موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

الثالث : التكفير (*) (١)

______________________________________________________

(١) غير خفي أنّ عملية التكفير لم تكن معهودة في عصر النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن نطقت به جملة من النصوص المرويّة من غير طرقنا فإنّها بأجمعها مفتعلة وعارية عن الصحّة ، ضرورة أنّه لو كان لشاع وبان وكان يعرفه حتّى الصبيان ، وأصبح من الواضحات المتواترة كسائر أفعال الصلاة وكيف يخفى مثل هذا الأمر الظاهر البارز الّذي استمرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة تلك الفترة الطويلة والسنين العديدة ، وما هو معنى السؤال عن حكمه من الأئمّة عليهم‌السلام ، وأيّ موقع للجواب عنه كما في صحيحة ابن جعفر الآتية (١) بأنّه عمل وليس في الصلاة عمل ، مع قرب العهد ، وأيّ وجه للخلاف بين العامّة في كيفية وضع اليدين وأنّه فوق السرّة أو تحتها.

إذن فلا ينبغي التردّد في كونه من البدع المستحدثة بعد عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله إمّا في زمن الخليفة الأوّل كما قيل به ، أو الثاني ولعلّه الأظهر ، كما جاء في الأثر من أنّه لمّا جي‌ء بأُسارى الفرس إلى عمر وشاهدهم على تلك الهيئة فاستفسر عن العلّة أُجيب بأنّهم هكذا يصنعون أمام ملوكهم تعظيماً وإجلالاً ، فاستحسنه وأمر بصنعه في الصلاة ، لأنّه تعالى أولى بالتعظيم.

وكيف ما كان ، فيقع الكلام تارة في حكم التكفير تكليفاً ووضعاً ، وأُخرى في موضوعه فهنا مقامان.

أمّا المقام الأوّل : فالتكفير الواقع في الصلاة ويسمّى التكتف أيضاً يتصوّر

__________________

(*) على الأحوط ، ولا يختص الحكم بالنحو الّذي يصنعه غيرنا ، هذا إذا لم يكن بقصد الجزئية وإلّا فهو مبطل جزماً.

(١) في ص ٤٢٥.

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

على أنحاء :

أحدها : أن يقصد به الجزئية للصلاة ، ولا شبهة في حرمته وفي مبطليته. أمّا الأوّل فللتشريع. وأمّا الثاني فلكونه من الزيادة العمدية القادحة ، وهذا واضح من غير حاجة إلى ورود دليل بالخصوص.

ثانيها : أن يؤتى به لا بقصد الجزئية للصلاة ، بل بعنوان العبودية والخضوع والخشوع المأمور بها حال الصلاة كما هو الدارج عند العامّة ، ولا ريب في حرمته أيضاً لمكان التشريع. وأمّا البطلان فمقتضى القاعدة عدمه بعد وضوح أنّ الحرمة المزبورة لا تستوجبه ما لم يرجع التشريع إلى التقييد في مقام الامتثال فإنّه عمل خارج عن الصلاة كالنظر إلى الأجنبية أثناءها.

نعم ، قد يستدل له بقوله عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن مسلم الآتية (١) «ذلك التكفير لا تفعل» بدعوى ظهور النهي في باب المركبات الارتباطية في الإرشاد إلى المانعية.

وفيه : أنّ الأمر وإن كان كذلك ولكنّه خاص بما إذا لم يكن الفعل المنهي عنه محرّماً في نفسه كالصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، دون مثل المقام ممّا هو في نفسه حرام لمكان التشريع ، فانّ الإرشاد إلى الفساد حينئذ غير واضح كما لا يخفى.

على أنّه مع التسليم فهي معارضة بقوله عليه‌السلام في صحيحة علي بن جعفر : «فان فعل فلا يعود» (٢) الصريح في عدم الفساد.

ثالثها : أن يؤتى به لا بقصد الجزئية ، ولا بعنوان الخضوع والعبودية ، فهل هو أيضاً محرّم ومبطل؟ اختار الماتن (قدس سره) عدمهما ، ولكن ظاهر المشهور القائلين بهما ، بل الإجماع المدّعى عليهما تعميم الحكم لهذه الصورة أيضاً ، فالتكفير

__________________

(١) في ص ٤٢٤.

(٢) الآتية في ص ٤٢٥.

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بنفسه محرّم ذاتاً ومن موانع الصلاة كالتكلّم والقهقهة ونحوهما ، وليست المانعية تشريعية.

ويشهد لهذا التعميم استثناؤهم صورة التقيّة ، فإن من البيِّن جدّاً عدم انسحابها في موارد الحرمة التشريعية فإنّها متقوّمة بالقصد ولا معنى للتقيّة فيه ضرورة أنّ المتكتِّف لأجل التقيّة لا يقصد التشريع بتكتّفه بل دفع ضرر المخالفين عن نفسه ، فلو لم يكن العمل في حد ذاته محرّماً ومبطلاً كان الاستثناء حينئذٍ منقطعاً كما نبّه عليه المحقق الهمداني (قدس سره) (١) و

انّما يتّجه الاستثناء المتّصل فيما إذا كان العمل في نفسه كذلك كبقية المنافيات من القهقهة ونحوها.

وقد فهم المحقِّق أيضاً هذا المعنى حيث اختار الكراهة تبعاً لأبي الصلاح (٢) مستدلّاً عليها باستلزام التكتف ترك المستحب وهو وضع اليدين على الفخذين ، فان في هذا الاستدلال دلالة واضحة على أنّه يرى أنّ المكروه إنّما هو ذات العمل مطلقاً فإنّه الموجب للترك المزبور المستتبع للكراهة العرضية لا خصوص ما قصد به العبودية ، بل إنّ هذا حرام لمكان التشريع كما عرفت فكيف يقول بالكراهة.

وكيف ما كان ، فقد عرفت أنّ المشهور هو الحرمة والبطلان ، بل عن السيِّد المرتضى (٣) دعوى الإجماع على ذلك.

ويستدل لهم بوجوه : أحدها : دعوى الإجماع.

وفيه : مع أنّها موهونة لذهاب جماعة إلى الخلاف كالمحقِّق في المعتبر وأبي الصلاح وغيرهما ، أنّه على تقدير تسليمه لم يكن إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم بعد احتمال استناد المجمعين إلى الوجوه الآتية ، بل إنّ هذا هو

__________________

(١) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٤٠١ السطر ٣٥.

(٢) المعتبر ٢ : ٢٥٧ ، الكافي في الفقه : ١٢٥.

(٣) الانتصار : ١٤١.

٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الظاهر منهم لتعويل أكثرهم عليها.

ثانيها : قاعدة الاحتياط. ويدفعها : مضافاً إلى أنّ مقتضى الإطلاق في دليل القراءة عدم التقييد بالتجرّد عن التكتف ، أنّ المرجع إنّما هي أصالة البراءة بناءً على ما هو الصواب من لزوم الرجوع إليها في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين دون الاشتغال.

ثالثها : أنّ ذلك هو مقتضى توقيفية العبادات.

ويندفع : بأنّ مقتضى التوقيفية عدم جواز الإتيان بشي‌ء بقصد العبودية ما لم يسوّغه دليل شرعي ، وإلّا كان تشريعاً محرّماً وهو حق لا نضايق عنه. وأمّا من دون هذا القصد كما هو مورد الفرض فلا يتوقف جوازه على نهوض دليل عليه بالخصوص ، إذ لا ارتباط له بتوقيفية العبادة فإنّها سالبة بانتفاء الموضوع.

رابعها : أنّه من الفعل الكثير المبطل للصلاة.

ولكنّه كما ترى ، بل في غاية الضعف ، ضرورة أنّ المبطل منه ما كان ماحياً للصورة ، ولا محو جزماً ، إذ أيّ فرق بين وضع إحدى اليدين على الأُخرى وبين وضعهما على الفخذين ، أو الظهر أو الرأس ونحوها ممّا لا يحتمل فيه البطلان بل الأوّل منها مستحب ولا يكون الماحي للصورة مستحباً بالضرورة.

خامسها : وهي العمدة الروايات وإليك عرضها :

إحداها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «قلت له الرجل يضع يده في الصلاة وحكى اليمنى على اليسرى فقال : ذلك التكفير لا تفعل» (١).

الثانية : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «... ولا تكفّر فإنّما

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٦٥ / أبواب قواطع الصلاة ب ١٥ ح ١.

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يصنع ذلك المجوس» (١) ونحوها مرسلة حريز (٢).

الثالثة : صحيحة علي بن جعفر قال : «قال أخي قال علي بن الحسين عليه‌السلام : وضع الرجل إحدى يديه على الأُخرى في الصلاة عمل وليس في الصلاة عمل» (٣).

الرابعة : صحيحته الأُخرى «سألته عن الرجل يكون في صلاته أيضع إحدى يديه على الأُخرى بكفّه أو ذراعه؟ قال : لا يصلح ذلك فان فعل فلا يعود له» (٤).

الخامسة : ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن علي عليه‌السلام في حديث الأربعمائة «قال : لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله (عزّ وجلّ) يتشبّه بأهل الكفر ، يعني المجوس» (٥).

ولكن شيئاً منها لا يصلح للاستدلال.

أمّا الأُوليان : وما بمضمونهما ، فلأنّ المنهي عنه فيها إنّما هو عنوان التكفير المشروب في مفهومه الخضوع والخشوع والعبودية على نحو ما يصنعه العامّة ولا ريب في حرمته لكونه من التشريع المحرّم كما تقدّم. وأمّا ذات العمل منعزلاً عن هذا العنوان الّذي هو محل الكلام فلا دلالة فيها على حرمته بوجه.

وأمّا الثالثة : فالممنوع فيها وإن كان هو نفس العمل وذات التكتّف لا بعنوان التكفير إلّا أنّ الأخذ بظاهرها متعذِّر ، لعدم احتمال البطلان بكل عمل واقع أثناء الصلاة على سبيل الضابطة الكلِّيّة وإن لم يكن ماحياً للصورة حسبما يقتضيه الجمود على ظاهر الصحيحة كحك الرأس ، أو وضع اليد على الظهر وما شاكلهما ممّا هو مثل التكتف في عدم كونه ماحياً ، فانّ ذلك مقطوع البطلان. فلا مناص

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ٧ : ٢٦٦ / أبواب قواطع الصلاة ب ١٥ ح ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥.

(٥) الوسائل ٧ : ٢٦٧ / أبواب قواطع الصلاة ب ١٥ ح ٧ ، الخصال : ٦٢٢.

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

من حملها إمّا على أنّ المراد من العمل العمل الصلاتي ، أي المأتي به بعنوان كونه من أفعال الصلاة وأجزائها تشريعاً وبدعة ، فيكون حاصل المعنى أنّ التكتف بدعة ولا بدعة في الصلاة ، أو على أنّ المراد أنّ التكتّف عمل خارجي شاغل للقلب مانع عن الإقبال والتوجّه ، ولا ينبغي الإتيان في الصلاة بعمل غير أفعالها ، فيكون النهي حينئذ محمولاً على الكراهة كما أُشير إليه في بعض النصوص. وعلى أيّ حال فلا تصلح للاستدلال بها لمحل الكلام.

وأمّا الرابعة : فهي على خلاف المطلوب أدل ، للاقتصار على النهي عن العود من غير أمر بالإعادة ، الكاشف عن صحّة العبادة وعدم فسادها بالتكتف.

وأمّا الخامسة : فالسند وإن كان نقيّاً بالرغم من اشتماله على القاسم بن يحيى والحسن بن راشد ولم يوثقا صريحاً ، لوجودهما في أسناد كامل الزيارات ، إلّا أنّ الدلالة قاصرة ، لأنّ مقتضى المماثلة المعتبرة في التشبيه أنّ المنهي عنه إنّما هو التكتف الّذي يصنعه المجوس وهو المأتي به بقصد التأدّب والخضوع ، فلا تدل على حرمته بما هو وفي حد نفسه الّذي هو محل الكلام.

والمتحصِّل من جميع ما تقدّم : أنّ التكتف في حد ذاته لا دليل على حرمته ولا مبطليته. نعم ، هو مكروه كما ذهب إليه المحقِّق لكن كراهة عرضية مجازية باعتبار استلزامه ترك المستحب وهو وضع اليدين على الفخذين.

وأمّا التكتف بقصد العبودية والخضوع فهو وإن كان محرّماً تشريعاً إلّا أنّه لا يستوجب البطلان. فما في الرياض (١) من عدم بطلان الصلاة بالتكتف مطلقاً هو الصواب وإن كان الاحتياط حذراً عن مخالفة المشهور ، بل الإجماع المنقول ممّا لا ينبغي تركه.

__________________

(١) لاحظ رياض المسائل ٣ : ٥١٣.

٤٢٦

بمعنى وضع إحدى اليدين على الأُخرى على النحو الّذي يصنعه غيرنا (١) إن كان عمداً لغير ضرورة ، فلا بأس به سهواً (٢) ،

______________________________________________________

(١) وأمّا المقام الثاني ، أعني تفسير موضوع التكفير ، فهل هو وضع إحدى اليدين على الأُخرى ، أو خصوص اليمنى على اليسرى بوضع الكف على الكف أو على الذراع أو العضد بلا حائل أو معه فوق السرة أو تحتها؟ فيه خلاف.

ولا يخفى أنّه على المختار من كراهته العرضية وحرمته التشريعية لا يفرق حينئذ بين أنحاء الوضع ، لاشتراك الكل في ترك المستحب ، أعني الوضع على الفخذين كاشتراكها في التعبّد بما لا أمر به ، اللّذين كانا هما المناط في الكراهة والحرمة المزبورتين حسبما تقدّم.

وأمّا على القول بحرمته الذاتية فالمتبع في تعيين الحد هو الدليل ، ومقتضى صحيحة ابن مسلم وإن كان هو خصوص وضع اليمنى على اليسرى كما اختاره العلّامة (١) ، كما أنّ مقتضى صحيحة ابن جعفر هو التخصيص بوضع الكف أو الذراع ، إلّا أنّ مقتضى صحيحته الأُخرى تعميمه لمطلق وضع اليد ، وحيث لا تنافي بينهما فلا موجب لارتكاب التقييد ، ونتيجته تعميم الحكم لمطلق ما صدق عليه وضع إحدى اليدين على الأُخرى كيف ما اتّفق.

نعم ، يظهر من رواية الخصال المتقدِّمة تخصيصه بما عدّ تشبّهاً بعمل المجوس فلا يكفي الوضع من دونه كما لو ألصق أصابع إحدى يديه بالأُخرى.

(٢) قال في الجواهر (٢) : لا أجد فيه خلافاً ، بل ظاهر إرساله إرسال المسلّمات من جماعة من الأصحاب كونه من القطعيات ، ثمّ نقل في آخر عبارته كلاماً

__________________

(١) التذكرة ٣ : ٢٩٥ ، المنتهى ١ : ٣١١ السطر ٢٩.

(٢) الجواهر ١١ : ٢٣.

٤٢٧

وإن كان الأحوط الإعادة معه أيضاً (١) ، وكذا لا بأس به مع الضرورة (٢)

______________________________________________________

عن الرياض يظهر منه أنّ المسألة غير قطعية. وكيف ما كان ، فقد استشكل هو (قدس سره) في المسألة لو لم يكن إجماع بعدم الوقوف على ما يوجب خروج صورة السهو بعد الإطلاق في دليل المانعية ، خصوصاً على القول بأنّ العبادات أسامٍ للصحيح الموجب لإجمالها وعدم صحّة التمسّك بإطلاقاتها.

ودعوى : اختصاص دليل المنع بصورة العمد لمكان الاشتمال على النهي المتعذِّر توجيهه إلى الساهي ،

يدفعها : ما هو المقرّر في محلِّه (١) من ظهور النواهي كالأوامر في باب المركبات في الغيرية والإرشاد إلى المانعية أو الجزئية أو الشرطية الشاملة للعامد والساهي بمناط واحد.

أقول : ما أفاده (قدس سره) وجيه لو كان القائل بالاختصاص يرى قصوراً في المقتضي للتعميم ، وليس كذلك بل هو من أجل وجود المانع وهو حديث لا تعاد الحاكم على الأدلّة الأوّلية والموجب لتخصيصها في غير الخمسة المستثناة بصورة العمد بناءً على ما هو الصواب من شموله للموانع والشرائط كالأجزاء.

وعلى الجملة : فالقول بالاختصاص ليس لأجل الإجماع ليستشكل بأنّ المسألة غير قطعية ، ولا لقصور المقتضي ليناقش بما ذكر ، بل لحديث لا تعاد حسبما عرفت ، فما في المتن هو المتعيِّن.

(١) ولعلّه حذراً عن الشبهة المزبورة.

(٢) بلا خلاف فيه ولا إشكال ، لعموم أدلّة التقيّة.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ١٥٦ ، ١٤٥.

٤٢٨

بل لو تركه حالها أشكلت الصحّة وإن كانت أقوى (١) ، والأحوط عدم وضع إحدى اليدين على الأُخرى بأيّ وجه كان (٢) ، في أيّ حالة من حالات الصلاة وإن لم يكن متعارفاً بينهم ، لكن بشرط أن يكون بعنوان الخضوع

______________________________________________________

(١) فانّ احتمال البطلان في المقام يبتني إمّا على دعوى أنّ العمل المخالف للتقيّة منهي عنه ، أو على أنّه غير مأمور به على الأقل ، فتفسد العبادة لفقد الأمر ، وشي‌ء منهما لا يتم.

أمّا الدعوى الثانية : فلوضوح عدم اقتضاء أوامر التقيّة تقييداً في موضوع الأوامر الأوّلية ، فالصلاة مع التكفير وإن وجبت بالعنوان الثانوي إلّا أنّ مصلحة الصلاة بعنوانها الأوّلي باقية على حالها من غير تصرف في موضوعها. إذن فالإتيان بها بلا تكفير موافق لأمرها ، فتصح بطبيعة الحال سيّما وأنّ المنسوب إلى العامّة أنّهم لا يرون جزئية التكفير ولا شرطيّته ، وإنّما هو مستحب ظرفه الصلاة (١) ، فإنّ الأمر حينئذ أوضح.

وأمّا الدعوى الاولى : فتندفع أوّلاً : بأنّ الثابت بحسب الأدلّة إنّما هو وجوب التقيّة لا حرمة مخالفتها. إذن فالعمل المخالف لم يتعلّق به نهي إلّا بناءً على اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه وهو في حيّز المنع.

وثانياً : مع التسليم فليس الحرام إلّا ما هو مصداق لمخالفة التقيّة ومبرز للتشيّع وهو ترك التكفير حال الصلاة لا نفس الصلاة الفاقدة للتكفير ، فلم يتعلّق النهي بذات العبادة بل بما هو خارج عنها. ومعه لا مقتضي لفسادها.

(٢) كما علم ممّا سبق.

__________________

(١) المجموع ٣ : ٣١١ ، المغني ١ : ٥٤٩ ، بدائع الصنائع ١ : ٢٠١.

٤٢٩

والتأدّب ، وأمّا إذا كان لغرض آخر كالحك ونحوه فلا بأس به مُطلقاً (١) حتّى على الوضع المتعارف.

الرابع : تعمّد الالتفات بتمام البدن إلى الخلف أو إلى اليمين أو اليسار بل وإلى ما بينهما على وجه يخرج عن الاستقبال وإن لم يصل إلى حدّهما ، وإن لم يكن الالتفات حال القراءة أو الذكر ، بل الأقوى ذلك في الالتفات بالوجه إلى الخلف مع فرض إمكانه ولو بميل البدن على وجه لا يخرج عن الاستقبال وأمّا الالتفات بالوجه يميناً ويساراً مع بقاء البدن مستقبلاً (٢) ،

______________________________________________________

(١) قد عرفت الحال فيه فلاحظ.

(٢) قاطعية الالتفات في الجملة ممّا لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنّما الكلام في حدّه وأنّه هل يعتبر فيه أن يكون بتمام البدن ، أو يكفي الالتفات بالوجه ، وهل يلزم أن يكون إلى الخلف أو يكفي اليمين أو الشمال بل ما بينهما؟

فقد اختلفت كلمات الأصحاب في المقام ، فمنهم من عبّر بالالتفات بكلّه ، وآخر إلى الوراء كالمحقِّق في الشرائع (١) ، وثالث بحيث يرى من خلفه إلى غير ذلك ، وحيث إنّ المتبع هو الدليل فلا بدّ إذن من استعراض النصوص الواردة في المقام :

فمنها : صحيحة زرارة «أنّه سمع أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الالتفات يقطع الصلاة إذا كان بكلّه» (٢).

وهذه الصحيحة هي مدرك من خصّ الالتفات بتمام البدن ، لكنّه مبني على

__________________

(١) الشرائع ١ : ١١٠.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٤٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٣.

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

عود الضمير في «بكلّه» إلى المصلِّي أو البدن ونحو ذلك ، ولم يسبق ذكر منه ليرجع إليه. على أنّ المتعارف في من صرف تمام بدنه عن القبلة التعبير عنه بالانحراف دون الالتفات الّذي هو ظاهر في صرف بعض البدن وهو الوجه كما لا يخفى.

إذن فمرجع الضمير هو الالتفات نفسه السابق ذكره ، ويكون حاصل المعنى أنّ القاطع للصلاة هو الالتفات بصرف الوجه إذا كان بكلّ الالتفات المعبّر عنه في كلمات القوم بالالتفات الفاحش كما يفصح عنه ما ورد في صحيحتين من تخصيص المبطل بذلك ، أي بالالتفات الفاحش.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال «قال : إذا التفتّ في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً وإن كنت قد تشهّدت فلا تعد» (١).

وفي حديث الأربعمائة المروي في الخصال قال : «الالتفات الفاحش يقطع الصلاة ...» إلخ (٢).

إذن فيكون مفاد هذه النصوص تخصيص المبطل بالالتفات الفاحش وقد عرفت تفسير الالتفات بصرف الوجه فقط دون البدن.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : سألته عن الرجل يلتفت في صلاته ، قال : لا ، ولا ينقض أصابعه» (٣).

وهي وإن دلّت على المنع عن مطلق الالتفات ولكنّه يقيِّد بالفاحش جمعاً بينه وبين ما سبق.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٤٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٤٥ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٧ ، الخصال : ٦٢٢.

(٣) الوسائل ٧ : ٢٤٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ١.

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن عبد الملك قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الالتفات في الصلاة أيقطع الصلاة؟ فقال : لا ، وما أُحبّ أن يفعل» (١).

وهي وإن دلّت على الجواز عن كراهة لكنّها محمولة على الالتفات غير الفاحش بقرينة ما سبق.

والمتحصِّل من هذه النصوص بطلان الصلاة بصرف الوجه يمنة أو يسرة شريطة كونه فاحشاً ، وعدم البأس بغير الفاحش منه وإن كان مكروهاً.

بقي الكلام في روايتين استدلّ بهما من خصّ البطلان بالالتفات إلى الخلف كالمحقِّق في الشرائع.

إحداهما : ما رواه في السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرِّضا عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى ولا يعتد به ، وإن كانت نافلة لا يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود» (٢).

ولكنّها مضافاً إلى ضعف السند ، لجهالة طريق ابن إدريس إلى كتاب الجامع كما مرّ غير مرّة ، قاصرة الدلالة لما عرفته في تفسير الالتفات من أنّه لغة وعرفاً عبارة عن صرف الوجه مع بقاء البدن مستقبلاً ، وحيث إنّ هذا الصرف متعذِّر إلى الخلف في الإنسان وإن أمكن في بعض الحيوانات ، اللهمّ إلّا بصرف البدن أيضاً فيكون انحرافاً لا التفاتاً ، فلا جرم يراد به الالتفات الفاحش بحيث يرى من خلفه فيتّحد مفادها مع النصوص المتقدِّمة ، هذا.

والظاهر أنّ مراد المحقِّق أيضاً من الالتفات إلى الوراء هو ذلك ، أي صرف الوجه على نحو يرى ما خلفه المساوق للالتفات الفاحش لا الاستدبار بمقاديم

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٤٥ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٠٠ / ٧٨٤.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٤٦ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٨ ، السرائر ٣ (المستطرفات) : ٥٧٢.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

البدن فإنّه كما عرفت انحراف لا التفات ، وهو عربي عارف باللغة فكيف يخفى عليه مثل ذلك.

ثانيتهما : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يكون في صلاته فيظن أنّ ثوبه قد انخرق أو أصابه شي‌ء هل يصلح له أن ينظر فيه أو يمسّه؟ قال : إن كان في مقدّم ثوبه أو جانبيه فلا بأس ، وإن كان في مؤخّره فلا يلتفت فإنّه لا يصلح» (١) بدعوى أنّ النظر إلى الخرق الكائن في مؤخّر الثوب لا يكون إلّا بالالتفات إلى الخلف.

وتندفع : بمنع الملازمة ، لجواز تحويل المؤخّر إلى الإمام والنظر فيه ، بل لعلّ العادة جارية على ذلك ، فانّ الغالب لدى إرادة النظر إدارة المؤخّر إلى القدام لا صرف الوجه إلى الوراء على وجه يخرج عن حالة الاستقبال.

نعم ، بما أنّ هذه العملية أثناء الصلاة تستلزم نوعاً من انشغال القلب وانصراف الذهن عن التوجّه المرغوب فيه ، فلا جرم يكون النهي محمولاً على الكراهة. ويرشدك إلى ذلك عطف المس على النظر فانّ من الضروري عدم استلزام المس للالتفات أصلاً. وهذا خير دليل على أنّ النهي عنهما من باب واحد وهو ما عرفت من انشغال الذهن عن العبادة المحمول على الكراهة.

والمتحصِّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الالتفات بالوجه إلى الخلف غير ممكن ، وإلى اليمين أو اليسار مع كونه فاحشاً بحيث يرى من خلفه مبطل ، لمنافاته مع تولِّي الوجه نحو المسجد الحرام المأمور به في قوله تعالى (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ*) (٢) مضافاً إلى النصوص المتقدِّمة ، ولا بأس بغير الفاحش منه وإن كان مكروهاً ، لصحيحة عبد الملك ، إلّا إذا أوجب الخروج عن الاستقبال

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٤٥ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٤.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٤.

٤٣٣

فالأقوى كراهته مع عدم كونه فاحشاً (*) (١) وإن كان الأحوط اجتنابه أيضاً خصوصاً إذا كان طويلاً وسيّما إذا كان مقارناً لبعض أفعال الصلاة خصوصاً الأركان سيّما تكبيرة الإحرام ، وأمّا إذا كان فاحشاً ففيه إشكال فلا يترك الاحتياط حينئذ (٢) ، وكذا تبطل مع الالتفات سهواً فيما كان عمده مبطلاً (٣)

______________________________________________________

بوجهه فإنّه أيضاً مبطل لما عرفت.

وأمّا الالتفات بتمام البدن المعبّر عنه بالانحراف عن القبلة فلا شبهة في اقتضائه البطلان ولا أقل من أجل فقد شرط الاستقبال المعتبر في تمام حالات الصلاة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على البطلان لدى الالتفات الفاحش ، عدم الفرق بين تحقّقه حال الاشتغال بالأفعال وبين كونه في الأكوان المتخلِّلة ، كما لا فرق في الأوّل بين الأركان وغيرها ولا بين تكبيرة الإحرام وغيرها ، ولا بين الالتفات في زمان طويل أو قصير ، كل ذلك لإطلاق الدليل بعد عدم نهوض ما يصلح للتقييد.

(١) ما لم يستوجب الخروج عن الاستقبال بوجهه وإلّا فهو موجب للبطلان كما عرفت.

(٢) وقد عرفت أنّ الأظهر هو الإبطال.

(٣) لإطلاق النصوص المتقدِّمة الشامل لصورتي العمد والسهو ، بعد وضوح عدم السبيل للتصحيح بحديث لا تعاد ، ضرورة أنّ الالتفات السهوي إخلال بالقبلة التي هي من الخمسة المستثناة ، فهو إذن عاضد للإطلاق لا أنّه حاكم عليه.

__________________

(*) بل الأقوى إبطاله الصلاة إذا خرج عن الاستقبال بوجهه.

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، خصّ البطلان جماعة من الأصحاب بالالتفات العمدي فلا يقدح السهوي منه. وهو وجيه فيما إذا كان الالتفات إلى ما بين اليمين واليسار ، حيث قد ورد أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة ، المحمول على صورة السهو والغفلة كما تقدّم في مبحث القبلة ، فإنّ ذلك يقتضي الصحّة في المقام بالفحوى كما لا يخفى.

وأمّا إذا كان إلى نقطتي اليمين أو الشمال فضلاً عن الخلف لو أمكن فالحكم بالصحّة حينئذ في غاية الإشكال ، فإن عمدة ما يستدل به لذلك هو التمسّك بحديث رفع النسيان ، بل ألحق بعضهم به الإكراه والاضطرار تمسّكاً بحديث رفعهما ، بدعوى أنّ مقتضى رفع قاطعية الالتفات لدى النسيان أو الإكراه فرضه كالعدم وكأنّه لم يكن ، وهو مساوق لصحّة العمل لفرض خلوّه عمّا يمنع عنها.

ويندفع : بما هو المحقّق في محلّه من عدم جريان الحديث في باب الأجزاء والشرائط والموانع لتثبت به صحّة المأتي به ، نظراً إلى أنّ المأمور به إنّما هو الكلِّي والطبيعي الجامع بين الأفراد الطولية والعرضية المحدودة فيما بين الحدّين وما تعلّق به النسيان أو الإكراه أو الاضطرار إنّما هو فرد من ذلك الجامع. فما تعلّق به النسيان مثلاً غير ما تعلّق به الأمر ، ولا بدّ من تعلّق الرفع بعين ما تعلّق به الوضع ، ولأجله لا يتكفّل الحديث لتصحيح الباقي ، فلا يكون الإتيان بالناقص مجزئاً ، اللهمّ إلّا مع استيعاب العذر لتمام الوقت وهو أمر آخر وتمام الكلام في محلّه (١).

فالصواب عدم الفرق في البطلان بين صورتي العمد والسهو ، عملاً بإطلاقات الأدلّة السليمة عمّا يصلح للتقييد.

ثمّ إنّه قد يظهر من بعض النصوص المعتبرة عدم قدح الالتفات السهوي فيما

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٦٥ ، الأمر الثالث.

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا كان في الركعتين الأخيرتين أو ثالثة المغرب أو ثانية الغداة ، وهي بين ما هو مطلق وغير صريح في الاستدبار كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سئل عن رجل دخل مع الإمام في صلاته وقد سبقه بركعة فلمّا فرغ الإمام خرج مع الناس ثمّ ذكر بعد ذلك أنّه فاتته ركعة ، فقال : يعيدها ركعة واحدة» (١) لجواز كون الخروج من طرف القبلة.

وبين ما هو صريح فيه كموثقة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله قال : «قال في رجل صلّى الفجر ركعة ثمّ ذهب وجاء بعد ما أصبح وذكر أنّه صلّى ركعة قال : يضيف إليها ركعة» (٢).

وأصرح منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل صلّى بالكوفة ركعتين ثمّ ذكر وهو بمكّة أو بالمدينة أو بالبصرة أو ببلدة من البلدان أنّه صلّى ركعتين ، قال : يصلِّي ركعتين» (٣).

وموثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث «والرجل يذكر بعد ما قام وتكلّم ومضى في حوائجه أنّه إنّما صلّى ركعتين في الظهر والعصر والعتمة والمغرب ، قال : يبني على صلاته فيتمّها ولو بلغ الصين ولا يعيد الصلاة» (٤).

ولكن هذه الأخبار مضافاً إلى عدم وضوح عامل بها غير الصدوق في المقنع (٥) فهي مهجورة ومعرض عنها عند الأصحاب ، معارضة في موردها بطائفة أُخرى دلّت على البطلان منها : صحيحة جميل قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل صلّى ركعتين ثمّ قام ، قال : يستقبل ، قلت : فما يروي

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٠٢ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣ ح ١٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٠٤ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣ ح ١٨.

(٣) ، (٤) الوسائل ٨ : ٢٠٤ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣ ح ١٩ ، ٢٠.

(٥) المقنع : ١٠٥ ، الهامش رقم ٣.

٤٣٦

إلّا إذا لم يصل إلى حدّ اليمين واليسار بل كان فيما بينهما فإنّه غير مبطل إذا كان سهواً وإن كان بكلّ البدن (١).

الخامس : تعمّد الكلام بحرفين ولو مهملين (*) غير مفهمين للمعنى ، أو بحرف واحد بشرط كونه مفهماً للمعنى نحو (قِ) فعل أمر من (وقى) (٢)

______________________________________________________

الناس فذكر حديث ذي الشمالين ، فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبرح من مكانه ولو برح استقبل» (١).

ولا ريب أنّ الترجيح مع الثانية ، لمخالفة الاولى مع الكتاب والسنّة الدالّين على اعتبار الاستقبال ومانعية التكلّم وعدم الاستقرار وغيرهما من المنافيات. فلا بدّ إذن من ردّ علمها إلى أهله ، سيّما مع اشتمال بعضها على سهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإتيانه بسجدتي السهو المنافي لأُصول المذهب.

(١) كما مرّت الإشارة إليه.

(٢) لا إشكال كما لا خلاف في بطلان الصلاة بالتكلّم العمدي بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

وتدل عليه جملة من الروايات التي منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يصيبه الرعاف ، قال : إن لم يقدر على ماء حتّى ينصرف لوجهه أو يتكلّم فقد قطع صلاته» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : إن تكلّم

__________________

(*) بل بحرف واحد أيضاً على الأظهر ، ومنه يظهر الحال في جملة من الفروع الآتية.

(١) الوسائل ٨ : ٢٠٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣ ح ٧.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٨٢ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٥ ح ٦.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فليعد صلاته» (١).

وصحيحة الفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : ابن على ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمِّداً ، وإن تكلّمت ناسياً فلا شي‌ء عليك» (٢). ونحوها غيرها.

كما لا إشكال ولا خلاف أيضاً في عدم البطلان بالتكلّم السهوي ، ويدلّنا عليه مضافاً إلى ما في بعض تلك النصوص من التقييد بالعمد ، التصريح في صحيحة الفضيل المتقدِّمة بعدم البأس به.

وإنّما الإشكال في جهتين :

الاولى : هل المراد من الكلام في المقام خصوص ما تركّب من حرفين فصاعداً كما عليه المشهور ، أو أنّ المراد جنس ما يتكلّم به الصادق على الحرف الواحد أيضاً كما ذهب إليه بعضهم.

الثانية : هل يختص الكلام بالموضوع أو أنّه يشمل المهمل غير المفهم للمعنى؟ يظهر من الشهيد في الروضة (٣) الترديد في ذلك ، بل ظاهر مجمع البحرين (٤) اعتبار الوضع ، خلافاً لظاهر الأصحاب وجماعة من النحويين من التعميم ، بل قد حكي عن شمس العلوم (٥) ونجم الأئمّة (٦) التنصيص عليه ، واختار المحقِّق الهمداني (٧) ما في المتن من التفصيل بين ما اشتمل على حرفين فيبطل مطلقاً

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٨٢ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٥ ح ٧.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٨٢ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٥ ح ٥.

(٣) الروضة البهيّة ١ : ٢٣٢.

(٤) مجمع البحرين ٦ : ١٥٧.

(٥) حكاه عنه في كشف اللثام ٤ : ١٦٢.

(٦) شرح الرضي على الكافية ١ : ٢٠.

(٧) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٤٠٦ السطر ٩.

٤٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى حرف واحد فيشترط كونه مفهماً للمعنى ، هذا.

وغير خفي أنّ البحث عن هاتين الجهتين في المقام قليل الجدوى ولا طائل تحته ، ضرورة أنّ الكلام بعنوانه لم يكن موضوعاً للحكم في نصوص الباب كي يبحث عن حدوده وقيوده ، وتحليل ماهيته ، كما أنّه لم يكن مبدأ للمشتقّات ليكون معناه سارياً فيها ، فإنّه اسم مصدر ومشتق كغيره ، وإنّما الوارد في لسان الأخبار هو «تكلّم» ، «متكلِّم» ، «تكلّمت» ونحوها ، ومصدرها التكلّم ، ولا ريب في صدقه على الحرف الواحد الصادر من أيّ لافظ ولو غير شاعر من غير قصد التفهيم كالنائم والمغمى عليه والصبي ، فيقال من غير أيّة عناية أنّه تكلّم بكذا ، فلم يؤخذ في مفهومه العرفي لا التركيب ولا الوضع.

على أنّه تدل على البطلان في المهمل معتبرة طلحة بن زيد : «من أنّ في صلاته فقد تكلّم» (١).

فانّ الرجل وإن كان عاميا إلّا أنّ الشيخ (قدس سره) (٢) ذكر أنّ كتابه معتبر ، ولا معنى لاعتبار الكتاب إلّا كون صاحبه ممّن يعتمد عليه. فالسند إذن معتبر ، كما أنّ الدلالة أيضاً تامّة ، ضرورة أنّ الأنين الصادر من المريض غير مقصود به التفهيم ، فهو من التكلّم بالمهمل طبعاً.

وملخص الكلام : أنّ المأخوذ في نصوص المقام هو عنوان «التكلّم» وهو صادق حتّى لدى صدور حرف واحد كما يفصح عنه ما اشتهر في المحاورات من قولهم : لا أتكلّم معك حتّى بحرف واحد ، الكاشف عن أنّ الحرف الواحد أيضاً مصداق للتكلّم ، ومن ثمّ أُشير إلى الفرد الخفي منه ، فلا يعتبر في صدقه التعدّد فضلاً عن الوضع.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٨١ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٥ ح ٤.

(٢) الفهرست : ٨٦ / ٣٦٢.

٤٣٩

بشرط أن يكون عالماً بمعناه (١) وقاصداً له ، بل أو غير قاصد أيضاً مع التفاته إلى معناه على الأحوط (٢).

______________________________________________________

نعم ، بناءً على المشهور من أنّ الموضوع للحكم هو عنوان «الكلام» فبما أنّ مفهومه مجمل ، لتردّده بين المؤلف من حرفين فصاعداً كما عليه المشهور وبين الأعم منه ومن غيره ، فيصدق على الحرف الواحد أيضاً كما عن جماعة آخرين فلا مناص من الاقتصار في مثله على المقدار المتيقن الّذي يقطع معه بالبطلان وهو ما تألّف من حرفين فصاعداً ، والرجوع في الزائد عليه إلى الأصل ، ولو بني على ترجيح الأوّل فالأمر أوضح.

هذا فيما إذا لم يكن الحرف الواحد مفهماً ومفيداً للمعنى ، أمّا معه كما في الأمر من (وعى) أو من (وقى) فلا ينبغي الشك في البطلان ، لصدق الكلام عليه جزماً ، بل هو في الحقيقة لم يكن من الحرف الواحد بعد أن كان المقدّر في مثل المقام كالمذكور ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ من اعتبر التعدّد يريد به الأعم منهما كما لا يخفى ، هذا من حيث العدد.

وأمّا من ناحية الوضع فالأمر كذلك لو انتهى الأمر إلى الشك ، فيقتصر على المقدار المتيقن وهو الموضوع المستعمل ، إلّا أنّه لا ينبغي التردّد في شموله للمهمل كما يكشف عنه بوضوح تقسيم الكلام إلى المهمل والمستعمل.

فتحصّل : أنّ التفصيل المذكور في المتن وجيه على المبنى المشهور ، وأمّا على المختار من أنّ الموضوع للبطلان هو التكلّم لا الكلام ، فالمتعيِّن شمول الحكم حتّى للحرف الواحد المهمل.

(١) فانّ تفهيم المعنى متقوّم بالعلم به والالتفات إليه.

(٢) لجواز كفاية الالتفات في صدق التفهيم وإن لم يكن مقصوداً.

٤٤٠