السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨
المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئتين
وفد على يزيد بن معاوية وفدٌ من أهل المدينة ، فلمّا رجعوا قالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطّنابير ، وتعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب. فخلعوه وأخرجوا عامله على المدينة ، وحصروا بني اُميّة في دار مروان وكانوا ألف رجل ، فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به ، ثمّ أخرجوهم من المدينة بعدما أخذوا علهيم العهود أنْ لا يعينوا عليهم ، ولا يدلّوا على عوراتهم. فبعث يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص ليرسله في جيش إلى المدينة ، فلم يقبل ، فبعث إلى عبيد الله بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة وإلى ابن الزّبير بمكّة ، فقال : والله ، لا جمعتُها للفاسق ؛ قتل ابن رسول الله وغزو المدينة والكعبة! واعتذر إليه. وكان معاوية قال ليزيد : إنّ لك من أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوا فارمهم بأعور بني مُرّة (يعني مسلم بن عقبة المُرّي) ، وكان أعور ، وكان أحد جبابرة العرب وشياطينهم. فأمره يزيد بالمسير إلى المدينة ، وكان مريضاً وهو شيخ كبير ، ثمّ أراد يزيد إعفاءه لمرضه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنشدك الله لا تحرمني أجراً ساقه الله لي. فلم يطِقْ أنْ يركب مع الوجع ، فحُمل على سرير على أعناق الرّجال ، وبعث يزيد معه اثني عشر ألفاً ، فسار مسلم بالجيش ، فلقيه بنو اُميّة في الطّريق فدلّوه على عورات أهل المدينة ورجعوا معه. وجعل أهل المدينة في كلّ منهلٍ بينهم وبين أهل الشّام زقّاً من قطران ، فكان من قدر الله تعالى أنْ مطرت السّماء ، فلم يستقوا بدلوٍ حتّى وردوا المدينة. وأوصى يزيد مسلم بن عقبة ، فقال : إذا ظهرت على أهل المدينة فأبحها ثلاثاً ، وكلُّ ما فيها من مال أو دابة ، أو سلاح أو طعام فهو للجُند ، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيراً ؛ فإنّه لم يدخل مع النّاس
____________________
(١) تُنقل هذه الوقعة عن تاريخ الطبري ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ، والفخري ، والإمامة والسّياسة ، والأخبار الطّوال ، والعقد الفريد ، والأغاني وغيرها. ـ المؤلّف ـ
وقد أتاني كتابه. وكان مروان ، لمّا أخرج أهل المدينة بني اُميّة منها ، طلب من عبد الله بن عمر أنْ يُغيّب أهله عنده فلم يقبل ، فقال لعلي بن الحسين عليهماالسلام : إنّ لي رحماً ، وحرمي تكون مع حرمك. فقال : «افعل». فبعث بامرأته وحرمه إلى علي بن الحسين عليهماالسلام ، فخرج علي (ع) بحرمه وحرم مروان إلى ينبع ، وقيل بل أرسل حرم مروان إلى الطّائف ، وأرسل معهم ابنه عبد الله. هكذا كانت عادة أهل البيت عليهمالسلام في الحلم والصّفح ، والمجازاة على الإساءة بالإحسان ، وعلى ذلك جرى علي بن الحسين عليهماالسلام مع مروان ؛ فمروان هو الذي عادى أمير المؤمنين (ع) وحاربه يوم الجمل ، فلمّا ظفر به أمير المؤمنين (ع) عفا عنه ، وهو الذي أشار على الوليد ـ أمير المدينة ـ بقتل الحسين (ع) حين طلب منه الوليد البيعة ليزيد ، فقال مروان : والله ، لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يُبايع ، لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبس الرّجل فلا يخرج من عندك حتّى يُبايع أو تضرب عنقه ، وهو الذي أخذ رأس الحسين (ع) بعد قتله فوضعه بين يديه ، وقال :
يا حبَّذا بُردُكَ في اليَدَيْنِ |
|
ولونُك الأحمرُ في الخدَّينِ |
كأنّما حُفَّ بوردتينِ |
|
شفيتُ نفسي من دمِ الحُسينِ |
والله ، لكأنّي أنظر إلى أيّام عثمان. فجازاه على ذلك علي بن الحسين عليهماالسلام بأنْ حفظ حرمه ونساءه ، وحماهم بعدما عرض ذلك على ابن عمر فلم يقبل. ولم ينس زين العابدين (ع) ما فعله بنو اُميّة معه من قتلهم أباه الحسين (ع) ، وسبيهم نساء أهل بيته ، وأخذه معهم أسيراً والغلُّ في عنقه حتّى اُدخلوا على مجلس يزيد بتلك الحالة ، ولكن أبت له أعراقُه الكريمة ، وهو ابنُ رسول الله (ص) وابنُ وصيه ، وإمامُ أهل البيت الطّاهر ، إلاّ أنْ يُجازي عن الإساءة بالإحسان ، فحامى عن نساء مَن سبوا نساءه ، وحفظهنَّ. وما مَثَلُ بني هاشم وبني اُميّة في ذلك ، إلاّ كما قال الشاعر :
ملكنَا فكان العفوُ منَّا سجيَّةً |
|
فلمّا ملكتُمْ سال بالدَّمِ أبطحُ |
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا |
|
وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ |
المجلس الثّالث والثّلاثون بعد المئتين
لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية حين بلغهم أنّه يشرب الخمر ، ويضرب بالطّنابير ، وتغني عنده المُغنّيات ويلعب بالكلاب ، أرسل إليهم مسلم بن عقبة المُرّي في اثني عشر ألفاً ، فسار بهم حتّى وصل إلى المدينة ، وكان أهلها قد أمّروا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ؛ وذلك أنّ أباه حنظلة قُتل يوم اُحد ، فرأى النّبي (ص) الملائكة تُغسّله ؛ لأنّه كان جُنباً فسُمّي غسيل الملائكة. ووضع لمسلم بن عقبة كرسي بين الصفّين ، فجلس عليه وهو مريض ، وقال : يا أهل الشّام ، قاتلوا عن أميركم. وجعل يحرّضهم ، واشتدّ القتال ، فجعل عبد الله بن حنظلة يُقدّم أولاده واحداً بعد واحد حتّى قُتلوا بين يديه ، وكانوا ثمانية ، ثمّ كُسر غمد سيفه وقاتل حتّى قُتل ، وانهزم أهل المدينة. فقُتل بضعة وسبعون رجلاً من قريش ، وبضع وسبعون رجلاً من الأنصار ، وقُتل من النّاس نحو من أربعة آلاف ، وسُمّي مسلم بعد تلك الوقعة مُسرفاً ، وتُسمّى وقعة الحرّة وأباح مسرف المدينة ثلاثاً ؛ يقتلون النّاس وينهبون الأموال ، ويفتضّون النّساء حتّى وُلد في تلك السّنة ألف مولود لا يُعرف لهم أب ، وكان الرّجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا أراد أنْ يُزوّج ابنته لا يضمن بكارتها ، ويقول : لعله أصابها شيءٌ في وقعة الحرَّة. وكما أرسل يزيد الجيوش لمحاصرة مدينة الرّسول (ص) ، ومحاربة أصحاب رسول الله (ص) من المهاجرين والأنصار ، فقد قاد جدّه أبو سفيان الجيوش لحرب رسول الله (ص) وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، ومحاصرة المدينة يوم اُحد والأحزاب ، وكما قتلت جدّتُه هندٌ أسد الله حمزة ـ عمّ رسول الله (ص) ـ على يد وحشي يوم اُحد ، وبقرت بطنه ، وأكلت من كبده ومثّلت بهقتل يزيد سبطَ رسول الله (ص) على يد عمر بن سعد ، وقطع رأسه ، وأوطأ الخيل جسده ومثّل به وبأصحابه ، وعلى نهج الآباء
مشت الأبناء ، وإنّ العصا من العُصيّة (١) ولا تلد الحيّةُ إلاّ حيَّة.
بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ |
|
فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ |
ودعا مسرف النّاس إلى البيعة ليزيد على أنّهم عبيد له ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء ؛ إنْ شاء وهب ، وإنْ شاء أعتق ، وإن ْشاء استرقّ ، ومَن امتنع من ذلك قتَله ، فامتنع جماعةٌ فقُتلوا. وجاء مروان بعليِّ بن الحسين (ع) يمشي بينه وبين ابنه عبد الملك حتّى جلس بينهما ، فدعا مروان بشراب ليتحرّم بذلك فشرب منه ، ثمّ ناوله عليَّ بن الحسين (ع) ، فقال له مسلم : لا تشرب من شرابنا. فامتنع ، فقال مسلم : جئتَ تمشي بينهما لتأمن عندي؟ والله ، لو كان إليهما أمر لقتلتُك ، ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنّك كاتبته ، فإنْ شئت فاشرب. فشرب ، ثمّ أجلسه معه على السّرير ، ثمّ قال له : لعلّ أهلك فزعوا؟ قال (ع) : «إي والله». فأمر بدابة فاُسرجت له وردَّهُ ، ولم يلزمه بالبيعة ليزيد كما شرط على أهل المدينة ، بل بايعه على أنّه أخوه وابنُ عمّه. هذا مسلم بن عقبة مع كفره وطغيانه وتجبره ، قال لعلي بن الحسين (ع) : لعلّ أهلك فزعوا. وشمر بن ذي الجوشن حمل يوم كربلاء حتّى بلغ فسطاط الحسين (ع) ، فطعنه بالرّمح ، ونادى : عليّ بالنّار حتّى أحرق هذا البيت على أهله. فأفزع مُخدَّرات بيت النّبوّة وأخافهن ، فصاحت النّساء وخرجن ، وصاح به الحسين (ع) : «أنت تحرق بيتي على أهلي؟! أحرقك الله بالنّار». فقال حميد بن مسلم : أتقتل الولدان والنّساء؟! والله ، إنّ في قتل الرّجال لَما يرضى به أميرك. فلم يقبل ، فأتاه شبث بن ربعي ، فقال : أفزعنا النّساء ثكلتك اُمّك! فاستحيا وانصرف.
يا اُمّةً وليَ الشَّيطانُ رايتَها |
|
ومكَّنَ البغيّ منها كلَّ تمكينِ |
ما المُرتضى وبنُوه منْ مُعاويةٍ |
|
ولا الفواطمُ منْ هندٍ وميسونِ |
ولمّا فرغ مسرف من وقعة الحرّة ، بعث برؤوس أهل المدينة إلى يزيد ، وكتب إليه يخبره بما صنع ، فلمّا اُلقيت الرؤوس بين يديه ، قال :
ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا |
|
جزعَ الخزْرجِ منْ وقعِ الأسلْ |
لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً |
|
ثُمَّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ |
____________________
(١) العصا : فرس جُذيمة الأبرش. والعُصيّة ، بصيغة التّصغير : اُمّها. مثل يُضرب للشيء يُشبه أصله.
وقد تمثّل بهذا الشّعر أيضاً لمّا جيء إليه برأس الحسين بن علي (ع) ، وبسبايا أهل البيت عليهمالسلام ، وزاد فيه :
لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا |
|
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ |
قدْ قتلنَا القَرمَ من ساداتِهمْ |
|
وعدلنَا ميلَ بدرٍ فاعتَدلْ |
فقامت زينب بنت علي عليهماالسلام ، وخطبت خطبتها الشّهيرة التي قالت من جملتها : تهتف بأشياخك تزعم أنّك تُناديهم؟! فلترِدنَّ وشيكاً موردَهم ، ولتودّنَّ أنّك شُللت وبُكمت ، ولم تكُن قلتَ ما قُلتْ ، وفعلتَ ما فعلتْ.
يا آلَ أحمدَ كمْ يُكابدُ فيكُمُ |
|
كبَدي خُطوباً للقلوبِ نواكي |
كبَدي بكُمْ مقروحةٌ ومدامعي |
|
مسفوحةٌ وجوى فؤادِي ذاكي |
المجلس الرابع والثّلاثون بعد المئتين
كان الحضين (١) بن المنذر الرّقاشي من ربيعة البصرة ، وكان مع علي أمير المؤمنين (ع) بصفّين ، ولمّا نافس شقيق بن ثور خالد بن معمر السّدوسي على راية ربيعة ـ وكانت مع خالد ـ ، اصطلحا على أنْ يولّياها الحضين ـ وكان يومئذ شاباً حدث السّن ـ ، فأقبل وهو غلام يزحف بها وكانت حمراء ، فأعجب علياً (ع) زحفه وثباته ، فقال :
لمَنْ رايةٌ حمراءُ يخْفقُ ظلُّها |
|
إذا قِيل قدِّمهَا حُضينُ تَقدَّما |
ويدنُو بها في الصَّفِّ حتّى يَديرها |
|
حِمامُ المنايا تَقطُر الموتَ والدَّما |
تراهُ إذا مَا كان يومُ عظيمةٍ |
|
أبَى فيهِ إلاّ عِزَّةً وتكرُّما |
جزى الله عني والجزاء بفضله |
|
ربيعة خيراً ما أعف وأكرما |
وأحزمَ صبْراً حِينَ تُدعَى إلى الوغَى |
|
إذا كانَ أصواتُ الكُماةِ تغمْغُما |
وكفى الحضين فخراً مدح علي (ع) له بهذا الشّعر ، وكفى قبيلة ربيعة فخراً مدح علي (ع) لها بما سمعت. وروي عن الحضين أنّه قال : أعطاني علي (ع) راية ربيعة ، وقال : «بسم الله سر يا حُضين ، واعلم أنّه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبداً ؛ هذه راية رسول الله (ص)». وذكر المُبرّد في الكامل : إنّه لمّا فتح قتيبة بن مسلم سمرقند ، أفضى إلى أثاثٍ وآلات لم يُرَ مثلها ، فأراد أنْ يُري النّاس عظيم ما أنعم به الله عليه ، فأمر بدار ففُرشت ، وفي صحنها قدور يُرتقى إليها بالسّلالم ، فإذا بالحضين بن المنذر الرّقاشي قد أقبل ـ وهو شيخ كبير ـ والنّاس جلوس على مراتبهم ، فلمّا رآه عبد الله بن مسلم ـ أخو قتيبة ـ قال لقتيبة : ائذن لي في معاتبته. قال له : لا تفعل ؛ لأنّه
____________________
(١) بالضاد المعجمة ، وليس للعرب حُضين بالمعجمة غيره. ـ المؤلّف ـ
خبيث الجواب. فألحّ عليه ، فأذن له ـ وكان عبد الله ضعيف العقل ـ فأقبل على الحضين ، فقال : أمنَ الباب دخلت يا أبا ساسان؟ (وهي كُنية الحضين) قال : أجل ، أسنَّ عمّك عن تسوّر الحيطان (وكان عبد الله تسوّر حائطاً إلى امرأة). قال : أرأيت هذه القدور؟ قال : هي أعظم من أنْ تُرى. قال : ما أحسب بكر بن وائل (وهو جدّ قبيلة الحضين) رأى مثلها؟ قال : أجل ، ولا عيلان (وهو جدّ قبيلة عبد الله) ، ولو رآها لسُمّي شبعان ولم يُسمّ عيلان. قال عبد الله : أتعرف الذي يقول :
كأنَ فقاحَ الأزدِ حولَ ابنِ مسْمعٍ |
|
إذا عُرفتْ أفواهُ بكرِ بنِ وائلِ؟ |
قال : نعم أعرفه ، وأعرف الذي يقول :
قومٌ قتيبةُ اُمُّهمْ وأبوهُمُ |
|
لولا قتيبةُ أصبحُوا في مجهلِ |
قال : أمّا الشّعر فأراك ترويه ، فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال : أقرأ منه الأكثر الأطيب : (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) (يشير إلى خمولهم قِبل قتيبة) ، فغضب عبد الله ، وقال : والله ، لقد بلغني أنّ امرأة الحضين حُملت إليه وهي حامل من غيره. قال : فما تحرّك الشّيخ عن هيئته الاُولى ، ثمّ قال على رسله : وما يكون تلد غلاماً على فراشي ، فيُقال فلان بن الحضين كما يُقال عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على أخيه عبد الله ، وقال : لا يبعد الله غيرك. وكانت باهلة من أخسِّ قبائل العرب وأوضعها نسباً ، وكانت العرب تُعيِّر مَن ينتسب إلى باهلة ، ولهم في ذلك أشعار كثيرة ، قال بعضهم :
إِذا باهِلِيٌّ تَحتَهُ حَنظَلِيَّةٌ |
|
لَهُ وَلَدٌ مِنها فَذاكَ المُذَرَّعُ |
والمُذرّع : الذي اُمّه أشرف من أبيه. وقال الآخر :
وما ينفعُ الأصلُ منْ هاشمٍ |
|
إذا كانتْ النّفسُ منْ باهلهْ |
وقال الآخر :
ولو قيلَ للكلبِ يا باهليْ |
|
عوى الكلبُ منْ لؤمِ هذا النَّسبِ |
وروي : أنّ الأشعث بن قيس قال للنّبيِّ (ص) : أتتكافأ دماؤنا؟ قال : «نعم ، ولو
قتلتَ رجُلاً من باهلة ، لقتلتُك». وقيل لرجل : أيسرّك أنْ تدخل الجنّة وأنت باهلي؟ قال : بشرط أنْ لا يعلم أهلُها بذلك. وكانت باهلة مع ذلك منحرفة عن أهل البيت عليهمالسلام ، مواليه لبني اُميّة ، كما كانت ربيعة مع شرفها من القبائل الموالية لأمير المؤمنين (ع) ، وأبلت معه بصفّين بلاءً حسناً. ومسلم بن عمرو الباهلي أبو قتيبة هو الذي قال لمسلم بن عقيل ما قال ، حين اُتي بابن عقيل أسيراً إلى ابن زياد بالكوفة ؛ وذلك أنّ مسلماً لمّا اُسر بالكوفة بعد محاربته مع ابن الأشعث ، حُمل إلى ابن زياد ، فلمّا وصل إلى باب القصر وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس فيهم عمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي ، وإذا قلّةٌ فيها ماء بارد ، قال مسلم بن عقيل : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها؟ لا والله ، لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له مسلم بن عقيل : ويلك! مَن أنت؟ قال : أنا الذي عرف الحقّ إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وأطاعه إذ خالفته ؛ أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثّكل! ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم منّي. ثمّ جلس فتساند إلى الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلامه فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصب فيه ماءً فقال له : اشرب. فأخذ كلمّا شرب امتلأ القدح دماً من فمه ، فلا يقدر أنْ يشرب ـ وكان قد ضربه بكر بن حمران بالسّيف على فمه فقطع شفته العليا ، وأسرع السّيف في السّفلى ، وفُصلت لها ثنيّتان ـ ففعل ذلك مرّة أو مرّتين ، فلمّا ذهب في الثّالثة ليشرب ، سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرّزق المقسوم لشربته.
يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى |
|
ضريحِكَ المُزنُ هطّالاً وهتّانا |
بذلتَ نفْسكَ في مرضاةِ خالِقِها |
|
حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنا |
كأنَّما نفسُك اختارتْ لها عَطشاً |
|
لمّا دَرتْ أنْ سيقضِي السِّبطُ عطْشَانا |
فلَمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عن ظمأٍ |
|
منْ ضربةٍ ساقها بكرُ بنُ حمرانا |
المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئتين
روى الطّبرسي في الاحتجاج عن ثابت البناني ، قال : كنتُ حاجّاً وجماعة عبّاد البصرة ، فلمّا أنْ دخلنا مكّّة رأينا الماء ضيّقاً وقد اشتد بالنّاس العطش لقلّة الغيث ، ففزع إلينا أهل مكّة والحجّاج يسألوننا أنْ نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثمّ سألنا الله خاضعين متضرّعين بها ، فمنعنا الإجابة ، فبينا نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل ، قد أكبرته أحزانه وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشوطاً ثمّ أقبل علينا ، فقال : «يا مالك بن دينار ، ويا ثابت البناني ، ويا أيوب السّجستاني ، ويا صالح المُرّي ، ويا عُتبة الغلام ، ويا حبيب الفارسي ، ويا عمر ، ويا صالح ، ويا رابعة ، ويا سعدانة ، ويا جعفر بن سُليمان». فقلنا : لبّيك وسعديك يا فتى. فقال : «أما فيكم أحدٌ يُحبُّه الرَّحمن؟». فقلنا : يا فتى ، علينا الدُّعاء وعليه الإجابة. فقال : «ابعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحدٌ يُحبُّه الرّحمنُ ، لأجابه». ثمّ أتى الكعبة فخرَّ ساجداً ، فسمعته يقول في سجوده : «سيّدي ، بحبِّك إلاّ سقيتهم الغيث». قال : فما استتم الكلام حتّى أتاهم الغيث كأفواه القرب ، فقلت : يا فتى ، منْ أين علمت أنّه يُحبُّك؟ فقال : «لو لم يُحبني لم يستزرني ، فلمّا استزارني ، علمتُ أنّه يُحبُّني ، فسألتُه بحبِّه لي فأجابني». ثمّ ولّى عنّا ، وأنشأ يقول :
مَنْ عَرفَ الرَّبَّ فلمْ تُغنهِ |
|
معرفةُ الرَّبِّ فذاكَ الشَّقي |
ما ضرَّ ذا الطَّاعةِ ما نالهُ |
|
في طاعةِ اللهِ وماذا لقي |
ما يصنعُ العبدُ بغيرِ التُّقَى |
|
والعزُّ كلُّ العزِّ للمُتّقي |
فقلت : يا أهل مكّة ، مَن هذا الفتى؟ فقالوا : هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام. أقول : مثل هذا الإمام في علمه وفضله ، ومناقبه وكرامته ، وزُهده وعبادته واستجابة دعائه يُحمل أسيراً مغلولاً ، تارة إلى ابن مرجانة بالكوفة
واُخرى إلى ابن هند بالشّام! ولمّا اُدخل على ابن زياد مع عمّاته وأخواته ، قال له : مَن أنت؟ فقال : «أنا عليُّ بن الحسين». فقال : أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال عليٌّ (ع) : «قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً ، قتله النّاس». فقال : بل الله قتله. فقال علي بن الحسين (ع) : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا». فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقيّة للردِّ عليَّ! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب ، وقالت : يابن زياد ، حسبُك من دمائنا. واعتنقته ، وقالت : لا والله لا اُفارقه ، فإنْ قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه ، دعوه فإنّي أراه لمَا به (أي : إنّه شديد المرض). وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (ع) قال لعمّته : «اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه». ثمّ أقبل عليه ، فقال : «أبالقتل تُهدّدُني يابن زياد؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا الشّهادة؟».
فيا وقعةً لمْ يُوقعِ الدَّهرُ مثْلُها |
|
وفادحةً تُنْسَى لديها فوادحُهْ |
متَى ذُكرتْ أذكَتْ حشَى كلِّ مُؤمنٍ |
|
بزندِ جوىً أوراهُ للحشرِ قادحُهْ |
المجلس السادس والثّلاثون بعد المئتين
عن عبد الله بن المُبارك قال : حججت في بعض السّنين ، فبينما أنا أسير في عرض الحاجّ ، إذا أنا بشاب وسيم الوجه يسير ناحية عن الحاجّ بلا زاد ولا راحلة ، فتقدمتُ إليه وسلمت عليه ، فردَّ عليَّ السّلام ، فقلتُ : مع مَن قطعت البر؟ قال : «مع الباري». فعظم في عيني ، فقلتُ له : أين زادك وراحلتك؟ قال : «زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي». فكبر في نفسي ، فقلتُ له : ممّن تكون أيّها الشّاب؟ قال : «هاشمي». قلتُ : أفصح؟ قال : «طالبي». قلتُ : أوضح؟ قال : «فاطمي». قلتُ له : يا سيّدي ، هل قلتَ شيئاً من الشّعر؟ قال : «نعم». قلتُ : أنشدني من شعرك. فأنشأ يقول :
نحنُ على الحوضِ ذوَّادُهُ |
|
وتُسقَى بنا منهُ ورّادُهُ |
وما فازَ مَنْ فاز إلاّ بنا |
|
وما خاب مَن حُبُّنا زادُه |
ومَنْ سرَّنا نالَ منّا لسّرورَ |
|
ومَنْ ساءَنا ساءَ ميلادُهُ |
ومَنْ كانَ غاصبُنا حقّنا |
|
فيومُ القيامةِ ميعادُهُ |
ثمّ غاب عن عيني ، فلم أره حتّى أتيت مكّة المكرمة وقضيت الحجّ وأتيت الأبطح ، فإذا أنا بحلقة مستديرة ، فاطّلعت لأنظر مَن فيها ، فإذا أنا بصاحبي الشّاب الهاشمي ، فسمعته يقول :
نحنُ بنُو المُصطفَى ذوُو غُصصٍ |
|
يجرعُها في الأنامِ كاظمُنا |
عظيمةٌ في الأنامِ مِحنتُنا |
|
أوّلُنا مُبْتلىً وآخرُنا |
يفرحُ هذا الورَى بعيدِهم |
|
ونحنُ أعيادُنا مآتِمُنا |
والنّاسُ بالأمنِ والسُّرورِ ولا |
|
يأمنُ طولَ الزَّمانِ خائفُنا |
يحكمُ فينا والحُكمُ فيه لنَا |
|
جاحدُنا حقَّنا وغاصبُنا |
فسألت عنه فقيل لي : هو زين العابدين علي بن الحسين عليهماالسلام. ولم يزل سلام الله عليه في الحزنِ على أبيه مُدّة حياته حتّى لحق بربه. وعن جابر الجعفي قال : لمّا جرّد مولاي محمَّدٌ الباقر مولاي عليَّ بنَ الحسين عليهمالسلام ثيابه ووضعه على المُغتسل ، وكان قد ضرب دونه حجاباً ، سمعتُه ينشج ويبكي حتّى أطال ذلك ، فأمهلته عن السّؤال حتّى إذا فرغ من غسله ودفنه ، فأتيت إليه وسلّمت عليه ، وقلتُ له : جُعلت فداك! ممّ كان بكاؤك وأنت تُغسّل أباك؟ أكان ذلك حُزناً عليه؟ قال : «لا يا جابر ، لكن لمّا جرّدت أبي ثيابه ووضعته على المُغتسل ، رأيت آثار الجامعة في عُنقه ، وآثارَ جُرحِ القيد في ساقيه وفخذيه ، فأخذتني الرّقة لذلك وبكيت».
مالي أراكَ ودمعُ عينِكَ جامدٌ |
|
أوَ ما سمعتَ بمحْنةِ السَّجّادِ |
المجلس السابع والثلاثون بعد المئتين
حجّ هشام بن عبد الملك في خلافة أخيه الوليد ومعه رؤساء أهل الشّام ، فجهد أنْ يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام النّاس ، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى النّاس ، وأقبل علي بن الحسين عليهماالسلام ، وهو أحسن النّاس وجهاً وأنظفهم ثوباً وأطيبهم رائحة ، فطاف بالبيت ، فلمّا بلغ الحجر الأسود ، تنحَّى النّاس كلّهم وأخلوا له الحجر ليستلمه ؛ هيبة وإجلالاً له ، فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه ، فقال رجل لهشام : مَن هذا؟ أصلح الله الأمير. قال : لا أعرفه. وكان به عارفاً ؛ ولكنّه خاف أنْ يرغب فيه أهل الشّام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق ـ وكان حاضراً ـ : أنا أعرفه ، فسلني يا شامي. قال : ومَن هو؟ قال :
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ |
|
وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ |
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ |
|
هَذا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ |
هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِنْ كُنتَ جاهِلَهُ |
|
بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا |
وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ |
|
العُربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ |
إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها |
|
إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ |
يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ |
|
رُكنَ الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ |
اللَهُ شَرَّفَهُ قِدماً وَعَظَّمَهُ |
|
جَرى بِذاكَ لَهُ في لَوحِهِ القَلَمُ |
أَيُّ الخَلائِقِ لَيسَت في رِقابِهِمُ |
|
لأَوَّلِيَّةِ هَذا أَو لَهُ نِعَمُ |
مَنْ يَشكُرِ اللَهَ يَشكُر أَوَّلِيَّةَ ذا |
|
فَالدّينُ مِن بَيتِ هَذا نالَهُ الأُمَمُ |
يُنمى إِلى ذُروَةِ الدينِ الَّتي قَصُرَتْ |
|
عَنها الأَكُفُّ وَعَنْ إِدراكِها القَدَمُ |
مَن جَدُّهُ دانَ فَضلُ الأَنبِياءِ لَهُ |
|
وَفَضلُ أُمَّتِهِ دانَت لَهُ الأُمَمُ |
مُشتَقَّةٌ مِن رَسولِ اللَهِ نَبعَتُهُ |
|
طابتْ مغارسُهُ والخيمُ والشِّيمُ |
يَنشَقُّ ثَوبُ الدُجى عَن نورِ غُرَّتِهِ |
|
كَالشَمسِ تَنجابُ عَن إِشراقِها الظُلَمُ |
مِن مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دينٌ وَبُغضُهُمُ |
|
كُفرٌ وَقُربُهُمُ منجىً وَمُعتَصَمُ |
مُقَدَّمٌ بَعدَ ذِكرِ اللَهِ ذِكرُهُمُ |
|
في كُلِّ بِدءٍ وَمَختومٌ بِهِ الكَلِمُ |
إِنْ عُدَّ أَهلُ التُّقى كانوا أَئمَّتَهُم |
|
أَو قيلَ مَن شَيرُ أَهلِ الأَرضِ قيلَ هُمُ |
لا يَستَطيعُ جَوادٌ بَعدَ جودِهِمُ |
|
وَلا يُدانيهِمُ قَومٌ وَإِنْ كَرُموا |
يُستَدفَعُ الشَرُّ وَالبَلوى بِحُبِّهِمُ |
|
وَيُستَرَبُّ بِهِ الإِحسانُ وَالنِّعَمُ |
قال : فغضب هشام ، فحبسه بعسفان بين مكّة والمدينة ، فقال :
أيحبسُني بينَ المدينةِ والتي |
|
إليها قلوبُ النَّاسِ يهوي مُنيبُها |
يُقلِّبُ رأساً لمْ يكُنْ رأسَ سيّدٍ |
|
وعيناً له حولاءَ بادٍ عُيوبُها |
فبعث إليه هشام فأخرجه ، ووجّه إليه عليُّ بن الحسين (ع) عشرة آلاف درهم ، وقال : «أعذِر يا أبا فراس ، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا ، لوصلناك به». فردّها وقال : ما قلتُ ذلك إلاّ لله ، وما كنتُ لأرزأ عليه شيئاً. فقال له علي (ع) : «قد رأى الله مكانك فشكرك ، ولكنّا أهل بيتٍ إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه». فأقسم عليه ، فقبلها. هذه فضائل علي بن الحسين زين العابدين (ع) ، وهذه صفاته وأحواله ، فمثل هذا الإمام في عظم شأنه وجلالة قدره ، يُصبح أسيراً تارة لعبيد الله بن زياد وابن مرجانة ، وتارة ليزيد بن معاوية ، وهو إمام أهل البيت الطّاهر الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، والذي جعل الله ودّهم أجر الرسالة؟! ولمّا أرسله ابن زياد مع السّبايا إلى يزيد بالشّام ، أمر به فغُلّ بغلٍّ إلى عُنقه حتّى اُدخل على يزيد بن معاوية بتلك الحال.
يا غَيرَةَ اللَهِ اِغضَبي لِنَبِيِّهِ |
|
وَتَزَحزَحي بِالبيضِ عَن أَغمادِها |
مِن عُصبَةٍ ضاعَت دِماءُ مُحَمَّدٍ |
|
وَبَنيهِ بَينَ يَزيدِها وَزِيادِها |
صَفَداتُ مالِ اللَهِ مِلءُ أَكُفِّها |
|
وَأَكُفُّ آلِ اللَهِ في أَصفادِها |
المجلس الثّامن والثّلاثون بعد المئتين
روي عن الصّادق (ع) أنّه قال : «كان علي بن الحسين عليهماالسلام إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة ، وكان إذا أذنبَ العبدُ والأمةُ يكتب عنده : أذنبَ فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ، ولا يعاقبه حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثمّ أظهر الكتاب ، ثمّ قال : يا فلان ، فعلت كذا وكذا ولم اُؤدّبك ، أتذكر ذلك؟ فيقول : بلى يابن رسول الله. حتّى يأتي على آخرهم ويُقررهم جميعاً ، ثمّ يقوم وسطهم ، ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين ، إنّ ربك قد أحصى عليك كلَّما عملتَ كما أحصيتَ علينا كلّما عملنا ، ولديه كتابٌ ينطق عليك بالحقِّ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها ، كما لديك كتاب ينطق بالحقِّ علينا ، لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلاّ أحصاها ، وتجد كلَّما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً. فاذكر يا علي بن الحسين ، ذلَّ مقامِك بين يدي ربّك الحكم العدل ، الذي لا يظلمُ مثقالَ حبّةٍ من خردل ويأتي بها يوم القيامة ، وكفى بالله حسيباً وشهيداً. فاعفُ واصفح ، يعفُ عنك المليكُ ويصفح ؛ فإنّه يقول : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) وهو يُنادي بذلك على نفسه ويُلقِّنهم وهم ينادون معه ، وهو واقف بينهم يبكي وينوح ، ويقول : ربِّ ، إنّك أمرتنا أنْ نعفو عمّن ظَلَمنا ، وقد ظلمنا أنفسَنا ، فنحن قد عفونا عمّن ظلَمنا كما أمرتَ ، فاعفُ عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين. وأمرتنا أنْ لا نردَّ سائلاً عن أبوابنا ، وقد أتيناك سؤآلاً ومساكين ، وقد أنخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك ، فامنُنْ بذلك علينا ولا تُخيّبنا ؛ فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين. إلهي ، كرمتَ فأكرمني إذ كنتُ من سؤآلك ، وجدتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم. ثمّ يُقبل عليهم ، ويقول : قد عفوت عنكم ، فهل عفوتم عنّي ما كان منّي إليكم من سوء مَلكة ؛ فإنّي مليكُ سوءٍ ، لئيمٌ ظالمٌ ، مملوكٌ لملك كريمٍ ، جوادٍ عادلٍ ، مُحسنٍ مُتفضّل؟ فيقولون : قد عفونا عنك يا
سيّدنا ، وما أسأت. فيقول (ع) لهم : قولوا : اللهمّ ، اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا ، فأعتقه من النّار كما أعتق رقابنا من الرّق. فيقولون ذلك ، فيقول (ع) : اللهمّ ، آمينَ رب العالمين ، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقتُ رقابكم ؛ رجاء للعفو عنّي وعتقِ رقبتي. فيعتقهم ، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتُغنيهم عمّا في أيدي النّاس».
أمثل هذا الإمام الذي هذه صفاته ، وهذا ورعه وكرمه وخوفه وهو لم يهم بمعصية ، وكان سيّد أهل زمانه في علمه وفضله ، وعبادته وزهده ، يُحمل أسيراً مع عمّاته وأخواته ، ومَن تخلف من أهل بيته إلى الدّعي ابن الدّعي ، عبيد الله بن زياد وابن مرجانة بالكوفة ، ويُحمل مغلولاً بغلٍّ من الكوفة إلى يزيد بن معاوية بالشّام ، ومعه عمّاته وأخواته ، حتّى اُدخل على يزيد مع عمّاته وأخواته وأهل بيته وهم مُقرَّنون في الحبال ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) ، لو رآنا على هذه الصّفة؟!». فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (ع)
لَيسَ هَذا لِرَسولِ اللَهِ يا |
|
اُمَّةَ الطُغيانِ وَالبَغيِ جَزا |
جَزَروا جَزرَ الأَضاحي نَسلَهُ |
|
ثُمَّ ساقوا أَهلَهُ سَوقَ الإِما |
المجلس التاسع والثّلاثون بعد المئتين
قال ابن الأثير في تاريخه ، قال الشّافعي : بلغني أنّ عبد الملك بن مروان قال للحجّاج : ما من أحد إلاّ وهو عارف بعيوب نفسه ، فعب نفسك ولا تُخبّأ منها شيئاً. قال : يا أمير المؤمنين ، أنا لجوجٌ حقود. فقال له عبد الملك : إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال : إنّ الشّيطان إذا رآني سالمني. قال حبيب بن أبي ثابت : قال علي (ع): «لا تموتَ حتّى تُدرك فتى ثقيف». قيل له : يا أمير المؤمنين ، ما فتى ثقيف؟ قال : «ليُقالنَّ له يوم القيامة : أكفنا زاوية من زوايا جهنم. رجلٌ يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة ، لا يدع لله معصية إلاّ ارتكبها ، حتّى لو لم تبقَ إلاّ معصيةٌ واحدةٌ وبينه وبينها بابٌ مغلق لكسره حتّى يرتكبها ، يقتل بمَن أطاعه مَن عصاه». وقيل : اُحصي مَن قتله الحجّاج صبراً بغير حرب ، فكانوا مئة ألف وعشرين ألفاً. قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كلّ اُمّة بخبيثها ، وجئنا بالحجّاج لغلبناهم. قال عاصم : سمعت الحجّاج يقول للناس : والله ، لو أمرتكم أنْ تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا ، حلّت لي دماؤكم ، ولا أجد أحداً يقرأ على قراءة ابن مسعود (وهو أحد القرّاء السّبعة من الصّحابة) إلاّ ضربت عنقه ، ولأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير. وقال ابن أبي الحديد : كان أهل النّسك والصّلاح والدّين يتقربون إلى الحجّاج ببغض علي (ع) ، وموالاة أعدائه ، حتّى أنّ إنساناً وقف للحجّاج ، وصاح : أيّها الأمير ، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً ، وإنّي فقير بائسٌ ، وأنا إلى صلة الأمير مُحتاج. فتضاحك له الحجّاج ، وقال : لَلطف ما توسّلت به ، قد ولّيتُك موضع كذا. مثل الحجّاج كان ابن زياد ؛ فإنّه بعد أنْ أفنى آل رسول الله (ص) قتلاً يوم كربلاء ، لم يرقّ قلبه لعلي بن الحسين عليهماالسلام (كفيل نساء آل محمَّد (ص) وبناته) حين اُدخلوا عليه بالكوفة حتّى أمر بقتله ، فقال : يا غلمان ، خذوه فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب عليهاالسلام ، وذلك حين عُرض عليه علي بن الحسين عليهماالسلام ، فقال : مَن أنت؟ فقال : «عليُّ بن الحسين». فقال : أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين
فقال له عليٌّ (ع) : «قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً ، قتله النّاس». قال : بل الله قتله. فقال علي بن الحسين (ع) : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا». فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقيّة للردِّ عليَّ! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب ، وقالت : يابن زياد ، حسبُك من دمائنا. واعتنقته ، وقالت : لا والله لا اُفارقه ، فإنْ قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه ، دعوه فإنّي أراه لمَا به (أي : إنّه شديد المرض). وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (ع) قال لعمّته : «اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه». ثمّ أقبل عليه ، فقال : «أبالقتل تُهدّدُني يابن زياد؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا الشّهادة».
أآلَ رسولِ اللهِ لابني سُميّةٍ |
|
وهندٍ على الأقتاب تُسبَى وتُؤسرُ |
ولا منْ رجالِ المُسلمينَ مُغيرٌ |
|
لشيءٍ ولا فيهمْ لذلكَ مُنْكِرُ |
فمالتْ على أبنائهِ الغُرِّ اُمّة |
|
تُصلِّي لدَى ذكرِ اسمهِ حينَ يُذكرُ |
أهُمْ يا لقَومي في الورَى خيرُ اُمّةٍ |
|
وقد قتلوا ابنَ المُصطفَى وتجبَّروا |
أذلكَ أجرُ المُصطفَى وجزاؤهُ |
|
على الفعلِ منكُمْ حينَ يُجزَى ويُؤجرُ |
المجلس الأربعون بعد المئتين
كان سعيد بن جُبير من خيار التّابعين الموالين لأهل البيت عليهمالسلام ، وكان يأتمّ بعليِّ بن الحسين زين العابدين (ع) ، وكان علي بن الحسين (ع) يُثنى عليه ؛ ولأجل ذلك قتله الحجّاج. قال ابن قتيبة في الإمامة والسّياسة وغيره : أرسل عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله القسري والياً على مكّة ، وكتب معه : قد برئت الذمّة من رجل آوى سعيد بن جُبير. وحلف خالدٌ : لا يجده في دار أحد إلاّ قتله وهدم داره ودور جيرانه. فأخبره رجل : أنّه مختفٍ في وادٍ من أودية مكّة ، فأرسل في طلبه ، فقال له الرسول : إنّما اُمرت بأخذك ، وأتيت لأذهب بك إليه ، وأعوذ بالله من ذلك ، فالحقْ بأي بلدٍ شئت وأنا معك. قال : يُؤخذ أهلُك وولدك. قال : فإنّي أكلهم إلى الله. قال سعيد : لا يكون هذا. فأتى به إلى خالد ، فشدّه وثاقاً وأرسله إلى الحجّاج ، فقيل له : إنّ الحجّاج كان قد شعر به فأعرض عنه ، فلو تركته لكان أزكى من كلِّ عمل. فقال : والله ، لو علمت أنّ عبد الملك لا يرضى عنّي إلاّ بنقض الكعبة حجراً حجراً ، لنقضتُها. فلمّا قدم على الحجّاج ، قال : ما اسمك؟ قال : سعيد. قال : ابنُ مَن؟ قال : ابنُ جبير. قال : بل أنت شقيُّ بن كسير. قال : اُمّي أعلم باسمي. قال : شُقيتَ وشُقيت اُمّك. قال : الغيب يعلمه غيرُك. قال : لأوردنّك حياض الموت. قال : أصابت إذاً اُمّي اسمي. قال : لأبدلنّك بالدُّنيا ناراً تلظّى. قال : لو أعلم أنّ ذلك بيدك لاتخذتُك إلهاً. قال : فما قولك في محمَّد؟ قال : نبيُّ الرّحمة. قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لستُ عليهم بوكيل. قال : أيّهم أعجب أليك؟ قال : أرضاهم لخالقه. قال : فأيّهم أرضاهم لخالقه؟ قال : علمُ ذلك عند مَن يعلم سرَّهم ونجواهم. قال : فما قولك في عليٍّ ، أفي الجنة هو أم في النّار؟ قال : لو دخلتُ الجنَّة فرأيتُ أهلَها علمتُ مَن فيها ، ولو دخلتُ النّار فرأيتُ أهلَها علمتُ مَن فيها. قال : فأيّ رجل أنا يوم القيامة؟ قال : أنا أهون على الله من أنْ يُطلعني على الغيب. قال : أبيت أنْ تصدقني؟ قال : بل لم أرد أنْ اُكذبك. قال : مالك لم
تضحك قط؟ قال : كيف يضحكُ مخلوق من طين ، والطّين تأكله النّار ومنقلبه إلى الجزاء ، ويُصبح ويُمسي في الابتلاء؟! قال : فأنا أضحك. قال : كذلك خلَقَنا الله أطواراً. قال : هل رأيت اللّهو؟ قال : لا أعلمه. فدعا الحجّاج بالعود والنّاي ، فلمّا ضرب بالعود ونفخ في النّاي بكى سعيد ، قال الحجّاج : ما يُبكيك؟ قال : أمّا هذه النّفخة فذكّرتني يوم النّفخ في الصّور ؛ وأمّا هذا العود فنبَتَ بحقٍّ وقُطع لغير حقٍّ. قال : أنا قاتلك. قال : قد فرغ مَنْ تسبب موتي. قال : أنا أحبُّ إلى الله منك؟ قال : لا يقدم أحدٌ على ربّه حتّى يعرف منزلته منه. قال : كيف لا ، وأنا مع إمام الجماعة ، وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟ قال : ما أنا بخارجٍ عن الجماعة ولا راضٍ بالفتنة. قال : كيف ترى ما نجمع لإمير المؤمنين؟ قال : لم أره. فدعا بالذهب والفضة ، والكسوة والجوهر فوُضع بين يديه ، قال : هذا حَسَنٌ إنْ قُمت بشرطه. قال : ما شرطه؟ قال : أنْ تشتري له الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة ، ولا ينفعه إلاّ ما طاب منه. قال : أترى جمعنا طيّباً؟ قال : برأيك جمعتَه وأنت أعلم بطيّبه. قال : أتحبُّ أنّ لك شيئاً منه؟ قال : لا أحبُّ ما لا يُحبّ الله. قال : ويلك! قال : الويل لمَنْ زُحزج عن الجنّة فاُدخل النّار. قال : اذهبوا به فاقتلوه. قال : إنّي أشهدك أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمَّداً عبده ورسوله. فلمّا أدبر ضحك ، قال الحجّاج : ما يضحكك؟ قال : عجبت من جرأتك على الله ، وحلم الله عليك. قال : اضربوا عنقه. قال : حتّى اُصلي ركعتين. فاستقبل القبلة وهو يقول : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) قال : اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النّصارى الذين تفرّقوا ؛ فإنّه من حزبهم. فصُرف عن القبلة ، فقال : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ثمّ قال : اللهمّ ، لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي ، واجعلني آخر قتيل يقتله من اُمّة محمَّد (ص). فضُربت عنقه. وكم من قتيل وشهيد ، وسجين وشريد على أيدي بني اُميّة وأتباعهم أمثال سعيد بن جُبير ، لم يكن لهم ذنب إلاّ حب أهل بيت نبيِّهم (ص) ، وليس ذلك بعجيب من قوم حاربوا الإسلام بما استطاعوا ، فكانت في أيديهم رايات الكفّار مقابل راية رسول الله (ص) في جميع المواقف ، فلمّا ظهر أمر الله وهم كارهون ، دخلوا في الإسلام كُرهاً وأسرّوا النّفاق ، فلمّا أمكنتهم الفرصة ، وثبوا على أهل بيت رسول الله (ص) وعلى كلِّ مَن أحبّهم ووالاهم ، فأوسعوهم قتلاً وحبساً وتشريداً : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) فوثبوا على ابن عمِّ رسول الله (ص) ووصيه وخليفته في اُمّته ، ونازعوه حقّه ، وبغوه الغوائل ، وجرّعوه الغُصص ، وسفكوا دماء المسلمين حتّى قُتل صلوات الله عليه بسيف ابن ملجم مظلوماً مقهوراً ، ووثبوا على ابنه من بعده وريحانة رسول الله (ص) الحسن بن علي (ع) حتّى اضطرّوه ـ بفسادهم وبغيهم ـ إلى ترك حقِّه ، وقتلوه