موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فصل في الركوع

فصل في الرّكوع يجب في كل ركعة من الفرائض والنوافل ركوع واحد إلّا في صلاة الآيات ففي كل ركعة من ركعتيها خمس ركوعات كما سيأتي ، وهو ركن تبطل الصلاة بتركه عمداً كان أو سهواً ، وكذا بزيادته في الفريضة إلّا في صلاة الجماعة فلا تضر بقصد المتابعة (١).

______________________________________________________

(١) الركوع لغة (١) هو مطلق الانحناء وتطأطؤ الرأس ، يقال ركع الشيخ ، أي انحنى من الكبر ، سواء أكان حسِّياً كالمثال أو معنوياً كمن أكبّه الدّهر فصار فقيراً بعد أن كان غنيّاً ، فيقال ركع زيد ، أي انحطّت حالته ، وفي الشرع انحناء مخصوص كما ستعرف.

ولا إشكال بضرورة الدين في وجوبه مرّة واحدة في كل ركعة من الفرائض والنوافل ، بل باعتباره سمِّيت الركعة ركعة ، ما عدا صلاة الآيات فيجب في كل ركعة من ركعتيها خمس ركوعات كما سيأتي الكلام عليها في محلّها إن شاء الله تعالى (٢).

ولا ينبغي الإشكال في أنّه ركن ، بل ممّا تتقوّم به حقيقة الصلاة وماهيّتها

__________________

(١) لسان العرب ٨ : ١٣٣ ، مجمع البحرين ٤ : ٣٣٩.

(٢) شرح العروة ١٦ / بعد المسألة [١٧٥٢].

١

وواجباته أُمور : أحدها : الانحناء على الوجه المتعارف بمقدار تصل يداه إلى ركبتيه وصولاً لو أراد وضع شي‌ء منهما عليهما لوضعه ، ويكفي وصول مجموع أطراف الأصابع التي منها الإبهام على الوجه المذكور ، والأحوط الانحناء بمقدار إمكان وصول الراحة إليها ، فلا يكفي مسمّى الانحناء (١).

______________________________________________________

بحيث ينتفي بانتفائه الاسم كما يشهد به حديث التثليث ، «قال عليه‌السلام : الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود» (١) فهو دخيل في المسمّى وركن فيه. ومع الغض فلا شك في كونه ركناً في المأمور به ، بمعنى أنّ الإخلال به من حيث النقص عمداً أو سهواً موجب للبطلان كما يشهد به حديث لا تعاد ، ويأتي الكلام عليه في بحث الخلل إن شاء الله تعالى (٢).

وأمّا الإخلال من حيث الزيادة ، فهو وإن لم يكن معتبراً في صدق الركن لعدم إناطته إلّا بالإخلال من حيث النقص فحسب كما عرفت سابقاً ، إلّا أنّه لا شك في قادحية الإخلال به من حيث الزيادة أيضاً عمداً أو سهواً كما سيجي‌ء في محلّه أيضاً (٣) ، إلّا في صلاة الجماعة فيغتفر فيها الزيادة بقصد المتابعة كما ستعرفه في مبحث الجماعة (٤).

(١) قد عرفت أنّ الركوع لغة هو مطلق الانحناء ، وفي الشرع انحناء خاص فهو في إطلاق الشارع على ما هو عليه من المعنى اللّغوي غايته مع اعتبار بعض القيود كما ستعرف. وعن صاحب الحدائق (٥) دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية فيه

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣١٠ / أبواب الركوع ب ٩ ح ١.

(٢) شرح العروة ١٨ : المسألة [٢٠١٥].

(٣) شرح العروة ١٨ : المسألة [٢٠١٢].

(٤) شرح العروة ١٧ : المسألة [١٩٣١].

(٥) الحدائق ٨ : ٢٣٦.

٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في قبال اللّغة ، مستشهداً له بموثقة سماعة قال : «سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن؟ قال : نعم ، قول الله عزّ وجلّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) ... إلخ (١) وبصحيحة محمّد بن قيس (٢) الواردة بهذا المضمون.

وليت شعري أيّ دلالة في الروايتين على ثبوت الحقيقة الشرعية ، فإنّ غاية مفادهما ورود الركوع في القرآن ، وهل هذا إلّا كورود البيع فيه بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٣) فهل مجرّد ذلك يقتضي ثبوت الحقيقة الشرعية ، وهل يلتزم بمثله في البيع ونحوه من ألفاظ المعاملات الواردة في القرآن. فالإنصاف أنّ هذه الدعوى غريبة جدّاً ، بل الصحيح أنّ الركوع يطلق في لسان الشرع على ما هو عليه من المعنى اللّغوي ، غايته مع اعتبار بعض القيود كما هو الحال في البيع ونحوه.

وكيف كان ، فلا ينبغي الإشكال في عدم كفاية مطلق الانحناء في تحقّق الركوع الواجب في الصلاة ، بل إنّ هذا مسلّم مفروغ عنه عند جميع فرق المسلمين ، عدا ما ينسب إلى أبي حنيفة (٤) من الاكتفاء بذلك وهو متفرِّد به.

إنّما الكلام في تحديد المقدار الواجب ، فالمشهور ما ذكره في المتن من الانحناء بمقدار تصل يداه إلى ركبتيه بحيث لو أراد وضع شي‌ء منهما عليهما لوضعه ، بل ادّعي الإجماع عليه في كثير من الكلمات وإن اختلف التعبير باليد تارة وبالكف اخرى ، وبالراحة ثالثة. وقد استدلّ له بوجوه.

أحدها : قاعدة الاحتياط ، فانّ فراغ الذمّة عن عهدة التكليف المعلوم

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣١٢ / أبواب الركوع ب ٩ ح ٧.

(٢) الوسائل ٦ : ٣١١ / أبواب الركوع ب ٩ ح ٦ لكن الموجود فيه وفي التهذيب [٢ : ٩٧ / ٣٦٢] والوافي [٨ : ٦٩٢ / ٦٨٨٠] خال عن ذاك المضمون الّذي حكاه في الحدائق [٨ : ٢٣٥] عن الشيخ.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٤) المجموع ٣ : ٤١٠ ، حلية العلماء ٢ : ١١٧ ، بدائع الصنائع ١ : ١٦٢.

٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يتحقّق إلّا بالبلوغ إلى هذا الحد.

وفيه أوّلاً : أنّ المورد من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين والمقرّر فيه هو البراءة دون الاشتغال.

وثانياً : مع الغض ، يدفعه إطلاقات الأدلّة ، لما عرفت من صدق الركوع على مطلق الانحناء ، وعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، فلو أغضينا النظر عن بقية الأدلّة كان مقتضى الإطلاق الاجتزاء بمسمّى الانحناء كما يقول به أبو حنيفة ولا تصل النوبة إلى الأصل كي يقتضي الاشتغال.

الثاني : الإجماع المنقول كما ادّعاه غير واحد على ما مرّ. وفيه : مضافاً إلى عدم حجّيته في نفسه وإلى وهن دعواه حيث ذكر المجلسي في البحار (١) أنّ المشهور هو الاجتزاء ببلوغ أطراف الأصابع ، أنّه معارض بنقل الإجماع على الخلاف كما ادّعاه بعض فيسقطان بالمعارضة.

الثالث : وهو العمدة ، الروايات :

منها : صحيحة حماد قال فيها : «ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرّجات ثمّ قال عليه‌السلام في ذيلها : يا حماد هكذا صلّ» (٢) وظاهر الأمر الوجوب.

ومنها : صحيحة زرارة : «... وتمكن راحتيك من ركبتيك وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى» (٣).

ومنها : صحيحته الأُخرى : «... فإذا ركعت فصفّ في ركوعك بين قدميك تجعل بينهما قدر شبر وتمكّن راحتيك من ركبتيك وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى ...» إلخ (٤).

__________________

(١) البحار ٨٢ : ١١٩.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٩٥ / أبواب الركوع ب ١ ح ١.

(٤) الوسائل ٥ : ٤٦١ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ٣.

٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : النبوي الّذي رواه الجمهور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ركعت فضع كفيك على ركبتيك» (١).

والجواب : أنّ دلالة هذه النصوص على المدّعى قاصرة مضافاً إلى ضعف سند النبوي إذ لا تعرّض فيها لبيان حدّ الانحناء بالدلالة المطابقية ، وإنّما مدلولها المطابقي وجوب وضع الكف أو الراحة على الركبتين المستلزم بطبيعة الحال للانحناء بهذا المقدار ، فالتحديد بذلك مستفاد منها بالدلالة الالتزامية ، وحيث إنّا نقطع بعدم وجوب وضع اليد على الركبتين حال الركوع لا لمجرّد الإجماع المدّعى على العدم ، بل للتصريح به في نفس صحيحة زرارة الأخيرة وأنّ ذلك أحب إليه عليه‌السلام قال «وأحب إليّ أن تمكن كفّيك من ركبتيك» فالدلالة المطابقية ساقطة لا محالة ، وبتبعها تسقط الدلالة الالتزامية ، لمتابعتها لها في الوجود والحجّية كما تقرّر في محلّه (٢) ، وعليه فلا دلالة في شي‌ء من هذه النصوص على تحديد الانحناء بهذا المقدار ، هذا.

وربّما يستدل له كما في مصباح الفقيه (٣) برواية عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام «عن الرجل ينسى القنوت في الوتر أو غير الوتر ، فقال : ليس عليه شي‌ء ، وقال : إن ذكره وقد أهوى إلى الركوع قبل أن يضع يديه على الركبتين فليرجع قائماً وليقنت ثمّ ليركع ، وإن وضع يديه على الركبتين فليمض في صلاته وليس عليه شي‌ء» (٤).

دلّت على أنّ تدارك القنوت المنسي إنّما يمكن ما لم يدخل في الركوع ، وأنّ الضابط في الدخول فيه الانحناء بمقدار تصل يداه إلى الركبتين ، فان بلغ هذا

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٩٣ وفيه «على ركبتك».

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٧١ ٧٤.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٣٢٦ السطر ٣٤.

(٤) الوسائل ٦ : ٢٨٦ / أبواب القنوت ب ١٥ ح ٢.

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الحد فقد دخل في الركوع وفات محل التدارك حذراً عن زيادة الركن ، وإلّا فلم يدخل فيه وله التدارك ، قال (قدس سره) فتكون هذه الموثقة بمنزلة الشرح لموثقته الأُخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

والإنصاف : أنّ هذه أصرح رواية يمكن أن يستدل بها على هذا القول ولكنّها أيضاً غير صالحة للاستدلال.

أمّا أوّلاً : فلضعفها سنداً وإن عبّر المحقِّق الهمداني (قدس سره) بالموثقة لأنّ في السند علي بن خالد ولم يوثق بل هو مهمل.

وأمّا ثانياً : فلقصور الدلالة ، فإنّ ظاهرها متروك قطعاً ، لظهورها في أنّ الميزان في تحقّق الركوع المانع عن التدارك وضع اليدين على الركبتين حيث أُنيط فيها الرجوع إلى القنوت وعدمه بوضع اليدين وعدمه ، مع أنّ الوضع غير معتبر في حقيقة الركوع قطعاً ، فإنّه مهما بلغ هذا الحد لم يجز له الرجوع ، سواء وضع يديه على الركبتين أم لا بلا إشكال ، فظاهرها غير ممكن الأخذ ، ولا دليل على تأويلها بإرادة بلوغ هذا الحد من وضع اليدين ثمّ الاستدلال بها.

فتحصّل : أنّه لم ينهض دليل يمكن المساعدة عليه على هذا القول. فالأقوى وفاقاً لجمع من الأصحاب كفاية الانحناء حدّا تصل أطراف أصابعه الركبتين وإن لم تصل الراحة إليهما ، بل قد سمعت من المجلسي نسبته إلى المشهور.

ويدلُّ عليه صريحاً مضافاً إلى الإطلاقات النافية للأكثر الصحيحة الثانية لزرارة المتقدِّمة قال عليه‌السلام فيها : «فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك وأحب إليّ أن تمكن كفّيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرج بينهما ...» إلخ (٢) فانّ التعبير بالإجزاء صريح في كفاية هذا

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٢٨٦ / أبواب القنوت ب ١٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٦١ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ٣.

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المقدار في حصول الانحناء الواجب في الركوع ، وأنّ الزائد عليه فضل وندب كما صرّح به بقوله عليه‌السلام «وأحب إلىّ ...» إلخ. وبذلك يحمل الأمر في صحيحته الاولى وكذا صحيحة حماد المتقدِّمتين على الاستحباب.

ويؤيِّده ما نقله المحقِّق في المعتبر والعلّامة في المنتهي عن معاوية بن عمار وابن مسلم والحلبي قالوا : «وبلغ بأطراف أصابعك عين الركبة ...» إلخ (١) لكنّها مرسلة بالنسبة إلينا ، وإن استظهر صاحب الحدائق (٢) أنّ المحقِّق قد نقلها من الأُصول التي عنده ولم تصل إلينا إلّا منه ، فإنّه لو سلّم ذلك لا تخرج الرواية عن كونها مرسلة بالإضافة إلينا كما لا يخفى. فالعمدة هي صحيحة زرارة المتقدِّمة المؤيّدة بهذه الرواية.

ولا فرق في صحّة الاستدلال بها على المطلوب بين استظهار كونها مسوقة لبيان حدّ الانحناء المعتبر في الركوع بجعل الوصول طريقاً إلى معرفة ذلك الحد كما هو الظاهر منها وبين دعوى كونها مسوقة لبيان جعل البدل وأنّ إيصال الأصابع إلى الركبة بدل عن وضع اليد عليها من غير تعرّض لبيان الحد فيها أصلاً كما قيل.

أمّا على الأوّل فواضح جدّاً كما عرفت. وأمّا على الثاني فكذلك وإن لم يكن بذلك الوضوح ، إذ قد يقال بناءً عليه بعدم المنافاة بينها وبين الصحيحة الأُولى لزرارة المتضمِّنة لتحديد الانحناء بما يشتمل على وضع اليدين على الركبتين غايته أنّ المستفاد من هذه الصحيحة عدم لزوم وضع تمام اليد والاكتفاء بوضع أطراف الأصابع بدلاً عنه ، فيحمل وضع تمام اليد فيها على الاستحباب مع

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٣٥ / أبواب الركوع ب ٢٨ ح ٢ ، المعتبر ٢ : ١٩٣ ، المنتهي ١ : ٢٨١ السطر ٣٦.

(٢) الحدائق ٨ : ٢٣٧.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الالتزام بلزوم الانحناء بذاك المقدار عملاً بتلك الصحيحة ، لعدم المنافاة بينهما من هذه الجهة كما مرّ.

وفيه : ما عرفت من أنّ الانحناء بمقدار يتمكّن من وضع اليد على الركبة إنّما استفيد من تلك الصحيحة بالدلالة الالتزامية ، فإذا بنى على سقوط الدلالة المطابقية وعدم وجوب وضع اليد عليها ولو من أجل جعل البدل المستفاد من هذه الصحيحة سقطت الدلالة الالتزامية قهراً ، لما تقدّم من تبعيتها للمطابقية في الوجود والحجّية. إذن لا دليل على التحديد ببلوغ اليد إلى الركبة ، فلا فرق في صحّة الاستدلال بين الأمرين وإن كان على الأوّل أوضح وأظهر كما عرفت.

نعم ، بينهما فرق من ناحية أُخرى وهو أنّه بناءً على الأوّل واستظهار كونها في مقام التحديد كما هو الصحيح فهي بنفسها تدل على نفي الزائد وعدم وجوب الانحناء أكثر من ذلك. وأمّا على الثاني فحيث إنّ النظر فيها مقصور على جعل البدل حسب الفرض فلا تعرّض فيها بالنسبة إلى الزائد نفياً ولا إثباتاً ، وبما أنّ الصحيحة الأُولى أيضاً ساقطة الدلالة بالإضافة إليه كما عرفت آنفاً ، فيتمسّك حينئذ بأصالة البراءة لنفيه ، إذ المتيقّن إنّما هو الانحناء بمقدار تصل أطراف الأصابع إلى الركبتين لوجوب هذا المقدار على كلّ حال ، وأمّا الزائد عليه فمشكوك يدفع بأصالة البراءة كما هو المقرّر في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وقد يقال بعدم التفاوت بين التحديدين ، وعدم التنافي بين الصحيحتين ، إذ المذكور في هذه الصحيحة بلوغ الأصابع ، وهو جمع محلّى باللّام ، ومقتضى دلالته على الاستغراق لزوم رعايته حتّى في الخنصر والإبهام ، وهو ملازم لوصول الكف ، غايته أنّه لا يلزم وضع تمام الكف ، بل يكفي وضع بعضها عملاً بهذه الصحيحة ، فيتصرّف في الأُولى بهذا المقدار وتحمل على الفضل.

٨

ولا الانحناء على غير الوجه المتعارف بأن ينحني على أحد جانبيه أو يخفض كفليه ويرفع ركبتيه ونحو ذلك (١)

______________________________________________________

وفيه أوّلاً : منع الصغرى ، فإنّ رأس الإبهام لا يساوي الراحة ، بل هو أطول منها بمقدار عقد غالباً ، فوصول رأس الإبهام لا يلازم وضع شي‌ء من الكف والراحة على الركبة.

وثانياً : مع التسليم فارادة العموم الأفرادي الشامل للإبهام متعذِّر في المقام إذ لازمه إرادته خاصّة من أطراف الأصابع ، لوضوح أنّه بالإضافة إلى ما عداها من بقية الأصابع وضع لتمامها لا وصول لطرفها ، للملازمة بين وصول طرف الإبهام ووضع الباقي ، وإرادة خصوصه من مثل هذا التعبير مستبشع جدّاً كما لا يخفى. بل المتعيِّن حينئذ التعبير بوصول طرف الإبهام أو الراحة لا أطراف الأصابع ، فلا مناص من أن يراد به العموم المجموعي الصادق على الثلاثة الوسطى ، فيكون التفاوت حينئذ في مقدار الانحناء فاحشا.

هذا ، مع أنّ العموم في المقام منفي من أصله ، لعدم التعبير بالأصابع في الصحيحة كي يكون جمعاً محلّى باللّام ومن صيغ العموم ، وإنّما الموجود فيها هكذا : «فان وصلت أطراف أصابعك» وهو من الجمع المضاف الّذي لا يدل على الشمول إلّا بالإطلاق لا بالعموم الوضعي وإن كان الحال لا يفرق بذلك فيما تقدّم إلّا من حيث كون الدلالة وضعية أو إطلاقية غير المؤثر في محل الكلام كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ الأقوى كفاية الانحناء بمقدار تصل أطراف الأصابع إلى الركبتين فلا يجب الزائد وإن كان أحوط كما ذكره في المتن ، وقد علم وجهه ممّا مرّ.

(١) قد عرفت الكلام في حدّ الانحناء ، وأمّا كيفيته فلا بدّ وأن تكون عن

٩

وغير المستوي الخلقة كطويل اليدين أو قصيرهما يرجع إلى المستوي (١) ،

______________________________________________________

قيام على النحو المتعارف ، فلا يكفي الانحناء على أحد الجانبين أو خفض الكفلين ورفع الركبتين ونحو ذلك من الانحناءات غير المتعارفة ، لما عرفت من أنّ البلوغ إلى الركبتين لا موضوعية له كي يكفي كيف ما اتّفق ، بل طريقي ، فهو منزّل على النهج المتعارف.

(١) ما ذكرناه لحدّ الآن كان تحديداً لمستوي الخلقة المتناسب الأعضاء ، وأمّا غير المستوي الّذي يحتاج في إيصال يديه أو أصابعه إلى الركبتين إلى الانحناء أكثر من المستوي لو كان قصير اليدين ، أو أقل لو كان طويلهما ، فالمشهور وهو الأقوى رجوعه في ذلك إلى المستوي ، فلا يجب عليه الانحناء أكثر من المتعارف كما لا يجزي الأقل.

وخالف فيه الأردبيلي (قدس سره) (١) فحكم بوجوب تطبيق الحد بالقياس إليه أيضاً فيجب إيصال يديه إلى ركبتيه وإن استوجب الانحناء أكثر من المتعارف عملاً بإطلاق النص الشامل لهذا الشخص.

وفيه : ما عرفت من أنّ وصول اليد طريق إلى معرفة الحد ولا خصوصية فيه ، فاعتباره طريقي لا موضوعي كي يراعى في كل أحد ، وإلّا فلو بني على الجمود على ظاهر النص كان مقتضاه عدم الانحناء في طويل اليد رأساً أو إلّا قليلاً ، وهو كما ترى لا يظن أن يلتزم به الفقيه ، والسرّ أنّ الخطاب الّذي تضمنه النص متوجه إلى المتعارفين الّذين منهم زرارة فالعبرة بهم ، فلا مناص من رجوع غيرهم إليهم.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢٥٦.

١٠

ولا بأس باختلاف أفراد المستوين خلقة فلكل حكم نفسه بالنسبة إلى يديه وركبتيه (*) (١).

______________________________________________________

(١) لا شك في اختلاف أفراد المستوين خلقه في قصر الأيدي وطولها مع فرض تناسب الأعضاء فتختلف الانحناءات المتعارفة بطبيعة الحال قلّة وكثرة ولو بقدر نصف إصبع ونحوه.

فهل العبرة حينئذ بالانحناء الأقل أو الأكثر أو المتوسط ، أم أنّ لكل مكلّف حكم نفسه بالنسبة إلى يده وركبته؟ وجوه اختار الماتن (قدس سره) الأخير ، والأقوى الأوّل.

وتوضيح المقام : أنّا إذا بنينا على أنّ وضع اليد المأخوذ في النص ملحوظ على وجه الموضوعية كما هو الحال في غسل الوجه والأيدي في باب الوضوء بلا إشكال ، اتّجه ما أفاده في المتن من أنّ لكل مكلّف حكم نفسه ، فكما يجب على كل مكلّف غسل تمام وجهه ويديه وإن كانت أعرض أو أطول من الآخر ، فكذا يجب في المقام وضع كل أحد يده على ركبته وإن استلزم الانحناء أكثر من غيره أو أقل ، فإنّه حكم منحل على حسب آحاد المكلّفين ، فيعمل كل على طبق حالته ووظيفته.

لكنّك عرفت ضعف المبنى ، وأنّ الوضع المزبور مأخوذ طريقاً إلى بيان مرتبة الانحناء ، فالواجب على الكل ليس إلّا مرتبة واحدة وحدّاً معيّناً يشترك فيه الجميع ولا يختلف باختلاف الأشخاص ، بل الواجب في حقّ الجميع شي‌ء واحد بحسب الواقع ، فهذا القول ساقط ، وعليه يتعيّن الاقتصار على الأقل لوجهين :

__________________

(*) لا يبعد أن يكون المدار على مقدار انحناء أقل المستوين خلقة.

١١

الثاني : الذكر والأحوط اختيار التسبيح من أفراده مخيّراً بين الثلاث من الصغرى وهي «سبحان الله» ، وبين التسبيحة الكبرى وهي «سبحان ربِّي العظيم وبحمده» (١).

______________________________________________________

أحدهما : إطلاق الأمر بالركوع ، لما عرفت (١) من عدم ثبوت الحقيقة الشرعية له ، بل يطلق على ما كان عليه من المعنى اللّغوي مع مراعاة بعض القيود ، فلا يكفي مسمّى الانحناء بل لا بدّ من الزيادة والمتيقِّن منها الانحناء بأقل مقدار ينحني فيه المتعارف عند وضع يده على ركبته ، وأمّا الزائد فمشكوك يدفع بأصالة الإطلاق.

الثاني : أصالة البراءة من اعتبار الانحناء الأكثر مع الغض عن الإطلاق كما هو المقرّر في باب الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

(١) لا إشكال في وجوب الذكر في الركوع بالإجماع والنصوص المعتبرة كما ستعرف ، فلو أخلّ به عمداً بطلت صلاته ، كما لا إشكال في الاجتزاء بالتسبيح في الجملة ، وإنّما الكلام يقع في جهات :

الاولى : لا ينبغي الإشكال في كفاية التسبيحة الكبرى وهي سبحان ربِّي العظيم وبحمده مرّة واحدة ، للنصوص الكثيرة والمعتبرة التي من أجلها يحمل الأمر بالثلاث في صحيحة حماد (٢) على الفضل ، فمنها : صحيحة زرارة قال «قلت له : ما يجزي من القول في الركوع والسجود؟ فقال : ثلاث تسبيحات في ترسّل ، وواحدة تامّة تجزي» (٣).

__________________

(١) في ص ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٩٩ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٢.

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وصحيحة عليّ بن يقطين «سألته عن الركوع والسجود كم يجزي فيه من التسبيح؟ فقال : ثلاثة ، وتجزيك واحدة ، إذا أمكنت جبهتك من الأرض» (١). ونحوها صحيحته الأُخرى (٢).

فانّ المراد بالواحدة في هذه النصوص إنّما هي التسبيحة الكبرى ، لما ستعرف من النصوص الصريحة في عدم الاجتزاء بها في الصغرى الموجبة لحمل هذه الأخبار على الكبرى خاصّة.

وتؤيِّده : رواية أبي بكر الحضرمي قال «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أيّ شي‌ء حدّ الركوع والسجود؟ قال تقول : سبحان ربِّي العظيم وبحمده ثلاثاً في الركوع ، وسبحان ربِّي الأعلى وبحمده ثلاثاً في السجود ، فمَن نقص واحدة نقص ثلث صلاته ، ومَن نقص اثنتين نقص ثلثي صلاته ، ومَن لم يسبِّح فلا صلاة له» (٣).

ودلالتها وإن كانت واضحة ، فإنّ المراد من نقص الثلث والثلثين النقصان بحسب الفضل والثواب لا في أصل أداء الواجب بقرينة قوله عليه‌السلام في الذيل : «ومن لم يسبِّح فلا صلاة له» الدال على تحقّق الصلاة وحصول المأمور به بفعل الواحدة.

لكنّها ضعيفة السند بعثمان بن عبد الملك فإنّه لم يوثق ، ومن هنا ذكرناها بعنوان التأييد.

الجهة الثانية : قد عرفت أنّ صورة التسبيحة الكبرى هي سبحان ربِّي العظيم وبحمده ، وعن صاحب المدارك (٤) جواز الاقتصار عليها بدون كلمة وبحمده ،

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٠٠ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٣ ، ٤.

(٢) الوسائل ٦ : ٣٠٠ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٣ ، ٤.

(٣) الوسائل ٦ : ٣٠٠ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٥.

(٤) المدارك ٣ : ٣٩٣.

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لخلو جملة من النصوص عنها ، فيحمل الأمر بها في الباقي على الندب جمعاً وهي نصوص ثلاثة استدلّ بها على ذلك.

إحداها : رواية هشام بن سالم قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التسبيح في الركوع والسجود ، فقال : تقول في الركوع : سبحان ربِّي العظيم ، وفي السجود سبحان ربِّي الأعلى» (١).

الثانية : صحيحة الحلبي أو حسنته باعتبار إبراهيم بن هاشم عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : إذا سجدت فكبِّر وقل اللهمّ لك سجدت إلى أن قال : ثمّ قل سبحان ربِّي الأعلى ثلاث مرّات» (٢).

الثالثة : خبر عقبة بن عامر الجهني أنّه قال : «لمّا نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اجعلوها في ركوعكم ، فلمّا نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجعلوها في سجودكم» (٣).

والجواب : أمّا عن الاولى ، فبأنّها ضعيفة السند بالقاسم بن عروة. هذا مضافاً إلى احتمال أن يكون ذلك إشارة إلى ما هو المتعارف المتداول من التسبيح الخارجي المشتمل على كلمة «وبحمده» ، فيكون من باب استعمال اللفظ في اللّفظ فاقتصر هنا على ذكر العظيم والأعلى امتيازاً بين تسبيحي الركوع والسجود لا اجتزاءً بهما ، فالمستعمل فيه هو ذلك اللفظ الخارجي المعهود.

وهذا استعمال متعارف كما يشهد به ما رواه الشيخ وغيره بسنده عن حمزة ابن حمران ، والحسن بن زياد قالا : «دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٢٩٩ / أبواب الركوع ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ٦ : ٣٣٩ / أبواب السجود ب ٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٦ : ٣٢٧ / أبواب الركوع ب ٢١ ح ١.

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قوم فصلّى بهم العصر وقد كنّا صلّينا فعددنا له في ركوعه «سبحان ربِّي العظيم» أربعاً أو ثلاثاً وثلاثين مرّة ، وقال أحدهما في حديثه وبحمده في الركوع والسجود» (١). فانّ الصادر عنه عليه‌السلام كان مشتملاً على كلمة وبحمده كما اعترف به أحد الراويين على ما صرّح به في الذيل ، ولا يحتمل تعدّد الواقعة كما هو ظاهر. ومع ذلك فقد عبّر الراوي الآخر عن تسبيحه عليه‌السلام بقوله : سبحان ربِّي العظيم ، وليس ذلك إلّا من باب استعمال اللفظ في اللفظ كما ذكرناه.

وأمّا عن الثانية ، فبأنّها مضطربة المتن أوّلاً لاختلاف النسخ ، فإنّ الطبعة الجديدة من الوسائل مشتملة على كلمة «وبحمده» ، وطبعة عين الدولة خالية عنها ، وأمّا التهذيب (٢) فمشتمل عليها لكن بعنوان النسخة الكاشف عن اختلاف نسخ التهذيب. وأمّا الكافي (٣) فمشتمل عليها وهو أضبط ، وكيف كان فلم يحصل الوثوق بما هو الصادر عن المعصوم عليه‌السلام ، فلا يمكن الاستدلال بها على شي‌ء منهما.

وثانياً : على تقدير تسليم خلوّها عنها فهي مقيّدة بالثلاث ، ولا شكّ في الاجتزاء بذلك ، بل يجزي قول سبحان الله ثلاثاً فضلاً عن سبحان ربِّي الأعلى فلا يدل ذلك على الاجتزاء به مرّة واحدة كما هو المدّعى.

وأمّا عن الثالثة ، فمضافاً إلى ضعف سندها بعدّة من المجاهيل ، يجري فيها ما عرفت في الجواب عن الاولى من احتمال كونها من باب استعمال اللّفظ في اللّفظ وأنّ المراد به ما هو الثابت في الخارج المشتمل على «وبحمده» ، فلا دلالة فيها

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٠٤ / أبواب الركوع ب ٦ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ٣٠٠ / ١٢١٠.

(٢) التهذيب ٢ : ٧٩ / ٢٩٥ [وقد أُشير إلى اختلاف النسخ في الطبعة الحجرية ، راجع التهذيب ١ : ١٨٨ السطر ١٩].

(٣) الكافي ٣ : ٣٢١ / ١.

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

على نفي ذلك.

ويؤيِّده : ما رواه الصدوق مرسلاً من نقل هذا المضمون مع كلمة «وبحمده» قال «قال الصادق عليه‌السلام : سبِّح في ركوعك ثلاثاً تقول سبحان ربِّي العظيم وبحمده ثلاث مرّات ، وفي السجود سبحان ربِّي الأعلى وبحمده ثلاث مرّات لأنّ الله عزّ وجلّ لمّا أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجعلوها في ركوعكم ، فلمّا أنزل الله (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم ...» إلخ (١).

فتحصّل : عدم صحّة الاستدلال بشي‌ء من هذه الأخبار ، لضعفها سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو ، فالأقوى لزوم ضم «وبحمده» في التسبيحة الكبرى كما اشتملت عليها الروايات الكثيرة المعتبرة وغيرها مثل صحيحة حماد (٢) ونحوها فلاحظ.

الجهة الثالثة : لا ريب في كفاية التسبيحة الصغرى وهي سبحان الله ثلاث مرّات بدلاً عن الكبرى ، فيكون مخيّراً بين الأمرين ، وتدل عليه جملة من النصوص المعتبرة كصحيحة زرارة قال «قلت : ما يجزي من القول في الركوع والسجود؟ فقال : ثلاث تسبيحات في ترسّل ، وواحدة تامّة تجزي» (٣). وصحيحة معاوية بن عمار قال «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخف ما يكون من التسبيح في الصلاة ، قال : ثلاث تسبيحات مترسلاً تقول : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله» (٤) وموثقة سماعة «... أمّا ما يجزيك من الركوع فثلاث

__________________

(١) المستدرك ٤ : ٤٣٧ / أبواب الركوع ب ١٦ ح ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٩٩ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٢.

(٤) الوسائل ٦ : ٣٠٣ / أبواب الركوع ب ٥ ح ٢.

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تسبيحات تقول : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله ثلاثاً» (١) والأخيرتان تفسِّران المراد من التسبيح في الأُولى ونحوها غيرها.

وهل تجزي الصغرى مرّة واحدة؟ قد يقال بل قيل بذلك ، ويمكن أن يستدل له بوجهين :

أحدهما : إطلاق الأمر بالتسبيحة الواحدة في جملة من النصوص الشامل للكبرى والصغرى ، كصحيحة زرارة وصحيحتي ابن يقطين (٢).

الثاني : دعوى كفاية مطلق الذكر الصادق على الواحدة من الصغرى.

ويردّ الأوّل أنّ الإطلاق يقيّد بما دلّ على عدم الاجتزاء في الصغرى بأقل من ثلاث كموثقة سماعة وصحيحة معاوية المتقدِّمتين آنفاً وغيرهما ، فلا مناص من حمل التسبيح في تلك النصوص على الكبرى ، بل إنّ في نفسها ما يشهد بذلك ، كصحيحة زرارة الآنفة الذكر ، فانّ المراد بالواحدة المجزية لا بدّ وأن يكون غير الثلاث التي حكم أوّلاً باجزائها ، إذ لو كانتا من سنخ واحد لزم اللغوية بل التناقض ، فان مقتضى جعل المجزي هو الثلاث عدم كفاية الأقل كما يعطيه لفظ الإجزاء الظاهر في بيان أقل الواجب ، ومعه كيف حكم عليه‌السلام بإجزاء الواحدة ، فلو كانت العبرة بها كان التحديد بالثلاث لغواً محضا.

فلا مناص من أن يراد بالواحدة تسبيحة أُخرى مغايرة للثلاث ، بأن يراد بها الكبرى ، وبالثلاث الصغرى كما فسّر الثلاث بها في صحيحة معاوية بن عمار المتقدِّمة ، فإنّها تؤيِّد أنّ المراد بالواحدة التامّة في هذه الصحيحة هي الكبرى في مقابل الناقصة وهي الصغرى ، وأنّها المراد بالثلاث في ترسّل فيها.

وعلى الجملة : فصحيحة زرارة بنفسها تدل على إرادة الكبرى من الواحدة

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٠٣ / أبواب الركوع ب ٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ٦ : ٢٩٩ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٢ ، ٣ ، ٤.

١٧

وإن كان الأقوى كفاية مطلق الذكر من التسبيح أو التحميد أو التهليل ، أو التكبير بل وغيرها (١).

______________________________________________________

التامّة فلا إطلاق لها كي تشمل الصغرى. وهكذا الحال في صحيحتي علي بن يقطين.

وأمّا الوجه الثاني ، فسيتّضح الجواب عنه قريباً إن شاء الله تعالى وتعرف أنّ الذكر المطلق على القول بكفايته لا بدّ وأن يكون بقدر التسبيحات الثلاث ، ولا يجزي الأقل منها.

فتحصّل : أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار هو التخيير بين التسبيحة الكبرى مرّة واحدة أو الصغرى ثلاثاً ، ولا دليل على إجزاء الواحدة منها.

(١) قد عرفت أنّ التسبيح في الجملة ممّا لا إشكال في كفايته في مقام الامتثال ، كما تقدّم المراد منه كمّاً وكيفاً ، وهل يتعيّن الامتثال به بالخصوص كما نسب إلى المشهور بين القدماء أم يكفي مطلق الذكر وإن كان غيره كالتحميد أو التهليل أو التكبير ونحوها كما هو المشهور بين المتأخِّرين؟ الأقوى هو الثاني.

وقد استدلّ للأوّل بعدّة من الأخبار الآمرة بالتسبيح ، وظاهر الأمر التعيين. ولا يخفى أنّ جملة منها غير صالحة للاستدلال كصحيحة علي بن يقطين (١) فإنّ السؤال فيها عمّا يجزي من التسبيح ، لا عمّا يجزي من مطلق الذكر فلا يدل على نفي غيره كما هو ظاهر. نعم ، لا بأس بالاستدلال بمثل صحيحة زرارة قال «قلت له : ما يجزي من القول في الركوع والسجود؟ فقال : ثلاث تسبيحات» (٢) فإنّ السؤال عن مطلق القول الّذي يجزي في الركوع فالأمر بالتسبيح ظاهر في التعيين.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٦ : ٣٠٠ / أبواب الركوع ب ٤ ح ٣ ، ٢.

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عنها وحمل الأمر فيها على بيان أفضل الأفراد أو أحدها ، لمعارضتها بصحيحتين صريحتين في الاجتزاء بمطلق الذكر :

إحداهما : صحيحة هشام بن سالم : «سألته يجزي عنِّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع والسجود لا إله إلّا الله والله أكبر؟ فقال : نعم» (١).

والأُخرى : صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال «قلت له : يجزي أن أقول مكان التسبيح في الركوع والسجود لا إله إلّا الله والحمد لله والله أكبر؟ فقال : نعم ، كل هذا ذكر الله» (٢) ، ورواها الكافي مصدّرة بقوله «ما من كلمة أخف على اللِّسان منها ولا أبلغ من سبحان الله» (٣).

فإنّهما صريحتان في أنّ العبرة بمطلق الذكر ، وأمّا تلك النصوص فغايتها الظهور في تعيّن التسبيح ، ولا ريب في تقدّم الأظهر على الظاهر ، فمقتضى الجمع العرفي حملها على بيان أفضل الأفراد كما عرفت. بل يظهر من صدر رواية الكافي أنّ التسبيح لا خصوصية فيه ، غير أنّه أخف على اللِّسان وأبلغ ، فيكشف عن أنّ الأمر به في سائر الأخبار إنّما هو لهذه النكتة ، وإلّا فالاعتبار بمطلق الذكر كيف ما اتّفق. لكن الشأن في الاعتماد على هاتين الصحيحتين ، فإنّه قد يقال بعدم حجّيتهما من جهة إعراض المشهور عنهما المسقط لهما عن الحجّية.

والجواب عنه ظاهر بناءً على منع الكبرى كما هو المعلوم من مسلكنا وأنّ الإعراض غير قادح ، كما أنّ العمل غير جابر. ومع التسليم فالصغرى ممنوعة في المقام ، فانّ الشيخ قد أفتى بمضمونهما في بعض كتبه (٤) ، بل إن ابن إدريس (٥)

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٠٧ / أبواب الركوع ب ٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٦ : ٣٠٧ / أبواب الركوع ب ٧ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٣٢٩ / ٥.

(٤) المبسوط ١ : ١١١.

(٥) السرائر ١ : ٢٢٤.

١٩

بشرط أن يكون بقدر الثلاث الصغريات فيجزي أن يقول «الحمد لله» ثلاثاً ، أو «الله أكبر» كذلك أو نحو ذلك (١).

______________________________________________________

ادّعى الإجماع على العمل بهما. ومعه كيف يمكن دعوى الإعراض.

ولا يبعد أن يكون مراد الأصحاب من تعيّن التسبيح في فتاواهم ومعاقد إجماعاتهم تعيّنه من حيث التوظيف في أصل الشرع ، طعناً على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما المنكرين لاستحباب هذا التسبيح ، وكيف كان فالأقوى الاجتزاء بمطلق الذكر وإن كان التسبيح أفضل كما عرفت ، تبعاً لما هو المشهور بين المتأخِّرين.

(١) قد عرفت أنّ الأقوى هو الاجتزاء بمطلق الذكر وإن كان من غير التسبيح ، فهل يجتزى فيه بمسمّاه تسبيحاً كان أم غيره ، فيكفي قول : سبحان الله ، أو الحمد لله ، أو الله أكبر مرّة واحدة ، أم لا بدّ وأن يكون بقدر الثلاث الصغريات؟

قد يقال بالأوّل استناداً إلى إطلاق الصحيحتين المتقدِّمتين آنفا.

وفيه أوّلاً : منع الإطلاق فيهما ، فإنّهما في مقام بين الاجتزاء بمطلق الذكر ونفي تعيّن التسبيح ، فلا نظر فيهما إلى سائر الجهات من العدد ونحوه حتّى ينعقد الإطلاق.

وثانياً : مع التسليم لا بدّ من تقييده بصحيحتين لمسمع وهو المكنّى بأبي سيار ، وما في الوسائل الطبعة الجديدة من قوله مسمع بن أبي سيار غلط فإن أبا سيار كنيته كما عرفت ، أمّا اسم أبيه فهو مالك ، قال الصدوق في مشيخة الفقيه (١) : يُقال إنّ الصادق عليه‌السلام قال لمسمع أوّل ما رآه ما اسمك؟ فقال

__________________

(١) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٤٥.

٢٠