موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٦

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

بالمواسعة وعدم التضييق إلّا إذا أدّى إلى المسامحة الموجبة للتضييع.

ويستدلّ للقول بالمضايقة بأُمور :

أحدها : قاعدة الاشتغال وأصالة الاحتياط.

ويتوجّه عليه : أنّ وجوب المبادرة إلى القضاء أمر مشكوك فيه فيرجع في نفيه إلى أصالة البراءة. وقد أطبق العلماء كافةً الأُصوليون والأخباريون على الرجوع إليها في الشبهة الحكمية الوجوبية ، ولم ينقل الخلاف فيه إلّا عن المحدّث الأسترآبادي على ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) (١). والخلاف الواقع بين الفريقين إنّما هو في الشبهات الحكمية التحريمية ، دون الوجوبية التي منها المقام.

ثانيها : أنّ مقتضى الأمر بالقضاء هو وجوب المبادرة إليه ، فإنّ الأمر بالشي‌ء ظاهر في الفور.

ويتوجّه عليه : ما تقرّر في محلّه من عدم دلالة الأمر لا على الفور ولا على التراخي ، لا لغة ولا عرفاً ولا شرعاً ، وإنّما مقتضاه إيجاد الطبيعة المأمور بها مهملة من كلتا الناحيتين (٢)

ثالثها : قوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٣) بدعوى ظهوره ولو بمعونة الروايات الواردة في تفسيره (٤) في إرادة القضاء ، وأنّ مفاد الآية الكريمة وجوب إقامة القضاء لدى التذكّر كما عن غير واحد من المفسّرين.

قلت : الاستدلال بالآية الكريمة للمضايقة بدعوى ظهورها في نفسها أو بضميمة الروايات في ذلك عجيب وإن صدر عن غير واحد ، ويظهر ذلك بالنظر

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣٧٨.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٢١٣.

(٣) طه ٢٠ : ١٤.

(٤) وسيذكر بعضها في ص ١٦٣.

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى الآيات التي سبقت الآية الكريمة ، قال تعالى (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى. إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً. فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١).

وهذه الآيات كما ترى نازلة في شأن موسى (عليه السلام) في بدء رسالته وأوّل زمان نزول الوحي عليه ، ولم يكن قد شرعت الصلاة ولا أيّ شي‌ء آخر في ذلك الحين ، فكيف يؤمر والخطاب متوجّه إليه بقضاء الصلوات المفروض تفرّعه على الأمر بالأداء في فرض ترك الإتيان به ، ولم يؤمر هو بعدُ بشي‌ء ، لما عرفت من كون الخطاب المذكور إنّما هو ضمن الآيات النازلة عليه في مبدأ النبوة؟ فهل ترى أنّ للقضاء أهمية عظمى دعت الباري سبحانه إلى الأمر به في هذه الحال مقدّماً على جميع التكاليف حتّى الأمر بالصلاة أداء.

على أنّ النبيّ موسى (عليه السلام) من أنبياء الله العظام ، وهو أحد الخمسة أولي العزم ، فلا يكاد يغفل عن ربّه طرفة عين ، فكيف يحتمل في حقّه ترك الصلاة الواجبة في وقتها ولو كان ذلك لنوم أو نسيان ونحوهما حتّى يؤمر بالقضاء عند تذكّر الفوت ، كلّ ذلك غير واقع.

بل الآية الكريمة ناظرة إلى تشريع طبيعي الصلاة ، ولا مساس لها بباب القضاء ، إمّا لأجل أنّ الغاية إنّما هو ذكر الله تعالى الذي هو المقصد الاسمي من العبادة ، أو لاشتمالها على الذكر لتضمّنها التحميد والتقديس والركوع والسجود وكلّ ذلك خشوع وخضوع وذكر لله سبحانه وتعالى.

فالإضافة في قوله تعالى (لِذِكْرِي) من إضافة المصدر إلى المفعول ، والمعنى لذكرك إياي ولأن تكون ذاكراً لي في كلّ حال ، لا من إضافته إلى

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩ ١٤.

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الفاعل ليكون المعنى : لذكري إياك أنّك تركت الصلاة ، كي تدلّ على وجوب القضاء.

فالإنصاف : أنّ الآية الكريمة في نفسها غير ظاهرة في وجوب القضاء ، فضلاً عن المبادرة إليه ، بل هي أجنبية عن ذلك. ودع عنك المفسّرين يقولون ما قالوا ويفسّرون الآية بما شاؤوا ، إذ لا عبرة بآرائهم واستظهاراتهم ما دمنا نستمدّ الأحكام الشرعية من ظواهر القرآن الكريم أو بضميمة التفسير الوارد عن المعصومين (عليهم السلام) ، وقد عرفت أنّ ظاهر الآية أجنبي عمّا ذكروه.

وأمّا الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) في تفسير الآية الشريفة فما يوهم منها المعنى المذكور روايتان :

إحداهما : ما رواه الشيخ (قدس سره) بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت أُخرى فإن كنت تعلم أنّك إذا صلّيت التي فاتتك كنت من الأُخرى في وقت فابدأ بالتي فاتتك ، فانّ الله عزّ وجلّ يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)» (١).

وهي ضعيفة السند بالقاسم بن عروة ، ومع الغضّ عن السند فالجواب عنها هو الجواب الآتي عن الرواية الثانية ، فليتأمّل.

ثانيتهما : صحيحة زرارة على ما عبّر به الشهيد في الذكرى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا دخل وقت مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة إلى أن قال بعد نقل قصة تعريس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره ، ورقوده هو وأصحابه عن صلاة الفجر حتّى طلعت الشمس ، وقضائهم لها بعد التحول من المكان الذي أصابتهم الغفلة فيه : من نسي شيئاً من الصلوات فليصلّها إذا ذكرها ، فانّ الله عزّ وجل يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)» (٢).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٧ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ١٧٢ / ٦٨٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٨٥ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٦ ، الذكرى ٢ : ٤٢٢.

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأنت خبير بأنّ الصحيحة ليست بصدد تفسير الآية الكريمة وبيان ما هو المراد منها ، بل غاية ما هناك تطبيق الآية على موردها ، باعتبار أنّ القضاء من جملة مصاديق الصلاة المأمور بها لأجل ذكر الله تعالى ، فقد حثّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس على قضاء ما فاتهم من الصلوات مستشهداً له بالآية الكريمة الآمرة بإقامة الصلاة ، لكي يكون العبد ذاكراً لله تعالى وغير غافل عنه بالإتيان بما فرضه الله عليه من الصلوات أداءً وقضاءً. وكم فرق بين التفسير والتطبيق؟

فالإنصاف : أنّ الاستدلال بالآية المباركة بنفسها أو بضميمة الروايات للقول بالمضايقة في القضاء ساقط جدّاً.

رابعها : الروايات ، وهي على طوائف :

منها : ما وردت في من نام عن صلاة الفجر حتّى طلعت الشمس ، وأنّه يقضيها حين يستيقظ.

كصحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتّى تبزغ الشمس أيصلّي حين يستيقظ ، أو ينتظر حتّى تنبسط الشمس؟ فقال : يصلّي حين يستيقظ ، قلت : يوتر أو يصلّي الركعتين؟ قال : بل يبدأ بالفريضة» (١).

وموثّقة سماعة بن مهران قال : «سألته عن رجل نسي أن يصلّي الصبح حتّى طلعت الشمس ، قال : يصلّيها حين يذكرها ، فانّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رقد عن صلاة الفجر حتّى طلعت الشمس ثمّ صلّاها حين استيقظ ، ولكنّه تنحى عن مكانه ذلك ثمّ صلّى» (٢).

وفيه : أنّ الباعث على السؤال في الروايتين إنّما هو تخيّل الراوي المنع عن إقامة الصلاة حين طلوع الشمس ، لما ورد عنهم (عليهم السلام) من النهي عن

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٤ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٤.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٥٤ / أبواب قضاء الصلوات ب ١ ح ٥.

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التنفّل في الوقت المذكور (١) المحمول على الكراهة كما تقدّم بيانه في محلّه (٢) ، فقد توهّم شمول النهي المذكور الذي اشتهر عندهم وكان مغروساً في أذهانهم لمثل قضاء الفريضة.

ولأجل ذلك تصدّوا للسؤال عن جواز القضاء عند بزوغ الشمس ، وقد أجاب (عليه السلام) بجوازه من غير انتظار انبساطها مستشهداً له بفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فعلم بذلك أنّ النهي عن التنفّل في الوقت المذكور غير شامل للفرائض.

وخلاصة القول : أنّ الاستدلال بالروايتين مبني على أن يكون السؤال عن وجوب القضاء. وليس الأمر كذلك ، وإنّما هو عن جوازه لما عرفت. فقوله (عليه السلام) : «يصلّي حين يستيقظ» أمر واقع موقع توهّم الحظر ، ومثله لا يدلّ إلّا على الجواز دون الوجوب.

ومنها : جملة من الروايات وفيها الصحاح قد دلّت على الإتيان بالقضاء متى ما ذكر الفائتة من ليل أو نهار ، أو إذا ذكرها ، بحمل «إذا» على التوقيت وأوضحها هي :

صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور ، أو نسي صلاة لم يصلّها ، أو نام عنها ، فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فاذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي حضرت ، وهذه أحقّ بوقتها فليصلّها ، فاذا قضاها فليصلّ ما فاته ممّا قد مضى ، ولا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها» (٣).

وفيه : أنّ التضيّق في هذه الروايات ناظر إلى بيان الوجوب الشرطي ، وأنّ

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٣٦ / أبواب المواقيت ب ٣٨ ح ٦ ، ٩ وغيرهما.

(٢) شرح العروة ١١ : ٣٦١.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٥٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ٢ ح ٣.

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرط في صحّة الحاضرة أو التطوّع إنّما هو فراغ الذمّة عن القضاء ما دام لم يفت به وقت الحاضرة ، وهذه مسألة أُخرى أجنبية عمّا نحن بصدده الآن ، فقد أشرنا في صدر البحث إلى أنّ الكلام في المواسعة والمضايقة يقع تارة في الوجوب النفسي وأُخرى في الوجوب الشرطي ، والكلام فعلاً معقود للجهة الاولى ، وهذه الروايات غير دالّة على الوجوب المذكور كما لا يخفى.

وأمّا كلمة «إذا» في قوله (عليه السلام) : «إذا ذكرها» فليست للتوقيت لتدلّ على ظرف العمل وأنّه حال الذكر ، بل هي شرطية تدلّ على اختصاص فعلية التكليف بالحال المذكور ، فيكون التقييد بالذكر من باب كونه شرطاً للتكليف لا من باب كونه ظرفاً للعمل المكلّف به. فهو قيد للوجوب لا للواجب.

وقد ذكرنا في غير مورد اختصاص الأحكام الواقعية بحال الذكر والالتفات وعدم ثبوتها في حقّ الناسي ، ومن هنا كان الرفع في حديث الرفع بالنسبة إلى «ما لا يعلمون» ظاهرياً ، ولذلك يحسن الاحتياط عند الجهل. وأمّا بالنسبة إلى غيره من المذكورات في سياقه كالخطإ والنسيان والإكراه والاضطرار وغير ذلك فهو واقعي.

فالتقييد بقوله (عليه السلام) : «إذا ذكرها ...» لبيان هذه النكتة وأنّه لا تكليف بالقضاء حتى واقعاً ما دام لم يتذكّر ، وإنّما يبلغ التكليف المذكور حدّ الفعلية ويتوجّه نحو المكلّف في حال التذكّر ، من دون دلالة لهذه النصوص على أنّ ظرف العمل أعني به القضاء هو هذه الحال كي تجب المبادرة إليه أو أنّه موسّع كي لا تجب.

وعلى الجملة : أنّ كلمة «إذا» في هذه الروايات شرطية لا توقيتية ، فلا تدلّ على وجوب المبادرة إلّا على القول باقتضاء الأمر للفور ، ولا نقول به. وقد عرفت أنّ الصحيحة ناظرة إلى بيان الوجوب الشرطي دون النفسي الذي هو محلّ الكلام ، وسيأتي الكلام فيه.

وأمّا عدم جواز التطوّع لمن عليه الفائتة الذي تضمّنه ذيل الصحيحة ـ

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فقد مرّ الكلام عليه في بحث المواقيت (١) ولا نعيد ، هذا كلّه.

مع أنّ الضيق الذي يدّعيه القائلون بالمضايقة إمّا أن يراد به الضيق الحقيقي بمعنى وجوب المبادرة في آن الالتفات وأوّل زمان التذكّر كما قد يظهر من بعض القائلين به ، حيث إنّهم بالغوا في ذلك فالتزموا بالاقتصار على الضروري من المأكل والمشرب والكسب ونحو ذلك ، ويساعده ظواهر النصوص المتضمّنة لقوله (عليه السلام) : «متى ذكرها» أو «إذا ذكرها» ، أو يراد به الضيق العرفي الذي لا ينافيه التأخير اليسير كساعة ونحوها.

فعلى الأوّل : فالنصوص الواردة في نوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الفجر وقد تقدّم ذكر بعضها (٢) تكون حجّة عليهم بناء على الأخذ بها والالتزام بمضمونها.

فانّا تارة نبني على عدم العمل بالنصوص المذكورة وإن صحّت أسانيدها لمنافاتها لمقام النبوّة ، سيما مع ملاحظة ما ورد في الأخبار في شأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه كانت تنام عينه ولا ينام قلبه (٣) ، فكيف يمكن أن ينام عن فريضة الفجر! فلا محالة ينبغي حملها على التقية أو على محمل آخر.

وأُخرى نبني على العمل بها بدعوى أنّ النوم من غلبة الله ، وليس هو كالسهو والنسيان المنافيين لمقام العصمة والنبوّة ، ولا سيما بعد ملاحظة التعليل الوارد في بعض هذه النصوص من أنّ ذلك إنّما كان بفعل الله سبحانه رحمة على العباد ، كي لا يشقّ على المؤمن لو نام اتفاقاً عن صلاة الفجر (٤).

وعليه فتكون هذه النصوص منافية للتضييق الحقيقي ، لدلالتها على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد انتباهه من النوم واعتراضه على بلال واعتذار

__________________

(١) شرح العروة ١١ : ٣٣٧.

(٢) في ص ١٦٣.

(٣) البحار ٧٣ : ٢٠٢ / ٢٠.

(٤) الوسائل ٨ : ٢٥٤ / أبواب قضاء الصلوات ب ١ ح ٦.

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا منه أمر بالارتحال من المكان المذكور ، ثمّ بعد ذلك أذن بلال فصلّى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ركعتي الفجر ، ثمّ قام فصلّى بهم الصبح.

ومعلوم أنّ هذه الأُمور السابقة على صلاة الصبح تستغرق برهة من الوقت فلم يقع إذن قضاء الصبح أوّل آن التذكّر ، بل تأخّر عنه بمقدار ينافي الضيق الحقيقي.

وعلى الثاني : وهو أنّ يراد به الضيق العرفي غير المنافي للتأخير بمقدار يسير فلا دليل على اعتبار مثله ، فانّ ظواهر النصوص المستدلّ بها للتضيق إنّما هو الضيق الحقيقي دون العرفي كما عرفت.

نعم ، إنّ صحيحة أبي ولّاد الواردة في حكم المسافر القاصد للمسافة وقد عدل عن قصده ذلك قبل الوصول إلى غايته وصلّى قصراً ظاهرة في الضيق العرفي ، لقوله (عليه السلام) فيها : «وإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريداً فانّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تؤم من مكانك ذلك ...» (١).

حيث إنّه (عليه السلام) حكم بقضاء ما صلّاهُ قصراً إذا لم يبلغ المسافة ، كما تقتضيه القاعدة أيضاً ، فإنّ سفره حينئذ كان خيالياً لا واقعياً ، وحكم أيضاً بلزوم إيقاع القضاء في المكان نفسه قبل أن يخرج منه. فتكون الرواية دالّة على التضيق العرفي في القضاء ، نظراً إلى تحديده بما قبل خروجه عن المكان ، دون التضيق الحقيقي في أوّل آن التذكّر ، هذا.

ولكنّ الصحيحة وإن كانت قوية الدلالة على المضايقة ، إلّا أنّها محمولة على الاستحباب في أصل القضاء فضلاً عن اعتبار التضيق فيه. والأصحاب لم يعملوا بها في موردها ، لأجل معارضتها لصحيحة زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج مع القوم في السفر يريده ، فدخل عليه

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين فصلّوا ، وانصرف بعضهم في حاجة فلم يقض له الخروج ، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين؟ قال : تمّت صلاته ولا يعيد» (١).

فالمتحصّل إلى هنا : أنّ ما استدلّ به للمضايقة من الروايات ساقط كلّه ، ولا يمكن التعويل على شي‌ء من ذلك ، فإنّ العمدة فيها كانت صحيحتي زرارة وأبي ولّاد ، وقد عرفت حالهما. إذن فتكفينا في المقام أصالة البراءة.

أدلّة القول بالمواسعة :

وإذ قد عرفت ضعف أدلّة القول بالمضايقة يقع الكلام في أدلّة القول بالمواسعة ، ويستدل لذلك بأُمور :

أحدها : أصالة البراءة ، فإنّ التضيّق وإيجاب المبادرة إلى الواجب زائداً على أصل الوجوب كلفة زائدة ، وهي مجهولة فتدفع بأصالة البراءة.

ولكن التمسّك بالأصل يتفرّع على عدم تمامية شي‌ء من أدلّة القولين ، وإلّا فمع قيام الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي كما هو ظاهر.

ثانيها : دليل نفي الحرج ، إذ الالتزام بالمضايقة ووجوب المبادرة سيما على النحو الذي يدّعيه بعض القائلين بها من الاقتصار على الضروريات يتضمّن الحرج الشديد والمشقّة العظيمة ممّا تنفيه أدلّة نفي الحرج.

وفيه أوّلاً : أنّ المنفي إنّما هو الحرج الشخصي دون النوعي ، إذ الحرج موضوع للسقوط ، لا أنّه حكمة في الحكم به كي لا يلزم فيه الاطّراد ويكتفى بما في نوعه الحرج ، وعليه فالحكم تابع لتحقّق الحرج الشخصي خارجاً ، وهذا ممّا يختلف باختلاف الأشخاص والحالات وكمّية القضاء ، فلا يطّرد في جميع الموارد على سبيل الكبرى الكلّية ، فقد لا يستلزم المبادرة أيّ حرج لقلّة مقدار

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٣ ح ١.

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الفائتة ، أو كان المكلّف الخاص قادراً على المبادرة إلى قضاء الجميع بدون أيّ حرج عليه. فليس له ضابط كلّي.

وثانياً : مع فرض كثرة الفوائت واستلزام المبادرة للحرج فلا ريب في سقوط وجوبها عن خصوص المرتبة البالغة حدّ الحرج ، ولا مقتضي لسقوطه من الأوّل.

وكأنّ المستدلّ تخيّل أنّ هناك أمراً وحدانياً تعلّق بالمبادرة إلى قضاء جميع الفوائت على سبيل العام المجموعي ، وحيث إنّ امتثال هذا الأمر حرجي فيسقط الأمر بدليل نفي الحرج.

وليس الأمر كذلك بالضرورة ، بل هناك أوامر متعدّدة انحلالية بعدد الفوائت كما هو الحال في الأمر بالأداء ، والعسر والحرج إنّما يلاحظان في كلّ تكليف بحياله لا منضماً إلى الآخر ، فاذا كانت الفوائت ألفاً مثلاً فطبعاً تكون أوامر بالمبادرة بعددها ، فاذا فرضنا أنّ المبادرة إلى قضاء الألف حرجي دون البدار إلى قضاء عشرة منها فلا محالة يسقط وجوب المبادرة إلى ما هو مورد الحرج دون العشرة التي لا حرج فيها كما هو ظاهر.

وثالثاً : أنّ دليل نفي الحرج غير جارٍ في المقام أصلاً ، فإنّه كدليل نفي الضرر إنّما يجري ويكون حاكماً على أدلّة التكاليف الواقعية فيما إذا كان التكليف بالإضافة إليهما لا بشرط ، فيكون الدليلان موجبين لتخصيصها بغير موارد الحرج والضرر كما لو اتّفق لزوم الحرج أو الضرر من الوضوء مثلاً ، حيث يسقط وجوب الوضوء الحرجي أو الضرري ، ويختصّ ذلك بغير الموردين.

وأمّا إذا كان التكليف ممّا قد شرّع في مورد الحرج كالجهاد أو الضرر كالخمس (١) والزكاة فكان ملحوظاً بالإضافة إليهما بشرط شي‌ء فلا يكاد يجري في مثله دليل نفي الحرج أو الضرر.

__________________

(١) تشريع الخمس لم يكن من الأحكام الضرريّة عند سيّدنا الأُستاذ (دام ظله) ، ولتوضيح الحال راجع مصباح الأُصول ٢ : ٥٣٩.

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ أدلّة القول بالمضايقة على تقدير تماميتها إنّما كان مفادها وجوب المبادرة إلى القضاء الذي هو في نفسه حكم حرجي ، فكيف يمكن رفعه بدليل نفي الحرج.

ثالثها : قيام السيرة من المتشرّعة على عدم المبادرة إلى القضاء ، فإنّه قلّ من لا تكون ذمّته مشغولة بها ولا سيما في أوائل البلوغ ، ومع هذا نراهم يشتغلون بالكسب ويتعاطون أُمورهم العادية من دون مبادرة منهم إلى القضاء. فجريان السيرة على ذلك خلفاً عن سلف المتّصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) خير دليل على العدم.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ السيرة الجارية عند الأكثر مستندها هي المسامحة وعدم المبالاة بأمر الدين ، ولأجل ذلك تراهم لا يبادرون إلّا القليل إلى تفريغ الذمّة عن حقوق الناس التي لا إشكال في فوريتها.

وعلى الجملة : إن كان مورد السيرة المدّعاة هم المتشرّعة فهي ممنوعة ، وإن كان الأعمّ منهم وممّن لا يبالي بالدين فهي مرفوضة.

رابعها : وهو العمدة الأخبار الواردة ، ولنذكر المهمّ منها معرضين عن الباقي الذي منه ما ورد في نوم النبي (صلّى الله عليه وآله) عن صلاة الفجر وأمره (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالارتحال بعد الانتباه عن ذلك المكان والقضاء في مكان آخر ، وقد مرّت الإشارة إلى بعض ذلك (١) وقلنا (٢) إنّ هذه الروايات وإن تمّت دلالة وسنداً ممّا يشكل الاعتماد عليها والتصديق بمضمونها فلا بدّ من ردّ علمها إلى أهله ، أو حملها على بعض المحامل كالتقيّة ونحوها.

وكيف ما كان ، فالمهمّ من بين الأخبار التامة سنداً ودلالة صحيحتان :

إحداهما : صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إن نام رجل ولم يصلّ صلاة المغرب والعشاء أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما

__________________

(١) في ص ١٦٣.

(٢) في ص ١٦٧.

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة ، وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس ، فان خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب ويدع العشاء الآخرة حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ثم ليصلّها» (١).

وقد ذكرنا في بحث المواقيت (٢) أنّ صدر الصحيحة يدلّ على امتداد وقت العشاءين إلى طلوع الفجر ، ولذلك أمره (عليه السلام) بالإتيان بهما معاً إذا استيقظ قبل الطلوع مع سعة الوقت ، وإلّا فيأتي بالعشاء خاصة لاختصاص الوقت من آخره بها.

وكيف كان ، فمحلّ الاستشهاد قوله (عليه السلام) في ذيل الصحيحة : «فإن خاف أن تطلع الشمس ...» ، فقد أمر (عليه السلام) بتأخير العشاء حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها. ومن الظاهر أنّ السبب في التأخير إنّما هو تجنّب الحزازة الثابتة في هذا الوقت ، حيث تكره الصلاة عند طلوع الشمس وظهور شعاعها كما ورد النهي عن ذلك في غير واحد من النصوص (٣) المحمول على الكراهة قطعاً ، إذ لا قائل منّا بالتحريم.

ومنه تعرف أنّ الأمر بالتأخير استحبابي حذراً عن حزازة الوقت ، لا أنّه لزومي ، وإلّا فالقضاء مشروع في كلّ ساعة من ساعات الليل والنهار كما دلّ عليه صحيحة زرارة المتقدّمة (٤).

وعلى الجملة : فلو كانت المبادرة واجبة كما يدّعيه القائل بالمضايقة لما حكم (عليه السلام) بالتأخير حذراً عن حزازة الوقت ، فهل يمكن أن يكون

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٨ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٣.

(٢) شرح العروة ١١ : ١٢٩.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٣٦ / أبواب المواقيت ب ٣٨ ح ٦ ، ٩ وغيرهما.

(٤) في ص ١٦٥.

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تجنّب المكروه مسوّغاً لترك الواجب؟ فالرواية لا تلائم القول بالمضايقة بوجه وإنّما تكشف عن المواسعة في القضاء.

الثانية : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهن فأذّن لها وأقم ثم صلّها ، ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة ...» (١).

وهذه الرواية واردة لبيان كيفية قضاء الفرائض من حيث الأذان والإقامة والخطاب فيها متوجّه إلى زرارة ، ومعلوم أنّ ذلك ممّا لا يحسن إلّا بفرض فوائت اشتغلت بها ذمّة المخاطب وهو زرارة في الفرض ولم يبادر إلى قضائها ، وحينئذ قام الإمام (عليه السلام) بتعليمه كيفية القضاء من حيث الحاجة إلى الأذان والإقامة.

فلو كانت المبادرة واجبة والقضاء فورياً لما حسن فرض الإخلال به من مثل زرارة وهو على ما هو عليه من العظمة والجلالة ، ولما صحّ للإمام (عليه السلام) أن يدع ذلك دون أن يستنكره منه ويعترض عليه بل يقتصر على بيان الكيفية من دون أن يستقبح منه ترك الواجب ، أو يلومه عليه على أقلّ التقديرين. فينكشف من ذلك عدم وجوب المبادرة إلى القضاء ، وابتناء الحال فيه على المواسعة ، بحيث كان التأخير فيه وعدم المبادرة إليه أمراً متعارفاً عاديا لا يضرّ صدوره حتّى من مثل زرارة.

ويؤكّد ذلك بل يدل عليه ذيل الصحيحة الذي هو في قوّة التصريح بالمواسعة ، حيث قال : «وإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ، ثمّ صلّ المغرب والعشاء ، ابدأ بأولهما لأنّهما جميعاً قضاء ، أيّهما ذكرت فلا تصلّهما إلّا بعد شعاع الشمس ، قال قلت : ولم ذاك؟ قال : لأنّك لست تخاف فوتها».

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

١٧٣

[١٨٠٤] مسألة ٢٨ : لا يجب تقديم الفائتة على الحاضرة ، فيجوز الاشتغال بالحاضرة في سعة الوقت لمن عليه القضاء ، وإن كان الأحوط تقديمها عليها (١).

______________________________________________________

فإنّه (عليه السلام) بعد ما حكم بتأخير الصلاتين عن شعاع الشمس المبتني على التجنّب عن حزازة الوقت كما أشرنا إليه سابقاً ، وبعد استفسار زرارة عن السبب والعلّة في ذلك أجاب بقوله : «لأنّك لست تخاف فوتها» ، ومرجعه إلى أنّ قضاء الصلاتين موسّع لا تضييق فيه كي تخاف الفوت ، والاعتبار في المبادرة إنّما هو بخوف الفوت ، وحيث لا فوت هنا فكان الأحرى هو تجنّب الإتيان به عند شعاع الشمس حذراً من الكراهة الثابتة في هذا الوقت.

وهذا كما ترى كالتصريح بالمواسعة. فلو سلّمنا تمامية أخبار المضايقة فهي معارضة بهاتين الصحيحتين الصريحتين فيها ، فلتحمل تلك الأخبار على الاستحباب لو تمّت دلالتها ، كيف وهي غير تامة الدلالة في حدّ أنفسها كما عرفته مستقصى.

فتحصّل : أنّ المبادرة وإن كانت أحوط وأولى إلّا أنّ الأقوى هو المواسعة ما لم تؤدّ إلى المسامحة في امتثال التكليف والتهاون بشأنه ، وإلّا وجب الفور لخوف الفوت.

تقديم الفائتة على الحاضرة :

(١) تقدّم الكلام في مسألة المواسعة والمضايقة من جهة الوجوب النفسي وأمّا من ناحية الوجوب الشرطي أعني اشتراط تقديم الفائتة وتفريغ الذّمة عنها في صحّة الحاضرة ما لم يتضيّق وقتها فقد نسب إلى المشهور تارة الاشتراط ، وأُخرى عدمه. والقائلون بالعدم بين من حكم باستحباب تقديم الفائتة على الحاضرة ، وبين من عكس فحكم بأنّ الأفضل تقديم صاحبة الوقت.

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف ما كان ، فقد استدلّ للاشتراط تارة بأصالة الاشتغال ، فانّا نحتمل وجداناً اشتراط صحّة الحاضرة بتقديم الفائتة ، ولا يكاد يحصل اليقين بالفراغ عن التكليف اليقيني بالحاضرة بدون مراعاة الشرطية المحتملة.

ويندفع : بما هو المحقّق في محلّه من الرجوع إلى أصالة البراءة عند الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين (١).

وأُخرى بالروايات فمنها : رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت أُخرى فإن كنت تعلم أنّك إذا صلّيت التي فاتتك كنت من الأُخرى في وقت فابدأ بالتي فاتتك ، فانّ الله عزّ وجلّ يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ...» (٢) ، فإنّ الأمر بتقديم الفائتة على الحاضرة يكشف عن دخل ذلك في صحة الحاضرة.

ويتوجّه عليه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة السند بالقاسم بن عروة ، وإن عبّر عنها بالصحيحة في بعض الكلمات.

وثانياً : أنّها قاصرة الدلالة على الوجوب الشرطي ، وإنّما تدلّ على الوجوب النفسي الذي مرّ البحث عنه سابقاً ، نظراً لكونها مسوقة لبيان حكم الفائتة في حدّ نفسها وأنّها ممّا يلزم الابتداء بها إمّا وجوباً أو استحباباً على الخلاف المتقدّم ، وليست هي بصدد بيان حكم الحاضرة كي تدلّ على الاشتراط بوجه.

ثم إنّك قد عرفت فيما سبق (٣) أنّ الرواية في موطن دلالتها وهو حكم الفائتة في حدّ نفسها محمولة على الاستحباب ، ولكن لو فرضناها دالّة على الوجوب النفسي أيضاً لم يكن يستفاد منها فساد الحاضرة إلّا بناءً على القول باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه ، ولا نقول به ، بل غايته عدم الأمر بالضد. فيمكن تصحيح العبادة حينئذ بالملاك أو بالخطاب الترتّبي.

ومنها : رواية أبي بصير قال : «سألته عن رجل نسي الظهر حتّى دخل وقت

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٢٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٨٧ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٢.

(٣) في ص ١٦٣.

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

العصر ، قال : يبدأ بالظهر ، وكذلك الصلوات تبدأ بالتي نسيت إلّا أن تخاف أن يخرج وقت الصلاة فتبدأ بالتي أنت في وقتها ، ثمّ تقضي التي نسيت» (١) حيث دلّت على لزوم البدأة بالصلاة المنسيّة وتقديمها على الحاضرة.

ويرد عليه أوّلاً : أنّها ضعيفة السند بسهل بن زياد ومحمّد بن سنان.

وثانياً : أنّها على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد بالوقت في قوله (عليه السلام) : «يخرج وقت الصلاة» هو وقت الفضيلة دون الإجزاء ، ولو بقرينة الوقت المذكور في الصدر أعني قوله (عليه السلام) : «حتّى دخل وقت العصر» (٢).

فإنّ المراد بنسيان الظهر حتّى دخل وقت العصر نسيانها في وقتها الفضيلي أو الوقت الأوّل الاختياري في مقابل الوقت الثاني الاضطراري على الخلاف المتقدّم في بحث الأوقات (٣) لا وقت الإجزاء الممتد إلى مقدار أربع ركعات من آخر الوقت الذي هو الوقت الاختصاصي للعصر ، للزوم البدأة حينئذ بالعصر بعد خروج وقت الظهر ، فكيف يحكم (عليه السلام) بالبدأة بالظهر؟

فالمراد بالوقت هو وقت الفضيلة أو الوقت الأوّل ، وحينئذ فيبدأ بالظهر مراعاة للترتيب مع فرض امتداد وقتهما إلى الغروب. فيكون المراد بالوقت في قوله (عليه السلام) : «إلّا أن تخاف أن يخرج وقت الصلاة ...» بمقتضى السياق واتّحاد الذيل مع الصدر هو وقت الفضيلة كما عرفت.

وعليه فيكون مفاد الرواية : أنّ من تذكّر في وقت فضيلة المغرب فوات العصر مثلاً فإنّه يبدأ بالعصر إلّا إذا خاف من تقديمها خروج وقت الفضيلة فإنّه يقدّم المغرب حينئذ. فتكون قد دلّت على تقدم الحاضرة على الفائتة ، دون العكس الذي هو المطلوب.

وثالثاً : أنّها ناظرة إلى بيان حكم الفائتة في نفسها كما مرّ ذلك في الرواية

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٨.

(٢) [لا يخفى أنّه من كلام السائل].

(٣) شرح العروة : ١١ : ٩٠.

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأُولى ومفادها محبوبية البدأة بالفائتة لزوماً أو استحباباً ، ولا تعرّض فيها لبيان حكم الحاضرة كي تدلّ على الشرطية.

ومنها : رواية معمر بن يحيى قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صلّى على غير القبلة ثمّ تبينت القبلة وقد دخل وقت صلاة أُخرى ، قال : يعيدها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها ...» (١).

فإنّها محمولة على من صلّى إلى غير القبلة بدون عذر أو كانت صلاته إلى نقطتي المشرق أو المغرب أو مستدبر القبلة ، فإنّ من صلّى إلى ما بين المشرقين وكان معذوراً في ذلك كانت صلاته صحيحة لا تحتاج إلى الإعادة ، لما ورد عنهم (عليهم السلام) من أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة (٢).

وكيف ما كان ، فقد حكم (عليه السلام) بلزوم البدأة بتلك الصلاة الواقعة على غير جهة القبلة ، ثم الإتيان بالصلاة الأُخرى التي قد دخل وقتها.

وفيه أوّلاً : أنّها ضعيفة السند ، لضعف طريق الشيخ إلى الطاطري بعلي بن محمد بن الزبير القرشي (٣).

وثانياً : أنّها غير ناظرة إلى الفوائت ، فإنّ الظاهر منها هو دخول وقت الفضيلة للصلاة الأُخرى حسبما كان المتعارف في تلك العصور من تفريق الصلوات على حسب أوقات الفضيلة ، كما قد يشعر بذلك تعبيره (عليه السلام) : «يعيدها» ، حيث يكشف ذلك عن بقاء وقت الإجزاء للصلاة التي وقعت على غير جهة القبلة ، وإلّا عبّر عنه بقوله : يقضيها. الدال على خروج الوقت وفوت الفريضة.

وقد تكرّر في الروايات مثل هذا التعبير أعني خروج الوقت ودخول وقت صلاة أُخرى ويراد به خروج وقت الفضيلة لصلاة ودخول وقتها لأُخرى.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٣ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٢.

(٣) الفهرست : ٩٢ / ٣٨٠.

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فالحكم بتقديم تلك الصلاة على الأُخرى في الرواية من أجل بقاء وقتيهما ولزوم مراعاة الترتيب ، لا لخروج وقت الاولى وتقديم الفائتة على الحاضرة. فهي أجنبية عن محلّ الكلام. فهذه الروايات الثلاث ضعيفة السند ، بالإضافة إلى قصور الدلالة.

ومنها : صحيحة صفوان عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «سألته عن رجل نسي الظهر حتى غربت الشمس وقد كان صلّى العصر ، فقال : كان أبو جعفر أو كان أبي ـ (عليه السلام) يقول : إن أمكنه أن يصلّيها قبل أن تفوته المغرب بدأ بها ، وإلّا صلّى المغرب ثم صلّاها» (١).

وهي صحيحة السند ، فانّ محمد بن إسماعيل وإن كان مردّداً بين الثقة وغيره ، لكن الذي يروي عن الفضل بن شاذان ويروي عنه الكليني (قدس سره) كثيراً هو الثقة ، لبعد إكثاره الرواية عن غير الثقة ، مع أنّ كتاب الكافي مشحون بمثل هذا السند.

مضافاً إلى وجود السند بعينه ضمن أسانيد كامل الزيارات ، فلا مجال للتوقّف في سندها. وقد دلّت على لزوم تقديم فائتة الظهر على المغرب عند التمكّن منه.

ويتوجّه عليه : أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ ، إذ المفروض فيها هو كون نسيان الظهر مغيّا بغروب الشمس كما يقتضيه قوله : «حتى غربت الشمس» ، فينتفي النسيان لا محالة بعد الغروب حيث يكون متذكّراً لها آن ذاك.

فكيف يجتمع هذا مع قوله (عليه السلام) : «إن أمكنه أن يصلّيها قبل أن تفوته المغرب ...» مع امتداد وقت المغرب إلى منتصف الليل ، بل إلى الفجر على الأظهر وإن كان آثماً في التأخير ، فإنّه متمكّن من البدأة بالظهر الفائتة حين تذكّره لها قبل الشروع في المغرب ، لامتداد وقتها كما عرفت ، فمع سعة وقت

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٩ / أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٧.

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المغرب لا مجال للترديد الذي تضمّنته الصحيحة.

فيظهر من ذلك : أنّ المراد من فوت المغرب فوت وقت فضيلته ، نظراً إلى أنّ الوقت المذكور قصير ينتهي بذهاب الشفق وانعدام الحمرة المشرقية ، بحيث لا يزيد مجموعة على خمس وأربعين دقيقة تقريباً.

ومن الجائز أن لا يتيسّر للمكلّف الجمع بين قضاء الظهر وإدراكه فضيلة المغرب ، لاشتغاله بمقدّمات الصلاة من الوضوء أو الغسل وتطهير البدن أو اللباس ونحو ذلك ، ويجوز أيضاً إمكان الجمع بين الأمرين لأجل تحقّق هذه المقدمات قبل الغروب ، ولأجل ذلك حسن الترديد والتشقيق. فالمراد خوف فوات وقت فضيلة المغرب قطعاً لا وقت إجزائها.

وعليه فيكون مفاد الصحيحة أنّه لدى خوف الفوت تتقدّم المغرب على الظهر الفائتة ، دون العكس الذي هو المطلوب. فهي على خلاف ما ذهب إليه القائل أدلّ كما ذكرنا.

وعلى الجملة : أنّ الصحيحة تنظر إلى بيان حكم الفائتة ، وأنّ البدأة بها محبوبة ما لم يزاحمها المحبوبية من جهة أُخرى وهي إدراك وقت الفضيلة للحاضرة ، وإلّا قدّمت الثانية ، وليست مسوقة لبيان حكم الحاضرة كي تدلّ على اشتراط سبقها بالفائتة.

ومنها : صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة أُخرى ، فقال : إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها ، فاذا ذكرها وهو في صلاة بدأ بالتي نسي وإن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة ، ثمّ صلّى المغرب ، ثمّ صلّى العتمة بعدها» (١).

فإنّها بإطلاقها تشمل ما إذا كانت المنسية والحاضرة في وقت واحد

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩١ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ٢.

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كالظهرين والعشاءين ، أو في وقتين كالعصر والمغرب ، وقد دلّت على لزوم البدأة بالأُولى ، وتقديم الفائتة على الحاضرة ، حتّى أنّه لو كان مشغولاً بالحاضرة لعدل منها إلى الفائتة.

ويتوجّه عليه : أنّها أيضاً قاصرة الدلالة ، فإنّ لزوم البدأة بالمنسيّة فيما إذا اتحد وقتها مع الحاضرة كلزوم العدول فيما لو تذكّر وهو في الأثناء إنّما يكونان بحسب الظاهر ، لمراعاة الترتيب المعتبر بين الصلاتين ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

وأمّا بالنسبة إلى مختلفتي الوقت كالعصر والمغرب فظاهر قوله (عليه السلام) : «فاذا ذكرها وهو في صلاة بدأ بالتي نسي» وإن كان في بادئ النظر هو لزوم تقديم الفائتة على الحاضرة وكونه شرطاً في صحّتها ، وإلّا لم يكن موجب للعدول. إلّا أنّ التأمل في صدر الصحيحة يقضي بخلافه.

فإنّه (عليه السلام) ذكر أوّلاً أنّه «إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها ...» ، فقد بيّن (عليه السلام) بهذا الكلام حكم الفائتة في حدّ ذاتها ، وأنّ المبادرة إليها حينما يذكرها محبوبة لزوماً أو استحباباً على الخلاف المتقدّم (١) في مسألة المواسعة والمضايقة.

ثمّ إنّه (عليه السلام) فرّع على ذلك قوله : «فاذا ذكرها وهو في صلاة بدأ بالتي نسي ...» إيعازاً إلى أنّ محبوبية المبادرة إلى الفائتة التي دلّ عليها صدر الرواية باقية حتّى ولو كان التذكّر في الأثناء مع إمكان التدارك بالعدول إلى الفائتة ، بل ولو كان في صلاة المغرب مع الإمام ، وذلك بأن يضيف ركعة إلى ما أتى به ويجعلها الفائتة ، ثمّ يأتي بالمغرب منفرداً ، دفعاً لما قد يتوهّم من عدم إمكان التدارك بعد الدخول في الحاضرة ، فيكون الأمر بالعدول وارداً مورد توهّم الحظر ، وهو لا يدلّ إلّا على الجواز دون الوجوب.

__________________

(١) في ص ١٦٠ وما بعدها.

١٨٠