الاستدلال بها بفقراتها الثلاث.

والمتحصّل من جميع ما مرّ : أنّ النصوص التي استدل بها للمضايقة واشتراط الترتيب بين الحاضرة والفائتة كلّها ساقطة وغير صالحة للاستدلال فانّ مجموعها ست روايات كما عرفت ، والثلاث الأخيرة قاصرة الدلالة وإن صحّت أسنادها ، وأمّا الثلاث الأُول فهي ضعيفة السند والدلالة ، هذا.

وعلى تقدير التنزّل وتسليم دلالتها على اعتبار تقديم الفائتة على الحاضرة فهي معارضة بطائفة أُخرى من النصوص وجملة منها صحاح السند دلّت على العكس وأنّه يجوز تقديم الحاضرة على الفائتة ، وهي :

صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إن نام رجل ولم يصلّ صلاة المغرب والعشاء أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة ...» (١).

حيث دلّت صريحاً على لزوم تقديم الحاضرة على صلاتي العشاءين الفائتتين. ولا يقدح فيها اشتمال صدرها على ما لا يقول المشهور به وهو امتداد وقت العشاءين إلى الفجر ، إذ لا نرى مانعاً من الالتزام بذلك بعد مساعدة الدليل عليه ، كما التزمنا به في محلّه ، وإن كان آثماً في التأخير إلى ذلك الوقت بدون عذر ، وقد مرّ تفصيله في بحث الأوقات (٢)

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٨ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٣.

(٢) شرح العروة ١١ : ١٢٨.

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على أنّ تعيّن طرح هذه الفقرة من الرواية لمخالفتها لمذهب المشهور لا يمنعنا عن الاستدلال بالفقرة الأُخرى على المطلوب ، حيث قد تقرّر في محلّه عدم التلازم بين فقرأت الرواية الواحدة في الحجّية (١).

وصحيحة عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إن نام رجل أو نسي أن يصلّي المغرب والعشاء الآخرة ، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة ، وإن استيقظ بعد الفجر فليصلّ الصبح ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس» (٢) ، ومثلها صحيحة عبد الله بن سنان التي أشار إليها صاحب الوسائل في ذيل هذه الصحيحة.

هذه الصحاح الثلاث قد دلّت كما ترى على لزوم تقديم الحاضرة على الفائتة ، فتقع المعارضة بينها وبين النصوص المتقدّمة لا محالة.

وأحسن وجوه الجمع بين الطائفتين هو حمل الطائفة الأُولى على صورة عدم خوف فوت وقت الفضيلة للصلاة الحاضرة ، حيث تقدّم الفائتة حينئذ عليها والطائفة الثانية على خوف الفوت فتقدّم الحاضرة إذن عليها ، ترجيحاً لفضيلة الوقت على فضيلة المبادرة إلى الفائتة.

ويشهد للجمع المذكور ما ورد في صحيحتي صفوان وزرارة الطويلة المتقدّمتين (٣) وغيرهما من التصريح بالتفصيل المذكور بالنسبة إلى صلاة المغرب وأنّه تقدّم الظهر أو العصر الفائتة عليها ما لم يخف فوتها المراد به خوف فوت وقت فضيلة المغرب كما تقدّم ، وإلّا قدّم المغرب على الفائتة.

فبهذه القرينة يحكم باختلاف موردي الطائفتين ، وبه ترتفع المعارضة من البين.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٤٢٨.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٨٨ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٤.

(٣) تقدّم ذكر صحيحة صفوان في ص ١٧٨ وصحيحة زرارة في ص ١٨١.

١٨٥

خصوصاً في فائتة ذلك اليوم ، بل إذا شرع في الحاضرة قبلها استحبّ له العدول منها إليها إذا لم يتجاوز محلّ العدول (١).

______________________________________________________

نعم ، ظاهر مرسلة جميل المروية في الوسائل تارة عن المحقّق (قدس سره) في المعتبر (١) وفيها : «بعد العشاء» ، وأُخرى بإسناده عن جميل (٢) بلفظة «عند العشاء» كما مرّ الكلام حول ذلك مستقصى في المسألة (١٦) (٣) هو تقديم الحاضرة مطلقاً حتّى في غير صورة المزاحمة لوقت الفضيلة ، معلّلاً بعدم الأمن من الموت فيكون قد ترك فريضة الوقت.

لكنّها ضعيفة السند ، ولا تصلح للاعتماد عليها. ومع الغضّ عن ذلك فالتعليل الوارد فيها غير قابل للتصديق ، ويجب ردّ علمه إلى أهله ، فإنّه إنّما يناسب الحكم بتقديم الحاضرة على أمر مباح أو مستحب ، دون تقديمها على الفائتة التي هي كالحاضرة في الوجوب وأنّ كلتيهما من فرائض الله سبحانه وتعالى.

فانّ مجرّد عدم الأمن من الموت لا يصلح لترجيح إحداهما على الأُخرى إلّا إذا ثبت من الخارج كون صاحبة الوقت أولى بالمراعاة ، وإلّا فالعلم بالموت ونفرضه بعد دقيقتين من الوقت مثلاً لا يستوجب تقديم الحاضرة فضلاً عن عدم الأمن منه ، وذلك لأنّ الفائتة ممّا تشترك مع الحاضرة في العلّة المذكورة ، ولا مزيّة لإحداهما على الأُخرى كما لا يخفى.

(١) بقي في المسألة قولان :

أحدهما : التفصيل بين فائتة اليوم وبين فائتة سائر الأيام ، فقد قيل بلزوم تقديم الفائتة على الحاضرة في الأوّل دون الثاني.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٩ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٦ ، المعتبر ٢ : ٤٠٧.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٥٧ / أبواب قضاء الصلوات ب ٢ ح ٥.

(٣) في ص ١٣٧.

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والظاهر أنّ المستند للتفصيل المذكور إنّما هو صحيحتا صفوان وزرارة الطويلة المتقدّمتان (١) ، حيث إنّهما قد دلّتا على تقديم الظهر أو العصر المنسيّة حتى غربت الشمس على المغرب ، وكذا العشاءين على الفجر.

ويتوجّه عليه مضافاً إلى ما عرفت من قصور الدلالة وأنّهما على خلاف المطلوب أدلّ ، أنّهما معارضتان بما دلّ على العكس ، أي لزوم تقديم الحاضرة على الفائتة من ذلك اليوم ، وهي صحاح أبي بصير وابني مسكان وسنان المتقدّم ذكرها الدالة على لزوم تقديم صلاة الفجر الحاضرة على العشاءين الفائتتين من ذلك اليوم.

ثانيهما : التفصيل بين اشتغال الذمة بفائتة واحدة سواء أكانت من ذلك اليوم أم من غيره ، وبين اشتغالها بفوائت متعدّدة ، فيجب التقديم في الأول دون الثاني. وكأنّ المستند له صحيحة عبد الرحمن (٢) المتقدّمة ، بحمل التنوين في قوله : «نسي صلاة» على التنكير.

ويتوجّه عليه : أنّ حمل التنوين على التنكير خلاف الظاهر ، ولا يصار إليه بدون قرينة ، بل الأصل فيه هو التمكّن كما لا يخفى. على أنّها في نفسها قاصرة الدلالة على اعتبار الترتيب كما عرفته سابقاً. ثم إنّ هذه الرواية صحيحة السند ، إذ ليس في سندها من يغمز فيه سوى معلى بن محمد ، وهو وارد في أسانيد كامل الزيارات.

ولا يقدح فيه قول النجاشي (رحمه الله) في حقّه : إنّه مضطرب الحديث والمذهب (٣). فانّ الاضطراب في المذهب لا ينافي الوثاقة كما هو ظاهر ، وكذا الاضطراب في الحديث ، إذ ليس معنى ذلك أنّه ممّن يضع الحديث ويكذب كي

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٩ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٧ ، ٢٩٠ / ب ٦٣ ح ١ ، وقد تقدمتا في ص ١٧٨ ، ١٨١.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٩١ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ٢ وقد تقدّمت في ص ١٧٩.

(٣) رجال النجاشي : ٤١٨ / ١١١٧.

١٨٧

[١٨٠٥] مسألة ٢٩ : إذا كانت عليه فوائت أيّام وفاتت منه صلاة ذلك اليوم أيضاً ، ولم يتمكّن من جميعها أو لم يكن بانياً على إتيانها فالأحوط استحباباً أن يأتي بفائتة اليوم قبل الأدائية (١) ، ولكن لا يكتفي بها (*) ، بل بعد الإتيان بالفوائت يعيدها أيضاً مرتّبة عليها.

______________________________________________________

يكون ذلك طعناً في الرجل نفسه وكاشفاً عن تضعيفه إياه ، وإنّما هو طعن في أحاديثه وأنّها ليست مستقيمة ولا تكون على نمط واحد ، وإنّما يروي الحديث تارة عن الثقة وأُخرى عن الضعيف ، وقد يروي المناكير وغيرها ، فلا تكون أحاديثه على نسق واحد.

وعلى الجملة : أنّ هذه العبارة لا تقتضي القدح في وثاقه الرجل كي يعارض به التوثيق المستفاد من وروده في أسانيد كامل الزيارات.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الأقوى ما هو المشهور بين المتأخّرين من المواسعة وعدم اشتراط الحاضرة بتقديم الفائتة عليها ، فيتخيّر المكلّف بين تقديم أيّ منهما شاء ، وإن كان الأفضل تقديم صاحبة الوقت عند المزاحمة مع وقت الفضيلة رعاية لفضيلة الوقت ، وإلّا كان الأفضل تقديم الفائتة رعاية لاستحباب المبادرة إليها. وقد علم الوجه في ذلك ممّا مرّ.

(١) لاحتمال الترتيب بين الحاضرة وفائتة اليوم خاصة كما هو أحد الأقوال في المسألة على ما مرّ (١) ، وأمّا الإعادة فللزوم مراعاة الترتيب في قضاء الفوائت بتقديم السابق في الفوت فالسابق ، فتعاد تحفظاً على الترتيب المذكور. فالاحتياط مبني على مراعاة الجمع بين القولين.

وحيث إنّه (قدس سره) كان قد بنى على عدم اعتبار الترتيب بين الحاضرة وبين الفائتة مطلقاً حتّى فائتة اليوم نفسه فلذلك كان الاحتياط بالتقديم استحبابياً.

__________________

(*) على الأحوط الأولى.

(١) في ص ١٨٦.

١٨٨

[١٨٠٦] مسألة ٣٠ : إذا احتمل اشتغال ذمّته بفائتة أو فوائت يستحبّ له تحصيل التفريغ بإتيانها احتياطاً (١) ، وكذا لو احتمل خللاً فيها وإن علم بإتيانها.

______________________________________________________

كما أنّه من أجل بنائه (قدس سره) على لزوم مراعاة الترتيب بين الفوائت أنفسها حكم بعدم الاكتفاء ولزوم إعادة الفائتة.

ولكنك عرفت فيما تقدّم (١) عدم تمامية كلا المبنيين ، وأنّ الترتيب غير معتبر مطلقاً لا بين الفوائت أنفسها ولا بينها وبين الحاضرة. فكما أنّه لا يلزم تقديم فائتة اليوم لا تلزم الإعادة أيضاً ، بل يجوز الاكتفاء بها ، وإن كانت الإعادة أولى وأحوط.

استحباب القضاء :

(١) القضاء في الفرض المذكور وإن لم يكن لازماً لقاعدة الحيلولة أو أصالة البراءة على التفصيل المتقدّم (٢) بحسب اختلاف الموارد إلّا أنّه لا ريب في كونه احتياطاً ، وهو حسن على كل حال عقلاً وشرعاً بعد احتمال الفوت ، فيحسن تفريغ الذمّة عن التكليف المحتمل ، وإن كان ذلك مدفوعاً بالأصل.

وقد وردت طائفة كثيرة من الروايات ولا يبعد بلوغها حدّ التواتر قد أكدت على الاحتياط في أمر الدين ، ومضمونها : أخوك دينك ، فاحتط لدينك (٣) المحمولة على الاستحباب ، وإن كانت في بعض الموارد محمولة على الوجوب كما قرّر ذلك في محلّه (٤).

__________________

(١) في ص ١٨٧ ، ١٣٦ وما بعدها.

(٢) في ص ١٥٤ ١٥٥.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٤٦ ، ٦١ ، ١ وغيرها من أخبار هذا الباب وغيره.

(٤) مصباح الأُصول ٢ : ٣٠١.

١٨٩

[١٨٠٧] مسألة ٣١ : يجوز لمن عليه القضاء الإتيان بالنوافل على الأقوى ، كما يجوز الإتيان بها بعد دخول الوقت قبل إتيان الفريضة كما مرّ سابقا (١).

[١٨٠٨] مسألة ٣٢ : لا يجوز الاستنابة في قضاء الفوائت ما دام حياً (٢) وإن كان عاجزاً عن إتيانها أصلاً.

______________________________________________________

ومنه تعرف الحال في حسن الاحتياط في قضاء ما يحتمل الخلل في أدائه وإن علم بأصل الإتيان به ، فانّ الاحتمال المذكور وإن كان مدفوعاً بقاعدة الفراغ إلّا أنّ احتمال الخلل واقعاً المساوق لاحتمال الفوت ثابت وجداناً ، فيستحب الاحتياط وتحصيل التفريغ عن التكليف الاحتمالي لما ذكر.

النافلة مع وجوب القضاء :

(١) مرّ الكلام في ذلك مستقصى في باب المواقيت (١) فلا نعيد ، فانّ هذه المسألة من جملة أحكام النافلة في نفسها ، حيث ينبغي البحث هناك عن جواز الإتيان بالنافلة مع اشتغال الذمة بالفريضة أدائية كانت أم قضائية ، وليست من أحكام القضاء.

ثم إنّ محلّ البحث في جواز الإتيان بالنافلة لمن عليه الفريضة إنّما هي النوافل غير المرتّبة ، وأمّا المرتّبة كنوافل الظهرين فلا إشكال في الجواز كما هو ظاهر.

استنابة الحي :

(٢) فإنّ مقتضى إطلاق أدلّة التكاليف أداءً وقضاءً اعتبار المباشرة وعدم السقوط بفعل الغير ، تطوعاً أم استنابة ، فيحتاج السقوط في موردها إلى الدليل الخاص المخرج عن الإطلاق. وحيث لا دليل على ذلك في المقام وإن

__________________

(١) شرح العروة ١١ : ٣٣٧.

١٩٠

[١٨٠٩] مسألة ٣٣ : يجوز إتيان القضاء جماعة ، سواء كان الإمام قاضياً أيضاً أو مؤدّياً (١) ، بل يستحبّ ذلك. ولا يجب اتحاد صلاة الإمام والمأموم ، بل يجوز الاقتداء من كلّ من الخمس بكلّ منها.

______________________________________________________

ثبت ذلك في بعض الموارد كما في الحجّ ، وفي الطواف مع العجز عنه وعن الإطافة أيضاً ، فالمحكّم هنا هو الإطلاق.

القضاء جماعة :

(١) للإطلاق في أدلّة الجماعة ، بناءً على ثبوته كما هو الصواب على ما سيجي‌ء في محلّه إن شاء الله تعالى (١) ، مضافاً إلى النصوص الخاصّة الواردة في المقام.

أمّا إذا كان الإمام والمأموم كلاهما قاضياً فتدلّ عليه الأخبار الصحيحة الواردة في رقود النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه عن صلاة الفجر وقضائها بهم جماعة بعد التحويل من ذلك المكان ، كما تقدّم الكلام على ذلك (٢). فانّا وإن كنّا في تردّد في الأخذ بالأخبار المذكورة من حيث الحكاية لنومه (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الغداة ، بل إنّه يشكل التصديق بها من هذه الجهة كما سبق ، إلّا أنّ ذلك لا يمنع عن العمل بها في الفقرة الأخيرة منها الدالّة على محلّ الكلام.

وأمّا إذا كان المأموم قاضياً فلموثّقة إسحاق بن عمّار قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : تقام الصلاة وقد صلّيت ، فقال : صلّ واجعلها لما فات» (٣).

وقد رواها الشيخ (قدس سره) بإسناده وفيه : سلمة صاحب السابري (٤).

__________________

(١) لاحظ شرح العروة ١٧ : ٧ ٨.

(٢) في ص ١٦٣ ، ١٦٧ ، شرح العروة ١١ : ٣٤٠ ٣٤١.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٠٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٥ ح ١.

(٤) التهذيب ٣ : ٥١ / ١٧٨.

١٩١

[١٨١٠] مسألة ٣٤ : الأحوط لذوي الأعذار تأخير القضاء إلى زمان رفع العذر (*) إلّا إذا علم بعدم ارتفاعه إلى آخر العمر ، أو خاف مفاجاة الموت (١).

______________________________________________________

ورواها الصدوق (رحمه الله) (١) ، وفي سنده علي بن إسماعيل بن عيسى (٢). وكلاهما من رجال كامل الزيارات.

وأمّا العكس وهو ما إذا كان الإمام قاضياً فلصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) : إنّي أحضر المساجد مع جيرتي وغيرهم فيأمرونني بالصلاة بهم وقد صلّيت قبل أن آتيهم ، وربما صلّى خلفي من يقتدي بصلاتي والمستضعف والجاهل إلى أن قال فكتب (عليه السلام) : صلّ بهم» (٣).

فانّ الظاهر كون الصلاة الثانية محسوبة قضاء (٤) ، لأجل إتيانه بفريضة الوقت قبل ذلك وسقوط الأمر به لا محالة.

قضاء ذوي الأعذار :

(١) قد تكرّر منه (قدس سره) نظير ذلك في المسائل المتقدّمة ، وقد سبق منّا أيضاً في غير واحد من مطاوي هذا الشرح أنّ الأقوى هو جواز البدار حتّى مع احتمال الاستمرار ورجاء الزوال ، استناداً إلى استصحاب بقاء العذر إلى نهاية الوقت بناءً على جريانه في الأُمور الاستقبالية كما هو الصحيح.

__________________

(*) والأظهر جواز البدار فيما لم يعلم زوال العذر ، وفي وجوب الإعادة بعد الزوال وعدمه تفصيل ، فان كان الخلل في الأركان وجبت الإعادة ، وإلّا فلا.

(١) الفقيه ١ : ٢٦٥ / ١٢١٣.

(٢) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٥.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٠١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٤ ح ٥.

(٤) بل ظاهرها أنّها معادة استحباباً كما سيجي‌ء التصريح به في المسألة الثالثة من فصل صلاة الجماعة.

١٩٢

[١٨١١] مسألة ٣٥ : يستحبّ تمرين المميّز من الأطفال على قضاء ما فات منه من الصلاة ، كما يستحبّ تمرينه على أدائها ، سواء الفرائض والنوافل ، بل يستحبّ تمرينه على كلّ عبادة. والأقوى مشروعيّة عباداته (١).

______________________________________________________

وحينئذ فان لم ينكشف الخلاف اجتزأ بما أتى به ، وإلّا فحيث كان الأمر الاستصحابي من الحكم الظاهري وهو ممّا لا يجزي عن الأمر الواقعي فإن كان الخلل المنكشف في أحد الأركان أعاد ، وإلّا بنى على الصحّة ، لصحيح «لا تعاد ...» (١).

تمرين الأطفال على القضاء :

(١) تقدّم الكلام حول المسألة أيضاً في الأبحاث السابقة من هذا الشرح (٢) فلا موجب للإعادة إلّا على سبيل الإشارة فنقول :

إنّ الأقوى مشروعية عبادات الصبيّ ، لا لإطلاق أدلّة التكاليف بدعوى شمولها للبالغين وغيرهم وأنّ حديث رفع القلم عن الصبي (٣) إنّما يرفع الإلزام فقط فتبقى المشروعية والرجحان ، إذ فيه ما لا يخفى.

بل لما ورد عنهم (عليهم السلام) من أنّه مروا صبيانكم بالصلاة والصيام (٤) الشامل بإطلاقه لكلّ من الأداء والقضاء ، والأمر بالأمر بالشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء كما حقّق في محلّه (٥).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨.

(٢) شرح العروة ٣ : ١٤٢ ، ٨ : ٢٣٩.

(٣) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١ ، ٢٩ : ٩٠ / أبواب القصاص في النفس ب ٣٦ ح ٢ وغيرهما.

(٤) الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥ ، ٧ ، ١٠ : ٢٣٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٩ ح ٣.

(٥) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٧٤.

١٩٣

[١٨١٢] مسألة ٣٦ : يجب على الوليّ (١) منع الأطفال عن كلّ ما فيه ضرر عليهم (*) أو على غيرهم من الناس ، وعن كلّ ما علم من الشرع إرادة عدم وجوده في الخارج لما فيه من الفساد كالزنا واللواط والغيبة ، بل والغناء على الظاهر (**) ، وكذا عن أكل الأعيان النجسة وشربها ممّا فيه ضرر عليهم ، وأمّا المتنجّسة فلا يجب منعهم عنها ، بل حرمة مناولتها لهم غير معلومة (***). وأمّا لبس الحرير والذهب ونحوهما ممّا يحرم على البالغين فالأقوى عدم وجوب منع المميّزين منها فضلاً عن غيرهم ، بل لا بأس بإلباسهم إيّاها ، وإن كان الأولى تركه ، بل منعهم عن لبسها.

______________________________________________________

وظيفة الولي اتّجاه الطفل :

(١) قد مرّ الكلام حول المسألة مفصلاً في كتاب الطهارة (١) وملخّص ما قلناه هناك : أن المحرّمات الشرعية تنقسم إلى قسمين : فمنها ما يستفاد من دليله أنّ الشارع أراد سدّ باب وجوده رأساً ، بحيث لا يرضى بتحقّقه في الخارج بأيّ نحو كان ، من دون دخل لمباشرة خصوص المكلّف في ذلك ، فهو إنّما يريد خلوّ صفحة الوجود عن العمل المذكور.

وهذا كالقتل والزنا واللواط وشرب الخمر ونحوها ، فانّ قتل النفس المحرّمة مثلاً ممّا لا يكاد يرضى الشارع بتحقّقه ولو من غير البالغ ، بل غير العاقل أيضاً كالحيوان ، فاذا شاهدنا حيواناً يحاول افتراس مؤمن أو قتله وجب علينا الصدّ عن ذلك ، فضلاً عن الصبيّ. وعليه فيجب على الوليّ في مثل ذلك منع الطفل

__________________

(*) في إطلاقه إشكال ، بل منع.

(**) بل على الأحوط فيه وفيما بعده.

(***) بل الظاهر جوازها.

(١) شرح العروة ٣ : ٣١١ وما بعدها.

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عنه ومنه أكل ما فيه الضرر كالسمّ ونحوه ممّا منع الشارع عنه.

ومنها : ما يستفاد من دليله المنع من صدوره من المكلّفين بالمباشرة كأكل الأعيان النجسة والمتنجّسة وشربها ، فلا مانع في مثل ذلك من مناولتها لغير البالغ ، وكذلك الحال في لبس الحرير والذهب ونحوهما ، حيث إنّه لا يوجب منع الأطفال مطلقاً أو خصوص المميّزين عن مثل ذلك ، بل يجوز للولي إلباسهم أيضاً.

ومن هذا القبيل الغناء ، حيث إنّه لم يظهر من دليل حرمته المنع عن وجوده مطلقاً ، فلا يجب منع المميّز أو المجنون من سماعه. وكذلك أكل ما لم يذكّ من اللحوم مع القطع بعدم الضرر فيه ، حيث إنّه ليس من المحتمل أن يكون للتذكية بالذبح إلى القبلة أو التسمية حاله ونحو ذلك تأثير ودخل في الضرر وجوداً وعدماً.

والمتحصّل : أنّ المتّبع في كلّ مورد إنّما هو ملاحظة دليل الحكم في ذلك المورد ، ليظهر بذلك كونه من أيّ القسمين ، فيتّبع فيه ما يقتضيه الحال في كلّ منهما. والله سبحانه هو العالم بحقائق الأُمور.

١٩٥

فصل

في صلاة الاستئجار

يجوز الاستئجار للصلاة بل ولسائر العبادات عن الأموات إذا فاتت عنهم ، وتفرغ ذمّتهم بفعل الأجير (١) ، وكذا يجوز التبرّع عنهم.

______________________________________________________

(١) كما هو المشهور ولا سيما بين المتأخّرين ، وعن جماعة المنع. ولا يخفى ابتناء هذا البحث على البحث عن جواز النيابة عن الغير في العبادة وصحّة فعل النائب بحيث يترتّب عليه تفريغ ذمّة المنوب عنه ، إذ بعد البناء على الجواز وصحّة النيابة تطوّعاً أو استنابة لا ينبغي الإشكال في صحة الإجارة ، أخذاً بعموم أدلّة الوفاء بالعقود ، من دون حاجة إلى ورود النص فيه بالخصوص.

فانّ عمل النائب حينئذ شأنه شأن سائر الأعمال المباحة الصالحة للوقوع مورد عقد الإجارة بعد فرض احترام عمل المسلم وجواز تمليك الغير إيّاه بإجارة ونحوها ، لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة أصلاً. فكما يصحّ الاستئجار لسائر الأعمال بلا إشكال يصحّ الاستئجار للنيابة في العبادة أيضاً بمناط واحد وهو الاندراج تحت عموم دليل الوفاء بالعقد.

نعم ، يمتاز المقام بشبهة تعرّض لها شيخنا الأنصاري (قدس سره) وهي دعوى المنافاة بين العباديّة والاستئجار لها ، فإنّ العباديّة تقتضي الإتيان بالعمل بداعي التقرّب منه تعالى ، وهو ينافي الإتيان به بداعي أخذ الأُجرة الذي

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اقتضاه عقد الإجارة (١).

وتندفع بأنّ الأمر الإجاري وإن كان توصّلياً في حدّ ذاته إلّا أنّ مورد العقد حيث لم يكن هو ذات العمل ، بل المركّب منه ومن قصد القربة ، فلا يكاد يحصل الوفاء بالعقد إلّا إذا أتى بالعمل بداع قربي ، لأنّ متعلّق الأمر التوصّلي في خصوص المقام إنّما هو العمل المعنون بكونه عبادة حسب الفرض. فالأمر الإجاري يكون مؤكّداً للعباديّة لا منافياً لها كما لا يخفى.

وعلى الجملة : العمل النيابي بعد فرض صحّة النيابة مورد للأمر الاستحبابي النفسي ، وبعد وقوعه حيّز العقد يتأكّد الأمر المذكور ويتبدّل بالوجوب ، كما هو الحال عند وقوعه مورداً للنذر أو اليمين أو الشرط ضمن العقد. فكما أنّ الأمر الناشئ من قبل هذه العناوين بمناط وجوب الوفاء بالعقد أو النذر أو نحوهما لا ينافي عبادية العمل النيابي بل يؤكّدها فكذلك الأمر الجائي من قبل عقد الإجارة.

وأمّا الداعي على العمل فليس هو أخذ الأُجرة ، كيف وقد استحقّها النائب بمجرّد العقد ، فيمكنه مطالبة المؤجر بذلك ولو لم يتحقّق منه العمل خارجاً بأن يخبره كذباً بوقوع الفعل وتحقّقه منه ، حيث لا يتيسر للمؤجر استعلام حاله صدقاً وكذباً حتّى ولو رآه يقوم بالعمل خارجاً ، فإنّه بعد فرض تقوّم العبادة بالقصد الذي هو أمر نفسي لا سبيل للعلم به لغير علّام الغيوب من الممكن أن لا يكون قاصداً للقربة أو يكون قاصداً وقوع العمل عن نفسه أو عن والده دون الميت.

فليس الداعي على العمل إذن هو الاستيلاء على الأُجرة ، لإمكانه بدون ذلك كما عرفت ، بل الداعي إنّما هو قصد الأمر النفسي المتعلّق بالعبادة بعنوان النيابة متقرّباً منه تعالى.

ولا أقلّ من أن يكون قاصداً للأمر الإجاري الذي لا يسقط في خصوص

__________________

(١) المكاسب ٢ : ١٢٨.

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام إلّا بقصد التقرّب بالفعل ، لفرض كون متعلّقه عباديّاً. فلا تنافي بين الأمرين بوجه.

جواز النيابة :

ينبغي البحث في المسألة كما أشرنا إليه آنفاً عن جواز النيابة ومشروعيّتها في حدّ نفسها بحيث يترتّب عليها تفريغ ذمّة المنوب عنه بفعل النائب ، لتبتني على ذلك صحّة الإجارة ، فنقول :

لا شك في أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز ذلك ، فإنّ إطلاق الخطاب يقتضي المباشرة في مقام الامتثال وعدم سقوطه بفعل الغير ، لأنّه إنّما يدعو من خوطب به إلى العمل دون غيره الأجنبي عن الخطاب ، فلا يكون عمل زيد مثلاً موجباً لتفريغ ذمّة عمرو عن التكليف المتعلّق به ، كيف وهو أشبه شي‌ء بشرب زيد للدواء ليشفي عمرو من مرضه.

إلّا أنّه قد وردت في المقام روايات خاصة دلّت على الجواز ، وإن كان على خلاف القاعدة. ولا مانع من الالتزام بمثله في الأُمور الاعتبارية ممّا يكون أمرها سعة وضيقاً بيد معتبرها ، فله الاجتزاء بفعل أحد مع تعلّق التكليف بغيره ، وحكمه بتفريغ ذمّة الغير عنه.

وعليه ففي كلّ مورد قام الدليل عليه يؤخذ به ، وإلّا فالمتّبع هو أصالة الإطلاق المقتضي لعدم السقوط بفعل الغير كما عرفت.

وقد قام الدليل على ذلك في النيابة عن الأموات في باب الصلاة والصوم والحج وغيرها من سائر العبادات ، وهي عدّة نصوص كما يلي :

١ ـ صحيحة معاوية بن عمّار قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أيّ شي‌ء يلحق الرجل بعد موته؟ قال : يلحقه الحج عنه ، والصدقة عنه ، والصوم عنه» (١).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٤٥ / أبواب الاحتضار ب ٢٨ ح ٨.

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ صحيحته الأُخرى قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال : سنّة سنّها إلى أن قال : والولد الطيّب يدعو لوالديه بعد موتهما ، ويحجّ ويتصدّق ويعتق عنهما ، ويصلّي ويصوم عنهما ، فقلت : أُشركهما في حجّتي؟ قال : نعم» (١).

وفي السند محمد بن إسماعيل المردّد بين الثقة وغيره. إلّا أنّ الذي يروي عنه الكليني (رحمه الله) ويروي هو عن الفضل بن شاذان لا يراد به إلّا الثقة.

٣ صحيحة عمر بن يزيد قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : نصلّي عن الميت؟ فقال : نعم ، حتّى أنّه ليكون في ضيق فيوسع الله عليه ذلك الضيق ثمّ يؤتى فيقال له : خفّف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك عنك ...» (٢).

٤ صحيحة علي بن جعفر وقد رواها صاحب الوسائل (رحمه الله) بطريق معتبر عن كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) «قال : سألت أبي جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي أو يصوم عن بعض موتاه؟ قال : نعم ، فليصل على ما أحبّ ، ويجعل تلك للميت هو للميت إذا جعل ذلك له» (٣).

وقوله (عليه السلام) : «فليصل ...» يمكن أن يكون بتشديد اللّام ويراد به فعل الصلاة ، ويمكن ذلك بالتخفيف من الصلة فيكون أمراً بصلته على ما أحبّ من أنحاء الصلة (٤) ، سواء أكان ذلك بالصلاة أم بغيرها من العبادات والخيرات.

وكيف ما كان ، فهذه الروايات المعتبرة سنداً يمكن الاستدلال بها للمقام.

وقد روى السيد السند علي بن موسى بن طاوس (قدس سره) في كتابه (غياث سلطان الورى لسكّان الثرى) في هذا الباب روايات كثيرة تشتمل على

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٤٤ / أبواب الاحتضار ب ٢٨ ح ٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٤٣ / أبواب الاحتضار ب ٢٨ ح ١.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٧٧ / أبواب قضاء الصلوات ب ١٢ ح ٢ ، مسائل علي بن جعفر : ١٩٩ / ٤٢٩.

(٤) [المذكور في مصادر الرواية ما عدا الوسائل هو : «فيصلّي» بدل : «فليصل»].

١٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ما ذكرناه وغيرها ، وهو كثير ، مستقصياً بذلك جميع الأخبار المتعلّقة بالباب.

وقال (قدس سره) في إجازاته : أنّه كتاب لم يكتب مثله ، وقال أيضاً : إنّه اقتصر في الفقه على هذا الكتاب فقط ، تحرّزاً منه عن الفتيا لعظم مسؤوليتها (١). وقد نقلها عنه جماعة من أصحابنا (قدس سرهم) منهم الشهيد في الذكرى (٢) والمجلسي في البحار (٣) وصاحبا الوسائل والحدائق (٤) هذا.

ولكن تلكم الأخبار على كثرتها وجلالة جامعها غير معتبرة ، لضعف أسناد بعضها في حدّ نفسها كالذي يرويه عن علي بن أبي حمزة ، المراد به البطائني لعدم توثيقه. ولتطرّق الخدشة في أسناد جميعها ، نظراً إلى أنّ طريق السيد ابن طاوس (قدس سره) إلى أرباب الكتب والمجامع الحديثية التي يروي عنها غير معلوم لدينا ، حيث إنّه (قدس سره) لم يذكر ذلك ضمن إجازاته ، فلم تعرف الوسائط بينه وبينهم كي ينظر في حالهم من حيث الضعف أو الوثاقة. ومجرّد الاعتبار عنده أو عند من يروي عنه غير كافٍ في الاعتبار عندنا كما لا يخفى.

ولا يبعد أن يكون قد روى ذلك عن كتاب (مدينة العلم) ، فقد ذكر في إجازاته (٥) أنّ الكتاب المذكور كان موجوداً عنده حين تصنيفه لكتابة. غير أنّ طريقه إلى ذلك الكتاب أيضاً غير معلوم ، وعليه فتكون الروايات المذكورة بأجمعها ملحقة بالمراسيل حيث لا يمكن الاعتماد عليها.

وكيف ما كان ، ففيما ذكرناه من الأخبار الصحاح غنى وكفاية ، وقد دلّت على جواز النيابة عن الأموات في مطلق العبادات وتفريغ ذممهم عنها ، من دون فرق في ذلك بين الواجبات والمستحبات ، ويترتّب على ذلك صحّة الاستئجار حسبما عرفت.

__________________

(١) حكاه عنه في البحار ١٠٤ : ٤٠ ، ٤٢.

(٢) الذكرى ٢ : ٦٧.

(٣) البحار ٨٥ : ٣٠٩.

(٤) الحدائق ١١ : ٣٢.

(٥) حكاه عنه في البحار ١٠٤ : ٤٤.

٢٠٠