المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس السّابع والعشرون

لمّا مات معاوية وبلغ أهل البصرة مكاتبة أهل الكوفة للحسين (ع) ، اجتمعت شيعة البصرة في دار مارية بنت منقذ العبدي ـ وكانت تتشيع ـ فتذاكروا أمر الاُمّة وما آل إليه الأمر ، فخرج بعضهم لنصرة الحسين (ع) ، وكاتبه بعضهم يطلب قدومه. قال السيّد ابن طاووس عليه الرحمة في كتاب الملهوف : إنّ الحسين (ع) كتب إلى جماعة من أهل البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنّى أبا رزين ، يدعوهم إلى نصرته ولزوم طاعته ، منهم : يزيد بن مسعود النّهشلي ، والمنذر بن الجارود العبدي ، والأحنف بن قيس وغيرهم ؛ فأمّا الأحنف فكتب إلى الحسين (ع) يصبّره ويرجّيه ، وقال في كتابه : أمّا بعد ، فاستقم كما اُمرت ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون ؛ وأمّا المنذر فأتى بالرسول والكتاب إلى ابن زياد في الليلة التي كان ابن زياد يريد السفر صبيحتها إلى الكوفة ؛ لأنّ المنذر خاف أنْ يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله ، وكان ابن زياد متزوّجاً ابنته ، فصلب الرسول. وأمّا يزيد بن مسعود فجمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد وبني عامر ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم؟ قالوا : بخ بخ ، أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً وتقدّمت فيه فرطاً. قال : فإنّي قد جمعتكم لأمر اُريد أنْ اُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. قالوا : إنّا والله نمنحك النّصيحة ونجهد لك الرأي فقُلْ نسمع. فقال : إنّ معاوية قد مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً أظنّ أنْ قد أحكمه ، وهيهات الذي أراد ؛ اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم بغير رضاً منهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمه. فاُقسم بالله قسماً مبروراً ، لَجهاده على الدّين أفضل من جهاد المشركين. وهذا الحسين بن علي ، ابن بنت رسول الله (ص) ذو الشّرف الأصيل والرأى الأثيل ، له فضل لا يوصف وعلم

٦١

لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه وقِدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا (١) في وهد الباطل ، فقد كان صخر بن قيس ـ وهو الأحنف ـ انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (ص) ونصرته. والله ، لا يقصّر أحد عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده والقلّة في عشيرته ، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها ، وأدرعت لها بدرعها. مَن لَمْ يُقتَل يمت ، ومَن يهرب لَمْ يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب. فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا : أبا خالد ، نحن نُبل كنانتك وفرسان عشيرتك ، إنْ رميت بنا أصبت ، وإنْ غزوت بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرة إلاّ خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ؛ ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا ، إذا شئت فقم. وتكلّمت بنو سعد بن زيد فقالوا : أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا. وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إنْ غضبت ولا نقطن إنْ ظعنت والأمر إليك ، فادعنا نجبك ومُرنا نطعك والأمر لك إذا شئت. فالتفت إلى بني سعد وقال : والله يا بني سعد ، لئن فعلتموها لا رفع الله السّيف عنكم أبداً ولا زال سيفكم فيكم. ثم كتب إلى الحسين (ع) مع الحجّاج بن بدر السعدي ـ وكان متهيّئاً للمسير إلى الحسين (ع) بعد ما سار إليه جماعة من العبديين من أهل البصرة ـ : بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد ، فقد وصل إليّ كتابك ، وفهمتُ ما ندبتني له ودعوتني إليه من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لم يخلُ الأرض من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وأنتم فرعها. فاقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلتُ لك رقاب بني سعد وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها فلمع. فلمّا قرأ الحسين (ع) الكتاب ، قال : «ما لك ، آمنك الله يوم الخوف وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر». فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (ع) ، بلغه قتله قبل أنْ يسير ، فجزع من انقطاعه عنه ، وبقي الحجّاج معه حتّى قُتل بين يديه.

أسفاً وهلْ يُجدي الكَئيبَ تأسّفٌ

إنْ لمْ أكُنْ يومَ الطّفوفِ لكَ الفِدا

______________________

(١) التسكّع : التمادي في الباطل.

٦٢

المجلس الثامن والعشرون

لمّا كتب أهل الكوفة إلى الحسين (ع) بالقدوم عليهم وألحّوا عليه ، أجابهم بـ : «إنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». وإنّه إنْ كتب إليه باجتماع رأيهم على مثل ما كتبوا به ، قدم إليهم عن قريب. ودعا بمسلم فأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي ورجلين آخرين ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستقيمين ، عجّل إليه بذلك. فأتى مسلم المدينة فصلّى في مسجد النبي (ص) ، وودّع مَن أحبّ من أهله ، واستأجر دليلين فسارا به على غير الطريق ، فضلّ الدليلان وأصابهما عطش شديد فماتا بعد أنْ أشارا له إلى الطريق. وانتهى مسلم إلى الماء في موضع يُعرف بالمضيق ، وكتب إلى الحسين (ع) : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت من المدينة مع دليلين لي فجازا عن الطريق فضلاّ واشتدّ عليهما العطش فلم يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبت ، وقد تطيّرت من توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني وبعثت غيري ، والسّلام. فأجابه الحسين (ع) : «أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حملك على الكتابة إليّ في الاستعفاء إلاّ الجبن ، فامض لوجهك الذي وجّهتك فيه ، والسّلام». فقال مسلم : أمّا هذا (يعني الجُبن) فلست أتخوّفه على نفسي. ثم أقبل حتّى دخل الكوفة فنزل في دار المختار ، وأقبل النّاس يختلفون إليه ، فكلمّا اجتمع منهم جماعة ، قرأ عليهم كتاب الحسين (ع) وهم يبكون حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ، فكتب إلى الحسين (ع) يخبره بذلك ويأمره بالقدوم. وبلغ ذلك النّعمان بن بشير الأنصاري ـ وكان والياً على الكوفة ـ فصعد المنبر وخطب النّاس وحذّرهم ، فقال له عبد الله بن مسلم الحضرمي ـ حليف بني اُميّة ـ : إنّه لا يصلح ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغشم ، وإنّ هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين. فقال : أنْ أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليّ من أنْ أكون من الأعزّين في معصية الله. فكتب عبد الله بن مسلم هذا وعمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقّاص إلى يزيد يخبرونه

٦٣

بأمر مسلم ، ويشيرون عليه بعزل النّعمان وتولية غيره. فدعا يزيد سرجون الرومي مولى معاوية ـ وكان مستولياً على معاوية في حياته ـ فاستشاره يزيد ، فقال : لو نشر لك معاوية ما كنت آخذاً برأيه؟ قال : بلى. فأخرج عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية. فدعا يزيد مسلم بن عمرو الباهلي وأرسله إلى عبيد الله بن زياد ـ وكان والياً على البصرة ـ فضمّ إليه البصرة والكوفة ، وأمره أنْ يسير إلى الكوفة. فتجهّز عبيد الله من وقته وسار إلى الكوفة من الغد ومعه مسلم بن عمرو الباهلي رسول يزيد ، والحصين بن تميم التميمي صاحب شرطته ، وشريك بن الحارث الأعور الهمداني وهو من الشيعة ، فتمارض شريك رجاء أنْ يتأخّر ابن زياد في السّير فيدخل الحسين (ع) الكوفة قبله ، فتركه ابن زياد في الطريق وتقدّم فدخل الكوفة ليلاً. وكان النّاس قد بلغهم إقبال الحسين (ع) فظنّوا حين رأوا عبيد الله أنّه الحسين (ع) ، فكلمّا مرّ على جماعة سلّموا عليه وقالوا : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم. فرأى من تباشرهم بالحسين (ع) ما ساءه ، فقال بعض مَن معه لمّا كثروا : تأخروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد. وأصبح ابن زياد فنادى الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس ، فخرج إليهم وخطبهم ووعد المحسن بالإحسان وتوعّد المسيء بأشدّ العقاب ، فبلغ ذلك مسلم بن عقيل فانتقل من دار المختار إلى دار هاني بن عروة ، وجعلت أصحابه تختلف إليه على تستّر واستخفاء. فدعا ابن زياد مولى له اسمه معقل وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأوصاه أنْ يلتمس مسلم بن عقيل وأصحابه ويظهر لهم أنّه منهم ويدفع إليهم المال ، فجاء معقل إلى مسلم بن عوسجة وهو يصلّي في المسجد ، فقال له : أنا رجل من أهل الشام أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت ، وتباكى له ، وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أحبّ دفعها للذي يبايع لابن بنت رسول الله (ص). فاغترّ مسلم بن عوسجة بذلك وأدخله على مسلم بن عقيل بعد أنْ أخذ عليه المواثيق المغلّظة ، فجعل معقل يختلف إليهم ويخبر ابن زياد بما يريده. وبلغ الذين بايعوا مسلم بن عقيل خمسة وعشرين ألف رجل ، فعزم على الخروج ، فقال هاني : لا تعجل.

هُمْ بايَعُوكَ وخانُوا العهْدَ وانخَذلُوا

منْ بعدِ ما أوثَقوا عَهداً وأيمانَا

ما يومُكُمْ منْ بني كوفانَ إذْ نَكثُوا

بواحدٍ لا سقَى الرحمنُ كُوفانَا

٦٤

المجلس التاسع والعشرون

لمّا جاء ابن زياد إلى الكوفة وتهدد النّاس وتوعّدهم ، خاف هاني على نفسه من ابن زياد فانقطع عنه وتمارض ، فسأل عنه ابن زياد جلساءه ، فقيل : إنّه مريض. فقال : لو علمت بمرضه لعدته. ودعا بجماعة فقال لهم : ما يمنع هاني من اتياننا؟ قالوا : ما ندري ، وقد قيل إنّه مريض. قال : بلغني أنّه قد برئ ، فألقوه ومروه أنْ لا يدع ما عليه من حقّنا. فأتوا إلى هاني وأخبروه أنّ ابن زياد قد سأل عنه ، وأقسموا عليه أنْ يذهب معهم. فلبس هاني ثيابه وركب بغلته وأقبل معهم ، فلمّا رآه ابن زياد ، قال : أتتك بخائن رجلاه تسعى. ثمّ قال : إيه يا هاني ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له الجموع والسّلاح في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ. فأنكر هاني ذلك ، فدعا ابن زياد معقلاً ، فلمّا رآه هاني أسقط في يده ساعة (أي : بُهت وتحيّر) ثمّ راجعته نفسه ، وجعل يعتذر إلى ابن زياد بأنّه ما دعا مسلماً إلى داره لكن جاءه يطلب منه النّزول فاستحيا من ردّه ، وقال : إنْ شئت أنْ أنطلق إليه فآمره أنْ يخرج من داري. فقال له ابن زياد : والله ، لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به. قال : لا والله ، لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله؟! فلمّا كثر الكلام بينهما ، قام مسلم بن عمرو الباهلي فخلا بهاني وجعل يناشده أنْ يدفع مسلم بن عقيل إلى ابن زياد ويقول : إنّه ابن عمّ القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، وليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ؛ إنّما تدفعه إلى السّلطان. فقال هاني : إنّ عليّ في ذلك الخزي والعار أنْ أدفع جاري وضيفي وأنا حيّ صحيح شديد السّاعدين كثير الأعوان. والله ، لو لم يكن لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه. فسمع ابن زياد ذلك فقال : ادنوه مني. فأدنوه منه ، فقال : والله ، لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك. فقال هاني : إذاً والله ، تكثر البارقة (يعني السّيوف) حول دارك. فقال ابن زياد : وآ لهفاه عليك! أبالبارقة تخوفني؟! ـ وهاني يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه ـ ثمّ قال : ادنوه منّي. فاُدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتّى كسر أنفه وسالت الدماء على ثيابه ووجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته حتّى

٦٥

كسر القضيب ، وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي ، وجاذبه الشرطي ومنعه ، فقال عبيد الله : أحروري سائر اليوم (١)؟! قد حلّ دمك ، جرّوه. فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وجعلوا عليه حرساً. وبلغ الخبر إلى مذحج عشيرة هاني ، فأقبلوا مع ابن الحجّاج حتّى أحاطوا بالقصر ، فأمر ابن زياد شريحاً القاضي أنْ يدخل على هاني فينظر إليه ثمّ يخبر عشيرته بأنّه حيّ ، ففعل ذلك ، فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه : أمّا إذا لم يُقتل فالحمد لله ، ثمّ انصرفوا.

إذا ما سَقَى اللهُ البلادَ فلا سَقَى

معاهدَ كوفانٍ بنوِّ المرازمِ

أتتْ كتبهُمْ في طيِّهنَّ كتائبٌ

وما رُقِّمتْ إلاّ بسُمِّ الأراقمِ

______________________

(١) الحروري : الخارجي ؛ لأنّ الخوارج اجتمعوا في أول أمرهم في موضع يقال له : حروراء ، فسمّوا الحروريّة أنت تفعل فعل الخوارج في هذا اليوم؟!

٦٦

المجلس الثلاثون

لما بلغ مسلم بن عقيل ما فعله عبيد الله بن زياد بهاني بن عروة ، نادى في أصحابه ـ وكانوا أربعة آلاف رجل ـ فاجتمعوا عليه ، فخرج بهم لحرب ابن زياد ، وتداعى النّاس واجتمعوا حتّى امتلأ المسجد والسّوق ، ودخل عبيد الله القصر وأغلق أبوابه فضاق به أمره ، وأقام النّاس مع مسلم يكثرون حتّى المساء وأمرهم شديد. وبعث عبيد الله إلى أشراف النّاس فجمعهم عنده ، ثمّ أشرفوا على النّاس يُرغّبونهم ويُرهبونهم ويُخوّفونهم بأجناد الشام ، فأخذوا يتفرّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف ، النّاس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول : غداً يأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف. فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد ، فخرج متوجّهاً إلى أبواب كندة فلم يبلغها إلاّ ومعه عشرة ، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه أحد. فمضى على وجهه لا يدري أين يذهب حتّى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ، فسلّم عليها فردّت (ع) ، وطلب منها ماء فسقته وجلس ، ودخلت ثمّ خرجت فقالت : يا عبد الله ، ألم تشرب؟ قال : بلى. قالت : فاذهب إلى أهلك. فسكت ، ثمّ أعادت القول فسكت ، ثمّ أعادت القول فسكت ، فقالت في الثالثة : سبحان الله! يا عبد الله ، قم عافاك الله إلى أهلك فإنّه لا يصحّ لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك. فقام وقال : يا أمة الله ، ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر معروف ولعلّي مكافيك بعد هذا اليوم؟ قالت : وما ذاك؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني. قالت : أنت مسلم؟! قال : نعم. قالت : ادخل. فدخل إلى بيت في دارها غير الذي تكون فيه ، وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَّ. وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال : والله ، إنّه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ، إنّ لك لشأناً! قالت له : يا بُني ، إلْه عن هذا. فقال : والله لتخبريني. قالت له : أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء. فألحّ عليها ، فقالت : يا بُني ، لا

٦٧

تخبرنّ أحداً من النّاس بشيء ممّا اُخبرك به. قال : نعم. فأخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته ، فاضطجع وسكت ، فلمّا أصبح غدا إلى عبد الرحمن بن محمّد ابن الأشعث فأخبره ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه ـ وهو عند ابن زياد ـ فسارّه ، فعرف ابن زياد سراره فقال : قم فأتي به السّاعة. وبعث معه عبيد الله بن العبّاس السّلمي في سبعين رجلاً من قيس حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلّما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنّه قد اُتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ؛ فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السّيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثنّاه باُخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه. فلمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطناب القصب ثمّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلمّا رأى ذلك خرج مصلتا سيفه في السكّة ، فقال محمّد بن الأشعث : لك الأمان ، لا تقتل نفسك. فقال مسلم : وأيّ أمان للغدرة؟! ثمّ أقبل يقاتلهم وهو يرتجز ويقول :

أقسمت لا اُقتلُ إلاّ حُرّا

وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

أكرهُ أنْ اُخدعَ أو اُغرّا

أو أخلطَ الباردَ سخناً مُرّا

ردَّ شُعاعُ النَّفسِ فاسْتَقرّا

كلُّ امرئٍ يوماً يُلاقي شَرّا

أضربُكُمْ ولا أخافُ ضَرّا

فنادوه : إنّك لا تُكذب ولا تُغر. فلمْ يلتفت إلى ذلك إلى أنْ قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً ـ على ما رواه ابن شهر آشوب ـ ، وتكاثروا عليه بعد أنْ اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً. وفي رواية المفيد : أنّه أخذ بالأمان بعد أنْ عجز عن القتال. فاُتي ببغلة فحُمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ثمّ قال : هذا أول الغدر. فقال له محمّد بن الأشعث : أرجو أنْ لا يكون عليك بأس. فقال : وما هو إلاّ الرجاء ، أين أمانكم؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى ، فقال له عبيد الله بن العبّاس السلمي : إنّ مَن يطلب مثل الذي تطلب ، إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ. فقال : والله ، ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي ، وإنْ كنت لم اُحبّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكنّي أبكي لأهلي المقبلين ؛ أبكي الحسين وآل الحسين ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال : يا عبد الله ، إنّي أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير؟ تستطيع أنْ تبعث من عندك رجلاً على لساني أنْ يبلّغ حسيناً ، فإنّي لا أراه إلاّ وقد

٦٨

خرج اليوم أو هو خارج غداً وأهل بيته ، ويقول له أنّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم ، لا يرى أنّه يمسي حتّى يُقتل ، وهو يقول لك ارجع ـ فداك أبي واُمّي ـ بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة ؛ فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل. إنّ أهل الكوفة قد كذّبوك وليس لمكذوب رأي؟ فقال ابن الأشعث : والله ، لأفعلن ولأعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك.

لاقاكَ جمعُهُمُ في الدّارِ مُنفرداً

كما تُلاقي بُغاثُ الطَّيرِ عُقبانَا

فَعُدتَ تنثرُ بالهنديِّ هامَهُمُ

والرّمحُ ينظمهُمْ مثنىً ووحدانَا

حتّى غدوتَ أسيراً في أكفِهمُ

وكان منْ نُوَبِ الأيّامِ ما كانَا

٦٩

المجلس الحادي والثلاثون

لمّا أسّر محمّد بن الأشعث مسلم بن عقيل ، أقبل به حتّى انتهى إلى باب قصر الأمارة وقد اشتد بمسلم العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن فيهم عمرو بن حريث ومسلم بن عمرو الباهلي ، وإذا قلّة ماء باردة موضوعة على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها؟ لا والله ، لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثكل! ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. ثم جلس فتساند إلى الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبّ فيه ماء ، فقال له : اشرب. فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ولا يقدر أنْ يشرب ، ففعل ذلك مرّة أو مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب ، سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.

كأنّما نفسُك اختارتْ لهَا عَطشاً

لمّا دَرتْ أنْ سيقضي السّبطُ عَطشانَا

فلمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عنْ ظمأٍ

منْ ضربةٍ ساقَها بكرُ بنُ حمرانَا

وخرج رسول ابن زياد وأمر بإدخاله إليه ، فلمّا دخل لمْ يسلّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : لِم لا تسلّم على الأمير ? قال : اسكت ويحك! والله ، ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد : لا عليك ، سلّمت أم لمْ تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم : إنْ قتلتني ، فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خيرٌ منّي. فقال له ابن زياد : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال مسلم : أما إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لمْ يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة ، وخبث السّريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك. فقال ابن زياد : يا عاق يا شاق ، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة. فقال مسلم : كذبت إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك

٧٠

زياد بن عبيد ، عبد بني علاّج من ثقيف ، وأنا أرجو أنْ يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته. فقال له ابن زياد : منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله. فقال له مسلم : ومَن أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله؟! فقال له ابن زياد : أهله أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً؟ فقال له مسلم : والله ، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين. وقال له ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت النّاس وهم جميع أمرهم ملتئم ، فشتتّ أمرهم بينهم وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض. قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم على النّاس بغير رضىً منهم ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهل ذلك. فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق؟ لِم لمْ تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال مسلم : أنا أشرب الخمر؟! أما والله ، إنّ الله ليعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق ، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي ، وأولى مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً فيقتل النّفس التي حرّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرّم الله على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأنْ لمْ يصنع شيئاً. فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً وعقيلاً والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وأخذ مسلم لا يكلّمه. وفي رواية : أنه قال له : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدو الله. ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ، ثمّ اتبعوه جسده. ثمّ قال : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسّيف؟ فدعي بكر بن حمران فقال له : اصعد فلتكن أنت الذي تضرب عنقه. فصعد بمسلم وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله (ص) ويقول : اللهمَّ ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا. وأشرفوا به على موضع من القصر فضُربت عنقه واُتبع رأسه جثّته.

يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبّ ثرَى

ضريحِكَ المُزنُ هطّالاً وهتّانا

نصرتَ سبطَ رسولِ اللهِ مُجتَهداً

وذقْتَ في نصرِهِ للضُّرِّ ألوانا

ورامَ تقريعَكَ الرّجسُ الدّعيُّ بما

قدْ كان لفَّقهُ زُوراً وبُهتانا

ألقمتَهُ بجوابٍ قاطعٍ حَجراً

وللجهولِ بهِ أوضحتَ بُرهانا

٧١

المجلس الثاني والثلاثون

لمّا قُتل ابن عقيل ، قام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلّمه في هاني بن عروة ـ وكان محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة هما اللذان أتيا بهاني إلى ابن زياد وقالا له : أنّه قد ذكرك ، وأقسما عليه أنْ يركب معهما ، ولمْ يكن أسماء يعلم بشيء ممّا كان ، وكان ابن الأشعث عالماً به ـ فقال ابن الأشعث لابن زياد : إنّك قد عرفت منزلة هاني في المصر وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أنّي وصاحبي أتينا به إليك ، وأنشدك الله لما وهبته لي ، فإنّي أكره عداوة المصر وأهله. فوعده أنْ يفعل ، ثمّ بدا له وأمر بهاني في الحال فقال : اخرجوه إلى السّوق فاضربوا عنقه. فاُتي به إلى مكان من السّوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فجعل يقول : وآ مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم. يا مذحجاه! أين مذحج؟ فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره ، جذب يده فنزعها من الكتف ثمّ قال : أما من عصا أو سكّين أو حجارة أو عظم يحاجز بها رجل عن نفسه؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثمّ قيل له : امدد عنقك. فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي. فضربه مولى لعبيد الله اسمه رشيد ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هاني : إلى الله المعاد ، اللهمَّ إلى رحمتك ورضوانك. ثمّ ضربه اُخرى فقتله. وأمر ابن زياد بجثّتي مسلم وهاني فصلبتا في الكناسة (١) وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية. قال سبط ابن الجوزي : كان رأس مسلم أول رأس حمل من رؤوس بني هاشم ، وجثّته أول جثّة صُلبت.

فإنْ كنتِ ما تدرينَ ما الموتُ فانظُري

إلى هانئٍ في السّوق وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قدْ هشَّمَ السّيفُ وجهَهُ

وآخرَ يَهوي منْ طمارِ قتيلِ

أصابهُما فرخُ البغيِّ فأصبحَا

أحاديثَ مَن يسري بكلِّ سبيلِ

______________________

(١) موضع بالكوفة ، يظهر أنّه كان محلّ اجتماع النّاس. ـ المؤلّف ـ

٧٢

تَرَي جسداً قدْ غيّر الموتُ لونَهُ

ونضحَ دمٍ قدْ سال كلَّ مسيلِ

فتىً كان أحْيا منْ فتاةٍ حَييَّةٍ

وأقطعَ من ذي شَفرتينِ صقيلِ

٧٣

المجلس الثالث والثلاثون

لمّا قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة رضوان الله عليهما ، أمر ابن زياد كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد ما كان من أمر مسلم وهاني ، فكتب الكاتب فأطال ـ وكان أول مَن أطال في الكتب ـ فلمّا نظر فيه عبيد الله ، كرهه وقال : ما هذا التطويل؟ وما هذا الفضول؟ اكتب : أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين حقّه وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما المراصد والعيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى أخرجتهما وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما وضربت أعناقهما ، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الوداعي والزبير بن الأروح التميمي وهما من أهل السّمع والطاعة والنّصيحة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحب من أمرهما ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وورعاً ، والسّلام. فكتب إليه يزيد : أمّا بعد ، فإنّك لمْ تعد إنْ كنت كما اُحب ، عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، وقد أغنيت وكفيت ، وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك ، وقد دعوت رسولَيك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت فاستوص بهما خيراً ، وأنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق ، فضع المناظر والمسالح واحترس ، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة ، واكتب إليّ فيما يحدث من خير إنْ شاء الله. ولمّا بلغ الحسين (ع) مقتل مسلم وهاني ، قال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما» ، يردّد ذلك مراراً. ولقيه الفرزدق الشاعر فسلّم عليه وقال : يابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟! فاستعبر الحسين (ع) ثمّ قال : «رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا» ، ثمّ أنشأ يقول :

فإنْ تكُنْ الدُّنيا تُعدُّ نفيسةً

فإنّ ثوابَ اللهِ أعلى وأنبلُ

٧٤

وإنْ تكُنْ الأبدانُ للموتِ اُنشئتْ

فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ أفضلُ

وإنْ تكُنْ الأرزاقُ قِسْماً مُقدّراً

فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ

وإنْ تكُنْ الأموالُ للتّركِ جَمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

٧٥

المجلس الرابع والثلاثون

لمّا عزم الحسين (ع) على الخروج من مكّة إلى العراق ، قام خطيباً في أصحابه فقال : «الحمدُ لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطَّ الموتُ على وُلد آدمَ مَخَطَّ القَلادةِ على جيد الفتاةِ ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياقُ يعقوبَ إلى يوسفَ ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقطّعها عَسْلانُ (١) الفلوات بين النّواويس وكربلاء ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً ، لا مَحيصَ عن يومٍ خُطّ بالقَلَمْ ، رِضَى اللهُ رضانا أهلَ البيتِ ، نصبرُ على بلائِهِ ويُوفّينا أجورَ الصّابرين ، لنْ تَشُذَّ عن رسول اللهِ لَحمتُهُ ، بل هي مجموعةٌ لهُ في حظيرةِ القُدْسِ ، تُقرُّ بِهمْ عينُه ويُنجزُ بهم وعدَه. مَنْ كان باذلاً فينا مُهجَتَه ، ومُوَطِّناً على لقاءِ اللهِ نفسَه فليرحل معنا ، فإنّني راحلٌ مُصبحاً إنْشاءَ اللهُ تعالى». ثمّ ارتحل. وألحقه عبد الله بن جعفر بابنيه عون ومحمّد ، وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه : أمّا بعد ، فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإنْ هلكت اليوم اُطفئ نور الأرض ، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير فإنّي في أثر كتابي ، والسّلام. وصار عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أنْ يكتب للحسين (ع) أماناً ويمنّيه البِر والصلة ، فكتب له وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر ـ بعد نفوذ ابنيه ـ وجهدا به في الرجوع ، فقال (ع) : «إنّي رأيت رسول الله (ص) في المنام وأمرني بما أنا ماض له». فقالا له : فما تلك الرؤيا؟ فقال (ع) : «ما حدّثت بها أحداً حتّى ألقى ربّي عزّ وجلّ» ،

______________________

(١) في إبصار العين : عسلان ، بضمّ العين وسكون السين : جمع عاسل ، وهو المهتزّ المضطرب. ويُقال للرمح والذئب ، والمراد الثاني اهـ. أقول : لم يذكر أحد من أهل اللغة أنّ عاسلاً يجمع على عسلان ، والظاهر أنّ عسلان بالتحريك ، مصدر عسل الذئب إذا اضطرب في عدوه وهزّ رأسه ؛ ونسبة التقطيع إلى العسلان مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب على حذف المضاف : أي يقطعها عسلان ذئاب الفلوات. ـ المؤلّف ـ

٧٦

فلمّا آيس منه عبد الله بن جعفر ، أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ورجع هو إلى مكّة. قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «خرجنا مع أبي ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريّا». وقال يوماً : «من هوان الدّنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني اسرائيل».

ركبُوا إلى العزِّ المنُوْ

نَ وجانَبُوا عيشَ الذَّليلِ

وردُوا الوغَى فقضَوا وليْس

تُعاب شمسٌ بالاُفولِ

٧٧

المجلس الخامس والثلاثون

لمّا بلغ الحسين (ع) إلى الحاجر (١) من بطن الرّمة (٢) ، كتب كتاباً إلى جماعة من أهل الكوفة ، منهم : سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيّب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد وغيرهم ، وأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي ـ وذلك قبل أنْ يعلم بقتل مسلم ـ يقول فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت الله أنْ يحسن لنا الصّنيع وأنْ يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التّروية ، فإذا قدم عليكم رسولي ، فانكمشوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه إنْ شاء الله تعالى ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته». وكان مسلم بن عقيل قد كتب إليه قبل أنْ يُقتل بسبع وعشرين ليلة. فأقبل قيس بكتاب الحسين (ع) إلى الكوفة ، وكان ابن زياد لمّا بلغه مسير الحسين (ع) من مكّة إلى الكوفة ، بعث الحُصين بن تميم صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ، فلمّا انتهى قيس إلى القادسيّة ، اعترضه الحُصين بن تميم ليفتّشه فأخرج قيس الكتاب وخرّقه ، فحمله الحُصين إلى ابن زياد فلمّا مثُل بين يديه ، قال له : مَن أنت؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسين عليهما‌السلام. قال : فلماذا خرّقت الكتاب؟ قال : لئلاّ تعلم ما فيه. قال : وممَّن الكتاب ، وإلى مَن؟ قال : من الحسين (ع) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف اسماءهم. فغضب ابن زياد وقال : والله ، لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاّ قطّعتك إرباً

______________________

(١) بحاء مهملة وجيم وراء مهملة : اسم مكان بطريق الحاج العراقي.

(٢) الرُمّة ، بضمّ الراء المهملة وتشديد الميم ، وقد تُخفف : قاع عظيم بنجد. ـ المؤلّف ـ

٧٨

إرباً. فقال قيس : أمّا القوم فلا اُخبرك بأسمائهم ، وأمّا السبّ فأفعل. فصعد قيس ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي (ص) ، وأكثر من الترحّم على عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام ، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ولعن عتاة بني اُميّة ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله (ص) ، وأنا رسوله إليكم وقد خلّفته بالحاجر فأجيبوه. فأمر به ابن زياد فرُمي من أعلى القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عُمير اللخمي فذبحه ، فعيب عليه ، فقال : أردت أنْ اُريحه. ويقال : أنّ عبد الملك هذا كان قاضي الكوفة وفقيهها ، وما ينفعه فقهه مع شنيع فعله! فبلغ الحسين (ع) قتله ، فاسترجع واستعبر ولمْ يملك دمعته ثمّ قرأ : (فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً). ثمّ قال (ع) : «جعل الله له الجنّة ثوابا ً. اللهمَّ ، اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍ من رحمتك ورغائب مدخور ثوابك ، إنّك على كلّ شيء قدير».

يَستنْجعُون الرَّدى شوقاً لغايتِهِ

كأنّما الضَّربُ في أفواهها الضَّربُ

واستأثَرُوا بالرَّدى من دونِ سيِّدهمْ

قصداً وما كُلّ إيثارٍ به الأربُ

٧٩

المجلس السّادس والثلاثون

لمّا سار الحسين (ع) من الحاجر ، انتهى إلى ماء من مياه العرب ، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به ، فلمّا رأى الحسين (ع) ، قام إليه فقال : بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله ، ما أقدمك؟ واحتمله فأنزله ، فقال له الحسين (ع) : «كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم». فقال له عبد الله : اُذكّرك الله يابن رسول الله وحرمة الإسلام أنْ تنتهك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب. فوالله ، لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً. والله ، إنّها لحرمة الإسلام تنتهك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني اُميّة.

وكان زهير بن القَين البجلي قد حجّ في تلك السّنة من الكوفة ـ وكان عثمانياً ـ فلمّا رجع من الحجّ ، جمعه الطريق مع الحسين (ع). فحدّث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : كنّا مع زهير بن القَين حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسين (ع) ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أنْ نسير معه في مكان واحد أو ننزل معه في منزل واحد ، فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القَين ، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير. فنزلنا يوماً في منزل لم نجد بدّاً من أنْ ننزل معه فيه ، فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر ، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (ع) حتّى سلّم ثمّ دخل ، فقال : يا زهير ، إنّ أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده كأنّ على رؤوسنا الطير ؛ كراهيّة أنْ يذهب زهير إلى الحسين (ع) ، فقالت له امرأته ـ وهي دلهم بنت عمرو ـ : سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت. فأتاه زهير على كره ، فما لبث أنْ جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله فحوّل إلى الحسين (ع) ، ثمّ قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإنّي

٨٠