المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

فقال الرضا (ع) : «قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد». ثم قال : «يا غُلام ، هل معك من نفقتنا شيء؟». فقال : ثلاثمئة دينار. فقال : «اعطه إيّاها». ثمّ قال : «لعله استقلّها يا غلام ، سقْ إليه البغلة». وفي العيون أيضاً بسنده عن أبي العبّاس محمَّد بن يزيد المُبرّد ، قال : خرج أبو نَوّاس ذات يوم من دار ، فبصر براكب قد حاذاه ، فسأل عنه ولم يرَ وجهه ، فقيل : إنّه علي بن موسى الرضا (ع) ، فأنشأ يقول :

إذا أبصرتكَ العينُ منْ بعدِ غايةٍ

وعارضَ فيكَ الشَّكُ أثبتكَ القلبُ

ولو أنّ قوماً أمَّموكَ لقادَهُمْ

نسيمُكَ حتّى يستدلُّ بكَ الرَّكبُ

وقال الرضا (ع) : «إنّي مقتولٌ ومسمومٌ ومدفونٌ بأرض غُربة ، أعلمُ ذلك بعهد عهده إليَّ أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله (ص). ألا فمَنْ زارني في غُربتي كنتُ وآبائي شفعاءَه يوم القيامة ، ومَنْ كُنَّا شُفعاءَه نجا ولو كان عليه وزرُ الثَّقلين». ولله درّ القائل :

حُفَرٌ بطيْبَةَ والغريِّ وكرْبَلا

وبطوسَ والزَّورَا وسامَراءِ

ما جئْتهُمْ في حاجةٍ إلاّ انْقَضتْ

وَتَبَدَّل الضَّرّاءُ بِالسَّرّاءِ

بأبي واُمّي تلك الحفر ومَن فيها! لقد تركتهم الأعداءُ شتّى مصارعهم ، متفرقة قبورهم ، متباعدة ضرائحهم :

بعضٌ بطيْبَةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ

بكربلاءَ وبعضٌ بالغريَّينِ

وأرضُ طوسٍ وسامَرا وقدْ ضَمِنتْ

بغدادُ بدْرَينِ حلاّ وسطَ قبرينِ

يا سادَتي ألِمَنْ أنعي أسىً ولمَنْ

أبكي بجَفْنينِ من عَينَيْ قرِيحَينِ

أبكي على الحسنِ المسمُومِ مُضْطَهدَاً

أمْ للحُسينِ لُقىً بينَ الخمِيسينِ

أبكي عليهِ خضيبَ الشَّيبِ منْ دَمهِ

مُوزَّعَ الجسْمِ محزوزَ الورِيدَينِ

مصائبٌ شتَّتْ شملَ النَّبيِّ فَفِي

قلبِ الهُدى أسْهُمٌ ينطقنَ بالتَّلَفِ

٦٢١

المجلس الخمسون بعد المئتين

روى المفيد رحمه الله في الإرشاد بسنده : أنّه لمّا أراد المأمون أنْ يُزوّج ابنته اُمّ الفضل أبا جعفر محمَّد بن علي الجواد (ع) ، بلغ ذلك العباسيّين فعظم عليهم ، وخافوا أنْ ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا (ع) ، فاجتمع أهل بيته الأدنون وناشدوه الله أنْ يصرف نفسه عن تزويج ابن الرضا ، وقالوا : نخاف أنْ تُخرج به عنّا أمراً قد ملّكنا الله إيّاه ؛ فقد عرفت ما كان بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم ، وقد كنّا في خوف من عملك مع الرضا حتّى كفانا الله المهم من ذلك ، فاصرف رأيك عن ابن الرضا ، وأعدل إلى مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك. فقال : أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب ، فأنتم السّبب فيه ؛ وأمّا ما كان يفعله مَن كان قبلي بهم ، فقد كان به قاطعاً للرحم ، وأعوذ بالله من ذلك ؛ وأمّا أبو جعفر محمَّد بن علي فقد اخترتُه لتقدّمه على كافّة أهل العلم مع صُغر سنّه ، والاُعجوبة فيه بذلك. فقالوا : إنّه وإنْ راقك منه هديه ، فإنّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدَّب ويتفقّه. فقال : إنّي أعرف به منكم ، وإنّ هذا من أهل بيت علْمُهم من الله ، فإنْ شئتم فامتحنوه. فأجمع رأيهم أنْ يطلبوا من يحيى بن أكثم ـ وهو يومئذٍ قاضي القُضاة ـ أنْ يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة. فحضر يحيى بن أكثم ، وأمر المأمون أنْ يُفرش لأبي جعفر دست ويُجعل له فيه مسوّرتان (أي : وسادتان) ، ففُعل ذلك ، وخرج أبو جعفر ـ وهو يومئذ ابن سبع سنين وأشهر ـ فجلس بين المسوّرتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام النّاس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر ، فقال يحيى للمأمون : أتأذن لي أنْ أسال أبا جعفر؟ قال : استأذنه في ذلك. فقال : أتأذن لي ـ جُعلت فداك ـ في مسألة؟ قال (ع) : «سلْ إنْ شئت». قال : ما تقول ـ جعلني الله فداك ـ في مُحرِمٍ قتلَ صيداً؟ فقال أبو جعفر (ع) : «قتله في حلٍّ أمْ حَرَمْ؟ عالماً

٦٢٢

أمْ جاهلاً؟ عمداً أم خطأً؟ حُرَّاً كان أمْ عبداً؟ صغيراً أمْ كبيراً؟ مُبتدِئاً بالقتل أمْ مُعيداً؟ منْ ذواتِ الطّير كان الصّيدُ أمْ منْ غيرها؟ من صغار الصّيد أمْ من كباره؟ مُصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ مُحرماً بالعُمرة أمْ الحجِّ؟». فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز. فقال المأمون : الحمد لله على هذه النّعمة والتوفيق لي في الرأي. ثمّ قال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تُنكرونه؟! ثمّ قال لأبي جعفر إنْ رأيت ـ جُعلت فداك ـ أنْ تذكر الفقه فيما فصّلته؟ فقال : إنّ المُحرِمَ إذا قتل صيداً في الحلِّ ، وكان الصّيدُ من ذوات الطّير من كبارها ، فعليه شاة ، فإنْ أصابه في الحَرَمِ فعليه الجزاء مضاعفاً ، فإذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حملٌ قد فُطم من اللّبن ، وإذا قتله في الحَرم فعليه الحملُ وقيمةُ الفرخ ، وإنْ كان من الوحش وكان حمار وحشٍ ، فعليه بقرة ، وإنْ كان نعامة فعليه بُدنة (أي : بعير أو ناقة) ، وإنْ كان ظبياً فعليه شاة ، فإنْ قتل شيئاً من ذلك في الحَرَم ، فعليه الجزاء مُضاعفاً هدياً بالغ الكعبة. وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهديُ فيه ، وكان إحرامه بالحجِّ ، نحرَه بمنى ، وإنْ كان إحرامُه بالعمرة نحره بمكّة. وجزاءُ الصّيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد عليه الإثم ، ولا إثم في الخطأ ، والكفّارة على الحُرِّ في نفسه ، وعلى السيّد في عبده ، والصّغير لا كفارة عليه ، والنّادم يسقط عنه عقاب الآخرة ، والمُصرُّ عليه العقاب في الآخرة». قال المأمون : أحسنت يا أبا جعفر ، أحسن الله إليك بما رأى. قال المأمون : إنّ أهل هذا البيت خُصّوا بما ترَون من الفضل ، ولا يمنعهم صغر السّن من الكمال ؛ أما علمتم أنّ رسول الله (ص) افتتح دعوته بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقَبِل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يدعُ أحداً في سنِّه غيره؟ وبايع الحسنَين وهما ابنا دون ستِّ سنين ولم يُبايع صبياً غيرهما؟ (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم. قالوا : صدقت يا أمير المؤمنين. ألا قاتل الله مَنْ لم يعرف فضل أهل البيت فدفعهم عن مقامهم وأزالهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها ، وظلمهم وقتلهم ونازعهم حقَّهم ، كما فعل بنو اُميّة بالحسَنين ريحانتَي رسول الله (ص) ، وولديه اللذين بايعهما وهما صغيران ، كما قاله المأمون. قد دسوا السّمَّ إلى الحسن حتّى أخرج كبده قطعة قطعة ، وقتلوا الحسين وسبعة عشر رجلاً من أهل بيته بكربلاء عطشان ظامياً ، غريباً وحيداً ، لا ناصر له ولا معين :

يابنَ الذينَ توارَثُوا الْ

عُليَا قبيلاً عنْ قَبيلِ

والسَّابقينَ بفضْلِهمْ

في كلِّ جيلٍ كلَّ جيلِ

إنْ تُمسِ مُنْكسرَ اللّوا

مُلقىً على وجهِ الرَّمولِ

فلقدْ قُتلتَ مُهذَّباً

منْ كُلِّ عيبٍ في القتيلِ

يُهدَى لكَ الذِّكرُ الجَميْـ

ـلُ على الزَّمانِ المُستَطيلِ

٦٢٣

المجلس الحادي والخمسون بعد المئتين

في مروج الذهب للمسعودي ، قال : سُعي إلى المتوكّل بعليِّ بن محمَّد الجواد عليهما‌السلام : إنّ في منزله كُتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم ، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة. فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ، ووجدوه في بيت مُغلق عليه وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرَّمل والحصى ، وهو متوجهٌ إلى الله يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد. فحُمل على حاله تلك إلى المتوكّل ، وقالوا للمتوكّل : لم نجد في بيته شيئاً ، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة. وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشّراب ، فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكّل ، فلمّا رآه هابه وأعظمه ، وأجلسه إلى جانبه ، وقال له : أنشدني شعراً. فقال (ع) : «إنّي قليلُ الرّواية للشعر». فقال : لا بُدَّ من ذلك. فأنشده (ع) يقول :

باتُوا على قُلَلِ الأجبالِ تحرسُهُمْ

غُلبُ الرِّجالِ فما أغنتهُمُ القُلَلُ

واستَنْزَلوا بعد عزٍّ منْ معاقلِهمْ

واُسكنوا حُفراً يا بئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ منْ بعدِ دَفنِهمُ

أينَ الأسرَّةُ والتِّيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ الّتي كانتْ مُنعَّمةً

منْ دونِها تُضرب الأستارُ والكلَلُ

فأفصحَ القبرُ عنهُمْ حينَ ساءَلهُمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يقتتلُ

قدْ طالَما أكلُوا دهراً وما شَربوا

فأصبحوا بعدَ طُولِ الأكلِ قدْ اُكلُوا

قال : فبكى المتوكّل حتّى بلّت دموعه لحيته ، وبكى الحاضرون ، وأمر برفع الشّراب ثمّ ردّه إلى منزله مُكرَّماً. هذا إمام قد اُدخل إلى مجلس الشّراب ، وهو علي الهادي (ع) ، واُدخل إمام آخر إلى مجلس الشّراب ، وهو جدُّه علي بن الحسين زين العابدين (ع) ، ولكن شتّان ما بين الدّخولين ؛ أمّا علي الهادي (ع) فاُدخل على المتوكّل وحده ولم

٦٢٤

يكن معه نساء ولا أطفال ، ولمّا دخل على المتوكّل أعظمه وحيّاه ، وردّه إلى منزله مُكرَّماً ؛ وأمّا جدّه زين العابدين (ع) فاُدخل على يزيد هو ونساؤه ومَن تخلّف من أهل بيته ، وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (ع) مغلول بغلّ إلى عُنقه ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) ، لو رآنا على هذه الصّفة؟!». فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (ع). ثمّ وضع رأس الحسين (ع) بين يديه ، وأجلس النّساء خلفه لئلاّ ينظرنَ إليه ، فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس ، فلمّا رأين الرأس صحن ، فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية ، فقالت فاطمة بنت الحسين على أبيها وعليها‌السلام : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟! فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات ، ورآه علي بن الحسين (ع) فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبداً.

يا رأسَ مُفترسِ الضَّياغمِ في الوغَى

كيفَ اغتَديتَ فريسةَ الأوغادِ

يا مُخمداً لَهبَ العِدى كيفَ انتحتْ

نُوبُ الخطوبِ إليكَ بالإخمادِ

٦٢٥

المجلس الثاني والخمسون بعد المئتين

روى الشّيخ المفيد عليه الرحمة في الإرشاد بسنده : أنّه سعى رجل بأبي الحسن (ع) إلى المتوكّل ، وقال : عنده أموال وسلاح. فتقدم المتوكّل إلى سعيد الحاجب أنْ يهجم عليه ليلاً ، ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسّلاح ويحمله إليه. قال سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن (ع) بالليل ومعي سُلّم ، فصعدت منه إلى السّطح ونزلت من الدرجة في الظّلمة ، فلم أدرِ كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبو الحسن (ع) من الدار : «يا سعيد ، مكانك حتّى يأتوك بشمعة». فلم ألبث أنْ أتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جُبّة صوف وقلنسوة منها ، وسجادة على حصير بين يديه ، وهو مقبلٌ على القبلة ، فقال لي : «دونك البيوت». فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت بدرة من المال مختومة بخاتم اُمّ المتوكّل وكيساً مختوماً معها ، فقال لي أبو الحسن : «دونك المُصلّى». فرفعته فوجدت سيفاً في جفن ، فأخذت ذلك وصرت إليه. فلمّا نظر إلى خاتم اُمّه على البدرة بعث إليها ، فخرجت إليه ، فسألها عن البدرة ، فقالت : كنتُ نذرت في علّتك إنْ عوفيت أنْ أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتُها إليه ، وهذا خاتمي على الكيس ما حرَّكه. وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمئة دينار ، فأمر أنْ يضمَّ إلى البدرة بدرة اُخرى ، وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن ، وأردُد عليه السّيف والكيس بما فيه. فحملتُ ذلك إليه واستحييت منه ، فقلت له : يا سيّدي ، عزّ عليّ دخولي دارك بغير إذنك ، ولكنّي مأمور. فقال لي : «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ». هذا فعل المتوكّل مع علي الهادي (ع) ، فإنّه لمّا علم براءة ساحته ممّا نُسب إليه ، أمر ببدرة فحُملت إليه ، وردّ عليه السّيف والمال ؛ أمّا فعل يزيد مع جدّه علي بن الحسين (ع) ، فإنّه أمر بإدخاله عليه هو وثقل الحسين (ع) ونساؤه ومَن تخلف من أهله ، فاُدخلوا عليه وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (ع) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال

٦٢٦

له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) ، لو رآنا على هذه الصّفة؟!». فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (ع). ثمّ وضع رأس الحسين (ع) بين يديه ، وأجلس النّساء خلفه لئلاّ ينظرنَ إليه ، فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس ، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس ، فلمّا رأين الرأس صحن ، فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية ، فقالت فاطمة بنت الحسين عليهما‌السلام : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟! فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات ، ورآه علي بن الحسين (ع) فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبداً.

يا رأسَ مُفترسِ الضَّياغمِ في الوغَى

كيفَ اغتَديتَ فريسةَ الأوغادِ

يا مُخمداً لَهبَ العِدى كيفَ انتحتْ

نُوبُ الخطوبِ إليكَ بالإخمادِ

٦٢٧

المجلس الثّالث والخمسون بعد المئتين

قال ابن الأثير : كان المتوكّل شديد البغض لعلي بن أبي طالب (ع) ولأهل بيته ، وكان يقصد مَن كان يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّاً وأهله عليهم‌السلام بأخذ المال والدّم ، وكان يُبغض مَن تقدَّمه من الخلفاء ـ المأمون والمعتصم والواثق ـ في محبتهم لعلي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعةٌ قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعليٍّ (ع). وكان من جماعة ندمائه عبادة المخنّث ، وكان يشدُّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ، ويكشف رأسه ـ وهو أصلع ـ ويرقص بين يدي المتوكّل ، والمُغنُّون يُغنّون :

قد أقبلَ الأصلعُ البطينْ

خليفةُ المُسلمينْ!

يحكي بذلك عليّاً (ع) والمتوكّل يشرب ويضحك ، ففعل ذلك يوماً والمُنتصر ولده حاضر ، فأومأ إلى عبادة يتهدده ، فسكت خوفاً منه ، فقال المتوكّل : ما حالك؟ فقام وأخبره ، فقال المُنتصر : يا أمير المؤمنين ، إنّ الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه النّاس ، هو ابن عمِّك وشيخُ أهل بيتك وبه فخرك ، فكُلْ أنت لحمَه إذا شئت ، ولا تُطعم هذا الكلبَ وأمثاله منه. فقال المتوكّل للمغنِّين :غنّوا جميعاً :

غارَ الفتَى لابنِ عمّه.

في كلام آخر قبيح.

فكان هذا من جملة الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتلَ المتوكّل. من شدّة بغض المتوكّل لعلي وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ أنْ أمر بهدم قبر الحسين (ع) وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأنْ يُبذر ويُسقى موضع قبره ، وأنْ يمنع النّاس من إتيانه ، فنادى بالنّاس في تلك النّاحية : مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق. فهرب النّاس

٦٢٨

وتركوا زيارته ، وحُرث وزُرع. وفي كتاب جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدِّين محمَّد الباغندي ، قال :

ذكر ابن الكلبي إنّ الماء اُجري على قبر الحسين (ع) ليعفى قبرُه وأثره ، فنضب الماء أربعين يوماً ، فجاء أعرابيٌّ من بني أسد فجعل يأخذ من التُّراب قبضةً قبضة ويشمُّها حتّى وقع على قبر الحسين (ع) ، فشمَّ رائحةً أزكى من المسك فبكي ، وقال : بأبي أنت واُمّي! ما أطيبك وأطيب تربتك وما حوت! ثمّ أنشد :

أرادوا ليُخفُوا قبرَهُ عنْ وليِّهِ

وطيبُ تُرابِ القبرِ دلَّ على القبرِ

ولم يكفِ ما جرى على الحسين (ع) من طُغاة بني اُميّة حتّى جاء فراعنة بني العبّاس ، وقفوا على أعمال بني اُميّة ، واقتدوا بهم في قبائح أفعالهم من أهل البيت عليهم‌السلام ، كما قال الشّريف الرضي :

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِن عَلا

عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

ولله درّ القائل :

تاللَهِ إِنْ كانَتْ أُمَيَّةُ قَد أَتَتْ

قَتلَ اِبنِ بِنتِ نَبِيِّها مَظلوما

فَلَقَد أَتاهُ بَنو أَبيهِ بِمِثلِهِ

هذا لَعَمرُكَ قَبرُهُ مَهدوما

أَسِفوا عَلى أَن لا يَكونوا شارَكوا

في قَتلِهِ فَتَتَبَعوهُ رَميما

٦٢٩

المجلس الرّابع والخمسون بعد المئتين

كان بنو حمدان من الشّيعة ، وكانوا كما قال في (يتيمة الدّهر) : ملوكاً واُمراء ، وجوههم للصباحة وألسّنتهم للفصاحة ، وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة ، منهم سيف الدولة ، ومنهم أبو فراس الذي قال في حقّه الصّاحب بن عباد : بدأ الشّعر بملك وخُتم بملك (يعني : امرأ القيس وأبا فراس). وكان في عصره رجل شاعر من بني العبّاس يُقال له محمَّد بن سكرة الهاشمي ، فقال قصيدة يفتخر بها على الطالبيّين ، فلمّا وقف عليها أبو فراس ، قال يردّ عليه ويذكر مناقب الطالبيّين ومثالب العباسيّين بهذه القصيدة :

الدِّينُ مُختَرَمٌ وَالحَقُّ مُهتَضَمُ

وَفَيءُ آلِ رَسولِ اللَهِ مُقتَسَمُ

يا لِلرِجالِ أَما لِلَّهِ مُنتَصِرٌ

مِنَ الطُّغاةِ أَما لِلدِّينِ مُنتَقِمُ

بَنو عَلِيٍّ رَعايا في دِيارِهِمُ

وَالأَمرُ تَملِكُهُ النِّسوانُ وَالخَدَمُ

مُحلَّؤونَ فَأَصفى شُربِهِم وَشَلٌ

عِندَ الوُرودِ وَأَوفى وُردَهِم لَمَمُ

فَالأَرضُ إِلاّ عَلى مُلاّكِها سَعَةٌ

وَالمالُ إِلاّ عَلى أَربابِهِ دِيَمُ

لِلمُتَّقينَ مِنَ الدُّنيا عَواقِبِها

وَإِن تَعَجَّلَ فيها الظالِمُ الأَثِمُ

لايُطغِيَنَّ بَني العَبّاسِ مُلكُهُمُ

بَنو عَلِيٍّ مَواليهِم وَإِن زَعَموا

أَتَفخَرونَ عَلَيهِم لا أَباً لَكُمُ

حَتّى كَأَنَّ رَسولَ اللَهِ جَدُّكُمُ

وَما تَوازَنَ يَوماً بَينَكُم شَرَفٌ

وَلا تَساوَتْ بِكُمْ في مَوطِنٍ قَدَمُ

لَيسَ الرَشيدُ كَموسى في القِياسِ وَلا

مَأمونَكُم كَالرِّضا إِنْ أَنصَفَ الحَكمُ

قامَ النَّبِيُّ بِها يَومَ الغَديرِ لَهُمْ

وَاللَهُ يَشهَدُ وَالأَملاكُ وَالأُمَمُ

حَتّى إِذا أَصبَحَت في غَيرِ صاحِبِها

باتَت تَنازَعُها الذُؤبانُ وَالرَّخَمُ

وَصُيِّرَت بَينَهُم شورى كَأَنَّهُمُ

لا يَعلمونَ وُلاةُ الأمرِ أَينهُمُ

تَاللَهِ ما جَهِلَ الأَقوامُ مَوضِعَها

لَكِنَّهُم سَتَروا وَجهَ الَّذي عَلِموا

٦٣٠

ثُمَّ ادَّعاها بَنو العَبّاسِ ملكَهُمُ

وَما لَهُمْ قَدَمٌ فيها وَلا قِدَمُ

أَمّا عَلَيٌّ فَقَد أَدنى قَرابَتَكُمْ

عِندَ الوِلايَةِ إِنْ لَم تُكفَرِ النِّعَمُ

هل يُنكرُ الحَبرُ عبدُ الله نِعمَتَهُ

أَبوكُمُ أَمْ عُبَيدُ اللَهِ أَمْ قثَمُ

بِئسَ الجَزاءَ جَزَيتُم في بَني حَسَنٍ

أَبوهُمُ العَلَمُ الهادي وَأُمُّهُمُ

لا بَيعَةٌ رَدَعَتكُمْ عَن دِمائِهِمُ

وَلا يَمينٌ وَلا قُربى وَلا ذِمَمُ

هَلاّ صَفَحتُمْ عَنِ الأَسرى بِلا سَبَبٍ

لِلصافِحينَ بِبَدرٍ عَن أَسيرِكُمُ

هَلاّ كَفَفتُمْ عَنِ الدِّيباجِ أَلسُنَكُمْ

وَعَن بَناتِ رَسولِ اللَهِ شَتمَكُمُ

ما نُزِّهَت لِرَسولِ اللَهِ مُهجَتُهُ

عَنِ السِّياطِ فَهَلاّ نُزِّهَ الحَرَمُ

ما نالَ مِنهُمْ بَنو حَربٍ وَإِنْ عَظُمَتْ

تِلكَ الجَرائِمُ إِلاّ دونَ نَيلُكُمُ

يقول : جرائم بني اُميّة إلى آل رسول الله (ص) وإنْ كانت عظيمة ؛ كقتلهم حمزة يوم اُحد ، ودسِّهم السّمَّ إلى الحسن بن علي (ع) حتّى تقيّأ كبده قطعة قطعة ، ومنعهم من دفنه عند جدِّه (ص) ، وقتلهم الحسين (ع) بتلك الحالة الفظيعة ، وسبيهم نساءه وأولاده ، وقتلهم زيد بن علي (رضي الله عنه) وصلبه عارياً ثلاث سنوات حتّى عششت الفاختة في جوفه ، وقتلهم يحيى بن زيد ، إلى غير ذلك من فظائعهم ، إلاّ أنّكم يا بني العبّاس قد اقتفيتم في ذلك آثار بني اُميّة وزدتم عليهم.

كَمْ غَدرَةٍ لَكُمُ في الدِّينِ واضِحَةٍ

وَكَمْ دَمٍ لِرَسولِ اللَهِ عِندَكُمُ

أَأَنتُمُ آلُهُ فيما تَرَونَ وَفي

أَظفارِكُمْ مِن بَنيهِ الطَّاهِرينَ دَمُ

فمن الدِّماء التي لرسول الله (ص) عند بني العبّاس ؛ دماء أولاد الحسن السّبط (ع) الذي قتلهم المنصور ، بعضهم بالسّيف كمحمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن المثنى ، وبعضهم هدم عليهم الحبس كعبد الله بن الحسن وباقي أولاده ، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. ومن الدِّماء التي لرسول الله (ص) عند بني العبّاس ؛ دم موسى بن جعفر (ع) الذي سمّه الرشيد بعد ما حبسه سبع سنين ، ودم ولده علي بن موسى الرضا (ع) الذي سمّه المأمون ، ودم الحسين صاحب فخ ، وغيرهم ممّن قتلوه بالسّيف أو السّمِّ ، أو بنوا عليهم الحيطان وهم أحياء.

هَيهاتَ لا قَرَّبَت قُربى وَلا رَحِمٌ

يَوماً إِذا أَقصَتِ الأَخلاقُ وَالشِيَمُ

كانَت مَوَدَّةُ سَلمانٍ لَهُ رَحِما وَلَم

يَكُن بَينَ نوحٍ وَاِبنِهِ رَحِمُ

٦٣١

باؤوا بِقَتلِ الرِّضا مِن بَعدِ بَيعَتِهِ

وَأَبصَروا بَعضَ يَومٍ رُشدَهُم فَعَموا

لَبِئسَ ما لَقِيَت مِنهُم وَإِنْ بَلِيَتْ

بِجانِبِ الطَّفِّ تِلكَ الأَعظُمُ الرِمَم

ما كفى ما فعله بنو اُميّة من قتل الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره ، ورضِّ جسده الشّريف ، وسبي نسائه وذراريه من بلد إلى بلد ، وحمل رأسه ورؤوس أصحابه فوق الرّماح حتّى جاءت بنو العبّاس فبنت على ما أسّسته بنو اُميّة وزادت عليه ، ورامت أنْ تدرس قبر الحسين (ع) وتعفي أثره ، فأدار المتوكّل الماء على القبر الشّريف ، وأمر بحرثه وإعفاء أثره ، ومنع النّاس من زيارته : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ).

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ

فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِنْ عَلا

عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

إلى أن يقول أبو فراس رحمه الله ، مخاطباً لبني العبّاس :

خَلّوا الفَخارَ لِعَلاّمينَ إِنْ سُئِلوا

يَومَ السُؤالِ وَعَمّالينَ إِنْ عَلِموا

لا يَغضَبونَ لِغَيرِ اللَهِ إِنْ غَضِبوا

وَلا يُضيعونَ حُكمَ اللَهِ إِنْ حَكَموا

تَبدو التِّلاوَةُ مِن أَبياتِهِم أَبَداً

وَفي بُيوتِكُمُ الأَوتارُ وَالنَّغَمُ

مِنكُم عُلَيَّةُ أَمْ مِنهُم وَكانَ لَهُم

شَيخُ المُغَنّينَ إِبراهيمُ أَمْ لَكُمُ

إذا تلَوا سورةً غنّى خطيبُكُم

قفْ بالدِّيارِ الّتي لمْ يعفِها القِدَمُ

ما في دِيارِهِمُ لِلخَمرِ مُعتَصَرٌ

وَلا بُيوتُهُمُ لِلسّوءِ مُعتَصَمُ

البيتُ والرُّكنُ وَالأَستارُ مَنزِلُهُم

وَزَمزَمٌ وَالصَّفا وَالخيفُ وَالحَرَمُ

وليس منْ قَسمٍ في الذِّكرِ نعرفُهُ

إلاّ وهُمْ غيرُ شكٍّ ذلكَ القَسمُ

صَلّى الإِلَهُ عَلَيهِم أَينَما ذُكِروا

لأنَّهُمُ لِلوَرى كَهفٌ وَمُعتَصَم

يقول أبو فراس رحمه الله :

البيتُ والرُّكنُ وَالأَستارُ مَنزِلُهُم

وَزَمزَمٌ وَالصَّفا وَالخيفُ وَالحَرَمُ

ألا لعن الله مَن أزعجهم عن منازلهم وطردهم منها ، وأخاف أبا عبد الله الحسين (ع) حتّى أخرجه عن مدينة جدِّه وهو يتلو : (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ). ولم يكتفِ بذلك حتّى

٦٣٢

 أخافه وأخرجه عن البيت والركن ، وزمزم والصّفا ، والخيف والحرم ، ومنعه من إكمال الحجِّ وكان قد أحرم بالحجِّ فتحلّل بعمرة مفردة ، وخرج من مكّة إلى العراق يوم التروية لمّا علم أنّ يزيد دسَّ مع الحاجّ ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ، وأمرهم بقتل الحسين (ع) على أي حال اتّفق ، وأنفذ عمرو بن سعيد بن العاص إلى مكّة في عسكر عظيم ، وأمره بقبض الحسين (ع) سرّاً ، وإنْ لم يتمكن يقتله غيلة.

وقدْ انجلَى عنْ مكَّةٍ وهو ابنُها

وبهِ تشرَّفتِ الحطيمُ وزَمْزمُ

لمْ يدرِ أينَ يُريحُ بُدنَ ركابهِ

فكأنَّما المأوَى عليهِ مُحرَّمُ

ولمّا رأوا بعضَ الحياةِ مَذلَّة

عليهمْ وعزَّ الموتِ غيرَ مُحرَّمِ

أبَوا أنْ يذوقوا العيشَ والذّلُّ واقع

عليه وماتُوا ميتةً لمْ تُذمَمِ

٦٣٣

المجلس الخامس والخمسون بعد المئتين

في كتاب عمدة الطّالب ، وكتاب الفرج بعد الشّدة للقاضي التّنوخي : حدثنا أبو الفرج علي المعروف بالأصبهاني ، إملاء من حفظه ، قال : كان محمَّد بن زيد العلوي الحسيني الدّاعي بطبرستان ، الذي ملك بلاد طبرستان بعد أخيه الحسن بن زيد المُلقّب بالدَّاعي إلى الحقِّ والدّاعي الكبير ، ويُلقّب هو بالدّاعي الصّغير ، إذا افتتح الخراج نظر إلى ما في بيت المال من خراج السّنة الماضية ، ففرّقه في قبائل قريش ثمّ في الأنصار ، والفقهاء وأهل القرآن ، وسائر طبقات النّاس حتّى لا يبقى معه درهم. فجلس في بعض السّنين يفرّق فبدأ ببني هاشم ، فلمّا فرغ منهم ، دعا سائر بني عبد مناف ، فقام إليه رجل فقال له الدّاعي : من أي بني عبد مناف أنت؟ قال : من بني اُميّة. قال : من أيِّهم؟ فسكت ، قال : لعلّك من ولد معاوية؟ قال : نعم. قال : من أيِّ ولده؟ فسكت ، قال : لعلّك من ولد يزيد؟ قال : نعم. قال : بئسما اخترت لنفسك! تقصد ولاية آل أبي طالب وعندك ثأرهم؟! فإنْ كنت جئت جاهلاً بهذا ، فما بعد جهلك جهل ، وإنْ كنت جئت مستهزئاً بهم ، فقد خاطرت بنفسك. فنظر إليه العلويون نظراً شزراً ، فصاح بهم محمَّد الدّاعي وقال : كفّوا عنه ، كأنّكم تظنّون أنّ في قتله إدراكاً لثأر الحسين جدِّي! إنّ الله قد حرّم أنْ تطالب نفس بغير ما اكتسبت. والله ، لا يعرض له أحد بسوء إلاّ جازيته بمثله. ثمّ أمر له بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف ، وبعث معه مَن يُوصله إلى مأمنه. وقال لمَن حضره : اسمعوا حديثاً اُحدّثكم به يكون لكم قدوة : حدثني أبي عن أبيه قال : عرض على المنصور جوهر فاخر وهو بمكّة فعرفه ، وقال : هذا جوهر كان لهشام بن عبد الملك ، وقد بلغني أنّه عند ابنه محمَّد ولم يبقَ منهم غيره. ثمّ قال للربيع حاجبه : إذا كان غداً وصلّيت بالنّاس في المسجد الحرام ، فأغلق الأبواب كلَّها إلاّ باباً واحداً وقف عليه ، ولا تُخرج إلاّ مَن تعرفه حتّى تظفر بمحمَّد بن هشام ، فتأتيني به. ففعل الربيع ذلك ، وعرف

٦٣٤

محمَّد بن هشام أنّه هو المطلوب فتحيّر ، وأقبل محمَّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام فرآه مُتحيّراً وهو لا يعرفه ، فقال له : يا هذا ، أراك متحيّراً فمَن أنت؟ قال : ولي الأمان؟ قال : لك أمان الله التّام والعام ، وأنت في ذمّتي حتّى اُخلّصك. قال : أنا محمَّد بن هشام بن عبد الملك ، فمَن أنت؟ قال : أنا محمَّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقال : عند الله أحتسب نفسي إذاً! فقال : لا بأس عليك ، ولكن تعذرني في مكروه أنا لك به ، وقبيح اُخاطبك به يكون فيه خلاصك بمشيئة الله تعالى. قال : افعل ما تُريد. فطرح رداءه على رأسه ووجهه ، وشدّه به وأقبل يجرّه ، فلمّا أقبل على الربيع لطمه لطمات ، وقال للربيع : يا أبا الفضل ، إنّ هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة ، أكراني جماله ذاهباً وراجعاً وقد هرب منّي ، وأكرى جماله بعض قوّاد الخراسانية ، ولي عليه بذلك بيّنة ، فابعث معي حَرسيّين يصيران به معي إلى القاضي لئلاّ يهرب مني. فبعث معه حرسيّين ، فلمّا بعد عن المسجد قال له : يا خبيث ، تُؤدّي إليَّ حقِّي؟ قال : نعم يابن رسول الله. فقال للحرسيّين : انصرفا. فانصرفا ، فلمّا رجعا أطلقه ، فقبّل محمَّد بن هشام رأسه ، وقال : بأبي أنت واُمّي! (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ثمّ أخرج جوهراً نفيساً فدفعه إليه ، وقال : شرّفني بقبول هذا. فقال : إنّا أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمناً ، فانصرف راشداً. وآل أبي طالب معادن العفو والحلم ، والصّفح وكرم الأخلاق ، وعادتُهم ـ خلفاً عن سلفٍ ـ مقابلةُ الإساءة بالإحسان ، فكم قابلوا بني اُميّة على أعظم الإساءة بأعظم الحلم والإحسان في مواضع لا تُحصى ؛ بدأهم بذلك جدّهم رسول الله (ص) ، وبهُداه اهتدوا ، وعلى منهاجه نهجوا. فقد كان من أشدِّ النّاس عليه بمكّة أبو سفيان بن حرب ، فهو الذي جيّش الجيوش عليه يوم اُحد والأحزاب ، وسَعتْ زوجته هند في قتل عمّه حمزة أسد الله وأسد رسوله ، وبقرتْ بطنه عن كبده لتأكل منها فسُمّيت آكلة الأكباد ، ووقف عليه رسول الله (ص) ، فقال : «ما وقفت موقفاً أغيظ عليَّ منْ هذا الموقف». ومع ذلك لمّا فتح مكّة حلم وصفح ، وزاد بأنْ قال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فجازى بنو اُميّة رسول الله (ص) على إحسانه هذا إليهم ؛ بأنْ أخافوا سبطه وريحانته الحسين بن علي (ع) في بلد يأمن فيه الطّير والوحش ، وهي مكّة بلد الله الحرام ، فخرج منها يوم التروية خائفاً يترقّب ، وكان قد أحرم للحجِّ فجعلها عمرة مفردة وأحلَّ من إحرامه ، فكان النّاس يخرجون إلى منى والحسين خارج إلى العراق ؛ لأنّ يزيد دسّ إليه مع الحاجّ ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ليقبضوا عليه أو يقتلوه ، ثمّ جهّز عليه ابن زياد الجيوش بأمر يزيد ، فأحاطوا به ومنعوه التَّوجه في بلاد الله العريضة ، ومنعوه وأهله من ماء الفرات الجاري حتّى قتلوه عطشانَ ضامياً ، وقتلوا أنصاره وأهله وأولاده ، وسبوا

٦٣٥

نساءه من بلد إلى بلد ، وأتوا بعلي بن الحسين زين العابدين (ع) ـ وهو عليل ـ مُقيَّداً مُغلّلاً حتّى أدخلوه على يزيد. ومع ذلك ، لمّا طرد أهل المدينة بني اُميّة منها في أيّام يزيد ؛ لِما رأوا من قبح أفعال يزيد وكفره وطغيانه ، وفي جملة المطرودين مروان بن الحكم ، عرض مروان على جماعة من أهل المدينة أنْ يجعل أهله وعياله عندهم فأبوا ، فعرض ذلك على علي بن الحسين (ع) فأجابه إليه ، وجعل عيال مروان مع عياله وحماهم وأكرمهم ، ولكنْ الطّينة الاُمويّة أبت أنْ تُقابل الإحسان إلاّ بالإساءة ، كما قال الشّاعر :

ومَنْ يصنعُ المعروفَ مَعْ غيرِ أهلِهِ

يُجازَى كما جُوزي مُجيرُ اُمِّ عامرِ

وقال الآخر :

ملكنَا فكان العفوُ منَّا سجيَّة

فلمّا ملكتُمْ سالَ بالدَّمِ أبطحُ

وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارَى وطالَما

غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَحُ

فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا

وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ

فجازى بنو مروان زين العابدين (ع) على إحسانه هذا ؛ بأنْ جفوا ولده زيد الشّهيد واهتضموه حتّى ظهر بالكوفة فقُتل ، فنبشوه وصلبوه عارياً على جذعٍ بالكوفة أربع سنين ، ثمّ أنزلوه وأحرقوه. لبئسما جزوا رسول الله (ص) في آله وذرّيّته! ولبئسما جزته اُمّة تواليهم:

فلا بلَّ أجداثاً لآلِ اُميَّةٍ

سُقيتْ ولا صَوبُ الغمامِ أصابَها

ليس هذا لرسولِ اللهِ يا

اُمّةَ الطُّغيانِ والبغي جزَا

٦٣٦

المجلس السادس والخمسون بعد المئتين

إنّ فضيلة العلم وارتفاع درجته أمرٌ كفى انتظامه في سلك الضّرورة مؤنة الاهتمام ببيانه ؛ وما يورد في فضله إنّما هو لتحريك النّفوس وتنبيه الغافل ، ويدلُّ على فضل العلم بعد الضّرورة عند جميع العقلاء ، قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الإيجاد وأتبعه بذكر نعمة العِلم ، فلو كان بعد نعمة الإيجاد نعمة أعلى من العلم لكانت أجدر بالذّكر ، وقوله : (وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ). يدلّ على أنّه سبحانه اُختص بوصف الأكرميّة ، وقوله : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ...) إلى آخره ، يدلّ على أنّ اختصاصه بوصف الأكرميّة ؛ لأنّه علّم الإنسان العِلم ، وكفى بذلك دليلاً على فضل العِلم. وقال تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ). فقرن العلماء بنفسه وملائكته : (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) والآيات الدالّة على فضل العلم كثيرة جداً. وقال رسول الله (ص) : «طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة». «اطلبوا العلمَ ولو بالصّين». «فضلُ العالِمِ على العابد كفضلِ القمرِ على سائر النّجوم ليلة البدر». «فضلُ العالِمِ على العابد كفضلي على أدناكم». «نومُ العالِمِ أفضلُ من عبادة العابد». «نومٌ مع علمٍ خيرٌ من صلاة مع جهل». «ساعةُ العالِم يتَّكئ على فراشه ينظرُ في علمٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنة». «فقيهٌ واحد أشدُّ على الشّيطان من ألف عابد». وقال الباقر (ع) : «عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضلُ من سبعين ألف عابد». وقال أيضاً : «العالمُ كمَن معه شمعة تُضيء للنّاس ، فكلّ مَن أبصر بشمعته دعا له بخير». وكذلك : «العالمُ معه شمعة ، يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة». وقال الصّادق (ع) : «عُلماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته ، يمنعونهم من الخروج على

٦٣٧

ضعفاء شيعتنا ، ألا فمَنْ انتصب لذلك كان أفضل ممّن جاهد ألف ألف مرّة ؛ لأنّه يدفع عن أديان محبِّينا وذلك يدفع عن أبدانهم». وقال الرضا (ع) : «يُقال للعابد يوم القيامة : نِعم الرجل كُنت! همّتك ذات نفسك ، وكفيت النّاس مؤنتك ، فادخل الجنة. ويُقال للفقيه : قف حتّى تشفع لكلِّ مَن أخذ عنك أو تعلّم منك ، ومَن أخذ ممّن أخذ عنك إلى يوم القيامة». وقال رسول الله (ص) : «العلماءُ ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يُورّثوا ديناراً ولا درهماً (لأنّهم يموتون فقراء لزهدهم في الدُّنيا) ، ولكنْ ورّثوا العلم». وقال (ص) : «النّظر إلى العالِمِ عبادة». وقال أمير المؤمنين (ع) : «كفى بالعلمِ شرفاً أنْ يدّعيه مَن لا يُحسنه ويفرح به إذا نُسب إليه ، وكفى بالجهل ذمّاً أنْ يبرأ منه مَن هو فيه». وأيّ عالم أعلم من الإمام أبي عبد الله الحسين (ع) وارث علوم جدّه وأبيه (صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما) ، ولم ترعَ له هذه الاُمّة حرمة ولم تعرف له حقّاً ، بل ظلمته وأخّرته عن مقامه ، وقدّمت عليه يزيد الفجور والخمور ، والقرود والفهود ، وأرادته أنْ يبايع له بإمرة المؤمنين.

ويزيدُ لا مُتهوِّدٌ

فيهمْ ولا مُتبصِّرُ

يُدعَى أميرَ المؤمنينَ

يُطاعُ فيما يأمرُ

وكيف يُبايع سليل بيت الوحي ، وربيب حجر النّبوّة لسكّير بني اُميّة ، ويعترف لأمير الكافرين والفاسقين بأنّه أمير المؤمنين؟! إنّ هذا ما لا يجوز ولا يكون ، فأبى عن بيعته وتوجّه نحو الكوفة ، فأسلمه أهلها إلى عدوّه بعد ما بايعه منهم عشرات الاُلوف ، فقُتل شهيداً ظامياً ، غريباً وحيداً ، وقُتلت أنصاره وأهل بيته ، وذُبحت أطفاله وسُبيت عياله.

خطبٌ تصاغرَ عندَهُ

كلُّ الخُطوبِ ويكبَرُ

لو كانَ أحمدُ حاضراً

لَشجاهُ ذاكَ المحضرُ

٦٣٨

المجلس السابع والخمسون بعد المئتين

من الأخلاق النّبيلة المحمودة عند العقل وفي الشّرع الصّبر وقد مُدح في القرآن الكريم في نيف وسبعين موضعاً ، وأضاف الله تعالى أكثر الدرجات والخيرات إلى الصّبر وجعلها ثمرة له ، فقال عزّ مَن قائل :(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اُولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) وما من قربة إلاّ وأجرها بتقدير وحساب إلاّ الصّبر ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ووعد الله الصّابرين بأنّه معهم) فقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وعلّق النّصرة على الصّبر ، فقال : (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) وجمع الله تعالى للصابرين بين اُمور لم يجمعها لغيرهم ، فقال : (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَاُولئك هُمْ الْمُهْتَدُونَ). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في مدح الصّبر. وقال رسول الله (ص) : «الصّبر نصف الإيمان». وسُئل النّبيُّ (ص) عن الإيمان ، فقال : «الصّبر والسّماحة». وهذا معنى كونه نصف الإيمان. وقال (ص) : «الصّبر كنز من كنوز الجنّة». وأوحى الله تعالى إلى داود (ع) : «تخلّق بأخلاقي أنا الصّبور». وإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين (ع) من خير مَن تجلّى بالصّبر ، ولمّا لقيه أبو هرّة الأزدي وقال له : يابن رسول الله ، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدِّك محمَّد (ص)؟ قال له الحسين (ع) : «ويحك يا أبا هرّة! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت. وأيمُ الله ، لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسنّهم الله ذلاّ ً شاملاً وسيفاً قاطعاً». وأعظم من هذا صبره يوم عاشوراء على قتال ثلاثين ألفاً بفئة قليلة ، وعدم خنوعه للذلِّ والضّيم ، وصبره على ضرب السّيوف وطعن الرماح ، ورمي السّهام حتّى قُتل عطشان ظامياً ، غريباً وحيداً.

وباسمِ الثَّغرِ والأبطالُ عابسةٌ

كأنَّ جدَّ المنايا عندهُ لَعبُ

٦٣٩

المجلس الثامن والخمسون بعد المئتين

قال الله تعالى مُخاطباً لنبيِّه (ص) ومُثنياً عليه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وسأل رجل رسول الله (ص) عن حسن الخُلق ، فتلا قوله تعالى : (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) ثمّ قال (ص) : «هو أنْ تصل مَن قطعك ، وتُعطي مَن حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك». وقال (ص) : «إنّما بُعثت لاُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق». وقال (ص) : «أثقلُ ما يُوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله ، وحُسنُ الخُلق». وقال رجل لرسول الله (ص) : أوصني. فقال : «اتَّقِ اللهَ حيثُ كُنت». قال : زدني. قال : «اتبع السّيئةَ الحسنة تمحها». قال : زدني. قال : «خالق النّاس بخُلق حسن». وقيل له : يا رسول الله ، إنّ فلانة تصوم النّهار وتقوم الليل وهي سيّئة الخُلق ، تُؤذي جيرانها بلسانها. قال : «لا خيرَ فيها ، هي من أهل النّار». وقال أبو الدّرداء : سمعت رسول الله (ص) يقول : «أوّل ما يُوضع في الميزان حسن الخُلق والسّخاء». وقال (ص) : «إنّكم لنْ تسعوا النّاس بأموالكم ، فسعوهم ببسط الوجه وحُسن الخُلق». وقال (ص) : «إنّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة ، أحسنكم أخلاقاً». وقد فصّل الإمام زين العابدين (ع) مكارم الأخلاق ومرضى الأفعال في بعض أدعية الصّحيفة الكاملة ، فقال : «وَأَغْنِنِي وَلاَ تَفْتِنِّي بِالبطَرِ ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأخْلاَقِ ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ ، وَلا تَرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا ، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا. أللَّهُمَّ ، لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا ، وَلا عَائِبَةً اُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا ، وَلاَ اُكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا ، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي ، وَسَدِّدْنِي لأنْ اُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ ، وَاُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ ، وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ ، واُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ وَأَنْ

٦٤٠