كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين لأبي نصر الفارابي

الدكتور علي بو محلم

كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين لأبي نصر الفارابي

المؤلف:

الدكتور علي بو محلم


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨

الاخلاق ، فوجد أن هذا المبدأ واحد عند الفيلسوفين وهو التربية والعادة. والواقع ان ذلك هو رأي ارسطو ، فهو يذهب إلي أنها مكتسبة ، تنتج عن التربية التي يتلقاها الطفل والعادات التي يتعلمها في حياته. ولكن تلك العادات عندما تترسخ تصبح كأنها طبيعة ثانية. أما افلاطون فيؤخذ من سياق نظريته الخلقية ميله إلي أن الأخلاق ترتكز علي قوي النفس الفطرية الثلالث وهي القوة العاقلة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية.

ولكن ثمة خلافاً بين الرجلين في مسألة أخري لم يشر إليها الفارابي هي مفهوم الفضيلة. انها بنظر أفلاطون العدالة ، والعدالة هي التوازن بين قوي النفس الثلاث : الفكرية والغضبية والشهوانية بحيث تقوم كل منها بوظيفتها باعتدال ولا تطغي علي غيرها ، وتخضع الشهوانية للغضبية ، والغضبية للفكرية.

أما ارسطو فيعتبر الفضيلة وسطاً بين طرفين رذلين. فالشجاعة فضيلة تقع بين رذيلتي الجبن والتهور ، والعفة فضيلة تقع بين طرفين يعتبران رذيلتين هما الشره وانعدام الاحساس ... الخ.

والمسألة السادسة التي عالجها الفارابي وحاول ردم الهوة بصددها بين امامي الفلسفة اليونانية هي المعرفة. قال افلاطون ان المعرفة تذكر لأنها تتكون من معان أو ماهيات موجودة في الذهن ، وهذه الماهيات ليست سوي صور للمثل الموجودة في السماء رأتها النفس قبل أن تحل في الجسد ولا يمكن أن تكون تجريداً للكائنات الحسية المتغيرة باستمرار ،

٢١

أما ارسطو فيذهب إلي عكس ذلك ويقول ان تلك الافكار أو الماهيات جردها الذهن عن الكائنات الحسية ، ولا وجود لكائنات مثالية في عالم علوي اسمه عالم المثل. ومع ذلك يري الفارابي أنه لا يوجد خلاف بين افلاطون وأرسطو بصدد المعرفة. وهو يري رأي أرسطو ويؤول أقوال افلاطون تأويلاً متعسفاً. فيقول ان النفس عالمة بالقوة ، ولها حواس هي بمثابة آلات الادراك ، وهذا الادراك يكون للجزئيات ، وعنها تحصل الكليات (الماهيات التي في الذهن). وتحصل الماهيات في الذهن عن قصد أو غير قصد. والتي تحصل عن غير قصد تدعي أوائل المعارف ومباديء البرهان وما أشبه ذلك. وهي التي ظنها البعض أنها جاءت عن غير طربق الحس. وليس التذكر الذي ورد عند افلاطون سوي استرجاع هذه الماهيات أو أوائل المعرفة أو المباديء التي تكونت عن غير قصد.

وما يقوله الفارابي في تأويل التذكر عند أفلاطون سبق إليه الجاحظ في نظريته في المعرفة ، وفي كونها طباعاً تحدث عفواً في الذهن دون إرادة وقصد.

وهو يميل إلي ارسطو أيضاً في مسألة خلود النفس. ويفسر أقوال أفلاطون التي تذهب إلي خلود النفس ومصدرها الالهي أو السماوي تفسيراً يستشف منه شكه أو تردده في خلودها ، يقول في ذلك «وقد ظن أكثر الناس في هذه الأقاويل ظنوناً مجاوزة عن الحد. أما القائلون ببقاء النفس بعد مغادرتها البدن ، فقد افرطوا في تأويل هذه الأقاويل ،

٢٢

وحرفوها عن سننها ، وأحسنوا الظن بها أن أجروها مجري البراهين ، ولم يعلموا أن أفلاطون انما يحكي هذا عن سقراط علي سبيل من يروم تصحيح أمر خفي بعلامات ودلائل».

والأدهي من ذلك كله محاولة الفارابي التوفيق بين رأيي أفلاطون وارسطو في مسألة قدم العالم وحدوثه. فقد ذهب إلي القول ان ارسطو كأفلاطون يقول بحدوث العالم ، وان من ظن خلاف ذلك مخطيء.

وفسر قول ارسطو : «ليس للعالم بدء زماني» تفسيراً اعتباطياً فقال : «ومعني قوله «ان العالم ليس له بدء زماني» أنه لم يتكون أولاً فأولاً باجزائه ، فان أجزاءه يتقدم بعضها بعضاً في الزمان ، حادث عن حركة الفلك ، فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني. ويصح بذلك أنه انما يكون عن ابداع الباري ، جل جلاله ، اياه دفعة بدون زمان ، وعن حركته حدث الزمان».

ان دليله علي قول ارسطو بحدوث العالم هو ما ورد في كتاب الربوبية أو اثالوجيا المنسوب خطأ إلي أرسطو. ان هذا الدليل فاسد لأن ما ورد في هذا الكتاب المنحول يعبر عن رأي صاحبه الحقيقي أفلوطين ، ولا يمتّ بصلة قريبة أو بعيدة لارسطو.

وعندما ينتهي أبو نصر إلي مسألة المثل التي تميزت بها فلسفة أفلاطون ينفي ان يكون ارسطو قد أنكرها أو انتقدها ، بل يذهب إلي أبعد من ذلك فيزعم أنه قال بها كأفلاطون. ودليله هنا علي دعواه هو

٢٣

ذاته الدليل الذي اعتمده في مسألة حدوث العالم ، أعني به كتاب الربوبية أو أثالوجيا المنحول. وبما أن هذا الدليل فاسد فكل ما بني عليه فاسد مثله لأن ما بني علي فاسد فهو فاسد.

وهو علاوة علي ذلك يفهم تلك المثل فهماً سيئاً. فيقول انها ليست سوي صور ذهنية موجودة في ذات الله ، علي منوالها خلق الكائنات الحسية ، وهو ليست كما يتوهم البعض أشباحاً قائمة في أماكن أخر خارجة عن هذا العالم.

والمسألة الأخيرة التي حاول التوفيق فيها بين افلاطون وارسطو هي الدينونة أي الثواب والعقاب في الحياة الثانية. يذهب الفارابي إلي انهما يعتقدانها ويريانها ودليله جملة نسبها الي ارسطو وهي «ان المكافأة واجبة في الطبيعة» وخرافة وردت في آخر كتاب الجمهورية تحكي قصة جندي اثيني مات اثناء المعركة وعاد الي الحياة بعد اثني عشر يوماً وروي كل ما شاهد من محاسبة النفوس علي ايدي قضاة بعد الموت.

إن قول أرسطو لا يدل علي الدينونة ، ولا أظن ان ارسطو اعتقد بها.

كان لكتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين» تأثير سيء في الفلسفة العربية لأن الفلاسفة العرب الذين جاؤوا بعد الفارابي اقتفوا أثره وحاولوا التوفيق بين افلاطون وارسطو وتعاليم الدين الاسلامي ، ولم يستطيعوا مثله التمييز جيداً بين آراء افلاطون وآراء ارسطو ، وبمعني آخر لم يتعودوا علي فهم الفلسفة اليونانية فهماً صحيحاً.

هذه تهمة رماهم بها المستشرقون واعتبروها عيباً شنيعاً في الفلسفة

٢٤

العربية لأن من لا يقوي علي فهم الفلسفة لا يقدر علي التفلسف.

ولم ينج من هذا العيب سوي الفيلسوف العربي الأخير اعني به ابن رشد ، الذي استطاع في كتابه «تهافت التهافت» أن يكتشف هذه الغلطة التي ارتكبها الفارابي ومن جاؤوا بعده من فلاسفة العرب بمن أوفيهم الغزالي ، وان يضع حداً فصلاً واضحاً بين ما قاله ارسطو وما لم يقله.

والكتاب الذي قدمنا له لم تحققه لأنه قد سبقنا الي هذا العمل العديد من الباحثين أولهم المستشرق ديتريصي الذي نشره لأول مرة في ليدن سنة ١٨٩٠ م ، وطبع ثانية في مصر ١٩٠٧ م. ثم توالت الطبعات العديدة في طهران وبيروت ... الخ.

وأهم المخطوطات الباقية لهذا الكتاب مخطوطة المتحف البريطاني ADD. ٧٥١٨ RICH ومخطوطة برلين رقم ٥٧٨.٢ ومخطوطة بريل ١.٤٦٤.٥٧ ومخطوطة المتحف العراقي رقم ٩٥٢ / ٢ ، ومخطوطة جامعة استنبول رقم ١٤٥٨ A.Y ... الخ.

بيروت في ١ / ٩ / ١٩٩٤

د. علي بو محلم

٢٥
٢٦

كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين

افلاطون الالهي وارسطوطاليس

للشيخ الامام الملقب بالمعلم الثاني ابي نصر الفارابي

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

الحمد لواهب العقل ومبدعه ، ومصور الكل ، ومخترعه ، كفى احسانه القديم وافضاله. والصلاة على سيد الانبياء محمد وآله.

١ ـ غرض الكتاب

اما بعد ، فاني لما رأيت اكثر اهل زماننا قد تحاضّوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه ، وادعوا ان بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافا في اثبات المبدع الاوّل ، وفي وجود الاسباب منه ، وفي امر النفس والعقل ، وفي المجازات (١) على الافعال خيرها وشرّها ، وفي كثير من

__________________

(١) المجازات علي الأفعال خيرها وشرّها : البحث عمّا إذا كانت الأفعال جائزة أو مسموحاً بها.

٢٧

الامور المدنية (١) والخلقية والمنطقية؛ اردت ، في مقالتي هذه ، ان اشرع في الجمع بين رأييهما ، والابانة عمّا يدلّ عليه فحوى قوليهما ، ليظهر الاتّفاق بين ما كانا يعتقدانه ، ويزول الشك والإرتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما ، وأبين مواضع الظنون ومداخل الشكوك في مقالاتهما ، لان ذلك من اهمّ ما يقصد بيانه ، وانفع ما يراد شرحه وايضاحه.

٢ ـ حد الفلسفة ، وابداع افلاطون وارسطو لها

اذ الفلسفة ، حدها وماهيتها ، انها العلم بالموجودات بما هي موجودة (٢). وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة ، ومنشئان لأوائلها واصولها ، ومتممان لأواخرها وفروعها ، وعليهما المعوّل في قليلها وكثيرها ، واليهما المرجع في يسيرها وخطيرها. وما يصدر عنهما في كل فنّ انما هو الاصل المعتمد عليه ، لخلوّه من الشوائب والكدر ، بذلك نطقت الألسن ، وشهدت العقول؛ ان لم يكن من الكافّة فمن الاكثرين من ذوي الالباب الناصعة والعقول الصافية. ولما كان القول والاعتقاد انما يكون صادقا متى كان للموجود المعبّر عنه

__________________

(١) المدنية : السياسة. العلم المدني هو العلم الذي يبحث في تدبير شؤون المدينة أو سياستها.

(٢) حد الفلسفة وماهيتها : سيوضح الفارابي هذا التحديد في الفقرة الرابعة : الحد بين ذات المحدود ويدل علي ماهيته. الماهية هي التصور الذي في ذهننا عن الشيء.

٢٨

مطابقا (١) ؛ ثم كان بين قول هذين الحكيمين ، في كثير من انواع الفلسفة ، خلاف ، لم يخل الامر فيه من احدى ثلاث خلال : إمّا ان يكون هذا الحدّ المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح ، واما ان يكون رأي الجميع او الاكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفا ومدخولا ، واما ان يكون في معرفة الظانّين فيهما بانّ بينهما خلافا في هذه الاصول تقصير.

٣ ـ موضوعات الفلسفة

والحدّ الصحيح مطابق لصناعة الفلسفة؛ وذلك يتبين من استقراء جزئيات هذه الصناعة. وذلك ان موضوعات العلوم وموادّها لا تخلو من ان تكون : اما إلهية ، واما طبيعية ، واما منطقية ، واما رياضية ، او سياسية. وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه ، والمخرجة لها ، حتى انه لا يوجد شيء من موجودات العالم الاّ وللفلسفة فيه مدخل ، وعليه غرض ، ومنه علم بمقدار الطاقة الأنسية (الانسانية). وطريق القسمة يصرح ويوضح ما ذكرناه ، وهو الذي يؤثر الحكيم افلاطون. فان المقسّم يروم ان لا يشذّ عنه شيء موجود من الموجودات. ولو لم يسلكها افلاطون لما كان الحكيم ارسطوطاليس يتصدّى لسلوكها.

__________________

(١) صدق الاعتقاد والقول هو المطابقة بينه وبين الوجود ، وهذا ما ذهب اليه سبينوزا والمذهب التحليلي المعاصر.

(٢) القسمة الأفلاطونية : هي القسمة الثنائية التي اعتمدها افلاطون في تصنيف الأشياء.

٢٩

٤ ـ ارسطو ينشيء علم المنطق ويتمم سائر الفلسفة التي بدأها افلاطون

غير انه ، لما وجد افلاطون قد احكمها ، وبيّنها ، واتقنها ، واوضحها ، اهتمّ ارسطاطاليس باحتمال الكدّ واعمال الجهد في انشاء طريق القياس؛ وشرع في بيانه وتهذيبه ، ليستعمل القياس والبرهان في جزء جزء مما توجبه القسمة ، ليكون كالتابع والمتمّم والمساعد والناصح. ومن تدرب في علم المنطق ، واحكم علم الآداب الخلقية ، ثم شرع في الطبيعيات والالهيات ، ودرس كتب هذين الحكيمين ، يتبيّن له مصداق ما اقوله ، حيث يجدهما قد قصدا تدوين العلوم بموجودات العالم ، واجتهدا في ايضاح احوالها على ما هي عليه ، من غير قصد منهما لاختراع ، واغراب ، وابداع ، وزخرفة ، وتشويق ؛ بل لتوفية كل منهما قسطه ونصيبه ، بحسب الوسع والطاقة (١). واذا كان ذلك كذلك ، فالحد الذي قيل في الفلسفة ، انها العلم بالموجودات بما هي موجودة ، حد صحيح ، يبين عن ذات المحدود ويدلّ على ماهيته.

٥ ـ اجماع العقول المختلفة حجة

فأما ان يكون رأي الجميع او الاكثرين ، واعتقادهم في هذين الحكيمين انهما المنظوران والامامان المبرّزان في هذه الصناعة ، سخيفا

__________________

(١) قوله ان أفلاطون وأرسطو اقتصر عملهما علي تدوين العلوم ، ووصف أحوال موجودات العالم علي ما هي عليه دون اختراح وابداع ، لا يتفق مع ما قاله عنهما قبل قليل.

٣٠

مدخولا؛ فذلك بعيد عن قبول العقل ايّاه واذعانه له؛ اذ الموجود يشهد بضدّه. لانا نعلم يقينا انه ليس شيء من الحجج اقوى وانفع واحكم من شهادات المعارف المختلفة بالشيء الواحد ، واجتماع الآراء الكثيرة ، اذ العقل ، عند الجميع ، حجّة. ولا جل ان ذا العقل ربما يخيّل اليه الشيء بعد الشيء ، على خلاف ما هو عليه ، من جهة تشابه العلامات المستدلّ بها على حال الشيء ، احتيج الى اجتماع عقول كثيرة مختلفة. فمهما اجتمعت ، فلا حجّة اقوى ، ولا يقين احكم من ذلك.

ثم لا يغرّنك وجود أناس كثيرة على آراء مدخولة؛ فانّ الجماعة المقلّدين لرأي واحد ، المدّعين لامام يؤمّهم فيما اجتمعوا عليه ، بمنزلة عقل واحد ، والعقل الواحد ربما يخطئ في الشيء الواحد ، حسب ما ذكرنا ، لا سيما اذا لم يتدبّر الرأي الذي يعتقده مرارا ، ولم ينظر فيه بعين التفتيش والمعاندة. وان حسن الظنّ بالشيء او الاهمال في البحث ، قد يغطي ، ويعمي ، ويخيّل.

واما العقول المختلفة ، اذا اتفقت ، بعد تأمّل منها ، وتدرّب ، وبحث ، وتنقير (١) ومعاندة ، وتبكيت (٢) ، واثارة الاماكن المتقابلة ، فلا شيء اصحّ مما اعتقدته ، وشهدت به ، واتفقت عليه. ونحن نجد الالسنة المختلفة متفقة بتقديم هذين الحكيمين؛ وفي التفلسف بهما

__________________

(١) التنقير : التنقيب ، البحث.

(٢) التبكيت : من بكّت : غلب بالحجة ، قرّع وعنّف.

٣١

تضرب الامثال؛ واليهما يساق الاعتبار؛ وعندهما يتناهى الوصف بالحكم العميقة والعلوم اللطيفة ، والاستنباطات العجيبة ، والغوص في المعاني الدقيقة المؤدية في كل شيء الى المحض (١) والحقيقة.

واذا كان هذا هكذا ، فقد بقي ان يكون في معرفة الظانّين بهما ان بينهما خلافا في الاصول ، تقصير. وينبغي ان تعلم ان ما من ظن يخطأ ، او سبب يغلط ، الاّ وله داع اليه ، وباعث عليه. ونحن نبين في هذه المواضع بعض الاسباب الداعية الى الظنّ بان بين الحكيمين خلافا في الاصول؛ ثم نتبع ذلك بالجمع بين رأييهما.

٦ ـ عيب الاستقراء

اعلم ، ان مما هو متأكد في الطبائع ـ بحيث لا تقلع عنه (الطبائع) ولا يمكن خلوها عنه ، والتبرؤ منه في العلوم والآراء والاعتقادات ، وفي اسباب النواميس والشرائع ، وكذلك في المعاشرات المدنية والمعائش ـ هو الحكم بالكلّ عند استقراء الجزئيات : اما في الطبيعيات ، فمثل حكمنا بان كل حجر يرسب في الماء ، ولعل بعض الاحجار يطفو؛ وان كل نبات محترق بالنار ، ولعل بعضها لا يحترق بالنار ؛ وان جرم الكل متناه ، ولعله غير متناه. وفي الشرعيات ، مثل ان كل من شوهد فعل الخير منه على اكثر الاحوال ، فهو عدل ، صادق

__________________

(١) المحض : الخالص الذي لم يخالطه غيره. يقال محضه النصح : أخلصه إياه. ونسب محض خالص.

٣٢

الشهادة في كثير من الأشياء ، من غير ان يشاهد جميع احواله. [وفي المعاشرات ، مثل السكون والطمأنينة اللتين حدّهما في انفسنا محدود ، انما منه استدلالات من غير ان يشاهد في جميع احواله]. ولما كان امر هذه القضية على ما وصفناه من استحكامه واستيلائه على الطبائع ، ثم وجد افلاطون وارسطوطاليس ، وبينهما في السير والافعال ، وكثير من الاقوال ، خلاف ظاهر ، فكيف يضبط الوهم معهما بتوهم وتحكم بالخلاف الكلّي بينهما؛ مع سوق الوهم الى القول والفعل جميعا تابعين للاعتقاد؛ ولا سيما حيث لا مراء فيه ولا احتشام ، مع تمادي المدة؟

٧ ـ اختلاف سيرتي أفلاطون وأرسطو لم يؤدي الي اختلاف آرائهما السياسة والخلقية

ثم ، من افعالهما المباينة ، وسيرهما المختلفة ، تخلّي افلاطون من كثير من الاسباب الدنيوية ، ورفضه لها ، وتحذيره في كثير من اقاويله عنها ، وايثاره تجنبها؛ وملابسة ارسطوطاليس لما كان يهجر افلاطون ، حتى استولى على كثير من الاملاك وتزوّج ، واولد ، وتوزّر للملك الاسكندر ، وحوى من الاسباب الدنيوية ما لا يخفى على من اعتنى بدرس كتب اخبار المتقدمين. فظاهر هذا الشأن يوجب الظنّ بأنّ بين الاعتقادين خلافا في امر الدارين.

٣٣

وليس الامر كذلك ، في الحقيقة : فان افلاطون هو الذي دوّن السياسات ، وهذبها ، وبيّن السير العادلة ، والعشرة (١) الأنسية المدنية ، وابان عن فضائلها ، واظهر الفساد العارض لأفعال من هجر العشرة المدنية ، وترك التعاون فيها. ومقالاته ، فيما ذكرناه ، مشهورة ، يتدارسها الأمم المختلفة من لدن زمانه الى عصرنا هذا. غير انّه ، لما رأى امر النفس وتقويمها اوّل ما يبتدئ به الانسان ، حتى اذا احكم تعديلها وتقويمها (٢) ، ارتقى منها الى تقويم غيرها (٣) ؛ ثم ، لم يجد في نفسه من القوة ما يمكنه الفراغ مما يهمّه من امرها ، افنى ايامه في اهمّ الواجبات عليه ، عازما على انه ، متى فرغ من الاهمّ الاولي ، اقبل على الاقرب الادنى ، حسب ما اوصى به في مقالاته في «السياسات والاخلاق».

وان ارسطوطاليس جرى على مثل ما جرى عليه افلاطون في اقاويله «ورسائله السياسية». ثم لما رجع الى امر نفسه خاصّة ، احس منها بقوة ورحب ذراع وسعة صدر وتوسع اخلاق وكمال امكنه معها تقويمها ، والتفرّغ للتعاون ، والاستمتاع بكثير من الاسباب المدنية.

فمن تأمل هذه الاحوال ، علم انه لم يكن ، بين الرأيين والاعتقادين ، خلاف ، وان التباين الواقع لهما كان سببه نقص في القوى الطبيعية في

__________________

(١) يعني بالعشرة الاجتماع.

(٢) بني افلاطون السياسة المدنية علي علم النفس ونظر إلي المجتمع من خلال الفرد وقسّم المجتمع إلي فئات مثابراً علي تقسيم النفس إلي قوي.

(٣) لا يعني بالتقويم : تقويم الغيرية ، بل يعني التعديل.

٣٤

احدهما ، وزيادة فيها في الآخر ، فلا غير؛ على حسب ما لا يخلو منه كل الاثنين من اشخاص الناس ، اذ الاكثرون قد يعلمون ما هو آثر وأصوب وأولى؛ غير انهم لا يطيقونه ، ولا يقدرون عليه؛ وربما اطاقوا البعض وعجزوا عن البعض.

٨ ـ منها افلاطون وارسطو في البحث مختلفان في الظاهر ولكنهما متفقان في الغاية

ومن ذلك ايضا ، تباين مذهبهما في تدوين العلوم ، وتأليف الكتب.

وذلك ان افلاطون كان يمنع ، في قديم الايام ، عن تدوين العلوم وايداع بطون الكتب دون الصدور الزكية والعقول المرضية. فلما خشي على نفسه الغفلة والنسيان ، وذهاب ما يستنبطه ، وتعسّر وقوفه عليه ، حيث استغزر علمه وحكمته ، وتبسط فيها؛ فاختار الرموز والالغاز (١) ، قصدا منه ، لتدوين علومه وحكمته ، على السبيل الذي لا يطّلع عليه الاّ المستحقّون لها ، والمستوجبون للاحاطة بها ، طلبا وبحثا وتنقيرا واجتهادا. واما ارسطوطاليس ، فكان مذهبه الايضاح ، والتدوين ، والترتيب ، والتبليغ ، والكشف ، والبيان ، واستيفاء كل ما يجد اليه السبيل من ذلك.

__________________

(١) ربما يشير هنا إلي لجوء أفلاطون للخرافات والأساطير في مؤلفات لمثل الكهف ، واسطورة آر الذي عاد إلي الحياة وروي ما شاهد حول محاسبة النفوس ومصيرها في العالم الآخر.

٣٥

وهذان سبيلان ، على ظاهر الامر ، متباينان. غير ان الباحث عن علوم ارسطوطاليس ، والدارس ، لكتبه ، والمواظب عليها ، لا يخفى عليه مذهبه في وجوه الاغلاق والتعمية والتعقيد ، مع ما يظهره من قصد البيان والايضاح. من ذلك ما يوجد في اقاويله من حذف المقدّمة الضرورية من كثير من القياسات الطبيعية والالهية والخلقية التي اوردها؛ مما دلّ على مواضعها المفسّرون لها. ومن ذلك حذف كثير من النتائج ، وحذف الواحد من كل زوجين ، والاقتصار على الواحد منهما؛ مثل قوله في «رسالته الى الاسكندر» ، في سياسات المدن الجزئية : «من آثر اختيار العدل في التعاون المدني ، فخليق ان يميّزه مدبّر المدينة في العقوبة». وتمام هذا القول هكذا : من آثر اختيار العدل على الجور ، فخليق ان يميّزه مدبّر المدينة في العقوبة والثواب. يعني ان من آثر العدل ، فخليق ان يثاب ، كما ان من آثر الجور ، فخليق ان يعاقب.

ومن ذلك ، ذكره لمقدمتي قياس ما ، واتباعهما نتيجة قياس آخر ، وذكره لمقدمتي قياس ، واتباعه نتيجة لوازم تلك المقدّمات ، مثل ما فعله في كتاب «القياس» (١) ، عند ذكر اجزاء الجواهر انها جواهر. ومن ذلك ، (إشباعه) القول في تعديد جزئيات الشيء الواضح ، ليرى ، من نفسه ، البلاغ والجهد في الاستيفاء؛ ثم تجاوزه عن الغامض من غير اشباع في القول ، ولا توفيته في الخط.

__________________

(١) كتاب القياس هو أحد أجزاء كتاب المنطق الذي وضعه أرسطو والأجزاء الأخري هي المقولات والعبارة والتحليلي الأول أو القياس ، والتحليلي الثاني أو البرهان ، والجدل والمغالطة أو السفسطة.

٣٦

ومن ذلك ، النظم والترتيب والرسم الذي في كتبه العلمية ، حيث تظنّ ان ذلك طباع له ، لا يمكنه التحوّل عنه. فاذا تؤمل رسائله وجد كلامه فيها منشأ ومنظوما على رسوم وترتيبات مخالفة لما في تلك الكتب. وتكفينا «رسالته» المعروفة الى افلاطون ، في جواب ما كان افلاطون كتب اليه به ، يعاتبه على تأليفه الكتب وترتيبه العلوم ، واخراجها في تأليفاته الكاملة المستقصاة. فانه يصرح ، في هذه «الرسالة الى افلاطون» ، ويقول : «اني وان دوّنت هذه العلوم والحكم المضمونة بها ، فقد رتّبتها ترتيبا لا يخلص اليها الاّ اهلها ، وعبّرت عنها بعبارات لا يحيط بها الاّ بنوها». فقد ظهر ، مما وصفناه ، ان الذي سبق الى الاوهام من التباين في المسلكين في امر ، يشتمل عليه حكمان ظاهران متخالفان ، يجمعها مقصود واحد.

٩ ـ لا خلاف بين افلاطون وارسطو في تفضيل الجواهر

ومن ذلك ايضا ، امر الجواهر ، وان التي منها اقدم ، عند ارسطوطاليس غير التي منها اقدم ، عند افلاطون. فان اكثر الناظرين في كتبهما يحكمون بخلاف بين رأييهما في هذا الباب. والذي حداهم الى هذا الحكم ، وهذا الظن ، هو ما وجدوا من اقاويل افلاطون في كثير من كتبه ، مثل كتاب «طيماوس» (١) ، وكتاب «بوليطيا الصغير» (٢) ، دلالة على ان افضل الجواهر واقدمها واشرفها ، هي القريبة

__________________

(١) كتاب طيماوس احد محاورات أفلاطون.

(٢) كتاب بوليطقا أو السياسة.

٣٧

من العقل والنفس ، البعيدة عن الحس والوجود الكياني. ثم وجدوا كثيرا من اقاويل ارسطوطاليس في كتبه ، مثل كتابه في «المقولات» ، وكتابه في «القياسات الشرطية» ، يصرح بان اولى الجواهر ، بالتفضيل والتقديم ، الجواهر الأول ، التي هي الاشخاص. فلما وجدوا هذه الاقاويل ، على ما ذكرناه من التفاوت والتباين ، لم يشكوا في ان بين الاعتقادين خلافا (١).

والامر كذلك لان من مذهب الحكماء والفلاسفة ان يفرقوا بين الاقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة ، فيتكلّمون على الشيء الواحد في صناعة بحسب مقتضى تلك الصناعة؛ ثم يتكلمون على ذلك الشيء بعينه ، في صناعة اخرى ، بغير ما تكلموا به اولا. وليس ذلك ببديع ولا مستنكر؛ اذ مدار الفلسفة على القول من حيث ومن جهة ما. كما قد قيل انه لو ارتفع من حيث ومن جهة ما ، بطلت تلك العلوم والفلسفة. ألا ترى أن الشخص الواحد ، كسقراط مثلا ، يكون داخلا تحت الجوهر ، من حيث هو انسان ، وتحت الكم من حيث هو ذو مقدار ، وتحت الكيف من حيث هو ابيض او فاضل او غير ذلك؛ وفي المضاف ، من حيث هو اب او ابن؛ وفي الوضع ، من حيث هو جالس او متّك. وكذلك سائر ما اشبهه.

__________________

(١) اعتبر أفلاطون المثل أو الماهيات الكائنات الخالدة الأزلية الكاملة في السماء أما الكائنات الحسية علي الارض فاشباح لها أو صور. أما أرسطو فرفض نظرية المثل ولم يعترف إلا بالكائنات الحسية التي سماها جواهر أولي ، وقال ان العقل يجرد من الجزئيات صوراً كلية يدعوها الجواهر الثانية.

٣٨

فالحكيم ارسطوطاليس ، حيث جعل اولى الجواهر ، بالتقديم والتفضيل ، اشخاص الجواهر ، انما جعل ذلك في صناعة «المنطق وصناعة الكيان» ، حيث راعى احوال الموجودات القريبة الى المحسوس الذي منه يؤخذ جميع المفهومات ، وبها قوام الكلي المتصور. واما الحكيم افلاطون ، فانه حيث جعل اولى الجواهر ، بالتقديم والتفضيل ، الكليات ، فانه انما جعل ذلك فيما «بعد الطبيعة» وفي «اقاويله الالهية» ، حيث كان يراعي الموجودات البسيطة الباقية ، التي لا تستحيل ولا تدثر.

فلما كان بين المقصودين فرق ظاهر ، وبين الفريقين بون بعيد ، وبين المبحوث عنهما خلاف ، فقد صحّ ان هذين الرأيين ، من الحكيمين ، متفقان لا خلاف بينهما؛ اذا الاختلاف انما يكون حاصلا ان حكما على الجواهر من جهة واحدة وبالاضافة الى مقصود واحد بحكمين مختلفين. فلما لم يكن ذلك كذلك ، فقد اتضح ان رأييهما يجتمعان على حكم واحد في تقديم الجواهر وتفضيلها.

١٠ ـ القسمة التي اعتمدها افلاطون لم يهملها ارسطو

ومن ذلك ، ما يظن بهما في امر القسمة والتركيب في توفية الحدود.

ان افلاطون يرى ان توفية الحدود انما يكون بطريق القسمة ، وارسطوطاليس يرى ان توفية الحدود انما يكون بطريق البرهان والتركيب.

٣٩

وينبغي ان تعلم ان مثل ذلك مثل الدرج الذي يدرج عليه ، وينزل منه : فان المسافة واحدة وبين السالكين خلاف. وذلك ان ارسطوطاليس ، لما رأى ان اقرب الطرق واوثقها في توفية الحدود ، هو بطلب ما يخص الشيء وما يعمه (١) ، مما هي ذاتية له وجوهرية ، وسائر ما ذكره في «الحرف» الذي يتكلم فيه على توفية الحدود ، من كتبه فيما «بعد الطبيعة» ، وكذلك في كتاب «البرهان» ، وفي كتاب «الجدل» ، وفي غير ذلك من المواضع ، مما يطول ذكره؛ واكثر كلامه لم يخل من قسمة ما ، وان كان غير مصرح بها ، فانه حين يفرق بين العاميّ والخاصّ ، وبين الذاتي وغير الذاتي ، فهو سالك ، بطبيعته وذهنه وفكره ، طريق القسمة ، وانما يصرح ببعض اطرافها. ولا جل ذلك لم يطرح طريق القسمة رأسا ، لكنه يعدّه من التعاون على اقتضاء اجزاء المحدود. والدليل على ذلك ، قوله ، في كتاب «القياس» ، في آخر المقالة الاولى : «فاما القسمة التي تكون بالاجناس جزء صغير من هذا المأخذ ، فانه سهل ان يعرف» ، وسائر ما يتلوه. وهو لم يعد المعاني التي يرى افلاطون استعمالها ، حين يقصد الى اعمّ ما يجده مما يشتمل على الشيء المقصود تحديده ، فيقسمه بفصلين ذاتيين ، ثم يقسم

__________________

(١) نحصل علي حد الشيء عند ارسطو بذكر جنسه وفصله ، فالجنس هو ما يعم الشيء والفصل هو ما يخصه ، كقولنا : الانسان حيوان ناطق. أما عند افلاطون فنحصل علي الحد بالقسمة الثنائية كأن نقول : الموجودات اما جماد واما حيوان والحيوان اما ناطق واما غير ناطق ، والناطق هو الانسان.

٤٠