كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين لأبي نصر الفارابي

الدكتور علي بو محلم

كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين لأبي نصر الفارابي

المؤلف:

الدكتور علي بو محلم


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨

كل قسم منهما كذلك ، وينظر في اي الجزءين يقع المقصود تحديده؛ ثم لا يزال يفعل كذلك الى ان يحصل امر عاميّ قريب من المقصود تحديده ، وفصل يقوّم ذاته ويفرده عمّا يشاركه. وهو في ذلك لا يخلو من تركيب ما حيث يركّب الفصل على الجنس؛ وان لم يقصد ذلك من اول الامر. فاذا كان لا يخلو من ذلك فيما يستعمله. وان كان ظاهر سلوكه ذلك خلاف ظاهر سلوكه هذه ، فالمعاني واحدة. وايضا ، فسواء طلبت جنس الشيء وفصله ، او طلبت الشيء في جنسه وفصله. فظاهر ان لا خلاف بين الرأيين في الاصل ، وان كان بين المسلكين خلاف. ونحن لا ندّعي انه لا بون ، بوجه من الوجوه وجهة من الجهات ، بين الطريقين ، لانه يلزمنا ، عند ذلك ، ان يكون قول ارسطوطاليس ومأخذه وسلوكه ، هي باعينها قول افلاطون ومأخذه وسلوكه. وذلك محال وشنيع ، ولكنّا ندّعي انه لا خلاف بينهما في الاصول والمقاصد ، على ما بيّناه او سنبيّنه بمشيئة اللّه وحسن توفيقه.

١١ ـ لا خلاف بين افلاطون وارسطو حول القياس

ومن ذلك ايضا ، ما انتحله امونيوس (١) وكثير من الاسكلائيين (٢)

__________________

(١) أمونيوس : هو امونيوس ساكاس (١٧٥ ـ ٢٥٠ م) فيلسوف اسكندي من ابوين مسيحيين ، ارتد عن المسيحية واعتنق الافلاطونية الجديدة ، وعلم افلوطين.

(٢) الاسكلائيين : المدرسيين.

٤١

وآخرهم تامسطيوس (١) فيمن يتبعه ، من ان القياس المختلط من الضروري والوجودي اذا كانت المقدمة الكبرى منهما ضرورية ، كانت النتيجة وجودية لا ضرورية. ونسبوا ذلك الى افلاطون ، وادّعوا انه يأتي بقياسات ، في كتبه ، توجد مقدماتها الكبرى ضرورية ونتائجها وجودية ، مثل القياس الذي يأتي به في كتاب «طيماوس» ، حيث يقول : «الوجود افضل من لا وجود ، والافضل تشتاقه الطبيعة ابدا». ويزعمون ان النتيجة اللازمة لهاتين المقدمتين ، وهي ان الطبيعة تشتاق الوجود ، ليست ضرورية ، من جهات : منها انه لا ضرورة في الطبيعة ، وان الذي في الطبيعة من الوجود هو الوجود الذي على الأكثر؛ ومنها ان الطبيعة قد تشتاق الى الوجود عند المضاف اللاحق لوجود ما ، هي اللازمة عنه. وزعموا ان المقدمة الكبرى من هذا القياس ضرورية ، لقوله : «ابدا». وارسطوطاليس يصرح في كتاب «القياس» : ان القياس الذي تكون مقدماته مختلطة من الضروري ومن الوجودي ، وتكون الكبرى هي الضرورية ، فان النتيجة تكون ضرورية. وهذا خلاف ظاهر.

فنقول : لو لا انه لا يوجد لافلاطون قول يصرح فيه ان امثال هذه النتائج تكون ضرورية او وجودية البتة ، وانما ذلك شيء يدّعيه الناظرون ، ويزعمون انه قد يوجد لافلاطون قياسات على هذا السبيل ، مثل ما حكيناه عنه ، لكان بينهما خلاف ظاهر. الاّ ان الذي دعاهم

__________________

(١) تامسطيوس : (٣١٧ ـ ٣٨٨ م) عاش في القسطنطنية ، وجمع بين ارسطو وافلاطون باعتباره افلاطونياً جديداً.

٤٢

الى هذا الاعتقاد هو قلّة التمييز وخلط صناعة المنطق بالطبيعة (١) وذلك اذ ، لما هم وجدوا القياس مركّبا من مقدّمتين وثلاثة حدود : اوّل ، واوسط ، وآخر (٢) ، ووجدوا لزوم الحد الأول للاوسط ضروريا ، ولزوم الاوسط للاخر وجوديا ، ورأوا الحد الاوسط ـ وكان هو العلة في لزوم الحد الأول للاخر ، والواصل له به ـ ثم وجدوا حاله نفسه عند الآخر حال الوجود ، قالوا : اذا كان حال الاوسط الذي هو العلة والسبب في وصول الأول بالآخر حال الوجود ، فكيف يجوز ان يكون حال الأول عند الآخر حال الاضطرار؟ وانما سوّغ لهم هذا الاعتقاد ، لنظرهم في مجرّد الامور والمعاني ، وازورارهم عن شرائط المنطق وشرائط المقول على الكل. ولو علموا وتفكروا وتأملوا حال المقول على الكل وشرطه ، وان معناه هو ان كل ما هو «ب» ، وكل ما يكون «ب» ، فهو اتمّ ، لوجدوا ان هو بشرط المقول على الكل بالضرورة. ولما عرض لهم الشكّ ، ولما ساغ لهم ما اعتقدوه وايضا فان القياسات التي يأتون بها عن افلاطون ، اذا تؤمّل حقّ التأمل فيها ، وجدوا اكثرها واردا في صور القياس المؤتلف من الموجبتين في الشكل الثاني. ومهما نظر في واحد واحد من مقدماتها ، تبيّن وهن ما ادّعوه فيها. وقد لخّص الاسكندر الافروديسي معنى المقول على الكل ،

__________________

(١) يرمي الفارابي القائلين بالخلاف بين افلاطون وارسطو بالجهل بالمنطق وخلطه بالطبيعة.

(٢) القياس مركب من مقدمتين ونتيجة وليس من مقدمتين فقط. وهو يتضمن ثلاثة حدود : أكبر واوسط وأصغر. والأوسط هو الذي يصل الأكبر بالأصغر.

٤٣

وفاصل عن ارسطو فيما ادّعوه. وشرحنا نحن اقاويله ايضا عن كتاب «انولوطيقا» في هذا الباب ، وبيّنا معنى المقول على الكل ، ولخصنا امره ، شافيا ، وفرّقنا فيه بين الضروري القياسي وبين الضروري البرهاني ، بحيث يكون فيه غنية لمن تأمله عن كل ما يورثه لبثا في هذا الباب. فقد ظهر ان الذي ادّعاه ارسطوطاليس في هذا القياس ، هو على ما ادّعاه ، وان افلاطون لا يوجد له قول يصرح فيه بما يخالف قول ارسطو (١).

ومما اشبه ذلك هو ما ادّعوه على افلاطون انه يستعمل الضرب من القياس في الشكل الأول والثالث ، الذي المقدمة الصغرى منه سالبة. وقد بيّن ارسطو مرّة في «انولوطيقا» انه غير منتج. وقد تكلّم المفسّرون في هذا الشكل وحلّلوه ، وبيّنوا امره. ونحن ايضا ، شرحنا في تفاسيرنا وبينا ان الذي اتى به افلاطون في كتاب «السياسة» ، وكذلك ارسطوطاليس في كتاب «السماء والعالم» مما يوهم انها سوالب ، ليست بسوالب ، لكنها موجبات معدولة؛ مثل قوله : السماء لا خفيف ولا ثقيل ، وكذلك سائر ما اشبهها؛ اذ الموضوعات فيها موجودة ، والموجبات المعدولة ، مهما وقعت في القياس ، بحيث لو وقعت هناك سوالب بسيطة ، كان الضرب غير منتج ، لامتنع القياس من ان يكون منتجا.

ومن ذلك ايضا ، ما اتى به ارسطوطاليس في الفصل الخامس من الكتاب «باري هرمينياس» ، وهو ان الموجبة التي المحمول فيها ضدّ من

__________________

(١) الفارابي يؤكد أنه لا يوجد لأفلاطون أقوال في القياس تخالف ما ذهب إليه أرسطو. وهذا امر طبيعي لأن علم المنطق وضعه أرسطو بعد أفلاطون.

٤٤

الاضداد ، فان سالبته اشدّ مضادة من الموجبة التي المحمول فيها ضدّ ذلك المحمول. فان كثيرا من الناس ظنوا ان افلاطون يخالفه في هذا الرأي ، وانه يرى ان الموجبة التي المحمول فيها ضد المحمول في الموجبة الاخرى ، اشدّ مضادة. واحتجوا على ذلك بكثير من اقاويله السياسية والخلقية؛ منها ما ذكره في كتاب «السياسة» : ان الاعدل متوسّط بين الجور والعدل. وهؤلاء ، فقد ذهب عليهم ما نحاه افلاطون في كتاب «السياسة» ، وما نحاه ارسطوطاليس في «باري هرمينياس» ، وذلك ان الغرضين المقصودين متباينان. فان ارسطو انما بيّن معاندة الاقاويل ، وانها اشدّ واتمّ معاندة. والدليل على ذلك ما اورده في الحجج ، وبيّن ان من الامور ما لا يوجد فيها مضادة البتة ، وليس شيء من الامور الاّ ويوجد فيها سوالب معاندة له. وايضا ، فان كان واجبا في غير ما ذكرنا ، ان يجري الامر على هذا المثال ، فقد ترى ان ما قيل في ذلك صواب؛ وذلك انه قد يجب ، اما ان يكون اعتقاد النقيض هو الضد في كل موضع ، واما ان يكون في موضع من المواضع هذه. الاّ ان الأشياء التي ليس يوجد فيها ضد اصلا ، فان الكذب فيها هو الضد المعاند للحق. ومثال ذلك ، من ظنّ بانسان انه ليس بانسان ، فقد ظن ظنا كاذبا. فان كان هذان الاعتقادان هما الضدان ، فسائر الاعتقادات انما الضد فيها هو اعتقاد النقيض. واما افلاطون ، حيث بيّن ان الاعدل متوسّط بين العدل والجور ، فانه انما قصد بيان المعاني السياسية ومراتبها ، لا معاندة الاقاويل فيها. وقد ذكر ارسطو في «نيقوماخيا الصغير في السياسة» شبها بما بيّنه افلاطون. فقد تبيّن

٤٥

لمتأمل هذه الاقاويل والناظر فيها بعين النصفة ، انه لا خلاف بين الرأيين ، ولا تباين بين الاعتقادين (١).

وبالجملة ، فليس يوجد الى الآن لافلاطون اقاويل يبين فيها المعاني المنطقية التي زعم كثير من الناس ان بينه وبين ارسطوطاليس فيها خلافا. وانما يحتجون على ما يزعمون ببعض اقاويله السياسية والخلقية والالهية ، حسب ما ذكرناه.

١٢ ـ الابصار عند افلاطون يتم بخروج شيء من البصر الي الاشياء ، وعند ارسطو بشيء يخرج من الاشياء الي البصر ، ومع ذلك الخلاف لفظي

ومن ذلك حال الابصار ، وكيفيته؛ وما ينسب الى افلاطون من ان رأيه مخالف لرأي ارسطو : ان ارسطو يرى ان الابصار انما يكون بانفعال من البصر؛ وافلاطون يرى ان الابصار انما يكون بخروج شيء من البصر وملاقاته المبصر وقد اكثر المفسرون من الفريقين الخوض في هذا الباب؛ وارادوا من الحجج والشناعات والالزامات؛ وحرّفوا اقاويل الائمّة (٢) عن سننها المقصودة بها ، وتأوّلوا تأويلات انساغت لهم معها الشناعات ، وجانبوا طريق الانصاف والحق. وذلك ان اصحاب

__________________

(١) هكذا يخلص الفارابي إلي هذه النتيجة بشأن الجدل حول مسألة القياس عند الحكيمين اليونانيين وهي أنه لا خلاف بين الرأيين ولا تباين بين الاعتقادين.

(٢) يعين بلأئمة هنا افلاطون وارسطو.

٤٦

ارسطوطاليس (١) ، لما سمعوا قول اصحاب افلاطون في الابصار (٢) ، وانه انما يكون بخروج شيء من البصر ، قالوا ان الخروج انما يكون للجسم ، وهذا الجسم الذي زعموا انه يخرج من البصر ، امّا ان يكون هواء او ضوءا او نارا. وان كان هواء ، فان الهواء قد يوجد فيما بين البصر والمبصر ، فما حاجة الى خروج هواء آخر؟ وان كان ضياء ، فان الضياء ايضا قد يوجد في الهواء الذي بين البصر والمبصر ، فالضياء الخارج من البصر فضل لا يحتاج اليه. وايضا ، فانه وان كان ضياء ، فلم احتيج معه الى الضياء الراكد بين البصر والمبصر؟ ولم لا يغني هذا الضياء الخارج من البصر عن الضياء الذي يحتاج اليه في الهواء؟ ولم لا يبصر في الظلمة ، ان كان الذي يخرج من البصر هو ضياء؟ وايضا ، ان قيل ان الضياء الذي يخرج من البصر يكون ضعيفا ، فلم لا يقوى اذا اجتمعت ابصار كثيرة بالليل على النظر الى شيء واحد ، كما نرى من ذلك من قوة الضوء عند اجتماع السرج الكثيرة؟ وان كان نارا ، فلم لا يحمي ولا يحرق ، مثل ما تفعله النار؟ ولم لا ينطفي في المياه ، كما تنطفي النار؟ ولم (لا) ينفذ الى اسفل كما ينفذ الى فوق ، وليس من شأن النار ان تنفذ الى الاسفل؟ وايضا ، ان قيل ان الذي يخرج عن البصر شيء آخر غير هذه الأشياء ، فلم لا يتلاقى ولا يتصادم عند مقابلة المناظر ، فيمنع الناظرين المتقابلين عن الادراك النظري؟ هذه

__________________

(١) أصحاب أرسطوطاليس هم أتباعه والآخذون بفلسفته وقد دعوا المشائين.

(٢) أصحاب أفلاطون هم الذين أيدوا آراءه الفلسفية.

٤٧

وما اشبهها من الشناعات التي وقعت لهم ، عند تحريفهم لفظ الخروج عن مقصود القول ، وجريهم الى الخروج الذي يقال في الاجسام.

ثم ان اصحاب افلاطون ، لمّا سمعوا اقوال اصحاب ارسطوطاليس في الابصار ، وانه انما يكون بالانفعال ، حرّفوا هذه اللفظة بان قالوا : ان الانفعال لا يخلو من تأثر واستحالة ، وتغير في الكيفية .. وهذا الانفعال ، اما ان يكون في العضو الباصر ، او في الجسم المشفّ الذي بين البصر والمبصر. فان كان في العضو لزم ان تستحيل الحدقة ، في آن واحد بعينه ، من الوان بلا نهاية؛ وذلك محال؛ اذ الاستحالة انما تكون ، لا محالة ، في زمان ومن شيء واحد بعينه ، الى شيء واحد بعينه محدود. وان كان يحصل في بعضه دون بعض ، لزم ان تكون تلك الاجزاء مفصّلة متميّزة؛ وليست كذلك. وان كان ذلك الانفعال يلحق الجسم المشفّ ، اعني الهواء الذي بين البصر والمبصر ، لزم ان يكون الموضوع الواحد بالعدد قابلا للضدّين في وقت واحد معا ، وذلك محال. هذه وما اشبهها من الشناعات التي اوردوها.

ثم ان اصحاب ارسطو احتجوا على صحة ما ادعوه ، فقالوا : لو لم تكن الالوان وما يقوم مقامها ، محمولة في الجسم المشفّ بالفعل ، لما ادرك البصر الكواكب والأشياء البعيدة جدا ، في لحظة بلا زمان. فان الذي ينتقل لا بدّ من ان يبلغ المسافة القريبة قبل بلوغه المسافة البعيدة. ونحن نلحظ الكواكب ، مع بعد المسافة ، في الزمان الذي نلحظ فيه ما هو اقرب منها ، ولا يغادر ذلك شيئا. فظهر ، من هذه الجهة ، ان الهواء المشفّ يحمل الوان المبصرات ، فتؤدّي الى البصر.

٤٨

واحتجّ اصحاب افلاطون على صحة ما ادعوه من ان شيئا ينبثّ ويخرج من البصر الى المبصر فيلاقيه ، بان المبصرات ، متى كانت متفاوتة بالمسافات ، ادركنا ما هو اقرب دون ما هو ابعد ، والعلة في ذلك ان الشيء الخارج من البصر يدرك بقوّته ما يقرب منه ، ثم لا يزال يضعف ، فيكون ادراكه اقلّ واقلّ (١) ، حتى تفنى قوّته ، فلا يدرك ما هو بعيد عنه جدا البتة (٢). ومما يؤكد هذه الدعوى ، انّا متى مددنا ابصارنا الى مسافة بعيدة ، واوقعناها على مبصر ينجلي بضوء نار قريبة منه ، ادركنا ذلك المبصر ، وان كانت المسافة التي بيننا وبينه مظلمة. فلو كان الامر على ما قاله ارسطو واصحابه ، لوجب ان يكون جميع المسافة التي بيننا وبين المبصر مضيئا ليحمل الالوان فتؤدي الى البصر. فلما وجدنا الجسم المتجلي من بعد مبصرا ، علمنا ان شيئا خرج من البصر وامتدّ ، وقطع الظلمة ، وبلغ المبصر الذي تجلى بضوء ما ادركه.

ولو كان كلا الفريقين ارخوا اعينهم قليلا ، وتوسطوا النظر وقصدوا الحق ، وهجروا طريق العصبية (٣) ، لعلموا ان الافلاطونيّين انما ارادوا بلفظ الخروج معنى غير معنى خروج الجسم من المكان.

__________________

(١) أقل وأقل : تعبير يقوم علي تكرار اللفظ للدلالة علي التوكيد والمبالغة وقد لجأ اليه الفارابي كثيراً في كتابته.

(٢) التبة : بداً ، مطلقاً ، بشكل قاطع.

(٣) يتهم الفارابي اصحاب ارسطو واصحاب افلاطون بالتعصب وهذا يعني انه لا يعتبر نفسه لا من اصحاب افلاطون ولا من اصحاب ارسطو. انه من اصحاب الاثنين معاً أي من انصار الافالطونية الجديدة التيت بدأت مع افلوطين.

٤٩

وانما اضطرهم الى اطلاق لفظ «الخروج» ضرورة العبارة وضيق اللغة ، وعدم لفظ يدل على اثبات القوى من غير ان يخيل الخروج الذي للاجسام. وان اصحاب ارسطوطاليس ايضا ارادوا بلفظ «الانفعال» معنى غير معنى الانفعال الذي يكون في الكيفية مع الاستحالة والتغير. وظاهر ان الشيء الذي يشبه بشيء ما ، تكون ذاته وانيّته غير المشبه به. ومتى نظرنا بعين النصفة في هذا الامر ، علمنا ان هاهنا قوة واصلة بين البصر والمبصر؛ وان من شنع على اصحاب افلاطون في قولهم ان قوة ما تخرج من البصر فتلاقي المبصر ، فان قوله ان الهواء يحمل لون المبصر ، فتؤديه الى البصر ليلاقيه مماسا ، ليس بدون قولهم في الشناعة. فان كان ما يلزم اقاويل اولئك في اثبات القوة وخروجها ، يلزم قول هؤلاء في حمل الهواء الالوان وابدائها الى الابصار. فظاهر ان هذه واشباهها معان لطيفة دقيقة ، تنبّه لها المتفلسفون وبحثوا عنها ، واضطرّهم الامر الى العبارة عنها بالالفاظ القريبة من تلك المعاني؛ ولم يجدوا لها الفاظا موضوعة مفردة يعبر عنها حقّ العبارة ، من غير اشتراك يعرض فيها. فلما كان ذلك كذلك ، وجدوا العائبون مقالا ، فقالوا : واكثر ما يقع من المخالفة انما يقع في امثال هذه المعاني للاسباب التي ذكرناها. وذلك لا يخلو من احد امرين : اما لتخلف ، واما لمعاندة. فاما ذو الذهن الصحيح والرأي السديد والعقل الرصين المحكم الثابت ، اذا لم يتعمّد التمويه او تعصّب او مغالبة ، فقلّما يعتقد خلاف ان العالم اطلق لفظا على سبيل الضرورة ، عند ما رام بيان امر غامض وايضاح معنى لطيف فلا يخلو المتبصّر له عن اشتباه توقعه الالفاظ المشتركة والمستعارة.

٥٠

١٣ ـ الاخلاق عند افلاطون وارسطو مكتسبة وليست طباعاً :

ومن ذلك ايضا ، امر اخلاق النفس ، وظنّهم بان رأي ارسطو مخالف لرأي افلاطون. وذلك ان ارسطو يصرح في كتاب «نيقوماخيا» ان الاخلاق كلها عادات تتغير ، وانه ليس شيء منها بالطبع؛ وان الانسان يمكنه ان ينتقل من كل واحد منها الى غيره بالاعتياد والدربة. وافلاطون يصرح في كتاب «السياسة» وفي كتاب «بوليطيا» خاصة بان الطبع يغلب العادة؛ وان الكهول حيثما طبعوا على خلق ما ، يعسر زوالهم عنه؛ وانهم متى قصدوا زوال ذلك الخلق عنهم ازدادوا فيه تماديا. ويأتي على ذلك بمثال من الطريق : اذا نبت فيه الدغل والحشيش والشجر معوجّة ، متى قصد خلاء الطريق منها او ميل الشجر الى جانب آخر ، فانها اذا خلّيت سبيلها اخذت من الطريق اكثر مما كانت اخذت قبل ذلك.

وليس يشكّ احد ممن يسمع هاتين المقالتين ان بين الحكيمين في امر الاخلاق خلافا.

وليس الامر ، في الحقيقة ، كما ظنوا. وذلك ان ارسطو ، في كتابه المعروف «بنيقوماخيا» انما يتكلم على القوانين المدنية ، على ما بيناه في مواضع عن شرحنا لذلك الكتاب. ولو كان الامر فيه ايضا على ما قاله فرفوريوس (١) ، وكثير ممن بعده من المفسّرين ، انه يتكلم على الاخلاق ، فان كلامه على القوانين الخلقية والكلام القانوني ، ابدا يكون كليا

__________________

(١) فرفوريوس : (٢٣٣ ـ ٣٠٥ م) هو ملخوس الصوري ، تتلمذ علي افلوطين في روما ، وتصوف مثله. وشرح افلاطون وارسطو ، ووضع «المدخل الي المعقولات» حيث تكلم علي النفس والعالم المعقول حسب افلوطين واشتهر بكتابه «ايساغوجي» الي المدخل الي مقولات ارسطو.

٥١

ومطلقا ، لا بحسب شيء آخر. ومن البيّن ان كل خلق ، اذا نظر اليه مطلقا ، علم انه يتنقّل ويتغيّر ، ولو بعسر ، وليس شيء من الاخلاق ممتنعا عن التغيّر والتنقّل ، فان الطفل الذي نفسه تعدّ بالقوة ، ليس فيه شيء من الاخلاق بالفعل ، ولا من الصفات النفسانية. وبالجملة ، فان ما كان فيه بالقوة ففيه تهيّؤ لقبول الشيء وضدّه. ومهما اكتسب احد الضدين يمكن زواله عن ذلك الضد المكتسب الى ضده ، الى ان تنقص البنية ويلحقه نوع من الفساد ، مثل ما يعرض لموضوع الاعدام والملكات ، فيتغير بحيث لا يتغالبان عليه. وذلك نوع من الفساد وعدم التهيؤ. فاذا كان ذلك كذلك ، فليس شيء من الاخلاق ، اذا نظر اليه مطلقا بالطبع ، لا يمكن فيه التغيّر والتبدّل (١).

واما افلاطون ، فانه ينظر في انواع السياسات ، وايّها انفع ، وايّها اشد ضررا. فينظر في احوال قابلي السياسات وفاعليها ، وايّها اسهل قبولا ، وايّها اعسر. ولعمري ان من نشأ على خلق من الاخلاق واتفقت له تقويته ، يمكن بها من نفسه على خلق من الاخلاق ، فان زوال ذلك عنه يعسر جدا. والعسر غير الممتنع. وليس ينكر ارسطو ان بعض الناس يمكن فيه التنقّل من خلق الى خلق اسهل ، وفي بعضهم اعسر ، على ما صرح به في كتابه المعروف «بنيقوماخيا الصغير» ، فانه عدّ اسباب عسر التنقل من خلق الى خلق ، واسباب السهولة ، كم

__________________

(١) يعلن الفارابي هنا أخذه برأي أرسطو وهو أن الاخلاق وليدة التربية والتعليم وليس طباعاً فطرية. ولكنه فيك كتاب «تحصيل السعادة» يقول ان الاخلاق بعضها مكتسب وبعضها طباع.

٥٢

هي ، وما هي ، وعلى ايّ جهة كل واحد من تلك الاسباب ، وما العلامات ، وما الموانع. فمن تأمل تلك الاقاويل حق التأمل ، واعطى كل شيء حقه ، عرف ان لا خلاف بين الحكيمين في الحقيقة؛ وانما ذلك شيء يخيله الظاهر من الاقاويل عند ما ينظر واحد واحد منها على انفراد ، من غير ان يتأمل المكان الذي فيه ذلك القول ، ومرتبة العلم الذي هو منه. وهاهنا اصل عظيم الغناء في تصور العلوم ، وخصوصا في امثال هذه الموانع ، وهو انه كما المادّة ، مهما كانت متصورة بصورة ما ثم حدثت فيها صورة أخرى ، صارت مع صورتها جميعا مادة للصورة الثالثة الحادثة فيها ، كالخشب الذي له صورة يباين بها سائر الاجسام ، ثم يجعل منها الواحا ، ثم يجعل من الالواح سريرا. فان صورة السرير ، من حيث حدثت في الالواح مادة لها ، وفي الالواح ، التي هي مادة بالاضافة الى صورة السرير ، صور كثيرة ، مثل الصور اللوحية والصور الخشبية والصور النباتية وغيرها من الصور القديمة. كذلك مهما كانت النفس المتخلّقة ببعض الاخلاق ، ثم تكلفت اكتساب خلق جديد ، كان الاخلاق التي معها كالاشياء الطبيعية لها ، وهذه المكتسبة الجديدة ، اعتيادية ، ثم ان مرّت على هذه ودامت على اكتساب خلق ثالث ، صارت تلك بمنزلة الطبيعية ، وذلك بالاضافة الى هذه الجديدة المكتسبة.

فمهما رأيت افلاطون او غيره يقول : ان من الاخلاق ما هي طبيعية ، ومنها ما هي مكتسبة ، فاعلم ما ذكرناه ، وتفهمه من فحوى كلامهم ، لئلا يشكل عليك الامر؛ فظن ان من الاخلاق ما هي طبيعية

٥٣

بالحقيقة ، لا يمكن زوالها. فان ذلك شنيع جدا. ونفس اللفظ يناقض معناه اذا تؤمّل فيه جدا.

١٤ ـ المعرفة عند افلاطون تذكر وعند ارسطو احساس ، ومع ذلك لا فرق بينهما

ومن ذلك ايضا ، ان ارسطوطاليس قد اورد في كتاب «البرهان» شكّا ان الذي يطلب علما ما ، لا يخلو من احد الوجهين : فانه ، اما ان يطلب ما يجهله ، او ما يعلمه. فان كان يطلب ما يجهله ، فكيف يوقن في تعلمه انه هو الذي كان يطلبه؟ وان كان يطلب ما يعلمه ، فطلبه علما ثانيا فضل لا يحتاج اليه. ثم احدث الكلام في ذلك الى ان قال : ان الذي يطلب علم شيء من الأشياء ، انما يطلب في شيء آخر ما قد وجد في نفسه على التحصيل ، مثل ان المساواة وغير المساواة موجودتان في النفس ، والذي يطلب الخشبة ، هل هي مساوية او غير مساوية ، انما يطلب ما لها منها على التحصيل. فاذا وجد احدهما فكأنه يذكر ما كان موجودا في نفسه؛ ثم ان كانت مساوية ، فبالمساواة؛ وان كانت غير مساوية ، فبغير المساواة.

وافلاطون بيّن في كتابه المعروف ب‍ «فاذن» ان التعلّم تذكر ، واتى على ذلك الحجج يحكيها عن سقراط في مسائلاته ومجاوباته في امر المساوي والمساواة؛ وان المساواة هي التي تكون في النفس ، وان المساوي ، مثل الخشبة او غيرها مما تكون مساوية لغيرها متى احس بها

٥٤

الانسان ، تذكّر المساواة التي كانت في النفس؛ فعلم ان هذا المساوي انما كان مساويا بمساواة شبيهة بالتي في النفس. وكذلك سائر ما يتعلّم ، انما يتذكر ما في النفس. واللّه اعلم (١).

وقد ظنّ اكثر الناس ، من هذه الاقاويل ، ظنونا مجاوزة عن الحد. اما القائلون ببقاء النفس بعد مفارقتها البدن (٢) ، فقد افرطوا في تأويل هذه الاقاويل ، وحرّفوها عن سننها ، واحسنوا الظنّ بها ان اجروها مجرى البراهين؛ ولم يعلموا ان افلاطون انما يحكي هذا عن سقراط على سبيل من يروم تصحيح امر خفيّ بعلامات ودلائل. والقياس بعلامات لا يكون برهانا ، كما علّمناه الحكيم ارسطو في «انولوطيقا الأولى والثانية». ـ واما المدافعون لها ، فقد افرطوا ايضا في التشنيع ، وزعموا ان ارسطو مخالف له في هذا الرأي ، واغفلوا قوله في اوّل كتاب «البرهان» حيث ابتدأ فقال : كل تعليم وكل تعلّم فانما يكون عن معرفة متقدمة الوجود. ثم قال بعد قليل : وقد يتعلم الانسان بعض الأشياء وقد كان علمه من قبل قديما ، وبعض الأشياء

__________________

(١) هذه العبارة «والله اعلم» مزادة علي النص وليست للفارابي علي الأرجح. وكون المعرفة عملية تذكر ، هذا ما يذهب إليه أرسطو ، لأن النفس بنظره عرفت حقائق الأشياء في عالم المثل قبل حلول الجسد علي الأرض. وإذا رأت علي الأشياء أشياء تشبه المثل تذكرتها.

(٢) القول بخلود النفس ضروري لتفسير المعرفة بالتذكر في مذهب افلاطون ، وليس ضرورياً في فلسفة ارسطو. ويبدو أن الفارابي يميل إلي مذهب أرسطو بصدد خلود النفس ، وهو مذهب يشوبه التردد.

٥٥

تعلّمها يحصل من حيث تعلّمها معا. مثال ذلك : جميع الأشياء الموجودة تحت الأشياء الكلية.

فليت شعري ، هل يغادر معنى هذا القول ما قاله افلاطون شيئا ، سوى ان العقل المستقيم والرأي السديد والميل الى الحق والانصاف معدوم في الاكثرين من الناس! فمن تأمّل حصول المقدّمات الأولى وحال التعلّم تأمّلا شافيا ، علم انه لا يوجد بين رأيي الحكيمين ، في هذا المعنى ، خلاف ولا تباين ولا مخالفة. ونحن نومئ الى طرف منه يسير بمقدار ما يتبين به هذا المعنى ليزول الشك الواقع فيه.

فنقول : من البيّن الظاهر ان للطفل نفسا عالمة بالقوة ، ولها الحواس آلات الادراك. وادراك الحواس انما يكون للجزئيات؛ وعن الجزئيات تحصل الكليات ، والكليات هي التجارب على الحقيقة. غير ان من التجارب ما يحصل عن قصد. وقد جرت العادة ، بين الجمهور ، بان يسمّى التي تحصل من الكليات عن قصد متقدّمة التجارب. فاما التي تحصل من الكليات للانسان لا عن قصد ، فاما ان لا يوجد لها اسم عند الجمهور ، لانهم لا يعنونه ؛ واما ان يوجد لها اسم عند العلماء ، فيسمّونها اوائل المعارف ومبادئ البرهان وما اشبهها من الاسماء.

وقد بيّن ارسطو في كتاب «البرهان» ان من فقد حسّا ما فقد فقد علما ما. فالمعارف انما تحصل في النفس بطريق الحس (١). ولما كانت المعارف انما حصلت في النفس عن غير قصد اولا فاولا ، فلم يتذكر

__________________

(١) هذا هو رأي أرسطو علي الحقيقة ، وإليه يميل الفارابي.

٥٦

الانسان ، وقد حصل جزء جزء منها. فلذلك قد يتوهم اكثر الناس انها لم تزل في النفس ، وانها تعلم طريقا غير الحس. فاذا حصلت من هذه التجارب في النفس ، صارت النفس عاقلة ، اذ العقل ليس هو شيئا غير التجارب. ومهما كانت هذه التجارب اكثر ، كانت النفس اتمّ عقلا. ثم ان الانسان ، مهما قصد معرفة شيء من الأشياء ، اشتاق الى الوقوف على حال من احوال ذلك الشيء ، وتكلّف الحاق ذلك الشيء في حالته تلك بما تقدم معرفته وليس ذلك الا طلب ما هو موجود في نفسه من ذلك الشيء ، مثل انه متى اشتاق الى معرفة شيء من الأشياء ، هل هو حيّ ام ليس بحي. وقد تقدم فحصل في نفسه معنى الحي ومعنى غير الحي (١). فانه يطلب بذهنه او بحسه او بهما جميعا احد المعنيين ، فاذا صادفه ، سكن عنده واطمأن به والتذّ بما زال عنه من اذى الحيرة والجهل. وهذا ما قاله افلاطون : ان التعلم تذكر (٢) ، وان التفكر هو تكلّف العلم ، والتذكر تكلف الذكر. والطالب مشتاق متكلّف؛ فمهما وجد مهمّا قصد معرفته دلائل وعلامات ومعاني ما كان في نفسه قديما ، فكأنه يتذكر عند ذلك ، كالناظر الى جسم يشبه بعض اعراضه بعض اعراض جسم آخر كان قد عرفه وغفل عنه ، فيتذكره بما ادركه من شبيهه. وليس للعقل فعل مخصّ به دون الحس سوى ادراك جميع الأشياء والاضداد ، وتوهّم

__________________

(١) سبق الجاحظ إلي هذا الرأي ، راجع رسالة المعرفة المنشورة ضمن رسائل الجاحظ الكلامية (دار ومكتبة الهلال ، بيروت).

(٢) هذا تفسير غير صحيح لمسألة التذكر في المعرفة عند افلاطون.

٥٧

احوال الموجودات على غير ما هي عليه. فان الحس يدرك من حال الموجود المجتمع مجتمعا ، ومن حال الموجود المتفرق متفرقا ، ومن حال الموجود القبيح قبيحا ، ومن حال الموجود الجميل جميلا ، وكذلك سائرها. واما العقل ، فانه قد يدرك من حال كل موجود ما قد ادركه الحسّ ، وكذلك ضدّه ، فانه يدرك من حال الموجود المجتمع مجتمعا ومتفرقا معا ، ومن حال الموجود المتفرق متفرقا ومجتمعا معا ، وكذلك سائر ما اشبهها.

فمن تامل ما وضعناه على سبيل الايجاز بما قد بالغ الحكيم ارسطو في وصفه ، في آخر كتاب «البرهان» وفي كتاب «النفس» ، وقد شرحه المفسرون واستقصوا امره ، علم ان الذي ذكره الحكيم في اول كتاب البرهان» وحكيناه في هذا القول ، قريب مما قاله افلاطون في كتاب «فاذن» ، الا ان بين الموضوعين خلافا ، وذلك ان الحكيم ارسطو يذكر ذلك عند ما يريد ايضاح امر العلم والقياس. واما افلاطون فانه يذكره عند ما يريد ايضاح امر النفس. ولذلك اشكل على اكثر من ينظر في اقاويلهما. وفيما اوردناه كفاية لمن قصد سواء السبيل.

١٥ ـ العالم حادث عند افلاطون وارسطو ، ومن قال ان ارسطو يقول بقدم العالم مخطيء

ومن ذلك ايضا امر العالم وحدوثه؛ وهل له صانع هو علته الفاعلية ، ام لا. ومما يظن بارسطوطاليس انه يرى ان العالم قديم ، وبافلاطون انه يرى ان العالم محدث.

٥٨

فاقول : ان الذي دعى هؤلاء الى هذا الظن القبيح المستنكر بارسطوطاليس الحكيم (١) ، هو ما قاله في كتاب «طوبيقا» انه قد توجد قضية واحدة بعينها يمكن ان يؤتى على كلا طرفيها قياس من مقدمات ذائعة ، مثال ذلك : هذا العالم قديم ام ليس بقديم. وقد وجب على هؤلاء المختلفين ، اما اولا ، فبأنّ ما يؤتى به على سبيل المثال لا يجري مجرى الاعتقاد؛ وايضا فان غرض ارسطو في كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان امر العالم ، لكن غرضه امر القياسات المركبة من المقدمات الذائعة. وكان قد وجد اهل زمانه يتناظرون في امر العالم : هل هو قديم ام محدث ، كما كانوا يتناظرون في اللذة ، هل هي خير ام شرّ ، وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كل مسألة بقياسات ذائعة. وقد بيّن ارسطو في ذلك الكتاب وفي غيره من كتبه ، ان المقدّمة المشهورة لا يراعي فيها الصدق والكذب ، لان المشهور بما كان كاذبا ، ولا يطرح في الجدل لكذبه ، وربما كان صادقا ، فيستعمل لشهرته في الجدل ، ولصدقه في البرهان. فظاهر انه لا يمكن ان ينسب اليه الاعتقاد بان العالم قديم بهذا المثال الذي اتي به في هذا الكتاب.

ومما دعاهم الى ذلك الظن ايضا ، ما يذكره في كتاب «السماء والعالم» ان الكل ليس له بدء زماني ، فيظنون عند ذلك انه يقول بقدم العالم ،

__________________

(١) ينكر الفارابي ان يكون قد قال بقدم العالم. وهذا دليل علي أنه يجنح الي القول بحدوث العالم. بيد أنه في كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» يقول بقدم العالم.

٥٩

وليس الامر كذلك. اذ قد تقدم فبيّن في ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعية والالهية ، ان الزمان انما هو عدد حركة الفلك ، وعنه يحدث. وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء. ومعنى قوله «ان العالم ليس له بدء زماني» ، انه لم يتكوّن اولا فاولا باجزائه ، كما يتكوّن البيت مثلا ، او الحيوان الذي يتكون اولا فاولا باجزائه ، فان اجزاءه يتقدم بعضها بعضا في الزمان (١). والزمان حادث عن حركة الفلك. فمحال ان يكون لحدوثه بدء زماني. ويصخ بذلك انه انما يكون عن ابداع الباري ، جل جلاله ، اياه دفعة بلا زمان؛ وعن حركته حدث الزمان.

ومن نظر في اقاويله في الربوبية في الكتاب المعروف «باثولوجيا» (٢) لم يشبه عليه امره في اثباته الصانع المبدع لهذا العالم. فان الامر في تلك الاقاويل اظهر من ان يخفي. وهناك تبين ان الهيولى ابدعها الباري ، جل ثناؤه ، لا عن شيء؛ وانها تجسمت عن الباري ، سبحانه ، وعن ارادته؛ ثم ترتبت. وقد بيّن في «السماع الطبيعي» ان الكل لا يمكن حدوثه بالبخت والاتفاق؛ وكذلك في العالم جملته. يقول في كتاب «السماء والعالم» : ويستدل على ذلك بالنظام البديع الذي يوجد لاجزاء العالم بعضها مع بعض».

__________________

(١) هذا تفسير غير موفق لعبارة «ان العالم ليس له بدء زماني» والمعني الصحيح هو أنه قديم.

(٢) كتاب الربوبية المعروف بأثولوجيا ، هو كتاب ألفه افلوطين وهو احد تساعياته وقد نسبه الفارابي خطأ الي ارسطو ، فأوقعه في هذه المغالطة الكبيرة : الجمع بين رأيي الحكيمين.

٦٠