المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

ولمْ تكتفِ بقتله حتّى سبت نساءه وعياله وأطفاله ، وحملتهم على أقتاب الجِمال من بلد إلى بلد ، ودارت برأسه في البلدان.

لهفي لمَنْ وُدُّهمْ أجرُ الرِّسالةِ لمْ

يرَوا سِوى علَمِ الشَّحناءِ منْشورَا

وليكن هذا آخر الجزء الثالث من المجالس السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النّبويّة ، ويليه الجزء الرابع. ولمْ نألُ جهداً في اختياره وانتقائه وترتيبه حسبما وصلت إليه مقدرتنا القاصرة ، حتّى جُمع بين دفَّتيه من مهمّات الأخبار والحروب ، والفوائد والاحتجاجات ما لم يجمعه كتاب. والله المسؤول أنْ ينفع به إخوان الدين ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ، ويحشرنا في زمرة محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. ووافق الفراغ منه في شهر ربيع الثاني سنة ١٣٤٣ من الهجرة ، بمدينة دمشق المحميّة ، ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه ثانياً ، والزيادة عليه وتغيير ترتيبه إلى أحسن ، وتهيئته للطبع للمرّة الثانية عصر يوم الاثنين ١٣ من شهر رمضان المبارك سنة ١٣٦٢ هـ بمنزلي في دمشق الشام ـ صانها الله عن طوارق الأيام ـ ، ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه وتهئيته للطبع للمرّة الثالثة ، بقرية الشياح من ضواحي بيروت في أواسط جمادى الأولى سنة ١٣٦٩ هـ. وكتب بيده الفانية مؤلفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، تجاوز الله عن سيئاته ، حامداً مُصليّاً مُسلّماً.

٥٢١
٥٢٢

٥٢٣
٥٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمَّد وآله الطاهرين. وبعد : فهذا هو الجزء الثالث من كتاب : (المجالس السَّنيّة) في ذكرى مصائب ومناقب العترة النبويّة ، تأليف أفقر العباد إلى عفو ربّه الغني ، محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، عفا الله عن جرائمه ، وحشره مع محمَّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

٥٢٥

المجلس الثّاني عشر بعد المئتين

قال الله تعالى في سورة القصص حكاية عن موسى (ع) : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : أي ثلاثاً وثلاثين سنة (وَاسْتَوَى) : أي بلغ أربعين سنة (آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) : أي عقلاً وفقهاً ، وذلك قبل النّبوّة ، أو هي النّبوّة. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) : وهي مصر أو بعض مدنها (عَلَى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) : أي نصف النّهار والنّاس قائلون ، أو ما بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ) : أي يختصمان (هذَا مِن شِيعَتِهِ) إسرائيلي (وَهذَا مِنْ عَدُوّهِ) قبطي ، والقبطي يُريد أنْ يُسخّر الإسرائيلي ليحمل حطباً إلى مطبخ فرعون ، (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى) : أي دفع في صدره بجميع كفّه ، أو ضربه بعصاه ، (فَقَضَى‏ عَلَيْهِ) فمات. (قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ إِنّهُ عَدُوّ مُضِلٌ مُبِينٌ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقّبُ فَإِذَا الّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى‏ إِنّكَ لَغَوِيّ مّبِينٌ) : قاتلت بالأمس رجلاً ، وتُقاتل اليوم الآخر! (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) : وهو حزقيل مؤمن آل فرعون (قَالَ يَا مُوسَى‏ إِنّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من مصر (إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) : ولمّا سلك في الطّريق الذي يلقى مدين فيها ، ولم يكن له علم بالطّريق ؛ ولذلك قال : (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل). وقال ابن عباس : خرج موسى (ع) متوجّهاً نحو مَدين وليس له علم بالطّريق إلاّ حُسن ظنِّه بربِّه. وقيل : إنّه خرج بغير زاد ولا ماء ، ولا حذاء ولا ظهر ، وكان لا يأكل إلاّ حشيش الصّحراء. (وَلَمّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِنَ النّاسِ) : جماعة من الرّعاة يسقون مواشيهم. (وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) غنمهما وتمنعانه من الورود ، قال لهما موسى : (مَا خَطْبُكُمَا) : ما شأنكما؟ وما لكما لا تسقيان مع النّاس؟ (قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّى‏ يُصْدِرَ الرّعَاءُ) وينصرف النّاس ؛ فإنّا لا نُطيق السّقي ، فننتظر فضول الماء ، فإذا انصرف النّاس سقينا مواشينا من

٥٢٦

فضول الحوض ، (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقدر أنْ يتولّى السّقي بنفسه ـ أبوهما هو شُعيب (ع) ـ. (فَسَقَى‏ لَهُمَا) غنمهما ، وزحم القوم عن الماء حتّى أخرجهم عنه ، وسقى أغنامهما حتّى رويت من دلوا واحد. (ثمّ تَوَلّى إلى الظّلّ) : إلى ظل شجرة ، فجلس تحتها من شدّة الحَرِّ وهو جائع ، (فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها ، فأنكر شأنهما وسألهما ، فأخبرتاه الخبر. فقال : عليّ به. (فَجاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا) : وهي الكُبرى (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) : مستحيية مُعرضة على عادة النّساء الخفرات. (قَالَتْ إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). فلمّا قالت : ليجزيك أجر ما سقيت لنا ، كره ذلك موسى (ع) ؛ لأنّه لا يُريد أجراً على عمله إلاّ من الله تعالى ، وأراد أنْ لا يتبعها ، ولكنّه لم يجد بُدّاً من اتّباعها. (فَلَمّا جَاءَهُ وَقَصّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) : حكى له قصته من قتل القُبطي وطلبهم إيّاه ليقتلوه وهربه ، قال له شُعيب (ع) : (لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) : فرعون وقومه ؛ فلا سلطان له بأرضنا. وإذا هو بالعشاء مُهيَّأً ، فقال له شعيب (ع) : اجلس يا شاب فتعشَّى. فقال موسى (ع) : أعوذ بالله. قال شعيب (ع) : ولِمَ ذاك ، ألست بجائع؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أنْ يكون هذا عِوضاً لِما سقيتُ لهما ؛ وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بمِلك الأرض ذهباً. فقال له شُعيب (ع) : لا والله يا شاب ، ولكنّها عادتي وعادة آبائي ؛ نُقري الضّيف ونُطعم الطّعام. فأكل. (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا) ـ واسمها صفورة أو صفراء ، وهي التي تزوج بها ، وهي التي قالت له : إنّ أبي يدعوك ـ : (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأَمِينُ قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى‏ ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَى‏ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) : تكون أجيراً لي إلى ثماني سنين. (فَإِنْ اتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ) : أي ذلك تفضّل منك وليس بواجب عليك ، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَيْكَ) في هذه الثّمانية حجج فاُكلّفك غير الرّعي ، أو بأنْ آخذك بإتمام عشر سنين ، (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ) في حسن الصّحبة والوفاء بالعهد. (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)سُئل الإمام الصّادق (ع) : أي الأجلين قضى موسى (ع)؟ قال : «أوفاهما وأبعدهما عشر سنين». وقد أشبهت حال موسى (ع) في خروجه من مصر خائفاً يترقّب ، هارباً من فرعون مصر ، حال الحسين (ع) في خروجه من المدينة في جوف الليل خائفاً يترقب ، هارباً من فراعنة بني اُميّة ، وهو يقرأ : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». ودخل مكّة وهو يقرأ : «وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ». وذلك لمّا دعاه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في الليل وطلب منه البيعة ليزيد ، فلم يرد الحسين (ع)

٥٢٧

أنْ يُصارحه بالامتناع عن البيعة ، فاعتذر إليه بأنّه لا يقنع ببيعته سرّاً حتّى يُبايعه جهراً فيعرف ذلك النّاس. فقنع منه الوليد بذلك ، فقال له مروان : والله ، لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يبايع ، لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبس الرّجل فلا يخرج من عندك حتّى يُبايع أو تضرب عُنقه. فلمّا سمع الحسين (ع) هذه المجابهة القاسية من مروان الوزغ بن الوزغ ، صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة ، وأنّه لا يمكن أن يُبايع ليزيد أبداً. فوثب الحسين (ع) عند ذلك ، وقال لمروان : «ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عُنُقي؟! كذبت والله ، ولؤمت». ثمّ أقبل على الوليد ، فقال : «أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النّفس المحترمة مُعلن بالفسق ، ومثلي لا يُبايع مثله. ولكن نُصبح وتُصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة». ثمّ خرج يتهادى بين مواليه وهو يتمثّل بقول يزيد بن مفرّغ :

لا ذَعرتُ السّوامَ في فَلقِ الصُّبْ

حِ مُغيراً ولا دُعيتُ يزيدَا

يومَ اُعطِي مخافةَ الموتِ ضَيماً

والمنايَا يَرصدْنَني أنْ أحيدَا

نَّعَ عِزَّاً أنْ يُصافحَ ضارِعاً

نَّعَ عِزَّاً أنْ يُصافحَ ضارِعاً

٥٢٨

المجلس الثّالث عشر بعد المئتين

كان هاشم بن عبد مناف أحد أجداد النّبي (ص) سيّد رجال قريش وحكّامهم ، وكان يحمل ابن السّبيل ويؤدّي الحقوق ، وكان يُضرب بجوده المثل. وكان قد تولّى أمر مكّة بعد أبيه ، وساد قومه بما كان عليه من محاسن الأخلاق وجليل الشّيم ، وكمال الشّجاعة ووافر الكرم ، وغاية الفصاحة وغير ذلك من الصّفات الفاضلة التي لم يطاوله بها أحد. واسمه عمرو ، ولُقّب هاشماً ؛ لأنّه أوّل مَن هشم الثّريد ـ وهو الخبز مع اللحم المطبوخ بالماء ـ وأطعمه النّاس بمكّة في سنة مجدبة رحل فيها إلى فلسطين ، فاشترى منها الدّقيق وقدم به إلى مكّة ، ونحر الجزر وجعلها ثريداً عمّ به أهل مكّة. وهو الذي كان يقوم بأمر النّاس في السّنين المُجدبة ويُطعمهم أحسن الطّعام ؛ ولذلك لهجت ألسنة العرب على اختلافهم في القبائل بالثّناء عليه. وهو أوّل من سنّ الرّحلتين لقريش ، رحلة الشّتاء إلى اليمن ورحلة الصّيف إلى الشّام ، اللتين ذكرهما الله تعالى في القرآن الكريم بقوله : (لأَيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) وفي ذلك يقول الشّاعر :

عَمرُو العُلا هشمَ الثَّريدَ لقومِهِ

ورجالُ مكَّةَ مُسْنتونَ عِجافُ

بَسطُوا إليهِ الرّحلَتينِ كليْهما

عند الشّتاءِ ورحلة الأصيافِ

وكان السّبب في سَنِّ هاشم الرّحلتين ما ذكره عطاء عن ابن عباس : إنّ قريشاً كانوا إذا أصاب واحداً منهم مخمصة ، خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفسهم خباءً حتّى يموتوا. وكان ذلك من عادات الجاهليّة ؛ كانوا يفعلونه ترفّعاً عن السّؤال ، إلى أنْ جاء هاشم بن عبد مناف ، وكان سيّد قومه ، وله ابن يُقال له أسد ، وهو والد فاطمة بنت أسد اُمِّ أمير المؤمنين علي (ع). ولأسد تِرب (أي : مقارن في

٥٢٩

السّن) من بني مخزوم يُحبه ويلعب معه ، فشكا المخزومي إلى أسد الضرَّ والمجاعة ، فدخل أسد على اُمّه يبكي وأخبرها بذلك ، فأرسلت إلى اُولئك بدقيق وشحم ، فعاشوا فيه أيّاماً ، ثمّ أتى المخزومي إلى أسد مرّة ثانية وشكا إليه الجوع ، فأخبر أسد أباه هاشماً بذلك ، فقام هاشم خطيباً في قريش ، فقال : إنّكم أجدبتم جدباً تقلّون فيه وتذلّون ، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم ، والنّاس لكم تبع. قالوا : نحن تبع لك فليس عليك منّا خلاف. فجمع كلَّ بني أب على الرّحلتين ؛ في الشّتاء إلى اليمن وفي الصّيف إلى الشّام للتجارات ، فما ربح الغنيُّ قسّمه بينه وبين الفقير حتّى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعزّ من قريش ، وهذا معنى قول الشّاعر :

يا أيُّها الرَّجلُ المُحوِّلِ رحْلَهُ

هلاَّ نزلتَ بآلِ عبدِ مَنافِ

هبلتكَ اُمّكَ لو نزلْتَ بحيِّهمْ

أمنوكَ منْ جُوعٍ ومنْ إقرافِ

الآخذونَ العهْدَ منْ آفاقِها

والرّاحلونَ لرحْلَةِ الإيلافِ

والرائشونَ وليس يوجدُ رائشٌ

والقائلون هلُمَّ للأضيافِ

والخالطونَ فقيرَهُمْ بغنيِّهمْ

حتّى يكونَ فقيرُهُمْ كالكافي

واستقرّت الرّياسة لهاشم ، وصارت قريش له تابعة تنقاد لأمره وتعمل برأيه ، وكانت الرّفادة والسّقاية في مكّة لأبيه عبد مناف ، فملك هاشم بعد أبيه الرّفادة والسّقاية ، ثمّ وليهما بعده ولده المطّلب ؛ لأنّ عبد المطّلب كان صغيراً ، ثمّ وليهما عبد المطّلب. والسّقاية : هي سقاية الحاجّ ، كانوا يسقون الحاجّ الماء والشّراب ، كانوا يطرحون الزّبيب في الماء ويسقونه الحجيج. والرّفادة : هي إطعام الحجّاج ، فكان هاشم يعمل الطّعام للحجّاج ، يأكل منه مَن لم يكن له سعة ولا زاد ، ويُقال لذلك الرّفادة. وكان هاشم إذا هلّ هلال ذي الحجّة ، قام في صبيحة ذلك اليوم وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ، ويخطب ويقول في خطبته : يا معشر قريش ، إنّكم سادة العرب ، أحسنها وجوهاً وأعظمها أحلاماً ، وأوسط العرب أنساباً وأقرب العرب بالعرب أرحاماً. يا معشر قريش ، إنّكم جيران بيت الله ، أكرمكم الله بولايته وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل ، وأنّه يأتيكم زوّار الله يُعظّمون بيته فهم أضيافه ، وأحقّ مَنْ أكرم أضياف الله أنتم ، فأكرموا ضيفه وزوّاره ؛ فإنّهم يأتون شُعثاً غُبراً من كلِّ بلد على ضوامر كالقدح ، فأكرموا ضيفه وزوّار بيته. فوربِّ هذه البنيّة ، لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طيب مالي وحلالي ما لم يُقطع فيه رحم ، ولم يُؤخذ بظلم ، ولم يدخل فيه

٥٣٠

حرام ، فمَن شاء منكم أنْ يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت أنْ لا يُخرج رجل منكم من ماله ـ لكرامة زوّار بيت الله وتقويتهم ـ إلاّ طيِّباً ؛ لم يُؤخذ ظُلماً ، ولم يقطع فيه رحم ، ولم يُؤخذ غصباً. فكانوا يجتهدون في ذلك ويُخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار النّدوة ، وتنافرت قريش وخزاعة إلى هاشم (أي : تخاصمت إليه وطلبت منه أنْ يحكم بينها) ، فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطّاعة ، فقال في خطبته : أيّها النّاس ، نحن آل إبراهيم وذرّيّة إسماعيل ، وبنو النّضر بن كنانة ، وبنو قصي بن كلاب ، وأرباب مكّة وسكّان الحرم ، لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ، ولكلٍّ في كلّ حلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته ، إلاّ ما دعا إلى عقوقِ عشيرة وقطع رحم. يا بني قصي ، أنتم كغصني شجرة أيّهما كُسر أوحش صاحبه ، والسّيف لا يُصان إلاّ بغمده ، ورامي العشيرة يُصيبه سهمه ، ومَن محكه اللجاج أخرجه إلى البغي. أيّها النّاس ، الحلم شرف والصّبر ظفر ، والمعروف كنز والجود سؤدد ، والجهل سفه ، والأيّام دول والدّهر ذو غير (أي : منقلب) ، والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله. فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ، ودعوا الفضول تُجانبكم السّفهاء ، وأكرموا الجليس يعمرُ ناديكم ، وحاموا الخليط يُرغب في جواركم ، وأنصفوا من أنفسكم يُوثق بكم. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدنية فإنّها تضع الشّرف وتهدم المجد ، وإنّ نهنهة الجاهل (أي : زجره) أهون من جريرته ، ورأس العشيرة يحمل أثقالها ، ومقام الحليم عِظة لِمَن انتفع به. فقالت قريش : رضينا بك أبا نضلة ، وهي كُنيته.

فانظر إلى ما أمر به في هذه الخطبة من شريف الأخلاق ، ونهى عنه من مساوئ الأفعال ، هل صدر إلاّ عن غزارة فضل ، وجلالة قدر ، وعلو همّة؟ قال ابن الأثير وغيره : فحسده اُميّة بن عبد شمس على رئاسته وإطعامه ، فتكلّف اُميّة أنْ يصنع صنيع هاشم فعجز عنه ، فشمتت به ناس من قريش ، فغضب ونال من هاشم ، ودعا إلى المنافرة (أي : المخاصمة) عند مَن يحكم بينهما أيّهما أكرم وأفضل ، فكره هاشم ذلك ؛ لسنّه وقدره ، فلم تدعه قريش حتّى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكّة عشر سنين ، فرضي اُميّة وجعلا حكماً بينهما الكاهن الخُزاعي ، ومنزله بعسفان. فقال الكاهن : والقمرِ الباهر ، والكوكبِ الزّاهر ، والغَمام الماطرِ ، وما بالجوِّ من طائر ، وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر ، لقد سبق هاشم اُميّة إلى المآثر أوّل منه وآخر. فقضى لهاشم بالغلبة ، وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها. وغاب اُميّة عن مكّة بالشّام عشر سنين ، وكانت هذه أوّل عداوة وقعت بين هاشم واُميّة ، واستمرت هذه العداوة التي لم يكن لها سبب إلاّ الحسد ، فلمّا جاء الإسلام كان أعدى الأعداء لرسول الله (ص) أبو سفيان ـ صخر بن

٥٣١

حرب بن اُميّة ـ وعشيرته ، فحاربوه يوم بدر ، ولم يحضرها أبو سفيان ، وقُتل ابنه حنظلة واُسر ابنه عمرو ، وهرب ابنه معاوية على رجليه حتّى ورمتا. وجيّش أبو سفيان الجيوش على رسول الله (ص) يوم اُحد ؛ انتقاماً من يوم بدر ، فقُتل عمّه الحمزة ، اغتاله وحشي بحربة بتحريض هند زوجة أبي سُفيان عليه ، وبقرت عن كبد حمزة ولاكتها ، فلم تستطع أنْ تسيغها فلفظتها ، وسُمّيت من ذلك اليوم : آكلة الأكباد ، وسُمّي ابنها : ابن آكلة الأكباد. ثمّ جيش الجيوش على رسول الله (ص) يوم الخندق ، فردّه الله بغيظه لم ينل خيراً ، ثمّ أسلم يوم الفتح كُرهاً وخوفاً ، ثمّ قام ابنه فشقّ عصا المسلمين وأثار حرب صفّين وفرّق كلمة الإسلام ، ثمّ قام ابنه يزيد فجيّش الجيوش على ابن بنت رسول الله (ص) الحسين بن علي عليهما‌السلام ، ومنعه الذّهاب في بلاد الله العريضة حتّى قتله وأهل بيته وأنصاره عطشان ظامياً ، وحمل رأسه ورؤوس أهل بيته وأنصاره ، وحمل نساءه وأطفاله كالسّبي المجلوب حتّى وردوا عليه الشّام. فكانت سلسلة فجائع محزنة ، وفظائع مخزية ، سببها حسد بني اُميّة لهاشم على ما منحه الله من فضل. وتوارث الحسد من اُميّة لبني هاشم بنو اُميّة ، وتتابعت هذه الفجائع والفظائع جيلاً بعد جيل حتّى وصلت إلى أعظمها فجيعة ؛ قتل الحسين وسبي نسائه وذرّيّته ، واُدخلوا على يزيد وهم مقرنون بالحبال ، فقال له علي بن الحسين (ع) : «يا يزيد ، ما ظنّك بجدّي رسول الله لو رآنا على هذه الحالة والصّفة؟!». فأمر بالحبال فقُطعت ، وأحضر رأس الحسين بين يديه ، فجعل ينكته بالقضيب الخيزران ، ويعلن بالشّماتة والكفر ، ويقول :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدُوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قد قتلنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتَدلْ

لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ

مِن بني أحمدَ ما كانَ فعلْ

بني اُميّةَ ما الأسيافُ نائمةٌ

عن ساهرٍ في أقاصي الأرضِ موتُورِ

تُسبى بناتُ رسولِ الله بينهُمُ

والدّينُ غضُّ المبادي غيرُ مستورِ

٥٣٢

المجلس الرّابع عشر بعد المئتين

روى الصّدوق ـ عليه الرّحمة ـ في كتاب (كمال الدّين وتمام النّعمة) ، بسنده عن ابن عباس قال : كان يوضع لعبد المطّلب بن هاشم فراش في ظلِّ الكعبة لا يجلس عليه أحد إلاّ هو ؛ إجلالاً له ، وكان بنوه يجلسون حول الفراش حتّى يخرج عبد المطّلب ، وكان رسول الله (ص) يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على الفراش ، فيعظّم ذلك أعمامه ويأخذونه ليؤخّروه ، فيقول لهم عبد المطّلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني ، فوالله ، إنّ له لشأناً عظيماً ، إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم ، إنّي أرى غرّةً تسود النّاس. ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويُقبِّله ، ويقول : ما رأيت قبله أطيب منه ولا أطهر قط ، ولا جسداً ألين منه ولا أطيب. ثمّ يلتفت إلى أبي طالب ـ وذلك أنّ عبد الله وأبا طالب لاُمٍّ واحدة ـ فيقول : يا أبا طالب ، إنّ لهذا الغُلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به ؛ فإنّه فرد وحيد ، وكن له كالاُمِّ لا يصل إليه شيء يكرهه. فلمّا تمّت له ستُّ سنين ، ماتت اُمّه آمنة بالأبواء بين مكّة والمدينة ، وكانت قدمت به على أخواله من بني عدي ، فبقي رسول الله (ص) يتيماً لا أب له ولا اُمٌّ فازداد عبد المطّلب له رقّة وحفظاً ، وكانت هذه حاله حتّى أدركت عبد المطّلبَ الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب ـ ومحمَّد (ص) على صدره ـ وهو في غمرات الموت ، وهو يبكي ويتلفّت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب ، انظر أنْ تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولم يذق شفقة اُمّه. انظر يا أبا طالب ، أنْ يكون من جسدك وبمنزلة كبدك ، فإنّي قد تركتُ بنيَّ كلّهم وأوصيتك به ؛ لأنّك من اُمّ أبيه. يا أبا طالب ، ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ، ولا اُمّه على حال اُمّه ، فاحفظه لوحدته. هل قبلت وصيتي؟ قال : نعم قد قبلت ، والله عليّ بذلك شاهد. فقال عبد المطّلب : فمد يدك إليَّ. فمدَّ يده إليه ، فضرب بيده على يده. ثمّ قال عبد المطّلب : الآن خُفّف عليّ الموت. ثمّ لم يزل يُقبّله ، ويقول : أشهد أنّي لم اُقبّل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً منك

٥٣٣

فمات عبد المطّلب وهو ابن ثمان سنين فضمّه أبو طالب إلى نفسه ، لا يُفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتّى بلغ لا يأمن عليه أحداً.

وما زال بنو هاشم معادن الوفاء وكرم الأخلاق ، وطيب الأفعال والعلم والحلم ، فما فعل عبد المطّلب في حق النّبي (ص) ممّا سمعت إلاّ عن علم توارثه عن آبائه ، وكانوا على بقيّةٍ من دين إبراهيم (ع). وقام أبو طالب بما وصّاه به أبوه من نصرة النّبي (ص) وحفظه خير قيام ، وآمن به وصدّقه ولكنّه كان يكتُم إيمانه للمصلحة ، ويجهر به أحياناً في مثل قوله :

ولقدْ علمتُ بأنَّ دينَ مُحمَّدٍ

منْ خيرِ أديانِ البريّةِ دينَا

ولكن العداوة لولده عليٍّ (ع) دعتْ قوماً إلى أنْ يقولوا زوراً وبُهتاناً إنّه لم يُسلم. أمّا وفاء بني هاشم لذرّيّة أبي طالب ، فمن مظاهره يوم عاشوراء ، فقد استشهد مع الحسين (ع) منهم سبعة عشر رجُلاً ما لهم على وجه الأرض شبيه ، من ولد علي وجعفر وعقيل أولاد أبي طالب عليهم‌السلام ، ومن ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام. وقد خطبهم الحسين (ع) وأذن لهم في الانصراف ، فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين (ع) ، واتّبعه الجماعة ، فتكلّموا بمثله ونحوه. هكذا فليكن الوفاء ، وهكذا فلتكن النّفوس الكبيرة. وما قيمة الحياة الفانية التي يُشرى بها العزّ والإباء والحياة الباقية؟ وكيف يمكن لإبناء هاشم وعبد المطّلب وأبي طالب أن يرضوا لأنفسهم الحياة بعد سيّدهم الحسين (ع) ، ويكونوا تحت إمرة سكّير بني اُميّة ودعيّها وابن دعيِّها سلالة الفحش والفجور؟! كلاّ ثمّ كلاّ ، إنّ العيش تحت إمرة هؤلاء لهو الموت الدّائم ، والقتل في سبيل العزّ لهو الحياة الخالدة. ثمّ نظر صاحب الشّفقة والرّأفة ، ومُعلّم الخَلق مكارم الأخلاق إلى بني عقيل ، فقال : «حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم». وانظروا إلى ما أجاب به هؤلاء الأعاظم ، سلالة عبد المطّلب وفروع هاشم. قالوا : سبحان الله! فماذا يقول النّاس لنا ، وما نقول لهم؟ إنّا تركنا شيخنا وسيِّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا. لا والله ، ما نفعل ولكنْ نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك. بخٍ بخٍ لهذه النّفوس العظيمة! كيف يترك بنو عقيل وهم فرع من فروع الشّجرة الباسقة الهاشميّة ، شيخ العشيرة وسيّدها ، ويتركون بني عمومتهم خير الأعمام ولا يُشاركونهم في

٥٣٤

شدائد الحرب ومكاره الطّعن والضّرب؟! كلاّ ، لا يفعلون ذلك. ولِمَ يفعلون ذلك؟ حُبّاً بالحياة وطلباً للعيش بعد سيّد العشيرة ، وبعد بني أعمامهم نجوم العشيرة وبدورها؟! إنّ العيش بعد هؤلاء لذميم. كلاّ ، لن يختاروه ، فقبّح الله عيشاً مثله. هذا هو الإباء والشّمم العظيم ، وهذه هي النّفوس الكبيرة حقّاً ، وهذه هي الأخلاق التي لا تماثل.

قومٌ كأوّلِهمْ في الفضلِ آخرُهُمْ

والفضلُ أنْ يتَساوى البدءُ والعَقَبُ

٥٣٥

المجلس الخامس عشر بعد المئتين

روى ابن عيّاش في كتاب مقتضب الأثر في النّص على الأئمة الاثني عشر ، بسنده عن الجارود بن المنذر العبدي ـ وكان نصرانياً فأسلم عام الحُديبية وحسن إسلامه ، وكان قارئاً للكتب عالماً بتأويلها ، بصيراً بالفلسفة والطّب ، ذا رأي أصيل ووجه جميل ـ قال : وفدت على رسول الله (ص) في رجال من عبد القيس ، ذوي أحلام وأسنان ، وفصاحة وبيان ، وحجّة وبرهان ، فلمّا بصروا به (ص) ، راعهم منظره ومحضره ، واُفحموا عن بيانهم ، فاستقدمت دونهم إليه فوقفت بين يديه ، وقلت : السّلام عليك يا نبيَّ الله ، بأبي أنت واُمّي! وأنشأت أقول :

يا نبيَّ الهُدى أتتك رجالٌ

قَطَعَتْ فَدْفَداً وآلاً فآلا

جابتِ البيدَ والمهامِهَ حتّى

غالَها منْ طُوى السُّرى ما غالا

قَطَعتْ دونَك الصحاصحَ تهْوِي

لا تعدُّ الكلالَ فيكَ كلالا

وطوتْها العِتاقُ تجْمحُ فيها

بكماةٍ مثل النُّجومِ تلالا

ثُمّ لمّا رأتكَ أحسنَ مرءٍ

اُفحمتْ عنكَ هيبةً وجلالا

تتَّقي شرَّ بأسِ يومٍ عصيبٍ

هائلٍ أوجلَ القلوبَ وهالا

ونداءً لمحشرِ النّاسِ طُرَّاً

وحِساباً لمَنْ تمادَى ضلالا

نحو نورٍ مِنَ الإلهِ وبرها

نٍ وبرٍّ ونعمةٍ أنْ تنالا

وأمانٍ منهُ لدَى الحشْرِ والنّشْ

رِ إذِ الخلقُ لا يُطيق السؤالا

أنبأ الأوَّلون باسمك فينا

وبأسماءٍبَعدهُ تَتَتَالا

قال : فأقبل عليّ رسول الله (ص) بصفحة وجهه المبارك ، وشمت منه ضياء لامعاً ساطعاً كومض البرق ، فقال : «يا جارود ، لقد تأخّر بك وبقومك الموعد». ـ وقد كنتُ وعدتهُ

٥٣٦

قبل عامي أنْ أفد إليه بقومي ، فلم آته وأتيته في عام الحديبية ـ فقلت : يا رسول الله ، بنفسي أنت ما كان إبطائي عنك إلاّ أنّ جلّة قومي أبطؤوا عن إجابتي حتّى ساقها الله إليك ؛ لما أرادها به من الخير لديك ، فأمّا مَن تأخر عنك ، فحظه فات منك ، ولو كانوا ممّن سمع بك أو رآك ، لما ذهبوا عنك. قال (ص) : «فَدِنْ الآن بالوحدانية». قلت : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّك عبده ورسوله.

والجارود بن المنذر العبدي هو من عبد القيس من أهل البصرة ، وعبد القيس قبيلة من العرب من شيعة علي (ع) كانت شديدة الإخلاص في ولائه ، ولمّا جاء أصحاب الجمل إلى البصرة قبل مجيء علي (ع) ، قام رجل من عبد القيس فانتصر لعلي (ع) وردّ عليهم وحاجّهم ، فهمّوا بقتله فمنعته عشيرته ، فلمّا كان الغد ، وثبوا عليه وعلى مَن معه فقتلوا منهم سبعين. ومن عبد القيس زيد بن صوحان العبدي ، وأخوه صعصعة بن صوحان ، وأخوهما سيحان بن صوحان من أهل الكوفة ، كانوا شديدي الإخلاص في ولاء علي (ع). قال زيد يوم الجمل ـ لمّا كتبت إليه عائشة : أقدم في نصرنا أو فخذّل النّاس عن علي ـ : رحم الله اُمّ المؤمنين ، اُمرت أنْ تلزم بيتها واُمرنا أنْ نُقاتل ، فتركت ما اُمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما اُمرنا به ونهتنا عنه. فقُتل زيد يوم الجمل وأخوه سيحان وارتثّ صعصعة. ومنهم حكيم بن جبّلة العبدي من أهل البصرة ، كان من الأبطال الشّجعان ، صادق الولاء لعليٍّ (ع). [روي : أنه] لمّا بلغه ما صنع أصحاب الجمل بعثمان بن حُنيف ، عامل علي (ع) على البصرة من ضربه ، ونتف لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه ، وحبسه ، قال : لستُ أخاف الله إنْ لم أنصره. فجاء في جماعة من عبد القيس ، فقال له عبد الله بن الزّبير : ما لك يا حكيم؟ قال : اُريد أنْ تُخلّوا عن عثمان بن حُنيف ، فيُقيم في دار الإمارة كما كتبتم بينكم وبينه. فقال ابن الزّبير : لا يُخلّى سبيله حتّى يخلع عليّاً. فأنشب حكيم القتال ومعه أربعة قوّاد ، وحكيم بحيال طلحة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلثمئة ، فضرب رجل ساقَ حكيمٍ فقطعها ، فأخذ حكيمٌ ساقه فرماه بها فأصاب عُنقه فصرعه ووقذه (أي : تركه مسترخياً مُشرفاً على الموت) ، ثمّ حبا إليه فقتله واتكأ عليه ، وقال :

يا فَخْذُ لا تُراعِي

إنّ معي ذِراعي

أحمي بها كِراعي

فأتى عليه رجلٌ وهو رثيث ، فقال : ما لك يا حكيم؟ قال : قُتلت. قال : مَن قَتلك؟ قال :

٥٣٧

وسادتي. فاحتمله فضمّه في سبعين من أصحابه ، فخطبهم حكيم وأنّه لقائم على رجل واحدة ، وإنّ السّيوف لتأخذهم فما يتعتع ، فقال : إنّا خلّفنا هذين وقد بايعا عليّاً (ع) وأعطياه الطّاعة ، ثمّ أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان ، ففرّقا بيننا. اللهمّ ، إنّهما لم يُريدا عثمان. فقُتل حكيم والسّبعون الذين معه من عبد قيس ، وقُتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرّعل. ومنهم مارية ابنة منقذ العبديّة من أهل البصرة ، كانت تتشيع وكانت دارها مألفاً للشيعة يتحدثون فيها. وكان مع الحسين (ع) يوم الطّفِّ من عبد القيس سبعة فيهم مولى ، كلّهم من أهل البصرة ، وهم : يزيد بن ثبيط العبدي البصري ، وابناه عبد الله وعبيد الله ، وعامر بن مسلم العبدي ومولاه سالم ، وسيف بن مالك العبدي ، والأدهم بن اُميّة العبدي. ولمّا بلغ يزيد بن ثبيط مكاتبة أهل العراق للحسين (ع) ، عزم على الخروج إلى الحسين (ع) ، وكان له بنون عشرة فدعاهم إلى الخروج معه ، فأجابه منهم اثنان ، وهما : عبد الله وعبيد الله. وقال لأصحابه في بيت مارية ابنة منقذ العبديّة : إنّي قد عزمت على الخروج فمَن يخرج معي؟ فقالوا : إنّا نخاف أصحاب ابن زياد. فقال يزيد : إنّي والله ، لو استوت أخفافها بالجدد ـ يعني ناقته ـ لهان عليّ طلب مَن طلبني. ثمّ خرج وابناه وصحبه الأربعة الباقون حتّى انتهى إلى مكّة ، فاستراح ثمّ ذهب إلى منزل الحسين (ع) ، وكان الحسين (ع) لمّا بلغه مجيئه ، جاء إلى رحله وجلس ينتظره ، فلمّا رجع يزيد ورأى الحسين (ع) في رحله ، قال : (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا). السّلام عليك يابن رسول الله. ثمّ جلس إليه وأخبره بالذي جاء له ، وما زال معه حتّى قُتل بين يديه بالطّفِّ مبارزة ، وقُتل ابناه وقُتل الأربعة الباقون كلّهم ، قُتلوا بين يدي الحسين (ع). وفي رثاء الحسين (ع) ورثاء يزيد بن ثبيط وولديه ، يقول ولده عامر بن ثبيط :

يا فروُ قومِي فاندُبِي

خيرَ البَريَّةِ في القبورِ

وابكِي الشّهيدَ بعَبٍرةٍ

منْ فيضِ دمعٍ ذي درُورِ

وارثِي الحُسينَ معَ التَّفجْ

جُعِ والتَّأوهِ والزَّفيرِ

قتلوا الحرامَ من الأئمْ

مَةِ في الحرامِ منَ الشُّهورِ

وابكِي يزيدَ مُجدَّلاً

وابنيهِ في حرِّ الهجيرِ

مُتزمِّلين دماءَهُمْ

تجري على لببِ النُّحورِ

يا لهفَ نفْسِي لمْ تفُزْ

معهمْ بجنّاتٍ وحورِ

نصروا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طُوبى لهُمْ

نالُوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ

٥٣٨

المجلس السّادس عشر بعد المئتين

قال الصّدوق في كتاب كمال الدّين : كان قسُّ بن ساعدة بن حداق بن زهير بن إياد بن نزار الأيادي أوّل مَن آمن بالبعث من أهل الجاهليّة ، وأوّل مَن توكأ على عصا ، وكان يقول : إنّ لله ديناً هو خير من الدّين الذي أنتم عليه. وكان النّبي (ص) يترحّم عليه ، ويقول : «يُحشر يوم القيامة اُمّة واحدة». ثمّ روى بسنده عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : «بينا رسول الله (ص) ذات يوم بفناء الكعبة يوم افتتح مكّة ، إذ أقبل إليه وفد بكر بن وائل فسلّموا عليه ، فقال (ص) : هل عندكم علمٌ من خبر قسِّ بن ساعدة الأيادي؟ قالوا : نعم يا رسول الله. قال : فما فعل؟ قالوا : مات. فقال رسول الله (ص) : فكأنّي أنظر إلى قسِّ بن ساعدة الأيادي وهو بسوق عكاظ على جمل له أحمر ، وهو يخطب النّاس ويقول : اجتمعوا أيّها النّاس ، فإذا اجتمعتم فأنصتوا ، فإذا أنصتم فاستمعوا ، فإذا استمعتم فعُوا ، فإذا وعيتم فاحفظوا ، فإذا حفظتم فاصدقوا. ألا أنّه مَن عاش مات ، ومَن مات فات ، ومَن فات ليس بآت. إنّ في السّماء خبراً وفي الأرض عِبراً ، سقفٌ مرفوعٌ ومهادٌ موضوع ، ونجومٌ تمور وليلٌ يدور ، وبحارُ ماء لا تغور. يحلف قسٌّ ما هذا بلعب ، وأنّ من وراء هذا لعجباً. مالي أرى النّاس يذهبون فلا يرجعون؟! أرضَوا بالمقام فأقاموا ، أم تُركوا فناموا؟ يحلف قسٌّ يميناً غيرَ كاذبة : أنّ لله ديناً هو خير من الدّين الذي أنتم عليه. ثمّ قال رسول الله (ص) : رحم الله قسَّاً ، يُحشر يوم القيامة اُمّة واحدة. ثمّ قال (ص) : هل فيكم أحدٌ يُحسن من شعره شيئاً؟ فقال بعضهم : سمعته يقول :

في الأوَّلينَ الذَّاهبيْ

نَمنَ القُرونِ لنا بصائرْ

لمَّا رأيتُ مَوارداً

للموتِ ليسَ لها مصادرْ

ورأيتُ قَوْمي نحوَها

تمضِي الأكابرُ والأصاغرْ

لا يرجِعُ الماضي إليْ

يَ ولا منَ الباقينَ غابرْ

٥٣٩

أيقنتُ أنّي لا مَحا

لةَ حيثُ صارَ القومُ صائرْ

قال الصّدوق رحمه الله : وبلغ من حكمة قسِّ بن ساعدة ومعرفته ، إنّ النّبي (ص) كان يسأل مَن يقدم عليه من إياد عن حِكَمِهِ ، ويُصغي إليها سمعه. ثمّ روى بسنده : إنّ وفداً من إياد قدموا على رسول الله (ص) ، فسألهم عن حِكَم قسِّ بن ساعدة ، فقالوا : قال قسٌّ :

يا ناعيَ الموتِ والأمواتُ في جدثٍ

عليهمُ منْ بقايا بزِّهمْ خِرَقُ

دعْهُمْ فإنَّ لهم يوماً يُصاحُ بهمْ

كما يُنبَّهُ منْ نَوماتِهِ الصَّعقُ

حتّى يجيئُوا بحالٍ غيرِ حالِهمُ

خلقٌ مَضوا ثمَّ ماذا بعد ذاكَ لقوا

منهُمْ عُراةٌ ومنهُمْ في ثيابِهمُ

منها الجديدُ ومنها الأورقُ الخَلِقُ

مطرٌ ونبات ، وآباء واُمّهات ، وذاهبٌ وآت ، وآياتٌ في إثر آيات ، وأمواتٌ بعد أموات. ضوءٌ وظلام ، وليالٌ وأيّام ، وفقيرٌ وغني ، وسعيدٌ وشقي ، ومُحسنٌ ومُسيء. كلاّ بل هو الله واحدٌ ليس بمولود ولا والد ، أعادَ وأبدى وإليه المآب غداً. وفي رواية : أمات وأحيا ، وخلق الذّكر والاُنثى ، وهو ربُّ الآخرة والاُولى.

ومن حِكم قسِّ بن ساعدة ، ما رواه الصّدوق في كمال الدّين ، بسنده عن ابن عباس عن أبيه قال : جمع قسُّ بن ساعدة وُلده ، فقال : إنّ المِعا تكفيه البقلة وتُرويه المذْقة ، ومَن عيّرك شيئاً ففيه مثله ، ومَن ظلمك وجد مَن يظلمه. متى عدلت على نفسك عدل عليك مَن فوقك ، فإذا نهيتَ عن شيء فابدأ بنفسك ، ولا تجمع ما لا تأكل ولا تأكل ما لا تحتاج إليه ، وإذا ادّخرت فلا يكونن كنزُك إلاّ فعلك. وكُنْ عفَّ العيلة (١) مشترك الغنى تسُدْ قومك ، ولا تشاورنّ مشغولاً وإنْ كان حازماً ، ولا جائعاً وإنْ كان فَهماً ، ولا مذعوراً وإنْ كان ناصحاً. ولا تضعنَّ في عُنقك طوقاً لا يمكنك نزعه إلاّ بشقِّ نفسك ، وإذا خاصمت فاعدل ، وإذا قلت فاقتصد ، ولا تستودعن أحداً دينك (٢) وإنْ قرُبت قرابته ؛ فإنّك إذا فعلت ذلك لم تزل وجلاً ، وكان المستَودَع بالخيار في الوفاء بالعهد ، وكنتَ له عبداً ما بقيت ، فإنْ جنى عليك كنت أولى بذلك ، وإنْ وفى كان

____________________

(١) يعني : كُنْ عند فقرك غنيّاً. ـ المؤلّف ـ

(٢) قال الصّدوق : أمر بالتّقيّة في دينه. ـ المؤلّف ـ

٥٤٠