المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

شهيداً بالسُّمِّ ، وجيّشوا الجيوش على أخيه الحسين بن علي (ع) أحد ريحانتي رسول الله (ص) وسبطيه ، فأخرجوه عن حرم جدّه رسول الله (ص) وعن حرم الله ، وقتلوه بأرض كربلاء غريباً ظامياً ، وحيداً صابراً مُحتسباً ، كلّ هذا وهم يدّعون أنّهم على دين الإسلام!

أفتدَّعي الإسلامَ قومٌ حاربتْ

آلَ النَّبيِّ ولمْ تُراعِ وصاتا

ضَرَبوا بِسَيفِ مُحَمَّدٍ أَبناءَهُ

ضَربَ الغَرائِبِ عُدنَ بَعدَ ذِيادِها

٦٠١

المجلس الحادي والأربعون بعد المئتين

في منتخب الطّريحي : حُكي عن الشّعبي الحافظ لكتاب الله تعالى ، أنّه قال : استدعاني الحجّاج في يوم عيد الأضحى ، فقال لي : أي يوم هذا؟ فقلت : هذا يوم الاُضحية. قال : بِمَ يتقرّب النّاس في مثل هذا اليوم؟ فقلتُ : بالاُضحية والصّدقة ، وأفعال البرِّ والتّقوى. فقال لي : اعلم أنّي قد عزمت أنْ اُضحِّي برجلٍ حُسيني قال الشّعبي : فبينما هو يخاطبني إذ سمعت من خلفي صوت سلسلة وحديد ، فخشيت أنْ ألتفت فيستخفّني ، وإذا قد مثل بين يديه رجلٌ علوي وفي عنقه سلسلة ، وفي رجليه قيد من حديد ، فقال له الحجّاج : ألست فلان بن فلان العلوي؟ فقال : نعم ، أنا ذلك الرجل. فقال له : أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله؟ قال : ما قلتُ ولا أقول ، ولكني أقول إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله على رغم أنفك يا حجّاج. قال : وكان متّكئاً فاستوى جالساً ، وقد اشتدّ غيظه وغضبه ، وانتفخت أوداجه ، ثمّ قال للرجل : يا ويلك! إنْ لم تأتني بدليل من القرآن يدلّ على ذلك قتلتُك شرَّ قتلة ، وإنْ أتيتني بما يدلّ على ذلك ، أعطيتك هذه البدرة التي بيدي وخلّيت سبيلك. قال الشّعبي : وكنت حافظاً كتاب الله كلَّه ، فلم يخطر على بالي آية تدلُّ على ذلك ، فحزنت وقلتُ في نفسي : يعزُّ عليّ والله ، ذهاب هذا الرجل العلوي. قال : فابتدأ الرجل يقرأ الآية ، فقال : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فقطع عليه الحجّاج قراءته ، وقال : لعلّك تُريد أنْ تحتجَّ عليَّ بآية المباهلة ، وهي قوله تعالى : (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ) فقال العلوي : هي والله حُجّة مؤكّدة معتمدة ، ولكنِّي آتيك بغيرها. ثمّ ابتدأ يقرأ : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى) وسكت ، فقال له الحجّاج : فلِمَ لا قُلت وعيسى ، أنسيت عيسى؟ فقال : نعم صدقت يا حجّاج ، فبأي شيء دخل عيسى في صلب نوح وليس له أب؟ فقال له الحجّاج : إنّه دخل في صلبه من حيث اُمّه. فقال العلوي : وكذلك الحسن

٦٠٢

والحسين دخلا في صلب رسول الله (ص) من حيث اُمّهما فاطمة الزهراء عليها‌السلام. قال : فبقي الحجّاج ساكتاً كأنّما اُلقم حجراً ، ثمّ قال له الحجّاج : ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان؟ فقال العلوي : يا حجّاج ، لقد ثبتت لهما الإمامة بشهادة النّبي (ص) في حقِّهما ؛ لأنّه قال في حقِّهما : «ولداي هذان إمامان فاضلان إنْ قاما وإنْ قعدا ، تميل عليهما الأعداء فيسفكون دمهما ، ويسبون حرمهما». ولقد شهد النّبيُّ (ص) لهما بالإمامة أيضاً ، حيث قال : «ابني هذا ـ يعني الحسين (ع) ـ إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمَّةٍ تسعة». فقال الحجّاج : يا علوي ، كم عمر الحسين في دار الدُّنيا؟ فقال : ستٌّ وخمسون سنة. فقال له : وفي أي يوم قُتل؟ قال : يوم العاشر من شهر عاشوراء بين الظّهر والعصر. فقال له : ومَن قتله؟ فقال : لقد جنَّد الجنود ابن زياد بأمر يزيد ، فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله ، قتلوا حُماته وأنصاره وأطفاله ، وبقي فريداً وحيداً يستغيث فلا يُغاث ، ويستجير فلا يُجار ، يطلب جرعة من الماء ليُطفي بها حرَّ الظّمأ ، فبينما هو واقف إذ جاء سنان فطعنه بسنانه ، ورماه خولي بسهم فوقع في لبّته وسقط عن ظهر الجواد إلى الأرض يخور في دمه ، فجاءه شمر فاحتزَّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته. فقال الحجّاج : خُذ هذه البدرة ، لا بارك الله لك فيها. فأخذها العلوي وهو يقول : هذا من عطاء الله لا من عطائك يا حجّاج. ثمّ إنّ العلوي بكي وجعل يقول :

صَّلى الإلهُ ومَنْ يحفُّ بعرشِهِ

والطّيّبونَ على النَّبيِّ النّاصحِ

وعلى قرابتِهِ الذينِ تهضَّموا

بالنَّائباتِ وكلِّ خطبٍ فادحِ

طلبوا الحقوقَ فاُبعدُوا عنْ دارِهمْ

وعوى عليهمْ كلُّ كلبٍ نابحِ

٦٠٣

المجلس الثاني والأربعون بعد المئتين

كان زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام عين أخوته بعد أخيه أبي جعفر الباقر (ع) وأفضلهم ، وكان عابداً ورعاً فقيهاً ، سخياً شجاعاً ، وظهر بالسّيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطلب بثارات الحسين (ع). وكان سبب خروجه ، مُضافاً إلى طلبه بدم الحسين (ع) ، أنّه دخل على هشام بن عبد الملك وقد جمع له هشام أهل الشّام ، وأمر أنْ يتضايقوا في المجلس حتّى لا يتمكّن من الوصول إلى قربه ، فقال له زيد : إنّه ليس من عباد الله أحد فوق أنْ يُوصى بتقوى الله ، ولا من عباده أحد دون أنْ يوصي بتقوى الله ، وأنا اُوصيك بتقوى الله فاتّقه. فقال له هشام : ما فعل أخوك البقرة؟ فقال : سمّاه رسول الله (ص) باقر العلم وأنت تُسمِّيه بقرة! لشدَّ ما اختلفتما في الدُّنيا ، ولتختلفان في الآخرة. فقال له هشام : أنت المُؤهِّل نفسك للخلافة ، الراجي لها؟ وما أنت وذاك لا اُمَّ لك؟! وإنّما أنت ابن أمة. فقال له يزيد : إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبيٍّ بعثه وهو ابن أمة ، فلو كان ذلك يقصر عن مُنتهى غايةٍ لم يُبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، فالنّبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام؟ وبعد : فما يقصر برجل أبوه رسول الله (ص) وهو ابن عليٍّ بن أبي طالب (ع) فوثب هشام من مجلسه ودعا قهرمانه ، وقال : لا يبيتنَّ هذا في عسكري. فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قومٌ قطّ حدَّ السّيوف إلاّ ذلّوا. فحُملت كلمتُه إلى هشام فعرف أنّه يخرج عليه ، فأرسل معه مَن يُخرجه على طريق الحجاز ، ولا يدعه يخرج على طريق العراق. فلمّا رجع عنه المُوكّلون به ـ بعد أنْ أوصلوه إلى طريق الحجاز ـ رجع إلى العراق حتّى أتى الكوفة ، وأقبلت الشّيعة تختلف إليه وهم يُبايعونه حتّى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة ، سوى أهل المدائن والبصرة ، وواسط والموصل ، وخراسان والرّي ، وجرجان والجزيرة ، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي ، فلمّا قامت

٦٠٤

الحرب ، انهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة ، فقاتلهم أشد القتال ، وهو يقول متمثّلاً :

فذلُّ الحياةِ وعزُّ المماتِ

وكُلاّ ً أراهُ طَعاماً وبِيلا

فإنْ كانَ لا بُدَّ منْ واحدٍ

فَسيرِي إلى الموتِ سَيْراً جمِيلا

وحال المساء بين الصفّين ، وانصرف زيد وهو مُثخنٌ بالجراح وقد أصابه سهمٌ في جبهته ، وطلبوا مَن ينزع السّهم ، فاُتي بحجّام فاستكتموه أمره ، فأخرج النّصل فمات من ساعته ، فدفنوه في ساقية ماء ، وجعلوا على قبره التّراب والحشيش ، واُجري الماء على ذلك. وحضر الحجّام ـ وقيل : عبدٌ سنديٌّ ـ مواراته فعرف الموضع ، فلمّا أصبح مضى إلى يوسف فدلّه على موضع قبره ، فاستخرجه يوسف بن عمر وبعث برأسه إلى هشام ، وبعثه هشام إلى المدينة فنُصب عند قبر النّبيِّ (ص) يوماً وليلة. ولمّا قُتل بلغ ذلك من الصّادق (ع) كلَّ مبلغٍ ، وحزن عليه حُزناً عظيماً ، وفرّق من ماله في عيال مَن اُصيب معه من أصحابه ألف دينار. وكتب هشام إلى يوسف بن عمر : أنْ اصلبه عريانَ. فصلبه في الكُناسة ، فنسجت العنكبوت على عورته من يومه ، ومكث أربع سنين مصلوباً حتّى مضى هشام وبُويع الوليد بن يزيد ، فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر : أمّا بعد ، فإذا أتاك كتابي فاعمد إلى عجل أهل العراق ، فأحرقه ثمّ انسفه في اليمِّ نسفاً. فأنزله وأحرقه ثمّ ذرّاه في الهواء.

وكما خُذل زيد بن علي ونُكثت بيعته ، خُذل جدّه أمير المؤمنين (ع) من قبله حتّى ألجأوه إلى قبول الحكومة يوم صفّين ، ثمّ قتلوه وهو يُصلّي في محرابه ، ثمّ خذلوا ولده الحسن (ع) وراسلوا عدوَّه فاضطرّ إلى الصُّلح ؛ خوفاً على دمه ودماء شيعته ، ثمّ كاتبوا ولده الحسين (ع) ، فأرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل ، فبايعه منهم ثمانية عشر ألفاً أو أكثر ، ثمّ خذلوا مسلماً وأمكنوا منه ابن زياد ، فأخذه أسيراً وقتله. ولمّا جاءهم الحسين (ع) ، خذلوه وتألّب منهم ثلاثون ألفاً لقتاله مع عمر بن سعد حتّى قتلوه ، ومِن شرب الماء منعوه ، وسبوا نساءه ، وداروا برأسه ورؤوس أهل بيته وأصحابه في البلدان.

إذا ما سَقَى اللهُ البلادَ فلا سَقَى

معاهدَ كوفانٍ بنوِّ المرازمِ

أتتْ كتبهُمْ في طيِّهنَّ كتائبٌ

وما رُقِّمتْ إلاّ بسُمِّ الأراقمِ

٦٠٥

المجلس الثالث والأربعون بعد المئتين

روى المسعودي في مروج الذهب : أنّه لمّا قُتل مروان بن محمَّد بن مروان بن الحكم المُلقّب بالحمار وبالجعدي ، حُملت بناته والأسارى إلى صالح بن علي بن عبد الله بن العبّاس ـ وهو عمُّ السّفّاح ـ فلمّا دخلن عليه ، تكلّمت ابنة مروان الكبرى ، فقالت : يا عمَّ أمير المؤمنين ، حفظ الله لك الدُّنيا والآخرة ، نحن بناتك وبناتُ أخيك فليسعنا من عدلكم ما وسعكم منْ جَورنا. قال : إذاً لا نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة ؛ ألم يقتل أبوك بالأمس ابن أخي إبراهيم بن محمَّد بن علي بن عبد الله بن العبّاس الإمام في محبسه بحرّان؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وصلبه في كُناسة الكوفة ، وقتل امرأة زيدٍ بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ ألم يقتل عبيد الله بن زياد الدَّعيُّ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي على يدي عمر بن سعد مع مَن قُتل بين يديه من أهل بيته؟ ألم يخرج بحرم رسول الله سبايا حتّى ورد بهم على يزيد بن معاوية ، وبعث برأس الحسين بن علي على رأس رمح يُطاف به كور الشّام ومدائنها حتّى قدموا به على يزيد بدمشق ، كأنّما بعث إليه برأس رجل من أهل الشّرك ، ثمّ أوقف حرم رسول الله (ص) موقف السّبي يتصفّحهنَّ جنود أهل الشّام الجفاة الطّغام ، ويطلبون منه أنْ يهب لهم حرم رسول الله (ص) ؛ استخفافاً بحقِّه (ص) ، وجرأة على الله عزّ وجل وكفراً لأنعمه؟ فما الذي استبقيتم منّا أهل البيت أو عدلتم فيه علينا؟! قالت : يا عمَّ أمير المؤمنين ، فليسعنا عفوكم إذاً. قال : أمّا العفو فنعم. قالت : تُلحقنا بحرّان. فألحقهنَّ بحرّان ، فعلت أصواتُهنَّ عند دخولهنَّ بالبكاء على مروان ، وشققن جيوبهنَّ وأعولن بالصّياح والنّحيب. وشتّان بين دخولهنَّ حرّان ـ ولم يفعل بنو العبّاس ببني اُميّة إلاّ بعض ما يستحقّونه ـ وبين

٦٠٦

دخول بنات رسول الله (ص) المدينة بعد الرجوع من الشّام! وأين ما جرى على بنات مروان جزاءً لأعمال بني اُميّة ، ممّا جرى على بنات رسول الله (ص) جزاءً ليوم بدر؟! وأين حزن بنات مروان من حزن الهاشميّات وعقائل بيت النّبوّة على الحسين (ع)؟! قال الصّادق (ع) : «ما اكتحلت هاشميّةٌ ولا اختضبت ، ولا رُؤي في دار هاشميٍّ دخانٌ خمس سنين حتّى قُتل عبيد الله بن زياد». وقالت فاطمة بنت أمير المؤمنين على أبيها وعليها‌السلام : ما تحنّأت امرأة منّا ، ولا أجالت في عينيها مروداً ، ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد.

بَني أُمَيَّةَ ما الأَسيافُ نائِمَةً

عَن شاهِرٍ في أَقاصي الأَرضِ مَوتورِ

تُسبى بَناتُ رَسولِ اللَهِ بَينَهُمُ

وَالدّينُ غَضُّ المَبادي غَيرُ مَستورِ

٦٠٧

المجلس الرابع والأربعون بعد المئتين

لمّا كان زمن مروان بن محمَّد المُلقّب بالحمار ، آخر ملوك بني اُميّة ، اجتمع بنو هاشم بالمدينة وبايعوا محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وفيهم السّفّاح والمنصور ، ولم يبايعه جعفر بن محمَّد الصّادق (ع) ، فنسبه عبد الله بن الحسن إلى الحسد ، فقال الصّادق (ع) : «والله ، ما ذلك يحملني». وأخبرهم أنّ الخلافة تصير إلى السّفّاح وإخوته وأبنائهم ، وأخبرهم أنّ محمَّداً وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن مقتولان ، وقال : «إنّ صاحب الرّداء الأصفر ـ وهو المنصور ـ يقتل محمَّداً». فلمّا أفضى الأمر إلى المنصور بعد أخيه السّفّاح ، كان يخاف من محمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ؛ لأنّه بايع محمَّداً ، فحجّ المنصور وقال لعبد الله بن الحسن : أين ابنك محمَّد؟ قال : لا أدري. قال : لَتأتينَّ به. قال : لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فحبسه بالمدينة سنتين ، وولّى المدينة رجلاً يُقال له رياح ، وأمره أنْ يقبض على بني حسن ويحبسهم ، وكان عدوّاً لأهل البيت عليهم‌السلام شرّيراً فحاشاً ؛ ولذلك ولاّه المنصور المدينة. فحبس منهم اثني عشر رجلاً غير عبد الله ، فيهم صبي صغير ، وفيهم رجل عابد اسمه علي بن حسن جاء إلى رياح وطلب منه أنْ يحبسه معهم ، فقيَّدهم وحبسهم ، وحبس معهم محمَّد بن عبد الله ـ من ولد عثمان ـ وكان أخاهم لاُمِّهم (وهي : فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب ((ع)» ، وولدان له. ثمّ إنّ المنصور حجَّ وأمر بحملهم إلى العراق ، فحُملوا مكبَّلين مغلولين ، فلمّا اُخرجوا وقف الصّادق (ع) وراء ستر رقيق ، فلمّا نظر إليهم ، هملت عيناه حتّى جرى دمعه على لحيته ، وقال : «والله ، لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء». أقول : ما أدري ما كان يجري على مولانا الإمام جعفر بن محمَّد الصّادق (ع) ، لو نظر إلى جدِّه عليِّ بن الحسين (ع) حين أمر به ابن زياد أنْ يُغلَّ بغلٍّ في عُنقه؟ وفي رواية : في يديه ورقبته. وحمله مع عمّاته وأخواته ومَن تخلف من أهل بيته إلى يزيد في الشّام ، وفيهم

٦٠٨

الحسن بن الحسن المثنى ، وأخواه زيد وعمر أبناء الحسن السّبط. وكان الحسن بن الحسن قد واسى عمّه في الصّبر على ضرب السّيوف وطعن الرماح ، وكان قد نُقل من المعركة وقد اُثخن بالجراح وبه رمق فبرئ. وساروا بهم كما يُسار بسبايا الروم حتّى اُدخلوهم على يزيد بالشّام وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (ع) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) ، لو رآنا على هذه الصّفة؟!». فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (ع).

فلهفي لآلِ اللهِ أسرَى حواسراً

سبايا على الأكْوارِ سَبيَ الدَّيالمِ

ومِنْ بلدٍ تُسبَى إلى شرِّ بلدةٍ

ومِنْ ظالمٍ تُهدَى إلى شرِّ ظالمِ

٦٠٩

المجلس الخامس والأربعون بعد المئتين

لمّا أمر المنصور بحمل بني الحسن إلى العراق ، حملهم رياح ـ عامل المدينة ـ إلى الرّبذة ، مكبّلين مغلولين عليهم المسوح ، فخرج المنصور راكباً بغلة شقراء ومعه وزيره الربيع ، فناداه عبد الله بن الحسن : يا أبا جعفر ، ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر. فقال له المنصور : اخسأ. ولم يعرج عليه. ثمّ إنّ المنصور حبسهم بالعراق في مكان يُقال له قصر ابن هبيرة ـ شرقي الكوفة ـ ، وكانوا لا يعرفون الليل من النّهار ، ولا يعرفون أوقات الصّلاة إلاّ بأحزابٍ من القرآن يقرأها بعضهم ، وإذا مات منهم أحد تُرك في مكانه. فلمّا خرج عليه محمَّد بن عبد الله بن الحسن ، أمر بهدم الحبس عليهم ، ولمّا اُدخل عليه محمَّد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ، وكان يُسمى الديباج لجماله ، نظر إليه المنصور ، فقال له : أنت الديباج الأصغر؟ قال نعم. قال : أما والله ، لأقتلنّك قتلةً ما قتلتها أحداً من أهل بيتك. فأمر أنْ تُبنى عليه إسطوانة وهو حي. وكان معهم رجل من ولد عثمان ـ وهو أخو عبد الله بن الحسن لاُمّه ؛ اُمّهما جميعاً فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما‌السلام ـ فلمّا اُدخل على المنصور ، وعليه قميص وإزار رقيق تحت القميص ، جرى بينهما كلام لا يليق ذكره ، فغضب عليه المنصور وأمر بشقِّ ثيابه ، فشُقَّ قميصه عن إزاره فأشف عن عورته ثمّ أمر به فضُرب مئتين وخمسين سوطاً ، وهو في أثناء الضّرب يفتري عليه ويشتمه ، فأصاب سوط منها وجهه ، فقال : ويحك! اكفف عن وجهي ؛ فإنّ له حرمة برسول الله (ص). فأغرى المنصور به الجلاّد ، فقال : الرأس الرأس. فضرب على رأسه نحو من ثلاثين سوطاً ، فأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت ، ثمّ اُخرج كأنّه زنجيٌّ ، قد غيّرت السّياط لونه وأسالت دمه ، فقام مولى له وألقى عليه رداءه وأجلسه إلى جانب أخيه لاُمّه عبد الله بن الحسن ، فعطش ممّا ناله فطلب ماء ، فقال أخوه عبد الله : يا معشر المسلمين ، مَن يسقي ابن رسول الله؟ فتحاماه النّاس ، فما سقوه حتّى جاء

٦١٠

خراساني بماء فسقاه. الله أكبر! أما كان يوجد يوم كربلاء رجل مثل عبد الله بن الحسن فيُنادي : يا معشر المسلمين ، مَن يسقي إمامه وابنَ بنت نبيه ، وابن رسول الله الماء؟! وما كان يوجد رجل مثل هذا الخراساني فتأخذه الغيرة من أبي عبد الله الحسين (ع) ، فيأتي له بالماء؟! بلى والله ، لقد كثر طلب الماء يوم عاشوراء من أهل الكوفة للحسين (ع) وعياله وأطفاله ، فما رقّت قلوبهم. فممّن طلبه منهم برير بن خضير الهمداني ، فقالوا له : قد أكثرت الكلام يا برير ، فوالله ، ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله. وقد طلب منهم الحسين (ع) الماء مراراً عديدة ، وهم يقولون : والله ، لا تذوق الماء حتّى تذوق الموت عطشاً. وآخر مرّة طلب فيها الماء وهو يجود بنفسه ، فقال له قائل : والله ، لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها. فقال له : «أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها؟! لا والله ، بل أردُ على جدِّي رسول الله (ص) ، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مُقتدر ، وأشرب من ماء غيرِ آسن ، وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي».

فعزَّ أنْ تتلظَّى بينَهُمْ عَطشاً

والماءُ يصدرُ عنهُ الوحشُ ريَّانا

٦١١

المجلس السادس والأربعون بعد المأئتين

روى الشّريف المرتضى رضي الله عنه في الغُرر والدُّرر ، قال : قدم على الرشيد رجل من الأنصار يُقال له نفيع ، فحضر باب الرشيد يوماً ومعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، وحضر موسى بن جعفر عليهما‌السلام على حمار له ، فتلقّاه الحاجب بالبشر والإكرام ، وأعظمه مَن كان هناك وعجّل له الإذن ، فقال نفيع لعبد العزيز : مَن هذا الشّيخ؟ قال : أو ما تعرفه؟! قال : لا. قال : هذا شيخ آل أبي طالب ؛ هذا موسى بن جعفر. فقال نفيع : ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم (يعني : بني العبّاس) ، يفعلون هذا برجلٍ يقدر أنْ يُزيلهم عن السّرير ، أما إنْ خرج لأسوأنّه. فقال له عبد العزيز : لا تفعل ؛ فإنّ هؤلاء أهل بيت قلّ ما تعرض لهم أحد في خطاب إلاّ وسموه في الجواب سمةً يبقى عارها عليه مدى الدهر. قال : وخرج موسى بن جعفر (ع) ، فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ، ثم قال له : مَن أنت؟ فقال : «يا هذا ، إنْ كُنتَ تُريد النّسب ، فأنا ابن محمَّد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، وإنْ كُنتَ تُريد البلد ، فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك ـ إنْ كُنتَ منهم ـ الحجَّ إليه ، وإنْ كُنتَ تُريد المفاخرة ، فوالله ، ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفّاءً لهم حتّى قالوا : يا محمَّد ، اخرج إلينا أكفّاءنا من قريش ، ـ وذلك لمّا برز شيبة بن ربيعة ، وأخوه عتبة ، وولده الوليد بن عتبة يوم بدر وطلبوا المُبارة ، فبرز إليهم جماعة من الأنصار ، فقالوا : يا محمَّد ، اخرج إلينا أكفّاءنا من قريش. فبرز إليهم حمزة بن عبد المطّلب ، وعبيدة بن الحارث بن المطّلب ، وعلي بن أبي طالب (ع) ـ وإنْ كُنتَ تُريد الصّيت والاسم ، فنحنُ الذين أمر الله تعالى بالصّلاة علينا في الصّلوات الفرائض في قوله : اللهمّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد. ونحنُ آل محمَّد. خلِّ عن الحمار». فخلّى عنه ويده ترتعد وانصرف بخزي ، فقال له عبد العزيز : ألم أقل لك؟ ثمّ آل الأمر بالرشيد إلى أنْ قبض على

٦١٢

الإمام موسى بن جعفر (ع) وهو قائم يُصلّي عند رأس النّبيِّ (ص) ، فقطع عليه صلاته وأخذه فحبسه ، ثمّ أرسله إلى البصرة فحبسه فيها عند عيسى بن جعفر بن المنصور ، فبقي محبوساً عنده سنة ، ثمّ أخذه منه فحبسه عند الفضل بن الربيع ، ثمّ سلّمه إلى السّندي بن شاهك فحبسه عنده حتّى مضت عليه أربع سنوات وهو محبوس ، ثمّ سمّه الرشيد وهو في المجلس. فلمّا توفِّي في يد السّندي بن شاهك ، حُمل على نعش ونودي : هذا إمام الرّافضة فاعرفوه. فلمّا اُتي به مجلس الشّرطة ، أقام أربعة نفر فنادوا عليه بنداء فظيع : ألا مَن أراد أنْ يرى الخبيث ابن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج. وخرج سُليمان بن المنصور ـ عمّ الرشيد ـ من قصره إلى الشّطِّ ، فسمع الصّياح والضّوضاء ، فقال لغلمانه وولده : ما هذا؟ قالوا : السّندي بن شاهك يُنادي على موسى بن جعفر على نعشه. فقال لغلمانه وولده : يُوشك أنْ يفعل هذا به في الجانب الغربي ، فإذا عبر به فانزلوا وخذوه من أيديهم ، فإنْ مانعوكم فاضربوهم وخرّقوا عليهم سوادهم. فلمّا عبروا به ، نزلوا إليهم وأخذوه من أيديهم ووضعوه في مفرق أربع طرق ، وأقام سُليمان المنادين ينادون : ألا مَن أراد أنْ يرى الطّيب ابن الطّيب موسى بن جعفر فليخرج. وحضر الخلقُ ، وغُسّل وحُنّط بحنوطٍ فاخر ، وكفّنه سُليمان بكفن فيه حبرة استُعملت له بألفين وخمسمئة دينار عليها القرآن كلّه ، واحتفى ومشى في جنازته مُتسلّباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه هناك ، وكتب إلى الرشيد بخبره ، فكتب إليه الرشيد : وصلتك رَحمٌ يا عم ، وأحسن الله جزاءك. واعتذر بأنَّ ما فعله السّندي لم يكن عن أمره. أما كان يوجد يوم كربلاء رجل مثل سُليمان ، فيُصلّي على الحسين (ع) ويُشيّعه ويدفنه حتّى لا يبقى ثلاثة أيّام بلا دفن ، تسفي عليه الرياح وتصهره الشّمس؟!

ما إنْ بقيتَ منَ الهوانِ على الثَّرَى

مُلقىً ثلاثاً في رُبىً ووهادِ

إلاّ لكَي تَقضي عليكَ صلاتَها

زُمرُ الملائكِ فوقَ سبعِ شدادِ

٦١٣

المجلس السابع والأربعون بعد المئتين

روى الصّدوق في العيون بسنده : أنّ المأمون قال : أتدرون مَن علّمني التشيّع؟ فقالوا : لا. قال : علّمنيه الرشيد. قالوا : كيف والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟! قال : كان يقتلهم على المُلك ، ولقد حججتُ معه سنة ، فلمّا ورد المدينة قال لحُجّابه : لا يدخلنَّ عليَّ رجلٌ إلاّ نسب نفسه. فكان يُعطيهم على قدَرِ شرفهم وهجرة آبائهم ، من خمسة آلاف دينار إلى مئتي دينار. فدخل عليه يوماً الربيع ، فقال : على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر. فأقبل الرشيد عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن والقوّاد ، ونحن قيام على رأسه ، فقال : احفظوا عليَّ أنفسكم. ثمّ قال لآذنِهِ : ائذن له ولا ينزل إلاّ على بساطي. فأقبل شيخٌ مُصفرُّ اللون قد نهكته العبادة ، وكلِمَ من السّجود وجهُهُ وأنفُه ، فلمّا رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان راكبه ، فقال الرشيد : لا والله ، إلاّ على بساطي. فمنعه الحُجّاب من الترجّل ، ونظرنا إليه بالإجلال والإعظام ، فما زال يسير على حماره حتّى صار إلى البساط ، والحُجّاب والقوّاد محدقون به ، فنزل فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط ، وقبّل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده فأجلسه معه في صدر المجلس ، وجعل يُحدّثه ويُقبل بوجهه عليه ويسأله عن أحواله ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، ما عليك من العيال؟ قال : «يزيدون على الخمسمئة». قال : أولادك كلّهم؟ قال : «لا ، أكثرهم موالي وحشم ؛ فأمّا الوِلد فلي نيف وثلاثون ، والذّكران منهم كذا والنّسوان كذا». قال : فلِم لا تُزوج النّسوان من بني عمومتهنَّ وأكفائهنّ؟ قال : «اليد تقصر عن ذلك». قال : فما حال الضّيعة؟ قال : «تُعطي في وقت وتمنع في آخر». قال : فهل عليك دَين؟ قال : «نعم». قال : كم؟ قال : «نحو من عشرة آلاف دينار». فقال الرشيد : يابن عم ، أنا اُعطيك من المال ما تُزوّج الذكران والنّسوان ، وتقضي الدَّين وتُعمّر الضّياع. فقال له : «وصلتك رحمٌ يابن عم ، وشكر الله لك هذه النّية الجميلة. والرَّحمُ ماسَّة ، والقرابةُ واشجة ، والنّسب واحد ، والعبّاس عمُّ النّبيِّ (ص) وصنو أبيه ، وعمُّ عليّ بن أبي طالب وصنو أبيه». قال : أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة. ثمّ

٦١٤

قام ، فقام الرشيد لقيامه وقبّل عينيه ووجهه ، ثمّ أقبل عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن ، فقال : يا عبد الله ، ويا محمَّد ، ويا إبراهيم ، امشوا بين يدي عمِّكم وسيّدكم ؛ خذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه وشيِّعوه إلى منزله. فأقبل عليَّ أبو الحسن موسى بن جعفر (ع) سرّاً بيني وبينه ، فبشّرني بالخلافة ، فقال لي : «إذا ملكتَ هذا الأمر ، فأحسنْ إلى وُلدي». ثمّ انصرفنا. وكنتُ أجرأ ولد أبي عليه ، فلمّا خلا المجلس قلتُ : يا أمير المؤمنين ، مَن هذا الرجل الذي قد أعظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ، ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال : هذا إمام النّاس ، وحُجّةُ الله على خلقه ، وخليفتُهُ على عباده. فقلت : أوَ ليست هذه الصّفات كلها لك وفيك؟ فقال : أنا إمام الجماعة في الظّاهر والغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمامٌ بحقّ. والله يا بُني ، إنّه لأحقُّ بمقام رسول الله (ص) منّي ومن الخلق جميعاً. والله ، لو نازعتني في هذا الأمر ، لأخذتُ الذي فيه عيناك ؛ فإن المُلك عقيم. فلمّا أراد الرحيل ، أرسل إليه صرّة مع الفضل فيها مئتا دينار ، وقال : قُل له ، يقول لك أمير المؤمنين : نحن في ضيقة ، وسيأتيك برّنا. فقلت : يا أمير المؤمنين ، تُعطي سائر النّاس خمسة آلاف دينار إلى ما دونها ، وتُعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مئتي دينار ، أخسّ عطيّة أعطيتها أحداً من النّاس! فقال : اسكُتْ لا اُمّ لك ، لو أعطيته ما وعدته لم آمنه أنْ يضرب وجهي غداً بمئة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقرُ هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم. فلمّا نظر إلى ذلك مخارق المُغنِّي اغتاظ ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أكثر أهل المدينة يطلبون منّي شيئاً ، فإنْ لم أقسم فيهم شيئاً لم يتبيّن لهم تفضّل أمير المؤمنين عليّ. فأمر له بعشرة آلاف دينار ، فقال : بناتي اُريد أنْ اُزوّجهنّ. فأمر له بعشرة آلاف دينار ، فقال : لا بدّ لي من غلّة. فأمر بإقطاعه ما غلَّته عشرة آلاف دينار وعجّلها له. فقام مخارق من فوره وقصد موسى بن جعفر (ع) ، وقال له : قد وقفتُ على ما عاملك به هذا ، وقد احتلتُ لك عليه وأخذتُ منه ثلاثين ألف دينار ، وقطاعاً يغلّ عشرة آلاف دينار ، ولا والله يا سيّدي ، ما أحتاج إلى شيء منه وما أخذته منه إلاّ لك. قال : «بارك الله لك في مالك وأحسنَ جزاءك ، ما كنتُ لآخذ منه درهماً واحداً ، وقد قبلت صلتك وبرّك ، فانصرِف راشداً ولا تُراجعني». فقبّل يده وانصرف. أمثل هذا الإمام في علمه وزهده وفضله ، يُنقل من حبس إلى حبس ؛ فتارة في حبس عيسى بن المنصور ، وتارة في حبس الفضل بن الربيع ، وتارة في حبس السّندي بن شاهك حتّى مضت عليه أربع سنوات وهو محبوس ، وهو إمام أهل البيت الطّاهر النّبوي في عصره ، وسيّد بني هاشم ، ووارث علوم جدّه (ص)؟! ولمّا نُقل إلى السّندي بن شاهك ضيّق عليه في الحبس ، ثمّ دسّ إليه الرشيد السّمَّ ، فمضى إلى ربّه مسموماً شهيداً

٦١٥

صابراً مُحتسباً ، كما مضى جدّه الحسين بن علي عليهما‌السلام شهيداً بالسّيف ، قتيلاً ظامياً ، صابراً مُحتسباً ، وفدى دين جدّه بنفسه. فإنّ أهل البيت عليهم‌السلام كما قال زين العابدين (ع) ، لمّا أمر ابن زياد بقتله : «أبالقتل تُهدّدُني؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا من اللهِ الشّهادة؟».

تَتبَّعُوكُمْ ورامُوا محْوَ فضلِكُمُ

وخيَّبَ اللهُ مَنْ في ذلكُمْ طَمَعا

أنَّى وفي الصّلواتِ الخمسِ ذكْركُمُ

لدَى التَّشهدِ للتوحيدِ قدْ شفَعَا

٦١٦

المجلس الثامن والأربعون بعد المئتين

روى المفيد في الإرشاد ، والصّدوق في العيون عن ياسر الخادم : إنّ المأمون كتب إلى الرضا (ع) يستدعيه ويستقدمه إلى خراسان ، فاعتلّ عليه بعلل كثيرة ، فما زال المأمون يكاتبه ويسأله حتّى علم الرضا (ع) أنّه لا يكفّ عنه ، فخرج فلمّا وصل إلى مرو ، عرض عليه المأمون أنْ يتقلّد الخلافة ، فأبى ذلك ، فقال المأمون : فولاية العهد. فأجابه إلى ذلك على شروط ، فكتب الرضا (ع) : «إنّي أدخل في ولاية العهد ، على أنْ لا آمر ولا أنهى ، ولا أقضي ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم». فأجابه المأمون إلى ذلك ، ودعا المأمون القضاة والقوّاد ، والشّاكرية وبني العبّاس إلى ذلك ، فأ ضربوا عليه ، فأخرج أموالاً كثيرة وأعطى القوّاد وأرضاهم ، إلاّ ثلاثة نفر أبوا ذلك فحبسهم. وبويع الرضا (ع) وكتب بذلك إلى البلدان ، وضُربت الدنانير والدراهم باسمه ، وخُطب له على المنابر ، وأنفق المأمون على ذلك أموالاً كثيرة. فلمّا حضر العيد ، بعث المأمون إلى الرضا (ع) يسأله أنْ يركب ويحضر العيد لتطمئنَّ قلوبُ النّاس ، ويعرفوا فضله ، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة ، فبعث إليه الرضا (ع) : «قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشّروط في دخولي في هذا الأمر». فقال المأمون : إنّما اُريد أنْ يرسخ في قلوب النّاس هذا الأمر ؛ فيقرّوا بما فضّلك الله تعالى به. فلمّا ألحّ عليه ، قال : «إنْ أعفيتني من ذلك فهو أحبُّ إلي ، وإنْ لم تعفني خرجتُ كما كان يخرج رسول الله (ص) ، وكما كان يخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)». فقال المأمون : اخرج كما تُحب. وأمر المأمون القوّاد والنّاس أنْ يُبكّروا إلى باب الرضا (ع) ، فعدّ النّاس لأبي الحسن الرضا (ع) في الطّرقات والسّطوح من الرجال والنّساء والصّبيان ، واجتمع القوّاد على باب الرضا (ع) ، فلمّا طلعت الشّمس قام الرضا (ع) فاغتسل وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطن ، وألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه وتشمّر ، ثمّ قال لجميع مواليه : «افعلوا مثلما فعلت». فأخذ بيده عكّازه وخرج ونحن بين يديه ، وهو حافٍ قد شمّر سراويله إلى نصف السّاق

٦١٧

وعليه ثياب مشمّرة ، فلمّا قام ومشينا بين يديه ، رفع رأسه إلى السّماء وكبّر أربع تكبيرات ، فخُيّل إلينا أنّ الهواء والحيطان تجاوبه ، والقوّاد والنّاس على الباب وقد تزيّنوا ولبسوا السّلاح وتهيَّؤوا بأحسن هيئة ، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصّورة حفاة قد تشمّرنا ، وطلع الرضا (ع) وقف وقفة على الباب ، وقال : «الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر على ما رزَقَنا من بهيمة الأنعام ، والحمد لله على ما أبلانا». ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا ، فتزعزعت مرو من البكاء والصّياح ، فقالها ثلاث مرّات ، فسقط القوّاد عن دوابّهم ورموا بخفافهم لمّا نظروا إلى أبي الحسن (ع) ، وصارت مرو ضجّةً واحدةً ، ولم يتمالك النّاس من البكاء والضجّة. وكان أبو الحسن (ع) يمشي ويقف في كلّ عشر خطوات وقفه ، فيكبّر الله أربع مرّات ، فيُخيّل إلينا أنّ السّماء والأرض والحيطان تجاوبه ، فبلغ المأمون ذلك ، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : إنْ بلغ الرضا المُصلّى على هذا السّبيل افتتن به النّاس ، وخفنا كلُّنا على دمائنا ، فالرأي أنْ تسأله أنْ يرجع. فبعث إليه المأمون : قد كلّفناك شططاً وأتعبناك فارجع ، وليصلِّ بالنّاس مَن كان يُصلّي بهم. فدعا بخُفِّه فلبسه ورجع. ودخل دعبل بن علي الخُزاعي على الرضا (ع) بمرو ، فقال له : يابن رسول الله ، إنّي قد قلت فيك قصيدة ، وآليت على نفسي أنْ لا أنشدها أحداً قبلك. فقال (ع) : «هاتها». فأنشده :

مَدارِسُ آياتٍ خَلَت مِن تِلاوَةٍ

وَمَنزِلُ وَحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله :

أَرى فَيئَهُم في غَيرِهِم مُتَقَسَّماً

وَأَيديهُمْ مِن فَيئِهِمْ صَفِراتِ

بكى أبو الحسن الرضا (ع) ، وقال له : «صدقت يا خُزاعي». فلمّا بلغ إلى قوله :

إِذا وُتِروا مَدّوا إِلى واتِريهِمُ

أَكُفّاً عَنِ الأَوتارِ مُنقَبِضاتِ

جعل أبو الحسن (ع) يقلب كفيه ويقول : «أجل والله منقبضات». فلمّا بلغ إلى قوله :

لَقَد خِفتُ في الدُّنيا وَأَيّامِ سَعيِها

وَإِنّي لأَرجو الأَمنَ بَعدَ وَفاتي

قال الرضا (ع) : «آمنك الله يوم الفزع الأكبر». فلمّا انتهى إلى قوله :

٦١٨

وَقَبرٌ بِبَغدادٍ لِنَفسٍ زَكِيَّةٍ

تَضَمَّنَها الرَحمَنُ في الغُرُفاتِ

قال له الرضا (ع) : «أفلا اُلحقُ لك بهذا الموضوع بيتين بهما تمامُ قصيدتك؟». فقال : بلى يابن رسول الله. فقال (ع) :

وَقَبرٌ بِطوسٍ يا لَها مِن مُصيبَةٍ

تُوقَّدُ في الأحشاءِ بالحُرقاتِ

إلى الحشرِ حتّى يبعثَ اللهُ قائماً

يُفرّجُ عنّا الهمَّ والكُرباتِ

فقال دعبل : يابن رسول الله ، هذا القبر الذي بطوس قبر مَن هو؟ فقال الرضا (ع) : «قبري ، ولا تنقضي الأيّام واللّيالي حتّى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري. ألا فَمنْ زارني في غُربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له». وفي هذه القصيدة يقول دعبل رحمه الله :

أَفاطِمُ لَو خِلتِ الحُسَينَ مَجَدَّلاً

وَقَد ماتَ عَطشاناً بِشَطِّ فُراتِ

إِذاً لَلَطَمتِ الخَدَّ فاطِمُ عِندَهُ

وَأَجرَيتِ دَمعَ العَينِ في الوَجَناتِ

أَفاطِمُ قومي ياِبنَةَ الخَيرِ وَاِندُبي

نُجومَ سَماَواتٍ بِأَرضِ فَلاةِ

قُبورٌ بِجَنبِ النَّهرِ مِن أَرضِ كَربَلا

مُعَرَّسُهُم فيها بِشَطِّ فُراتِ

تُوُفّوا عِطاشاً بِالفُراتِ فَلَيتَني

تُوفِّيتُ فيهِم قَبلَ حينِ وَفاتي

٦١٩

المجلس التاسع والأربعون بعد المئتين

روى الصّدوق في عيون أخبار الرضا (ع) : أنّ المأمون لمّا جعل علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ولي عهده ، قصده الشّعراء ، ووصلهم بأموال جمّة حين مدحوا الرضا (ع) وصوّبوا رأي المأمون فيه دون أبي نَوّاس ؛ فإنّه لم يقصده ولم يمدحه ، فدخل أبو نَوّاس على المأمون ، فقال له : يا أبا نَوّاس ، قد علمت مكان علي بن موسى الرضا منّي وما أكرمته به ، فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك؟! فأنشأ يقول :

قيلَ ليْ أنتَ أوحدُ النَّاسِ طُرَّاً

في فنونٍ من الكلامِ النَّبيهِ

لكَ من جوهرِ الكلامِ بديعٌ

يُثمرُ الدُّرُ في يدَي مُجتنيِهِ

فعلامَ تركتَ مدحَ ابنِ موسَى

والخصالَ الّتي تجمَّعنَ فيِهِ

قلتُ لا أهتدِي لمدحِ إمامٍ

كان جبريلُ خادماً لأبيهِ

فقال له المأمون : أحسنت. ووصله من المال بمثل ما وصل به كافّة الشّعراء ، وفضلّه عليهم. وفي عيون أخبار الرضا (ع) أيضاً ، قال : نظر أبو نَوّاس إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) ذات يوم ، وقد خرج من عند المأمون على بغلة له ، فدنا منه أبو نَوّاس فسلّم عليه ، وقال : يابن رسول الله ، قد قلتُ فيك أبياتاً فاُحبّ أنْ تسمعها منّي. قال : «هات». فأنشأ يقول :

مطهَّرونَ نَقِيَّاتٌ ثيابُهُمْ

تجري الصَّلاةُ عليهِمْ أَينما ذُكِروا

مَن لَم يَكُنْ علويّاً حينَ تَنسُبُهُ

فمالَهُ في قديمِ الدَّهرِ مُفتخَرُ

فاللهُ لمّا بدا خلقاً فأتْقَنهُ

صفاكُمُ واصطفاكُمْ أيُّها البشرُ

فأنتُمُ المَلأُ الأعلى وعندَكُمُ

علمُ الكتابِ وما جاءتْ بهِ السُّوَرُ

٦٢٠