المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

لا اُحبّ أنْ يصيبك بسببي إلاّ خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين (ع) لأفديه بروحي وأقيه بنفسي. ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت : خار الله لك ، أسألك أنْ تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين (ع). وقال لأصحابه : مَن أحبّ منكم أنْ يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد منّي ، إنّي ساُحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا بلنجر ـ وهي بلدة ببلاد الخزر ـ ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، فقال لنا سلمان الفارسي : إذا أدركتم قتال شباب آل محمّد (ص) ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم من المغانم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. ولزم الحسين (ع) حتّى قُتل معه.

ومعشرٍ راودتهُمْ عنْ نفوسِهمُ

بيضُ الظُّبا غير بيضِ الخُرّد العُرُبِ

فأنعَمُوا بنفوسٍ لا عديلَ لها

حتّى اُسيلتْ على الخُرصانِ والقُضُبِ

٨١

المجلس السّابع والثلاثون

روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديّان قالا : لمّا قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين (ع) لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بـ (زرود) ، فلمّا دنونا منه ، إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (ع) ، فوقف الحسين (ع) كأنّه يريده ثمّ تركه ومضى ، ومضينا نحوه فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله فإنّ عنده خبر الكوفة. فمضينا إليه فقلنا : السّلام عليكم. فقال : وعليكما السّلام. قلنا : ممَّن الرجل؟ قال : أسدي. قلنا له : ونحن أسديّان ، فمَن أنت؟ قال : أنا بكر بن فلان ، وانتسبنا له ، ثمّ قلنا : أخبرنا عن النّاس من ورائك. قال : لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يُجرّان بأرجلهما في السّوق. فاقبلنا حتّى لحقنا الحسين (ع) فسايرناه حتّى نزل الثعلبيّة ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلّمنا عليه ، فردّ علينا السّلام ، فقلنا : رحمك الله ، إنّ عندنا خبراً إنْ شئت حدّثناك علانية وإنْ شئت سرّاً. فنظر إلينا وإلى أصحابه ثمّ قال (ع) : «ما دون هؤلاء سرّ». فقلنا له : رأيتَ الراكب الذي استقبلته عشيّة أمس؟ قال (ع) : «نعم ، وقد أردتُ مسألته». فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم وهاني ، ورآهما يُجرّان في السّوق بأرجلهما. فقال (ع) : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما». يردّد ذلك مراراً. فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا ، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوّف أنْ يكونوا عليك. فنظر (ع) إلى بني عقيل فقال : «ما ترون؟ فقد قُتل مسلم». فقالوا : والله ، لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (ع) وقال : «لا خير في العيش بعد هؤلاء». فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك. فقال (ع) : «رحمكما الله». فقال له أصحابه : إنّك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان النّاس إليك أسرع. فسكت ، وارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت

٨٢

الدموع عليه كلّ مسيل. ولا بأس أنْ يرتجّ هذا الموضع بالبكاء حزناً لقتل مسلم بن عقيل ، فمسلم هو الذي وصفه الحسين (ع) في كتابه إلى أهل الكوفة بقوله : «إنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». وكفى بهذه الشهادة من الحسين (ع) في جلالة قدر مسلم أنْ يكون ثقة الحسين (ع) من أهل بيته ، ومسلم رضوان الله عليه أول قتيل من أهل البيت في نصرة الحسين (ع) ، وجثّته أول جثّة صُلبت ، ورأسه أول رأس حُمل منهم ، وأول رجل قُتل عطشان منهم.

يا مسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى

ضريحِكَ المُزنُ هطّالاً وهتَّانَا

ولو تكونُ بسقياهُ السَّما بَخلتْ

سقيتُهُ من دموعِ العينِ غُدْرانَا

بذلتَ نفسَكَ في مرضاةِ خالِقِها

حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنَا

٨٣

المجلس الثامن والثلاثون

لمّا نزل الحسين (ع) (زُبالة) وهو متوجّه إلى الكوفة ، أتاه بها مقتل عبد الله بن يقطر ، وهو أخو الحسين (ع) من الرضاعة ، وقيل : كانت اُمّ عبد الله هذا مربيّة للحسين (ع) فكان عبد الله من لدات الحسين (ع) وأقرانه في السنّ ؛ ولذلك اُطلق عليه أنّه أخوه من الرضاعة ، وإنّ الحسين (ع) لم يرضع من غير ثدي اُمّه فاطمة عليها‌السلام ، وكان الحسين (ع) أرسله مع مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، فلمّا رأى مسلم الخذلان ، بعث عبد الله بن يقطر إلى الحسين (ع) يخبره بذلك. وكان ابن زياد قد نظم الخيل مع الحُصين بن تميم صاحب شرطته على الطرقات بين البصرة والقادسيّة ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج ، فقبض الحُصين على عبد الله بن يقطر وأرسله إلى ابن زياد ، فقال له ابن زياد : اصعد فوق القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي. فصعد فوق القصر ، فلمّا أشرف على النّاس ، لعن عبيد الله بن زياد وأباه ودعا إلى نصرة الحسين (ع) ، فألقاه بن زياد من أعلى القصر فمات (١). وكان قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة بلغ الحسين (ع) وهو بـ (زرود) ، وقيل : بلغه أيضاً بـ (زُبالة) ، فلمّا بلغ الحسين (ع) خبر عبد الله بن يقطر ، أخرج إلى النّاس كتاباً فقرأه عليهم.

وفيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع ؛ قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلَنا شيعتُنا ، فمَن أحبّ منكم

______________________

(١) وقع اشتباه هنا من بعض المؤرّخين بين قصّة قيس بن مسهّر الصيداوي رسول الحسين (ع) إلى أهل الكوفة الذي قبَضَ عليه الحُصين بن تميم وأرسله إلى ابن زياد ، فأمره أنْ يسبّ الحسين وأباه ففعل ضدّ ذلك ، فألقاه من أعلى القصر ، وبين قصّة عبد الله بن يقطر الذي أرسله ابن عقيل إلى الحسين (ع) فقَبضَ عليه الحُصين أيضاً ، وجرى له نظير ما جرى لقيس. ـ المؤلّف ـ

٨٤

الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه ذمام». فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، ونفر يسير ممَّن انضمّوا إليه من أهل البصائر والنيّات الصادقة ، وإنّما فعل ذلك ؛ لئلاّ يتبعه مَن ليس له بصيرة نافذة ولا نيّة صادقة ولا يريد مواساته والقتال معه ، فإنّ هؤلاء لا فائدة في صحبتهم. ولقيه الفرزدق الشاعر عائداً من الحجّ فقال : يابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟! فاستعبر الحسين (ع) ثمّ قال : «رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا» ، ثمّ أنشأ يقول :

فإنْ تكُنْ الدُّنيا تُعدُّ نفيسةً

فإنّ ثوابَ اللهِ أعلى وأنبلُ

وإنْ تكُنْ الأبدانُ للموتِ اُنشئتْ

فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ أفضلُ

وإنْ تكُنْ الأرزاقُ قِسْماً مُقدّراً

فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ

وإنْ تكُنْ الأموالُ للتّركِ جَمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

يابنَ النّبيِّ كَمْ احتَملْتَ فجائعاً

منْ هولِها شُمُّ الجبالِ تصدَّعُ

٨٥

المجلس التاسع والثلاثون

لمّا نزل الحسين (ع) ببطن العقبة ، لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن يؤذان ، فسأله : أين تريد؟ فقال الحسين (ع) : «الكوفة». فقال الشيخ : أنشدك الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السّيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ، ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر ، فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل. فقال له الحسين (ع) : «يا عبد الله ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره». ثمّ قال (ع) : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرق الاُمم». ثم سار (ع) من بطن العقبة حتّى نزل (شراف) ، فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثمّ سار منها حتّى انتصف النّهار فبينا هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه ، فقال الحسين (ع) : «الله أكبر ، لِم كبّرت؟». قال : رأيت النّخل. فقال له جماعة من أصحابه : والله ، إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط! فقال لهم الحسين (ع) : «فما ترونه؟». قالوا : نراه والله أسنّة الرماح وآذان الخيل. قال (ع) : «وأنا والله أرى ذلك». ثمّ قال (ع) : «ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد؟». فقالوا له : بلى ، هذا هو ذو حُسُم (١) إلى جنبك فمل إليه عن يسارك ، فإنْ سبقتَ إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار ومِلنا معه ، فما كان بأسرع من أنْ طلعت علينا هوادي (٢) الخيل فتبينّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق ، عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيب (٣) ، وكأنّ راياتهم

______________________

(١) بحاء وسين مهملتين مضمومتين وميم : جبل كان النّعمان يصطاد فيه ، وفيه يقول مهلهل :

ألَيْلتَنَا بذِي حُسُمٍ أنيري

إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري

(٢) جمع هادي : وهو العنق.

(٣) جمع يعسوب : وهو أمير النّحل وذكرها ، وضرب من الحجلان ، وطائر صغير. ـ المؤلّف ـ

٨٦

أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي حُسُم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين (ع) بأبنيته فضُربت. وجاء القوم زهاء (١) ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (ع) في حَرّ الظهيرة ، والحسين (ع) وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم ، فقال الحسين (ع) لفتيانه : «اسقوا القوم وأرووهم من الماء ، وارشفوا الخيل ترشيفاً» : أي اسقوها قليلاً. فأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوها عن آخرها. قال علي بن الطعّان المحاربي : كنت مع الحرّ يؤمئذ فجئت في آخر مَن جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين (ع) ما بي وبفرسي من العطش ، قال : «أنخ الراوية» : والراوية عندي السّقاء. ثمّ قال (ع) : «يابن الأخ ، أنخ الجمل». فأنخته (٢) ، فقال (ع) : «اشرب». فجعلت كلمّا شربت سال الماء من السّقاء ، فقال الحسين (ع) : «اخنث السّقاء» : أي اعطفه. فلم أدر كيف أفعل ، فقام (ع) فخنثه بيده فشربت وسقيت فرسي. أقول : إنّ هذا لهو غاية الجود ونهاية الكرم ؛ أنْ يسقي الحسين (ع) أعداءه الذين جاؤوا لمحاربته وهم مقدار ألف فارس ، فسقاهم الماء مع خيولهم في تلك الأرض القفراء التي لا ماء فيها ولا كلأ! ولا عجب إذا صدر مثل هذا الجود من الحسين (ع) ، وهو معدن الجود والكرم.

هو البحرُ منْ أيِّ النّواحي أتيتُهُ

فلجَّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهْ

ولَو لَمْ يكنْ في كفِّهِ غيرُ نفسِهِ

لجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ

ولكن بئسما جزى هؤلاء القوم الحسين (ع) عن سقيه إياهم الماء وإيثارهم على نفسه! فقد كان جزاؤهم منهم أنْ حالوا بينه وبين الماء ، ووضعوا أربعة آلاف على المشرعة ، ومنعوه وأصحابه وعياله وأطفاله أنْ يستقوا من الماء قطرة واحدة ، وذلك قبل قتله (ع) بثلاثة أيّام.

بأبي وغيرِ أبي أميراً ظامياً

منعتْهُ حربٌ منْ ورودِ فُراتِها

حتّى قضَى عَطشاً قتيلَ أراذلٍ

تستحقرُ الشفتانِ ذمَّ صفاتِها

______________________

(١) أي قدر.

(٢) الراوية في لسان أهل الحجاز : اسم للجمل الذي يستقى عليه ، وفي لسان العراق : اسم للسقاء الذي فيه الماء ؛ لذلك لَمْ يفهم مراد الحسين (ع) حتّى قال (ع) : «أنخ الجمل». ـ المؤلّف ـ

٨٧

المجلس الأربعون

لمّا التقى الحُرّ مع الحسين (ع) ، قال له الحسين (ع) : «ألَنا أم علينا؟». فقال : بل عليك يا أبا عبد الله. فقال الحسين (ع) : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم». فلم يزل الحُرّ مواقفاً للحسين (ع) حتّى حضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين (ع) الحجّاج بن مسروق أنْ يؤذّن ، فلمّا حضرت الإقامة ، خرج الحسين (ع) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أيّها النّاس ، إنّها معذرة إلى الله وإليكم ، إنّي لمْ آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمتْ عليّ رسلُكم : أنْ اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ. فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإنْ لمْ تفعلوا ، وكنتم لقدومي كارهين ، انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم». فسكتوا ، فقال (ع) للمؤذّن : «أقمْ». فأقام الصّلاة ، فقال (ع) للحُرّ : «أتريد أنْ تصلّي بأصحابك؟». قال : لا ، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين (ع). فلمّا كان وقت العصر ، أمر الحسين (ع) أنْ يتهيّؤوا للرحيل ففعلوا ، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين (ع) وقام فصلّى ثمّ سلّم وانصرف إليهم بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أمّا بعد ، أيّها النّاس ، فإنّكم إنْ تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله ، يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسّائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمتْ عليّ رُسُلكم ، انصرفت عنكم». فقال له الحُرّ : أنا والله ، ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر. فقال الحسين (ع) لبعض أصحابه : «يا عقبة بن سمعان (١) ، اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ». فأخرج

______________________

(١) هو مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبيّة زوجة الحسين (ع) ، ولمّا قُتل الحسين (ع) أخذه عمر بن سعد فقال : مََن أنت؟ فقال : أنا عبد مملوك. فخلّى سبيله. ولم ينجُ من أصحاب الحسين (ع) غيره ، وغير رجل آخر ؛ ولذلك كان كثير من روايات الطفّ منقولاً عنه. ـ المؤلّف ـ

٨٨

خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحُرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا إذا نحن لقيناك ، لا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله. فقال له الحسين (ع) : «الموت أدنى إليك من ذلك». ثمّ قال لأصحابه : «قوموا فاركبوا». فركبوا وانتظر هو حتّى ركبت نساؤه.

بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! لمْ ترضَ أنْ تركب ولا أنْ تسير قدماً واحداً قبل ركوب النّساء ، مع أنّ الذين يركبونهنّ مثل علي الأكبر والعبّاس بن أمير المؤمنين وسائر بني هاشم! فياليتك لا غبت عن نسائك وأخواتك وبناتك يوم الحادي عشر من المحرّم حين جاؤوا إليهنّ بالجمال ، وليس معهنّ ولي ولا كافل غير ولدك زين العابدين (ع) ـ وهو مريض لا يستطيع النّهوض ـ وابن أخيك الحسن بن الحسن الذي كان مثخناً بالجراح وأطفال صغار ، وأظنّ أنّ المتولّية لذلك كانت اُختك زينب ، فهي التي ركّبت العليل والجريح والنّساء والأطفال ، وقامت في ذلك مقام الرجال حتّى لم يبقَ مَن يُركبها ، فركبت بنفسها.

لمَنْ السّبايا المُعْجلاتُ ضَجرنّ منْ

إدلاجِ عُجفٍ تشتكي عثراتِها

اللهُ أكبرُ يا لهَا منْ وقْعَةٍ

ذابتْ لها الأحشاءُ في حُرُقاتِها

٨٩

المجلس الحادي والأربعون

لمّا التقى الحسين (ع) مع الحُرّ وأصحابه ، ومنعه الحُرّ من الرجوع ، قال الحُرّ : إنّي لمْ اُؤمر بقتالك ، إنّما اُمرت أنْ لا اُفارقك حتّى اُقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد. فتياسر الحسين (ع) وسار والحُرّ يسايره ، فقال له الحُرّ : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن. فقال الحسين (ع) : «أفبالموت تخوفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أنْ تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله (ص) فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب؟ فإنّك مقتول. فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتَى

إذا ما نَوى حقّاً وجاهدَ مُسلمَا

وواسَى الرّجالَ الصّالحينَ بنفسِهِ

وفارقَ مثبوراً وودّعَ مُجرمَا

اُقدّمُ نفسي لا اُريدُ بقاءَها

لتلقَى خَميساً في الوغَى وعرمْرَمَا

فإنْ عشتُ لمْ أندمْ وإنْ متُّ لمْ اُلَمْ

كفَى بكَ ذلاّ ً أنْ تعيشَ وتُرغمَا

ولم يزل الحسين (ع) سائراً حتّى انتهوا إلى العذيب ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسين (ع) على رواحلهم ، وهم : عمرو بن خالد الصيداوي ، ومجمع العائذي ، وابنه عبد الله ، وجنادة بن الحارث السّلماني ، ويجنبون فرساً لنافع بن هلال الجملي يقال له : الكامل ، قد اُرسل معهم. وقيل : أنّ نافعاً كان معهم ومعه فرسه ، ومعهم موليان لعمرو ، والحارث ، ودليل يقال له الطرمّاح بن عدي كان قد جاء إلى الكوفة يمتار لأهله طعاماً فسار بهم على غير الجادّة ، فأراد الحُرّ أنْ يعارضهم ، فمنعه الحسين (ع) من ذلك ، وقال لهم الحسين (ع) : «هل لكم علم برسولي قيس بن مسهّر؟». قالوا : نعم ، قتله ابن زياد. فترقرقت عينا الحسين (ع) ولم يملك دمعته ، ثمّ قال : (مِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً). اللهمَّ ، اجعل لنا ولهم الجنّة نُزلاً ، واجمع بيننا وبينهم في

٩٠

مستقرّ من رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك». وقال الحسين (ع) لأصحابه : «هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادّة؟». فقال الطرمّاح : نعم يابن رسول الله ، أنا أخبر الطريق. قال «سر بين أيدينا». فسار الطرمّاح أمامهم ، وجعل يرتجز ويقول (١) :

يا ناقَتِي لا تَذعَريْ منْ زجْري

وامضِي بنا قبلَ طُلوعِ الفجْرِ

بخيرِ فتيانٍ وخيرِ سَفْرِ

آلِ رسولِ الله آلِ الفخْرِ

السَّادةِ البيضِ الوجوهِ الزُّهرِ

الطَّاعنينَ بالرّماحِ السُّمْرِ

الضَّاربينَ بالسُّيوفِ البُترِ

حتّى تحلِّي بكريمِ النَّجْرِ

الماجدِ الجدِّ الرحيبِ الصَّدرِ

أصابهُ اللهُ بخيرِ أمْرِ

عمَّرهُ اللهُ بقاءَ الدَّهرِ

يا مالكَ النَّفعِ معاً والضُّرِّ

أيّدْ حُسيناً سيّدي بالنَّصرِ

على الطُّغاةِ من بقايا الكفْرِ

ولم يزل الحسين (ع) سائراً حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، ثمّ ارتحل منه ليلاً. قال عقبة بن سمعان : فخفق (ع) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين». ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً. فأقبل إليه ابنه علي الأكبر عليهما‌السلام فقال : يا أبة ، جُعلت فداك! مِمَّ حمدت واسترجعت؟ قال (ع) : «يا بُني ، إنّي خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا». فقال له : يا أبة ، لا أراك الله سوأً ، ألسنا على الحقّ؟ قال (ع) : «بلى ، والذي إليه مرجع العباد». قال : إذاً لا نُبالي أنْ نموت محقّين. فقال له الحسين (ع) : «جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده».

أفدي القرومَ الاُولَى سارتْ ركائبُهُمْ

والموتُ خلفَهُمُ يسري على الأثرِ

سلْ كرْبلا كَمْ حَوتْ منهُمْ بدورَ دُجىً

كأنّها فَلَكٌ للأنْجُمِ الزُّهرِ

______________________

(١) في بعض الروايات : إنّه لمّا قارب الحسين (ع) مع أصحابه الأربعة جعل يحدو بهم ويقول :

يا ناقَتي لا تَذعَري منْ زَجْري

وشمِّري قبلَ طُلوعِ الفجْرِ

بخيرِ رُكبانٍ وخيرِ سَفْرِ

حتّى تحلِّي بكريمِ النَّجْرِ

الماجدِ الحُرِّ الرّحيبِ الصَّدرِ

أتى به اللهُ لخيرِ أمرِ

ثَمَّةَ أبقاهُ بقاءَالدَّهرِ

وقوله حتّى تحلِّي بكريم النَّجْرِ يدلّ على أنّه قالها قبل ملاقاة الحسين (ع) ، فيمكن أنْ يكون أعادها ثانياً ، أو أعاد بعضها وزاد عليها ، ووقع اشتباه من الرواة فيها. ويمكن أنْ يكون قد زيد فيها من غيره ، والله أعلم. ـ المؤلّف ـ

٩١

المجلس الثاني والأربعون

لمّا كان الحُرّ يساير الحسين (ع) ، لم يزل يسايره حتّى انتهوا إلى نينوى ، فجاء كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحُرّ : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين (أي : ضيّق عليه) ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. فمنعهم الحُرّ وأصحابه من المسير ، وأخذهم بالنّزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية. فقال الحسين (ع) : «ألمْ تأمرْنا بالعدول عن الطريق؟». قال : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل عليّ عيناً يطالبني بذلك. فقال له الحسين (ع) : «دعنا ـ ويحك ـ ننزل في هذه القرية أو هذه» : يعني نينوى والغاضرية. فقال : لا أستطيع ، هذا رجل قد بعث عليّ عيناً. فقال زهير بن القَين للحسين (ع) : إنّي والله ، لا أرى أنْ يكون بعد الذي ترون إلاّ أشدّ ممّا ترون يابن رسول الله. إنّ قتال هؤلاء السّاعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قِبَل لنا به. فقال الحسين (ع) : «ما كنتُ لأبدأهم بالقتال». فقال له زهير : فسرْ بنا يابن رسول الله حتّى ننزل كربلاء ، فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هناك ؛ فإنْ قاتلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم. قال : فدمعت عينا الحسين (ع) ، ثمّ قال : «اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء». ثم قام الحسين (ع) خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وأنّ الدّنيا تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، واستمرّت حذّاءَ (١) ولم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه مُحقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما فقام»

______________________

(١) الحذّاء ، بالحاء المهملة والذال المعجمة المشدّدة : النّاقة الخفيفة الذنب ، أو السّريعة الخفيفة ، أو السّريعة الماضية التي لا يتعلّق بها شيء ، أو الرحم التي لمْ تُوصل. فمعنى استمرّت حذّاء : أي لم يبقَ منها إلاّ مثل ذنب الأحذ ، أو حذّاء : سريعة الإدبار ، أو سريعة خفيفة ، أو قد انقطع آخرها كالرحم المقطوعة. ـ المؤلّف ـ

٩٢

زهير بن القَين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يابن رسول الله ـ مقالتك ، ولو كانت الدّنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها. ووثب نافع بن الهلال الجملي ، فقال : مَن نكث عهده وخلع بيعته فلنْ يضرّ إلاّ نفسه ، والله مغنٍ عنه. فسر بنا راشداً معافىً ، مشرّقاً إنْ شئتَ وإنْ شئتَ مغرّباً ، فوالله ، ما أشفقنا من قَدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك. وقام برير بن خضير ، فقال : والله ، يابن رسول الله ، لقد مَنّ الله بك علينا ؛ أنْ نُقاتل بين يديك وتُقطّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة. ثم إنّ الحسين (ع) قام وركب ، وكلمّا أراد المسير ، يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتّى بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، فلمّا وصلها ، قال : «ما اسم هذه الأرض؟». فقيل : كربلاء. فقال : «اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء». ثمّ أقبل على أصحابه فقال : «النّاس عبيد الدّنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا مُحّصوا بالبلاء ، قلّ الديّانون». ثمّ قال : «أهذه كربلاء؟». قالوا : نعم ، يابن رسول الله. فقال : «هذا موضع كرب وبلاء. انزلوا ، هاهنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا». فنزلوا جميعاً ، ونزل الحُرّ وأصحابه ناحية. ثم إنّ الحسين (ع) جمع ولده وإخوته وأهل بيته ، فنظر إليهم ساعة ثمّ قال : «اللهمَّ ، إنّا عترة نبيّك محمّد (ص) ، وقد اُزعجنا وطُردنا واُخرجنا عن حرم جدّنا ، وتعدت بنو اُميّة علينا. اللهمَّ ، فخُذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين».

هي كربلاءُ فقفْ على عرَصاتِها

ودَعْ الجفونَ تسحُّ في عَبراتِها

سلْها بأيِّ قِرىً تعاجلتْ الاُولَى

نزلُوا ضُيوفاً عند قفرِ فلاتِها

ما بالُها لمْ تَروِهمْ من مائِها

حتّى تروَّتْ منْ دِما رَقَباتِها

٩٣

المجلس الثالث والأربعون

لمّا نزل الحسين بأرض كربلاء ، دعا جوناً مولى أبي ذر الغفاري ، فجعل جون يصلح له سيفه استعداداً للحرب ، والحسين (ع) يقول (١) :

يا دهرُ اُفٍّ لك منْ خليلِ

كمْ لك بالإشراقِ والأصيلِ

مِن طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ

والدَّهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

ما أقربَ الوعدَ من الرحيلِ

وإنَّما الأمرُ إلى الجليلِ

فسمعت اُخته زينب بنت فاطمة عليهما‌السلام ذلك ، فقالت : يا أخي ، هذا كلام مَن أيقن بالقتل! فقال (ع) : «نعم يا اُختاه». فقالت زينب : وآ ثكلاه! ينعى الحسين إليَّ نفسه! وبكت النّسوة ، وجعلت اُمّ كلثوم تنادي : وآ محمّداه! وآ عليّاه! وآ اُمّاه! وآ أخاه! وآ حسيناه! وآضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله! فعزّاها الحسين (ع) ، ثمّ قال : «يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، وأنت يا زينب ، وأنت يا فاطمة ، وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قُتلت ، فلا تشققن عليّ جيباً ، ولا تخمشن عليّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً». وفي رواية عن زين العابدين (ع) : أنّ الحسين (ع) قال هذه الأبيات عشيّة اليوم التاسع من المحرّم. قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «إنّي جالس في تلك الليلة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تمرّضني ، إذ اعتزل

______________________

(١) في بعض الروايات : أنّ الحسين (ع) جلس يصلح سيفه ويقول هذه الأبيات ، وفي رواية اُخرى : أنّ المُصلح للسيف هو جون ، وهو الأقرب إلى الاعتبار ؛ فإنّ موالي الحسين (ع) وخدمه لم يكونوا ليدعوه يصلح سيفه ويعالجه بيده وهم ينظرون ، والرواية الاُولى اشتباه من قول الراوي : وعنده جون وهو يصلح سيفه ؛ فلذاك اعتمدنا على الرواية الثانية. ـ المؤلّف ـ

٩٤

أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه ، وأبي ينشد تلك الأبيات ، فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل. وأمّا عمّتي ، فإنّها لمّا سمعتْ ما سمعتُ ـ وهي امرأة ، ومن شأن النّساء الرقّة والجزع ـ لم تملك نفسها أنْ وثبتْ تجرّ ثوبها حتّى انتهت إليه ، ونادت : وآ ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فنظر إليها الحسين (ع) ، وقال : يا اُخيّه ، لا يذهبنّ حلمك الشيطان. فقالت : بأبي واُمّي! أتستقل؟! نفسي لك الفداء. فردت عليه غصّته ، وترقرقت عيناه بالدموع ، ثمّ قال : لو تُرك القطا ليلاً لنام. فقالت : يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي؟! وخرّت مغشيّة عليها ، فقام إليها الحسين (ع) فصبّ على وجهها الماء حتّى أفاقت ، فقال لها الحسين (ع) : يا اُختاه ، تعزَّي بعزاء الله ؛ فإنّ سكّان السّماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البريّة يهلكون ، وكلّ شيء هالكٌ إلاّ وجهه الذي خلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده. جدّي خيرٌ منّي ، وأبي خيرٌ منّي ، واُمّي خيرٌ منّي ، وأخي خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله (ص) اُسوة. ثمّ قال لها : يا اُختاه ، إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، لا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت».

اُختُ يا زينبُ اُوْ

صيكِ وصايَا فاسمعي

إنّنيْ في هذهِ الْ أرضِ

مُلاقٍ مصرعي

فانظُمي حالَ اليتامَى

بعد فقْدي واجمَعي

واصْبري فالصَّبرُ منْ

خِيمِ كرامِ المَنزعِ

كلُّ حيٍّ سيُنَحْحِيهِ

عن الأحياءِ حَينْ

واجمَعي شملَ اليتامَى

بعدَ فَقدي وانظُمِي

أطْعمِي مَن جاعَ منهُمْ

ثمّ روِّي مَن ظَمِي

واعلَمِي أنّيَ فيْ

حفظِهمُ طُلَّ دمِي

ليتَني بينهُمُ

كالأنفِ بين الحاجبَينْ

٩٥

المجلس الرابع والأربعون

لمّا بلغ عبيد الله بن زياد نزول الحسين (ع) بكربلاء ، ندب عمر بن سعد بن أبي وقّاص لقتاله ، وكان قد ولاّه الرَّي ، فاستعفاه من قتال الحسين (ع) ، فقال : نعم ، على أنْ تردَّ علينا عهدنا بولاية الرَّي. فشاور عمر نُصحاءه فنهوه عن ذلك ، فلمْ يقبل واختار الدّنيا على الآخرة. وسار ابن سعد لقتال الحسين (ع) ومعه أربعة آلاف ، وما زال ابن زياد يمدّه بالعساكر حتّى تكمّل عنده عشرون ألف فارس لستِّ ليال خلون من المحرّم ، وأتبعه ببقيّة العسكر فكمُل عنده ثلاثون ألفاً ، وأرسل ابن سعد إلى الحسين (ع) رسولاً يسأله ما الذي جاء به ، فقال له الحسين (ع) : «كتب إليّ أهل مصركم هذا أنْ اقدم ، فأمّا إذا كرهتموني ، فإنّي أنصرف عنكم». فانصرف إلى ابن سعد فأخبره ، فقال : أرجو أنْ يعافيني الله من أمره. وكتب إلى ابن زياد بذلك ، فلمّا قرأ الكتاب قال :

الآنَ إذْ عَلَقتْ مخالبُنا بهِ

يرجُو النَّجاةَ ولاتَ حينَ مناصِ

ثم كتب إلى ابن سعد : أنْ أعرض على الحسين أنْ يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا هو فعل ذلك رأينا رأْينا. فقال ابن سعد : قد خشيتُ أنْ لا يقبل ابن زياد العافية. وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى ابن سعد : أنْ حِل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفّان. فبعث عمر في الوقت عمرو بن الحجّاج الزبيدي في خمسمئة فارس فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الحسين (ع) وأصحابه وبين الماء ، فمنعوهم أنْ يستقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (ع) بثلاثة أيام. وجاء تميم بن الحُصين الفزاري ، فنادى : يا حسين ، ويا أصحاب الحسين ، أما ترون ماء الفرات يلوح كأنّه بطون الحيّات؟ والله ، لا ذقتم منه قطرة حتّى تذوقوا الموت جرعاً.

٩٦

منعُوهُ منْ ماءِ الفُراتِ ووردِهِ

وأبوهُ ساقِي الحوْضِ يومَ جزاءِ

حتّى قضَى عَطشاً كما اشتَهتْ العِدى

بأكفِّ لا صِيدٍ ولا أكفاءِ

٩٧

المجلس الخامس والأربعون

لمّا ضيّق القوم على الحسين (ع) حتّى نال منه العطش ومن أصحابه ، قال له برير بن خضير الهمداني : يابن رسول الله ، أتأذن لي أنْ أخرج إلى القوم؟ فأذن له فخرج إليهم ، فقال : يا معشر النّاس ، إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين ابنه. فقالوا : يا برير ، قد أكثرت الكلام فاكفف ، والله ، ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله. فقال الحسين (ع) : «اقعد يا برير». ثمّ وثب الحسين (ع) متوكّئاً على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته فقال : «اُنشدكم الله ، هل تعرفونني؟». قالوا : نعم ، أنت ابن رسول الله (ص) وسبطه. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله (ص)؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة بنت محمّد (ص)؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالب (ع)؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الاُمّة إسلاماً؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ سيّد الشهداء حمزة عمّ أبي؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ الطيّار في الجنّة عمّي؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «فاُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله (ص) أنا متقلّده؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ عليّاً أول القوم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟». قالوا : اللهمَّ نعم. قال : «فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصاد (١) عن الماء ، ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!». قالوا : علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً

______________________

(١) قال الزمخشري في الفائق : قال النبي (ص) لعلي (ع) : «أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة ، تذود عنه

٩٨

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمعت بناته واُخته زينب كلامه ، بكين وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه ، وقال لهما : «سكّتاهن ، فلعمري ليكثرن بكاؤهن».

يرى الفُراتَ ولا يحْظَى بموردِهِ

ليتَ الفراتَ غدا منْ بعدهِ يَبسَا

تحوطُهُ من بني عدنانَ أغلمةٌ

بيضُ الوجوهِ كرامٌ سادةٌ رُؤسا

______________________

الرجال كما يُذاد البعير الصاد». الصاد (بلفظ حرف الهجاء) : أصله الصَّيد (بكسر الياء) فقُلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها : وهو الذي به داء الصَّيد ، وهو داءٌ يأخذ في رأس البعير لا يقدر منه أنْ يلوي عُنقه وبه شُبّه المتكبّر ، فقيل : أصيد ـ كذا يُفهَم من الفائق ـ. قال : ويجوز أنْ يروى بكسر الدال ويكون فاعلاً من الصدى ، وهو العطش ـ اهـ ـ. وفيه : أنّ الصَّادي لا يُذاد عن الماء عادة بل يُسقى ، وفي القاموس : الصاد والصَّيد (بالكسر ويحرّك) : داء يصيب الإبل فتسيل اُنوفها فتسمو برأسها. وبعير صاد : أي ذو صاد ، والصَّاد : عرق بين عينَي البعير ومنه يصيبه الصَّيد ـ اهـ ـ وإنّما يُذاد لئلاّ يعدي غيره ، أو لأنّ الماء يضرّه. وبعض يقولها : الصادر ، وهو خطأ مخالف للرواية مع أنّ الصادر لا يحتاج إلى الذياد. ـ المؤلّف ـ

٩٩

المجلس السّادس والأربعون

لمّا رأى الحسين (ع) نزول العسكر مع عمر بن سعد بنينوى ومددهم لقتاله ، أنفذ إلى عمر بن سعد : «إنّي اُريد أنْ ألقاك ليلاً». فاجتمعا ليلاً بين العسكرين وتناجيا طويلاً ، ثمّ كتب عمر إلى ابن زياد : أمّا بعد ، فإنّ الله تعالى قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة ؛ هذا الحسين قد أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضىً وللاُمّة صلاح. وعن عقبة بن سمعان أنّه قال : والله ، ما أعطاهم الحسين (ع) أنْ يضع يده في يد يزيد ، ولا أنْ يسير إلى ثغر من الثغور ، ولكنّه قال : «دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو أذهب في هذه الأرض العريضة». فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب ، قال : هذا كتاب ناصح لأميره ، مشفق على قومه. فقام شمر (١) بن ذي الجوشن وقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟! والله ، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّة ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز ، ولكن لينزل على حُكمك هو وأصحابه ، فإنْ عاقبت فأنت أولى بالعقوبة ، وإنْ عفوت كان ذلك لك. فقال له ابن زياد : نِعم ما رأيت! الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النّزول على حكمي ، فإذا فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فليقاتلهم ، فإنْ فعل فاسمع له وأطع ، وإنْ أبى فأنت أمير الجيش ، فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. وكتب إلى ابن سعد : إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء ، ولا لتعتذر عنه ، ولا لتكون له عندي شافعاً ، انظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حُكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سِلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتُمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مُستحقّون. فإنْ

______________________

(١) شَمِرْ كـ (كَتِفْ) ، والعامّة تلفظ بالكسر فالسكون ، والظاهر أنّه غلط. ـ المؤلّف ـ

١٠٠