كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين لأبي نصر الفارابي

الدكتور علي بو محلم

كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين لأبي نصر الفارابي

المؤلف:

الدكتور علي بو محلم


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨

وقد بين هناك ايضا امر العلل ، كم هي ، واثبت الاسباب الفاعلة. وقد بين هناك ايضا امر المكوّن والمحرّك ، وانه غير المتكوّن وغير المتحرّك. وكما ان افلاطون بين في كتابه المعروف «بطيماوس» ان كل متكوّن فانما يكون عن علة مكوّنة له اضطرارا ، وان المتكوّن لا يكون علة لكون ذاته. كذلك ارسطوطاليس بين في كتاب «اثولوجيا» ان الواحد موجود في كل كثرة ، لان كل كثرة لا يوجد فيها الواحد لا يتناهى ابدا البتة (١). وبرهن على ذلك براهين واضحة ، مثل قوله ان كل واحد من اجزاء الكثير ، اما ان يكون واحدا واما ان لا يكون واحدا ، فان لم يكن واحدا لم يخل من ان يكون اما كثيرا واما لا شيء ؛ وان كان لا شيء لزم ان لا يجتمع منها كثرة ، وان كان كثيرا فما الفرق بينه وبين الكثرة؟ ويلزم ايضا من ذلك ان ما (لا) يتناهى اكثر مما لا يتناهى. ثم بيّن ان ما يوجد فيه الواحد من هذا العالم فهو لا واحد الا بجهة وجهة؛ فاذا لم يكن في الحقيقة واحدا ، بل كان كل واحد فيه موجودا ، كان الواحد غيره وهو غير الواحد. ثم بيّن ان الواحد الحق هو الذي افاد سائر الموجودات الواحدية. ثم بيّن ان الكثير بعد الواحد ، لا محالة. وان الواحد تقدّم الكثرة. ثم بيّن ان كل كثرة تقرب من الواحد الحق كان اول كل كثرة مما يبعد عنه؛ وكذلك بالعكس. ثم يترقى ، بعد تقديمه هذه المقدمات ، الى القول في اجزاء العالم ، الجسمانية منها والروحانية؛ ويبين بيانا شافيا انها كلها حدثت

__________________

(١) القول ان الواحد موجود في كل كثرة ، وهو اساس العالم المتكثر ، هو اساس فلسفة افلوطين. وقد استقاها الفارابي من كتاب اثالوجيا.

٦١

عن ابداع الباري لها؛ وانه ، عز وجل ، هو العلة الفاعلة ، الواحد الحق ، ومبدع كل شيء ، على حسب ما بيّنه افلاطون في كتبه في الربوبية ، مثل «طيماوس» و «بوليطيا» وغير ذلك من سائر اقاويله. وايضا فان «حروف ارسطوطاليس فيما بعد الطبيعة» انما يترقى فيها من الباري ، جل جلاله ، في حرف «اللام» ، ثم ينحرف راجعا في بيان صحة ما تقدم من تلك المقدمات ، الى ان يسبق فيها ، وذلك مما لا يعلم انه يسبقه اليه من قبله ولم يلحقه من بعده الى يومنا هذا. فهل تظن بمن هذا سبيله انه يعتقد نفي الصانع وقدم العالم؟ (١).

ولا مونيوس رسالة مفردة في ذكر اقاويل هذين الحكيمين في اثبات الصانع ، استغنينا ، لشهرتها ، عن احضارنا اياها في هذا الموضوع. ولو لا ان هذا الطريق الذي يسلكه في هذه المقالة هو الطريق الاوسط ، فمتى ما تنكّبناه كنا كمن ينهى عن خلق ويأتي بمثله؛ لا فرطنا في القول وبيّنا انه ليس لاحد من اهل المذاهب والنحل والشرائع وسائر الطرائق ، من العلم بحدوث العالم واثبات الصانع له وتلخيص امر الابداع ، ما لارسطوطاليس ، وقبله لافلاطون ، ولمن يسلك سبيلهما. وذلك ان كل ما يوجد من اقاويل العلماء ، من سائر المذاهب والنحل ، ليس يدل على التفضيل الا على قدم الطبيعة وبقائها ومن احبّ الوقوف على ذلك ، فلينظر في الكتب المصنفة في المبدءات والاخبار المرويّة

__________________

(١) يقول ارسطو ان الله هو السبب الأول والمبدأ الأول للعالم. وهذايدل علي اثبات وجود الله ، لا علي حدوثه.

٦٢

فيها ، والآثار المحكيّة عن قدمائهم ، ليرى الاعاجيب عن قولهم بانه كان في الاصل ماء (١) ، فتحرك ، واجتمع زبد ، وانعقد منه الارض ، وارتفع منه الدخان ، وانتظم منه السماء. ثم ما يقوله اليهود والمجوس وسائر الامم ، مما يدل جميعه على الاستحالات والتغاير ، التي هي اضداد الابداع. وما يوجد لجميعهم مما سيؤول اليه امر السماوات والارضين من طيها ولفها وطرحها في جهنم وتبديدها ؛ وما اشبه ذلك مما لا يدل شيء منه علي التلاشي المحض. ولو لا ما انقذ اللّه اهل العقول والاذهان بهذين الحكيمين ، ومن سلك سبيلهما ممن وضّحوا امر الابداع (٢) بحجج واضحة مقنعة ، وانه ايجاد الشيء لا عن شيء ، وان كل ما يتكوّن من شيء ما فانه يفسد ، لا محالة ، الى ذلك الشيء؛ والعالم مبدع من غير شيء ، فمآله الى غير شيء؛ فيما شاكل ذلك من الدلائل والحجج والبراهين التي توجد كتبهما مملوّة منها ، وخصوصا ما لهما في الربوبية وفي مبادئ الطبيعة ، لكان الناس في حيرة ولبس. غير ان لنا في هذا الباب طريقا نسلكه يتبين به امر تلك الاقاويل الشرعية ، وانها على غاية السداد والصواب.

__________________

(١) يغمز الفارابي من قناة اليهود الذين يقولون ـ بنظره ـ بقدم العالم لأنه ورد في التوراة أن في البدء كان الماء ، ومن الماء تكونت الكائنات المختلفة.

(٢) معني الابداع عند الفارابي كما فهمه من افلاطون وارسطو هو ايجاد الشيء عن لا شيء ، وهذا المعني سبق اليه الكندي عندما قال انه ايجاد الأبيسات عن الليس (انظر رسالة الكندي في الفلسفة الأولي ، ضمن رسائله).

٦٣

وهو ان الباري ، جل جلاله ، مدبر جميع العالم ، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ، ولا يفوت عنايته شيء من اجزاء العالم ، على سبيل الذي بيناه في العناية ، من ان العناية الكلية شائعة في الجزئيات ، وان كل شيء من اجزاء العالم واحواله موضوع با وقف المواضع واتقنها ، على ما يدل عليه كتب التشريحات ومنافع الاعضاء وما اشبهها من الاقاويل الطبيعية ، وكل امر من الامور التي بها قوامه موكول الى من يقوم بها ضرورة على غاية الاتقان والاحكام الى ان يترقى من الاجزاء الطبيعية الى البرهانيات والسياسيات والشرعيات. والبرهانيات موكولة الى اصحاب الاذهان الصافية والعقول المستقيمة ، والسياسيات موكولة الى ذوي الآراء السديدة؛ والشرعيات موكولة الى ذوي الالهامات الروحانية. واعمّ هذه كلها الشرعيات ، والفاظها خارجة عن مقادير عقول المخاطبين. ولذلك لا يؤاخذون بما لا يطيقون تصوره.

فان من تصوّر في امر المبدع الأول انه جسم (١) ، وانه يفعل بحركة وزمان ، ثم لا يقدر ، بذهنه ، على تصوّر ما هو الطف من ذلك واليق به ، ومهما توهّم انه غير جسيم ، وانه يفعل فعلا بلا حركة وزمان ، لا يثبت في ذهنه معنى متصوّر البتّة. وان أجبر على ذلك زاد غيّا وضلالا؛ وكان فيما يتصوره ويعتقده معذورا مصيبا. ثم يقدر بذهنه على ان يعلم انه غير جسيم ، وان فعله بلا حركة؛ غير انه لا يقدر على

__________________

(١) يعني الفارابي بهم المجسمة الذين قالوا ان الله جسم ، مثل الحشوية.

٦٤

تصور انه لا في مكان؛ وان اجبر على ذلك وكلّف تصوّره تبلّد ، فانه يترك على حاله ولا يساق الى غيرها. وكذلك لا يقدر الجمهور على معرفة شيء يحدث لا عن شيء ، ويفسد لا الى شيء؛ فلذلك ما قد خوطبوا بما قدروا على تصوّره وادراكه وتفهّمه ، لا يجوز ان ينسب شيء من ذلك فيما هو في موضعه الى الخطأ والوهي؛ بل كل ذلك صواب مستقيم. فطرق البراهين الحقيقة منشأها من عند الفلاسفة الذين مقدّمهم هذان الحكيمان ، اعني افلاطون وارسطوطاليس.

واما طريق البراهين المقنعة المستقيمة العجيبة النفع ، فمنشؤها من عند اصحاب الشرائع الذين عوّضوا بالابداع الوحي والالهامات. ومن كان هذا سبيله ومحلّه من ايضاح الحجج واقامة البراهين على وحدانية الصانع الحق ، وكان اقاويله في كيفية الابداع وتلخيص معناه باقاويل هذين الحكيمين ، فمستنكر ان يظن بهما فسادا يعتري ما يعتقدانه ، وان رأييهما مدخولان فيما يسلكانه.

١٦ ـ المثل قال بها افلاطون وارسطو (في كتاب اثالوجيا) ولذا لا يوجد تباين بينهما

ومن ذلك ، الصور والمثل التي تنسب الى افلاطون انه يثبتها ، وارسطو على خلاف رأيه فيهما. وذلك ان افلاطون ، في كثير من اقاويله ، يومئ الى ان للموجودات صورا مجردة في عالم الاله؛ وربما يسميها «المثل الالهية» ؛ وانها لا تدثر ولا تفسد ، ولكنها باقية ، وان

٦٥

الذي يدثر ويفسد انما هي هذه الموجودات التي هي كائنة. وارسطو ذكر في «حروفه» فيما بعد الطبيعة (١) ، كلاما شنّع فيه على القائلين «بالمثل» «والصور» التي يقال انها موجودة قائمة في عالم الاله ، غير فاسدة؛ وبيّن ما يلزمها من الشناعات ، انه يجب ان هناك خطوطا وسطوحا وافلاكا ، ثم توجد حركات من الافلاك والادوار ، وانه يوجد هناك علوم ، مثل علم النجوم وعلم الالحان ، واصوات مؤتلفة واصوات غير مؤتلفة ، وطب وهندسة ، ومقادير مستقيمة وأخر معوجة ، واشياء حارة وأشياء باردة ، وبالجملة كيفية فاعلة ومنفعلة ، وكليات وجزئيات ، ومواد وصور ، وشناعات اخر ، ينطق بها في تلك الاقاويل ، ما يطول بذكرها هذا القول. وقد استغنينا ، لشهرتها ، عن الاعادة ، مثل ما فعلنا بسائر الاقاويل حيث اومأنا اليها والى اماكنها ، وخلّينا ذكرها بالنظر فيها والتأويل لها لمن يلتمسها من مواضعها فان الغرض المقصود من مقالتنا هذه ايضاح الطرق التي ، اذا سلكها طالب الحق ، لم يضل فيها ، وامكنه الوقوف على حقيقة المراد باقاويل هذين الحكيمين ، من غير ان ينحرف عن سواء السبيل الى ما تخيّله الالفاظ المشكلة.

وقد نجد ان ارسطو ، في كتابه في الربوبية المعروف ب‍ «اثولوجيا» يثبت الصور الروحانية ، ويصرح بانها موجودة في عالم الربوبية. فلا تخلو هذه الاقاويل ، اذا اخذت على ظاهرها ، من احدى ثلاث

__________________

(١) انتقد ارسطو مثل افلاطون في اماكن عديدة من مؤلفاته منها كتاب «الاخلاق الي نيقوماخوس» في سياق كلامه علي الخير واعتبار افلاطون اياه مثلاً اعلي موجوداً في عالم المثل في السماء.

٦٦

حالات: اما ان يكون بعضها متناقضة بعضها؛ واما ان يكون بعضها لارسطو وبعضها ليس له؛ واما ان يكون لها معان وتأويلات تتّفق بواطنها وان اختلف ظواهرها ، فتتطابق عند ذلك وتتفق. فاما ان يظن بارسطو ، مع براعته وشدّة يقظته وجلاله هذه المعاني عنده ، اعني الصور الروحانية ، انه يناقض نفسه في علم واحد ـ وهو العلم الربوبي ـ فبعيد ومستنكر. واما ان بعضها لارسطو وبعضها ليس له ، فهو ابعد جدا ، اذ الكتب الناطقة بتلك الاقاويل اشهر من ان يظنّ ببعضها انه منحول. فبقي ان يكون لها تأويلات ومعان ، اذا كشف عنها ، ارتفع الشك والحيرة.

فنقول انه ، لما كان الباري ، جلّ جلاله ، بانيّته وذاته ، مباينا لجميع ما سواه ، وذلك لانه بمعنى اشرف وافضل واعلى ، بحيث لا يناسبه في انيّته ولا يشاكله ولا يشابهه حقيقة ولا مجازا ، ثم مع ذلك لم يكن بدّ من وصفه واطلاق لفظ فيه من هذه الالفاظ المتواطئة عليه ، فان من الواجب الضروري ان يعلم ان مع كل لفظة نقولها في شيء من اوصافه ، معنى بذاته بعيد من المعنى الذي نتصوره من تلك اللفظة. وذلك كما قلنا بمعنى اشرف واعلى ، حتى اذا قلنا انه موجود؛ علمنا مع ذلك ان وجوده لا كوجود سائر ما هو دونه. واذا قلنا انه حي ؛ علمنا انه حي بمعنى اشرف مما نعلمه من الحي الذي هو دونه. وكذلك الامر في سائرها. ومهما استحكم هذا المعنى وتمكّن من ذهن المتعلّم للفلسفة التي بعد الطبيعيات ، سهل عليه تصوّر ما يقوله افلاطون وارسطوطاليس ومن سلك سبيلهما.

٦٧

فنرجع الآن الى حيث فارقناه؛ فنقول : لما كان اللّه تعالى حيّا موجدا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب ان يكون عنده صور ما يريد ايجاده في ذاته ، جلّ اللّه من اشتباه.

وايضا ، فان ذاته ، لما كانت باقية ، لا يجوز عليه التبدّل والتغيّر. فما هو بحيّزه ايضا كذلك باق غير داثر ولا متغير. ولو لم يكن للموجودات صور وآثار في ذات الموجد (١) الحي المريد ، فما الذي كان يوجده؟ وعلى اي مثال ينحو بما يفعله ويبدعه؟ أما علمت انّ من نفى هذا المعنى عن الفاعل الحي المريد ، لزمه ان يقول بان ما يوجده انما يوجده جزافا وتنحّسا وعلى غير قصد؛ ولا ينحو نحو غرض مقصود بارادته. وهذا من اشنع الشناعات.

فعلى هذا المعنى ينبغي ان تعرف وتصوّر اقاويل أولئك الحكماء فيما اثبتوه من الصور الالهية؛ لا على انها اشباح قائمة في اماكن اخر خارجة عن هذا العالم. فانها متى تصوّرت على هذا السبيل ، يلزم القول بوجود عوالم غير متناهية ، كلها كأمثال هذا العالم. وقد بيّن الحكيم ارسطو ما يلزم القائلين بوجود العوالم الكثيرة في كتبه في «الطبيعيات» (٢). وشرح المفسّرون اقاويله بغاية الايضاح. وينبغي ان

__________________

(١) هذا تفسير خاطيء لمعني المثل عند افلاطون. انها بنظر الفارابي صور في ذات الله علي مثالها خلق الموجودات الحسية. ولكنها في الواقع تشكل عالماً قائماً بذاته كما يستفاد من كتب افلاطون.

(٢) هنا يشير الفارابي الي النقد الذي وجهه أرسطو إلي نظرية المثل. وقد انتقدها مراراً ليس في الكتب الطبيعية كما يقول الفارابي بل في كتاب الاخلاق الي نيقوماخس.

٦٨

تتدبّر هذا الطريق الذي ذكرناه مرارا كثيرة في الاقاويل الالهية؛ فانه عظيم النفع وعليه المعوّل في جميع ذلك ، وفي اهماله الضرر الشديد. وان تعلم ، مع ذلك ، ان الضرورة تدعو الى اطلاق الالفاظ (١) الطبعية والمنطقية المتواطئة على تلك المعاني اللطيفة الشريفة ، العالية عن جميع الاوصاف ، المتباينة عن جميع الامور الكيانية الموجودة بالوجود الطبيعي. فانه ان قصد لاختراع الفاظ اخر واستئناف وضع لغات ، سوى ما هي مستعملة ، لما كان يوجد السبيل الى الفاظه ، ويتصوّر منها غير ما باشرته الحواسّ. فلما كانت الضرورة تمنع وتحول بيننا وبين ذلك ، اقتصرنا على ما يوجد من الالفاظ ، واوجبنا على انفسنا الاخطار بالبال ان المعاني الالهية التي يعبر عنها بهذه الالفاظ ، هي بنوع اشرف وعلى غير ما نتخيّله ونتصوّره.

ومما يجري هذا المجرى ، اقاويل افلاطون في كتاب «طيماوس» من كتبه في امر النفس والعقل؛ وان لكل واحد منهما عالما سوى عالم الآخر ، وان تلك العوالم متتالية ، بعضها اعلى وبعضها اسفل. وسائر ما قال مما اشبه ذلك. ومن الواجب ان نتصور منها شبه ما ذكرناه ، انه انما يريد بعوالم العقل حيّزه وكذلك بعوالم النفس. لا ان للعقل مكانا وللنفس مكانا وللباري تعالى مكانا ، بعضها اعلى وبعضها اسفل ، كما يكون للاجسام. فان ذلك مما يستنكره المبتدئون بالتفلسف ، فكيف المرتاضون بها؟ وانما يريد بالاعلى والاسفل الفضيلة والشرف ، لا

__________________

(١) يفزع الفارابي الي اللغة كلما احرجه الموقف.

٦٩

المكان السطحي. وقوله «عالم العقل» انما هو ، على ما يقال ، عالم الجهل وعالم العلم وعالم الغيب؛ ويراد بذلك حيز كل واحد منها.

وكذلك ما قاله من افاضة النفس على الطبيعة ، وافاضة العقل على النفس؛ انما اراد به افاضة العقل بالمعونة في حفظ الصور الكلية عند احساس النفس بمفصّلاتها ، والتفصيل عند احساسها بمجتمعاتها وتحصيلاتها ما يودعه اياها من الصور الدائرة الفاسدة. وكذلك سائر ما يجري مجراها من معونة العقل للنفس. واراد بافاضة النفس للطبيعة ، ما تفيدها من المعونة ، والانسياق نحو ما ينفعها ، مما به قوامها؛ ومنه التذاذها والتلطف بها وسائر ما اشبه ذلك.

واراد برجوع النفس الى عالمها ، عند الاطلاق من محبسها ، ان النفس ما دامت في هذا العالم فانها مضطرة الى مساعدة البدن الطبيعي ، الذي هو مجلها ، كانها تشتاق الى الاستراحة (١). فاذا رجعت الى ذاتها ، فكانها اطلقت من محبس مؤذ الى حيزها الملائم المشاكل لها. وعلى هذه الجهة ينبغي ان يقاس كل ما سوى ما ذكرناه من تلك الرموز. فان تلك المعاني ، بدقتها ولطفها ، تمنعت عن العبارة عنها بغير تلك الجهة التي استعملها الحكيم افلاطون ومن سلك سبيله. وان العقل ، على ما بيّنه الحكيم ارسطو ، في كتبه في «النفس» ،

__________________

(١) هذه التفسيرات للعقل والنفس وإفاضة النفس علي الجسم ورجوعها الي عالمها بعد الموت تدل علي ميل واضح للفارابي نحو ارسطو وآرائه حول هذه القضايا. انه يفسر افلاطون هنا بحيث يتفق مع ارسطو ، كما فسر ارسطو بصدد حدوث العالم وقدمه بحث يتوافق مع افلاطون.

٧٠

وكذلك الاسكندر ، وغيره من الفلاسفة ، هو اشرف اجزاء النفس ، وانه هي بالفعل ناجزة ، وبه تعلم الالهيات ، ويعرف الباري ، جل ثناؤه. فكأنه اقرب الموجودات اليه شرفا ولطفا وصفاء؛ لا مكانا وموضعا. ثم تتلوه النفس ، لانها كالمتوسطة بين العقل والطبيعة ، اذ لها حواس طبيعية؛ فكأنها متحدة من احد طرفيها بالعقل ، الذي هو متحد بالباري ، جل وعز ، على السبيل الذي ذكرناه؛ ومن الطرف الآخر متحدة بالطبيعة؛ وكانت الطبيعة تتلوها كيانة لا مكانا. فعلى هذا السبيل ، وعلى ما يشاكلها مما يعسر وصفها قولا ، ينبغي ان تعلم ما يقوله افلاطون في اقاويله. فانها مهما أجريت هذا المجرى ، زالت الظنون والشكوك التي تؤدي الى القول بان بينه وبين ارسطو اختلافا في هذا المعنى. الا ترى ان ارسطو ، حيث يريد ان يبيّن من امر النفس والعقل والربوبية حالا ، كيف يجرؤ ويتشدّق في القول ، ويخرج مخرج الالغاز على سبيل التشبيه؟

وذلك في كتابه المعروف «باثولوجيا» ، حيث يقول : «اني ربما خلوت بنفسي كثيرا ، وخلعت بدني ، فصرت كاني جوهر مجرد بلا جسم؛ فاكون داخلا في ذاتي وراجعا اليها ، وخارجا من سائر الأشياء سواي؛ فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا ، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما بقيت متعجبا. فاعلم عند ذلك ، اني من العالم الشريف جزء صغير؛ فاني لمحيّا فاعل؛ فلما ايقنت بذلك ترقّيت

٧١

بذهني من ذلك العالم الى العالم الالهي ، فصرت كأني هناك متعلق بها؛ فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما يكلّ الألسن عن وصفه ، والاذان عن سمعه ؛ فاذا استغشي في ذلك النور وبلغت طاقتي ، ولم اقو على احتماله (١) ، هبطت الى عالم الفكرة؛ فاذا صرت الى عالم الفكرة ، حجبت عني الفكرة ذلك النور ، وتذكرت ، عند ذلك ، اخي يرقليطوس ، من حيث امر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة بالصعود الى عالم العقل». ـ هذا في كلام له طويل ، يجتهد فيه ويروم بيان هذه المعاني اللطيفة؛ فيمنعه العقل الكياني عن ادراك ما عنده وايضاحه.

فمن اراد ان يقف على يسير ما أومئوا اليه ، فان الكثير منه عسير وبعيد. فليحفظ ما ذكرناه بذهنه ، ولا يتبع الالفاظ متابعة تامّة ، لعله يدرك بعض ما قصد بتلك الرموز والالغاز. فانهم قد بالغوا واجتهدوا ، ومن بعدهم الى يومنا هذا ، ممن لم يكن قصدهم الحق؛ بل كان كدّهم العصبية وطلب العيوب؛ فحرفوا وبدلوا ، ولم يقدروا ، مع الجهد والعناية والقصد التامّ ، على الكشف والايضاح. فانّا ، مع شدة العناية بذلك ، نعلم انّا لم نبلغ من الواجب فيه الاّ ايسر اليسير ، لان الامر في نفسه صعب ممتنع جدا.

__________________

(١) هذا الكلام اقتبسه الفارابي من كتاب اثالوجيا لافلوطين وهو يصف فيه انجذابه الي الله في تجربة صوفية تذكرنا بفناء المتصوفة واتصالهم بالحضرة الالهية. وهذا لم يعرفه افلاطون ولا ارسطو.

٧٢

١٧ ـ قول افلاطون وارسطو بالدينونة

ومما يظن بالحكيمين ، افلاطون وارسطو ، انهما لا يريانه ولا يعتقدانه ، امر المجازاة والثواب والعقاب. وذلك وهم فاسد بهما. فان ارسطو صرح بقوله ان المكافأة واجبة في الطبيعة. ويقول في «رسالته» التي كتبها الى والدة الاسكندر ، حين بلغها بغيه وجزعت عليه وعزمت على التشكك بنفسها. واول تلك الرسالة : «فاما شهود اللّه في ارضه التي هي الانفس العالمة ، فقد تطابقت على ان الاسكندر العظيم من افضل الاخيار الماضين؛ واما الآثار الممدوحة ، فقد رسمت له في عيون اماكن الارض واطراف مساكن الانفس ، بين مشارقها ومغاربها ؛ ولن يؤتي اللّه احدا ما اتاه الاسكندر ، (الاّ) من اجتباء واختيار؛ والخير من اختاره اللّه تعالى. فمنهم من شهدت عليه دلائل الاختيار؛ ومنهم من خفيت تلك فيه. والاسكندر اشهر الماضين والحاضرين دلائل ، واحسنهم ذكرا واحمدهم حيوة ، واسلمهم وفاة. يا والدة اسكندر ، ان كنت مشفقة على العظيم اسكندر ، فلا تكسبنّ ما يبعدك عنه ، ولا تجلبي على نفسك ما يحول بينك وبينه ، حين الالتقاء في زمرة الاخيار ، واحرصي على ما يقرّبك منه؛ واوّل ذلك توليتك بنفسك الطاهرة امر القرابين في هيكل زيوس» (١).

__________________

(١) لا يوجد في هذا القسم من رسالة ارسطو الي والدة الاسكندر ما يشير الي ايمانه بالحساب في الحياة الأخري.

٧٣

فهذا ، وما يتلوه من كلامه ، يدل دلالة واضحة على انه كان يوجب المجازاة معتقدا ...

واما افلاطون ، فانه اودع آخر كتابه في «السياسة» (١) القصة الناطقة بالبعث والنشور والحكم ، والعدل ، والميزان ، وتوفية الثواب والعقاب على الاعمال ، خيرها وشرها.

__________________

(١) هذه القصة اوردها افلاطون في نهاية كتاب «الجمهورية» حيث روي قصة جندي اسمه آر يعود الي الحياه بعد الموت ويصف ما رأي حول محاسبة النفوس.

٧٤

الخاتمة

فمن تأمل ما ذكرناه من اقاويل هذين الحكيمين ، ثم لم يعرّج على العناد الصراع ، اغناه ذلك عن متابعة الظنون الفاسدة ، والاوهام المدخولة ، واكتساب الوزر ، بما ينسب الى هؤلاء الافاضل ، مما هم منه براء وعنه بمعزل.

وعند هذا الكلام نختم القول فيما رمنا بيانه ، من الجمع بين رأيي الحكيمين افلاطون وارسطوطاليس.

والحمد للّه حقّ حمده ، والصلاة على النبي محمد ، خير خلقه ، وعلى الطاهرين من عشرته ، والطيبين من ذريته آمين.

٧٥
٧٦

فهرس الكتاب

المقدمة.......................................................................... ٥

١ ـ غرض الكتاب.............................................................. ٢٧

٢ ـ حد الفلسفة وابداعا......................................................... ٢٨

٣ ـ موضوعات الفلسفة......................................................... ٢٩

٤ ـ أرسطو ينشيء علم المنطق.................................................... ٣٠

٥ ـ اجماع العلوم المختلفة حجة................................................... ٣٠

٦ ـ عيوب الاستقراء............................................................ ٣٢

٧ ـ اختلاف سيرتي افلاطون وارسطو لم يؤد إلي اختلاف آرائهما السياسية والخلقية...... ٣٣

٨ ـ منهجا افلاطون وارسطو مختلفان في الظاهر ومتفقان في الغاية...................... ٣٥

٩ ـ لا خلاف بين افلاطون وارسطو في تفضيل الجواهر.............................. ٣٧

١٠ ـ القسمة التي اعتمدها افلاطون لم يهملها أرسطو............................... ٣٩

١١ ـ لا خلاف بين افلاطون وارسطو حول القياس.................................. ٤١

٧٧

١٢ ـ الخلاف بين افلاطون وارسطو حول البصر لفظي فقط.......................... ٤٦

١٣ ـ الأخلاق عند ارسطو وافلاطون مكتسبة وليست طباعاً......................... ٥١

١٤ ـ المعرفة عند افلاطون تذكر وعند ارسطو احساس ومع ذلك لا خلاف بينهما....... ٥٤

١٥ ـ العالم حادث عند افلاطون وارسطو.......................................... ٥٨

١٦ ـ المثل قال بها افلاطون وارسطو علي السواء..................................... ٦٥

١٧ ـ قول افلاطون وارسطو بالدينونة.............................................. ٧٣

١٨ ـ الخاتمة.................................................................... ٧٥

٧٨