المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

صالُوا وجالُوا وأدَّوا حقَّ سيِّدِهمْ

في موقفٍ عقَّ فيهِ الوالدَ الولدُ

وشاقهُمْ ثمرُ العُقبَى فأصبَح في

صدورِهمُ شجرُ الخطيِّ يختضدُ

٥٠١

المجلس السّادس بعد المئتين

من كتابٍ لأمير المؤمنين (ع) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري ، وكان عامله على البصرة ، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها : «أمّا بعدُ يابن حنيف ، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعتَ إليها ، تُستطاب لك الألوان وتُنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تُجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيّهم مدعو ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنِلْ منه. ألا وإنّ لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألاَ وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد ، وعفّة وسداد ، فوالله ، ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حزت من أرضها شبراً. بلى ، كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلَّته السّماء ، فشحَّتْ عليها نفوس قوم ، وسخَتْ عنها نفوس قوم آخرين ، ونِعمَ الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنّفس مظانُّها في غدٍ جَدَثٌ تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها! وحفرة لو زِيد في فُسحتها ، وأوسعت يدََا حافرها ، لأضغَطها الحجر والمدر ، وسدّ فُرَجها التراب المتراكم! وإنّما هي نفسي اُروّضُها بالتّقى لتأتيَ آمنةً يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المَزْلَق. ولو شئتُ لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أنْ يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة مَن لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع. أوَ أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟! أوَ أكون كما قال القائل :

وحسبُكَ عاراً أنْ تبيت ببطنةٍ

وحولكَ أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ

٥٠٢

أأقنع من نفسي بأنْ يُقال : أمير المؤمنين ، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش؟! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يُراد بها. أو أترك سدىً ، أو أهمل عابثاً ، أو أجرّ حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة؟! وكأنّي بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب ، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. ألا وإنّ الشجرة البرّيّة أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً ، والنّباتات البدويّة أقوى وقوداً وأبطأ خموداً ، وأنا من رسول الله (ص) كالصنوِ من الصنوِ ، والذراع من العضُد. والله ، لو تظاهرت العرب على قتالي لمَا ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها». فدىً لك نفسي وأهلي ومالي يا أمير المؤمنين ، ويا بطل المسلمين ، ويا قاتل النّاكثين والقاسطين والمارقين ، ويا مَن انتهت إليه الشجاعة والفروسيّة. واقتفى أثره في ذلك ولده أبو عبد الله الحسين (ع) ، فإنّ هذا الشبل من ذلك الأسد ، وهذا الثمر من ذلك الشجر.

ولا عجبٌ أنْ يُشبهَ الليثُ شبلَهُ

وحقٌّ على ابنِ الصَّقرِ أنْ يُشبهَ الصَّقرا

فهو الذي اختار المنيّة على الدنيّة ، ومصارع الكرام على طاعة اللئام ، وموت العزّ على حياة الذل.

لهُ منْ عليٍّ في الحروبِ شجاعةٌ

ومنْ أحمدٍ عندَ الخطابةِ قيلُ

وقد شهدت له بالصبر أعداؤه ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ ؛ وذلك لمّا دعا النّاس إلى البراز ، فلمْ يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمةً ، وهو في ذلك يقول :

القتلُ أولَى منْ رُكوبِ العارِ

والعارُ أولَى منْ دخولِ النّارِ

قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً (أي : مغلوباً) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً منه ، وإنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا

٥٠٣

حول ولا قوّة إلاّ بالله». فلمّا رأى شمر ذلك ، استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرُماة أنْ يرموه فرشقوه بالسِّهام حتّى صار كالقنفذ ، فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه ، وجاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا بينه وبين رحله الذي فيه ثقله وعياله ، فصاح (ع) : «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان! إنْ لمْ يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرُباً كما تزعمون». فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة؟ قال (ع) : «أقول : إنّي اُقاتلكم وتقاتلونني ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً». فقال شمر : لك ذلك يابن فاطمة. ثمّ صاح : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فلَعمري لهو كفؤ كريم. فقصده القوم ، وهو في ذلك يطلب شربة من الماء ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه.

قال اقصدُوني بنفسِي واتْركُوا حَرَمي

قدْ حان حَينِي وقدْ لاحتْ لوائحُهُ

٥٠٤

المجلس السّابع بعد المئتين

من كلام لأمير المؤمنين (ع) : «إليكِ عنّي يا دُنيا ، فحبلك على غاربك ، قد انسللتُ من مخالبك وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبت الذهاب في مداحضك. أين القرون الذين غررتهم بمداعبك؟ أين الاُمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ فها هم رهائن القبور ومضامين اللحود. والله ، لو كنتُ شخصاً مرئيّاً وقالباً حسيّاً ، لأقمت عليك حدود الله في عبادٍ غررتهم بالأماني ، واُمم ألقيتهم في المهاوي ، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر. هيهات! مَن وطئ دَحْضك زلِق ، ومَن ركب لُجَجك غرِق ، ومَن ازْوَرَّ عن حبائلك وُفِّق ، والسّالم منك لا يُبالي إنْ ضاق به مناخه ، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزُبي عنّي ، فو الله ، لا أذلّ لك فتستذلّيني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيَم الله ، يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ، لأروضنّ نفسي رياضةً تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً ، ولأدَعنَّ مُقلتي كعين ماءٍ نضب معينها ، مستفرغة دموعها ، تمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك ، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ، ويأكل علي من زاده فيهجع! قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة ، والسّائمة المرعية. طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم ، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم ، (اُولئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). كما فعل أصحاب الحسين (ع) ليلة العاشر من المُحرّم ؛ فإنّهم قاموا الليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ليلة العاشر من المُحرّم ولهم دويّ كدويّ النّحل ؛ ما بين قائم وقاعد.

سمةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

لله إنْ ضمّتْهُمُ الأسحارُ

٥٠٥

فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ

بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (ع) برأسه خفقة ، ثمّ استيقظ فقال : «رأيت كأنّ كلاباً قد قربت لتنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيتُه أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجل أبرص. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (ص) ومعه جماعة من أصحابه ، وهو يقول : يا بُني ، أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكنْ إفطارك عندي الليلة ، عجّل ولا تتأخر ، هذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء».

إنْ يقتلُوكَ فلا عنْ فقدِ معْرفةٍ

الشمسُ مَعْروفةٌ بالعينِ والأثرِ

قدْ كُنتَ في مشرقِ الدُّنيا ومغرِبِها

كالحمدِ لمْ تُغنِ عنها سائرُ السُّورِ

٥٠٦

المجلس الثامن بعد المئتين

عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه عن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، قال : «بينما أمير المؤمنين (ع) جالسٌ ذاتَ يوم مع أصحابه يُعبّئهم للحرب ، إذ أتاه شيخ عليه هيئة السّفر فسلّم عليه ، ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، إنّي أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير ، قد سمعت فيك من الفضل ما لا اُحصيه ، فعلّمني ما علّمك الله. قال : نعم يا شيخ ، مَن اعتدل يوماه فهو مغبون ، ومَن كانت الدنيا همّته كثُرت حسرته عند فراقها ، ومَن كان غده شرّاً من يومه فمحروم ، ومَن لمْ يُبالِ ما ذهب من آخرته إذا سلمت دنياه فهو هالك. يا شيخ ، مَن خاف البيات قَلّ نومُه ، ما أسرع الليالي والأيام في عمر العبد! فاخزن لسانك وعد كلامك. يا شيخ ، ارضَ للناس ما ترضى لنفسك ، وائت إلى النّاس ما تُحبّ أنْ يُؤتى إليك. ثمّ أقبل على أصحابه ، فقال : أيّها النّاس ، أمَا تَرَون إلى أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتّى؟ فبين صريع يتلوّى ، وبين عائد ومعود ، وآخر بنفسه يجود ، وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، وعلى أثر الماضي يصير الباقي. فقال له زيد بن صوحان العبدي : يا أمير المؤمنين ، أيّ سلطان أغلب وأقوى؟ قال : الهوى. قال : فأيّ ذُلّ أذل؟ قال : الحرص على الدنيا. قال : فأيّ فقر أشد؟ قال : الكفر بعد الإيمان. قال : فأيّ عمل أفضل؟ قال : التّقوى. قال : فأيّ صاحب أشرّ؟ قال : المُزيّن لك معصية الله. قال : فأيّ الخلق أشقى؟ قال : مَن باع دينه بدنيا غيره. قال : فأيّ النّاس أحمق؟ قال : المغتر بالدنيا وهو يرى ما فيها من تقلّب أحوالها. قال : فأيّ النّاس أشدّ حسرة؟ قال : الذي حُرم الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين. قال : فأيّ الخلق أعمى؟ قال : الذي عمل لغير الله يطلب من عمله الثوابَ من عند الله. قال : فأيّ المصائب أشد؟ قال : المصيبة بالدِّين. قال : فأيّ النّاس خير عند الله؟ قال : أخوفهم له ، وأعملهم بالتّقوى ، وأزهدهم في الدنيا. قال : فأي الكلام أفضل عند الله؟ قال : كثرة ذكره ، والتّضرع إليه ، ودعائه. ثُمّ أقبل (ع) على الشيخ ، فقال : يا شيخ ، إنّ الله عزّ

٥٠٧

وجل خلق خلقاً ضيّق الدنيا عليهم نظراً لهم ؛ فزهّدهم فيها وفي حطامها ، فرغبوا في دار السّلام ، وصبروا على ضيق المعيشة ، وصبروا على المكروه ، واشتاقوا إلى ما عند الله ، وبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة ، فلقوا الله وهو عنهم راض ٍ». كما فعل أنصار الحسين (ع) حين بذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة في سبيل الله وبين يدَي ابن بنت رسول الله (ص) ؛ ففدوه بأنفسهم ، ووقوه بمهجهم حتّى قُتلوا عن آخرهم ، فمنهم : سعيد بن عبد الله الحنفي الذي وقف بين يدي الحسين (ع) يقيه من النّبال بنفسه ما زال ولا تخطّى ، فما زال يُرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض ، وهو يقول : اللهمّ ، العنهم لعن عاد وثمود. اللهمّ ، أبلغ نبيّك عنّي السّلام ، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح ؛ فإنّي أردتُ ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك. وفي رواية : أنّه قال : اللهمّ ، لا يعجزك شيء تريده ، فأبلغ محمّداً (ص) نُصرتي ودفعي عن الحسين (ع) ، وارزقني مرافقته في دار الخلود. ثمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوُجِد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح.

نَصرُوا ابنَ بنتِ نَبيِّهمْ طُوبَى لهُمْ

نالُوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ

قدْ جاورُوهُ ها هُنا بقبورِهُمْ

ولهمُ قصورٌ للحسينِ مُحاذيهْ

٥٠٨

المجلس التاسع بعد المئتين

من خطبة لأمير المؤمنين (ع) : «سبحانك خالقاً ومعبوداً! بُحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً ، وجعلت فيها مأدَبةً ؛ مشرباً ومطعماً ، وأزواجاً وخدماً ، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً. ثمّ أرسلت داعياً يدعو إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغَّبت فيه رَغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حُبِّها ، ومَن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه ؛ فهو ينظر بعينٍ غير صحيحة ، ويسمع باُذنٍ غير سميعة ؛ قد خرفت الشهوات عقله ، وأماتت الدُّنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولا في يده شيء منها ، حيثما زالتْ زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا يزدجر من الله بزاجر ولا يتَّعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغِرّة حيث لا إقالة ولا رجعة ؛ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدُّنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يُوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبينَ أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه ، على صحة من عقله وبقاء من لُبّه ، يُفكر فيمَ أفنى عمره وفيمَ أذهب دهره ، ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرِّحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعاتُ جمعها ، وأشرف على فراقها ، تبقى لمَن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها ؛ فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره ، والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ، فلمْ يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه وسمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه ، يُردد طرفه بالنّظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم ، ثمّ ازداد الموت التياطاً به ، فقُبض بصره كما قُبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده

٥٠٩

فصار جيفة بين أهله ، قد اُوحشوا من جانبه وتباعدوا من قُربه لا يُسعد باكياً ولا يُجيب داعياً ، ثمّ حملوه إلى محطٍّ في الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته ، حتّى إذا بلغ الكاتب أجله والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوّله ، وجاء من أمر الله ما يُريده من تجديد خلقه ، أماد السّماء وفطرها ، وأرج الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ، ودكّ بعضها بعضاً من هيبة جلاله ومخُوفِ سطوته ، وأخرج مَن فيها فجدّدهم [بعد] إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لمِا يُريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء ؛ فأمّا أهل طاعته ، فأثابهم بجواره وخلّدهم في داره ، حيث لا يظعن النّزال ولا تتغير لهم الحال ، ولا تنوبهم الأفزاع ولا تنالهم الأسقام ، ولا تعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم الأسفار ؛ وأمّا أهل المعصية ، فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النّواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ومقطّعات النّيران ، في عذاب قد اشتدّ حرُّه ، وباب قد اُطبق على أهله في نار لها كَلَب ولجب ، ولهب ساطع وقصيف هائل ، لا يظعن مُقيمها ولا يُفادى أسيرها ، ولا تفصهم كبولها. لا مدّة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيقضى». مقام عظيم أبكى زين العابدين (ع) وقال : «ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري؟! وأرى نفسي تُخادعني وأيامي تُخاتلني ، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت. فمالي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي ، أبكي لظلمة قبري ، أبكي لضيق لحدي ، أبكي لسؤالِ منكر ونكير إيّاي ، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري ، أنظر مرّةً عن يميني واُخرى عن شمالي ، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ وذلّةٌ ولمْ يزل زين العابدين (ع) ، وهو ذو الحلم الذي لا يبلغ الوصف إليه ، حزيناً على مصيبة أبيه الحسين (ع) مدّة حياته بعد أبيه ، وهي أربعون سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كُلْ يا مولاي. فيقول (ع) : «قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان». فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتّى يبلّ طعامه من دموعه ، ثمّ يمزج شرابه بدموعه ، فلمْ يزلْ كذلك حتّى لحق بالله عزّ وجل.

فيا وقْعةً لمْ تُبلَ إلاّ تجدّدتْ

وأحزانُها بين الضِّلوعِ رواسخُ

٥١٠

المجلس العاشر بعد المئتين

من كلام لأمير المؤمنين (ع) في صفة الأموات : «سلكوا في بُطون البرزخ سبيلاً سُلِّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومِهم وشربتْ من دمائهم ، فأصبحوا في فجَوات قبورِهم جماداً لا يَنْمون ، وضِماراً لا يُوجدُون ؛ لا يُفزعُهم ورودُ الأهوال ولا يحزنهم تنكُّر الأحوال ، ولا يحفلون بالرّواجف ولا يأذنون للقواصف. غُيّباً لا يُنتَظَرون وشهوداً لا يحضرُون ، وإنّما كانوا جميعا فتشتَّتوا واُلاَّفاً فافتَرقوا. وما عن طول عهدهم ، ولا بُعد محلِّهم عَميتْ أخبارُهم وصَمَّت ديارُهم ، ولكنّهم سُقوا كأساً بدّلتهم بالنُّطق خَرَساً ، وبالسّمع صَمماً ، وبالحركات سُكوناً. جيرانٌ لا يتأنَّسون وأحبَّاء لا يتزاورون ، بَلِيت بينهم عُرى التّعارف وانقطعت منهم أسباب الإخاء ؛ فكُلّهم وحيدٌ وهم جميع ، وبجانب الهجرِ وهم أخلاّء. لا يتعارفون لليلٍ صباحاً ولا لنهار مساء ، أيُّ الجديدين (١) ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظعَ ممّا خافوا ، ورأوا من آياتها أعظمَ ممّا قدَّروا. ولئن عميت آثارُهم وانقطعت أخبارُهم ، لقد رجعت فيهم أبصارُ العِبر ، وسمعت عنهم آذانُ العقول ، وتكلّموا من غير جهات النُّطق ، فقالوا : كَلَحت الوجوه النّواضر ، وخوت الأجسام النّواعم ، ولبسنا أهدام البِلى ، وتكاءَدَنا ضيق المضجع ، وتوارَثْنا الوحشة ، فانمحت محاسنُ أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتُنا ، ولمْ نجدْ من كربٍ فرجاً ، ولا من ضيقٍ مُتّسعاً. فلو مثّلتهم بعقلك ، أو كُشف عنهم محجوب الغطاء لك ، وقد ارتسختْ أسماعهم بالهوامِّ فاستكَّتْ ، واكتحلت أبصارُهم بالتّراب فخَسَفَتْ ، وتقطَّعتْ الألسنة في أفواههم بعد ذَلاقتها ، وهمدتْ القلوب في صدورهم بعد يقظتها ، وعاث في كلِّ جارحة منهم جديدُ بلىً سَمَّجَها ، وسهَّل طُرقَ الآفةِ إليها ، لرأيت أشجان قلوبٍ واقذاءَ عيون. وكم أكلتْ

_______________________

(١) الليل والنهار.

٥١١

الأرض من عزيزِ جسدٍ ، وأنيق لونٍ كان في الدّنيا غذيَّ ترفٍ وربيب شرف! يتعلّل بالسّرور في ساعة حُزنه ويفزعُ إلى السّلوة إنْ مصيبةٌ نزلتْ به ؛ ضنّاً بغضارة عيشه ، وشَحاحةً بلهوه ولَعبه. فبينا هو يضحك إلى الدُّنيا وتضحك الدُّنيا إليه ، إذ وطئَ الدهر به حَسَكهُ ، ونقضت الأيّام قُواه ، فخالطه بثٌّ لا يعرفه ، ونجيُّ همٍّ ما كان يجدُه ، وتولَّدت فيه فتراتُ عللٍ ، آنَسَ ما كان بصحَّته حتّى فتر مُعلِّله وذَهَل مُمرِّضُه ، وتعايا أهلُه بصفة دائه ، وخَرسوا عن جواب السّائلين عنه. فبينا هو كذلك على جَناحٍ من فراق الدُّنيا وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارضٌ من غُصصهْ ، فتحيَّرت نوافذ فِطنتهْ ، ويَبِستْ رطوبةُ لسانهْ. فكم من مهمٍّ من جوابه عرفه فعيَّ عن ردّه! ودعاءٍ مُؤلمٍ لقلبه سَمعه فتصامَّ عنه! من كبير كان يُعظِّمه ، أو صغيرٍ كان يرْحمُهْ. وإنّ للموت لَغمراتٍ هي أفظع منْ أنْ تستغرق بصفة ، أو تعتدلَ على قلوب أهل الدُّنيا». ولذلك سأل زين العابدين (ع) مِن ربِّه الرحمة عند تلك الغمرات ، فقال : «ارحم في هذه الدنيا غربتي ، وعند الموت كربتي ، وفي القبر وحدتي ، وفي اللّحد وحشتي ، وإذا نُشرت للحساب بين يديك ذلّ موقفي. وارحمني صريعاً على الفراش تُقلّبني أيدي أحبَّتي ، وتفضَّل عليَّ ممدوداً على المغتسل يُغسِّلُني صالحُ جيرتي ، وتحنَّنْ عليَّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطرافَ جنازتي ، وجُد عليَّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حُفرتي ، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي». هذا كلام زين العابدين (ع) وخوفه من أهوال الموت وغمراته ، وأهوال ما بعد الموت ، وهو إمام أهل البيت في عصره ، وزين العابدين الذي ضُرب بعبادته المثل ، ولمْ يكنْ يُشبه جدّه أمير المؤمنين (ع) في عبادته غيره ، فكيف بأمثالنا من أهل التقصير؟! وهذا الإمام ، الذي هذا كلامه وهذا خوفه من ربّه وهذه عبادته ، قد حُمل أسيراً إلى ابن مرجانة نغل زياد بن سُميّة بالكوفة ، ثمّ حُمل أسيراً إلى ابن هند بالشام والغلُّ في عُنقه. ولمّا اُدخل على ابن زياد ، قال له : مَن أنت؟ فقال : «أنا علي بن الحسين». فقال : ألَيس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال (ع) له : «قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً قتله النّاس». فقال : بل الله قتله. فقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «الله يتوفَّى الأنفس حين موتها». فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي! وفيك بقيّة للردّ عليّ! اذهبوا به فاضربوا عُنقه. فتعلّقت به عمّته زينب ، وقالت : يابن زياد ، حسبُك من دمائنا. واعتنقته وقالت : لا والله ، لا اُفارقه ، فإنْ قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه ، دعوه فإنّي أراه لمَا به ـ أي : إنّه شديد المرض ـ. وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (ع) قال لعمّته : «اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه». ثمّ أقبل عليه ، فقال : «أبالقتل تُهددني يابن زياد؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا الشهادة؟».

٥١٢

نفرٌ حَوتْ جُملَ الثَّنا وتسنَّمتْ

ذُللَ المَعَالي والداً ووليدَا

مَنْ تلقَ منهُمْ تلقَ كهلاً أو فتَى

علمَ الهُدى بحرَ النَّدى المورودَا

٥١٣

المجلس الحادي عشر بعد المئتين

كان النّاس قبل الإسلام ، منهم مَن يعبد الأصنام كمشركي العرب وغيرهم ، ومنهم مَن يعبد النّار وهم المجوس ، ومنهم مَن يعبد النّجوم والكواكب ، ومنهم مَن يعبد الملائكة ، ومنهم مَن يعبد الآدميين ، ومنهم عبَدَة الأصنام والأوثان ، ومنهم مَن لا يؤمن بالبعث ويرى أنّ الأصنام تنفعه في دنياه ، ويقول : (إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) وقال في ذلك شاعرهم :

يُخبِّرُنا ابنُ كبشةّ أنْ سنُحْيا

وكيفَ حياةُ أصْدَاءٍ وهامِ

والذين كانوا على شرائع الأنبياء كانوا قد غيّروا وبدّلوا ، واتّخذوا رؤساءهم أرباباً من دون الله ؛ حلّلوا لهم حراماً ، وحرّموا عليهم حلالاً فاتَّبعوهم. وكانوا يأكلون الرّبا ويشربون الخمر ، ويطوفون بالبيت عراةً رجالاً ونساءً ، وقد فشا فيهم الزنا وارتكاب الفواحش ، ووأدوا البنات فدفنوهنّ أحياء : (وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِالاُنثَى‏ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) ومُلئت الأرض من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والسّخافات ، والبدع والقبائح وعبادة الأوثان ، فبعث الله تعالى نبيّه محمّداً (ص) على حين فترة من الرسل إلى النّاس كلّهم ، فقام في وجه العالم كافة ، ودعا إلى الإيمان بإله واحد ، آمراً بعبادته وحده لا شريك له ، مُبطلاً عبادة الأوثان والأصنام ، متمّما لمكارم الأخلاق ، حاثّاً على محاسن الصفات ، آمراً بكل حسن ، ناهياً عن كلّ قبيح. واكتفى من النّاس بأنْ يقولوا : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ، ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، ويصوموا شهر رمضان ، ويحجّوا البيت ، ويلتزموا بأحكام الإسلام. وكان قول هاتين الكلمتين موجباً أنْ يكون لقائلهما ما للمسلمين وعليه ما عليهم ولو قالهما والسّيف على رأسه ؛ وأنزل عليه قرآناً عربياً مبيناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ أعجز به بلغاء

٥١٤

العرب وفصحاءهم ، وتحدّاهم فيه بالمعارضة فلم يستطيعوا معارضته. فحوى من أحكام الدين وأخبار الماضين ، وتهذيب الأخلاق ، والأمر بالعدل والنّهي عن الظُّلم ، وتبيان كلّ شيء. ما يزال يُتلى على كرّ الدهور ومرّ الأيام وهو غضّ طريّ ، يحير ببيانه القول ، ولا تملّه الطباع مهما تكرّرت تلاوته وتقادم عهدُه.

بعث النّبي (ص) بالمساواة في الحقوق بين جميع الخلق ، وبالإخوّة بين جميع المؤمنين : (إِنّمَا الْمُؤْمنونَ إِخْوَةٌ) وبالعفو العام عمّن دخل في الإسلام (الإسلام يجبّ ما قبله) ، وسنّ شريعةً باهرة وقانوناً عادلاً ، فكان هذا القانون جامعاً لجميع ما يحتاجه النّاس في معاشهم ومعادهم ، فكان عباديّاً اجتماعيّاً سياسيّاً ، أخلاقيّاً اقتصاديّاً ، لا يشذّ عنه شيء ممّا يمكن وقوعه في الكون ويحتاج إليه بنو آدم. فما من واقعة تقع ولا حادثة تحدث إلاّ ولها في الشريعة الإسلاميّة أصل مُسلّم عند المسلمين ترجع إليه ؛ وهذا ممّا امتازت به الشريعة الإسلاميّة ؛ وذلك لأنها خاتمة الشرائع ، وباقية إلى انقراض عمر الدنيا. على أنّ العبادات في الدين الإسلامي لا تتمحض لمجرد العبادة ، ففيها منافع بدنية واجتماعيّة ، وسياسيّة وأخلاقيّة ؛ فالطهارة تُفيد النّظافة ، وفي الصلاة رياضة روحيّة وبدنيّة ، وفي صلاة الجماعة والحجّ فوائد اجتماعيّة وسياسيّة ظاهرة ، وفي الصوم رياضة النّفس وصحة البدن ، وفي المعاملات حفظ نظام الاجتماع ، وفي أحكام التجارة حفظ الحقوق ، وفي النّكاح بقاء النّسل وقطع مادة الفساد ، وفي الميراث حبس أموال الميّت على أقربائه دون الغرباء ، وفي الوصيّة والوقف عدم حرمان المرء من منفعة ماله بعد وفاته ، وفي القضاء رفع الخصام على قاعدة العدل ، وفي الأخلاقيّات حُسن العشرة والآداب. وفي السّياسيّات : الجهاد للدفاع عن الوطن ، والسّبق والرّماية لتعلُّم فنون الحرب ، والجنديّة والحدود والدِّيات لحفظ النّفوس والأموال وقمع الجرائم.

وأمرَ هذا الدِّين بتعلّم العلم وحثّ عليه : (هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ اُولُوا الألبَابِ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ من عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). «طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة». «اطلبوا العلمَ ولو في الصِّين». وأوجب تعلّم كلَّ علم نافع ـ دِيني أو صناعي ـ على الكفاية.

وأمرَ هذا الدين بالنّظر وإعمال العقل ، والأخذ بالدليل والبرهان ، وذمّ التقليد : (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى‏ طَعَامِهِ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّماوات وَالأَرْضِ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ وَيَتَفَكّرُونَ

٥١٥

فِي خَلْقِ السّماوات وَالأَرْضِ أفلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)

وحثّ على السّعي والجدّ والعمل : (وَأَن لّيْسَ لِلاْنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللّهِ) وقال رسول الله (ص) : «لأنْ يأخذ أحدكم حبلاً فيحتطب على ظهره ، خيرٌ من أنْ يأتيَ رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله ، أعطاه أو منعه». وقال النّبي (ص) : «إنّ الله يُحبّ العبد يتّخذ المهْنة ليستغني بها عن النّاس».

وآخى الإسلام بين كافّة أهله ؛ فآخى النّبي (ص) أوّلاً بين المهاجرين ، ثمّ بين المهاجرين والأنصار ؛ لانحصار المسلمين فيهم يومئذ ، وأراد (ص) بناء الإسلام على أساسٍ ثابتٍ وطيدٍ هو تأليف القلوب ، ورفع الشحناء من النَفوس ، والتّناصر والتعاون ؛ لأنّ ذلك هو السّبب الوحيد في نجاح الأعمال ورُقيّ الاُمم. وأعلن الله تعالى في كتابه العزيز المؤاخاة بين عموم أهل الأسلام ؛ شريفهم ووضيعهم ، رجالهم ونسائهم ، فقال : (إِنّمَا الْمُؤْمنونَ إِخْوَةٌ) وبهذه الإخوّة ، وعلى أساسها المتين والمحافظة عليها ، قام الإسلام وظهر وانتشر ، وبالتهاون بها ضعف وتقهقر. وأردف قوله هذا بقوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فجعل الإصلاح من مقتضى تلك الإخوّة وموجبها. وقال النّبي (ص) : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يُسلمه». فانظر بعين عقلك ، كم في هذه الإخوّة من منافع وفوائد ، ومصالح عامّة ؛ سياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة! وكم فيها من تأليف للقلوب وحفظ للنظام الاجتماعي ، وحرص على هناء العيش وسعادة البشر! وهذه هي الإخوّة الصحيحة الشريفة النّافعة التي تفوق كلَّ ما يُسمّى بالإخوّة وتُغني عنه.

والشريعة الإسلاميّة يتساوى فيها جميع الخلق في الحقوق : الملك والرعية ، والشريف والوضيع ، والغني والفقير : «لا يحلّ مالُ امرئٍ إلاّ عن طيب نفسه». «لا شفاعة في حدٍّ». «العدل شاملٌ للكلّ». (وَاُمِرْتُ لأِ عْدِلَ بَيْنَكُمُ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)

وأوجب الشرع الإسلامي على القاضي أنْ يُسوّي بين الخصمين في الكلام والسّلام ، والمكان والنّظر والإنصات ، وحرّم الرَّشوة وقبول الهديّة ، وأنْ يُلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

٥١٦

وبالغ الدِّين الإسلامي في حفظ الأمن ، والمحافظة على الأموال والدماء وشدّد فيه ، وفرضَ العقوبات الشديدة على مخالفيه : (إِنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم من خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا من الأَرْضِ) وأمر بقطع يد السّارق ، وبقتل القاتل عمداً ، وتغريم الدّية في الخطأ ، و(أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا اُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ)

واعتنى الدِّين الإسلامي بحفظ الصحة عنايةً فائقة ، فجعل النّظافة من الإيمان ، وأمر بقصّ الأظافر والشوارب وتسريح الشعر ، والوضوء عند كلّ صلاة ، وغسل الثياب والبدن والأواني من النّجاسة والقذارة ، ورخّص في ترك كلّ عبادة يُخاف منها الإضرار بالصحة ، وحرّم تناول كلَّ طعام أو شراب يضرّ بالصحة ، وحرّم الزيادة في الأكل على الشبع. وقال النّبي (ص) «المعدةُ بيت الداء ، والحميّة رأس الدواء». وأمر أنْ لا يجلس الإنسان على الطعام إلاّ وهو يشتهيه ، وأنْ يقوم عنه وهو يشتهيه. وقال الله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا) فجمع بذلك أساس علم الطبِّ وحفظ الصحة وأهمّ اُموره.

وأوجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وأمرَ بالصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام وحسن الجوار ، وبرّ الوالدين ، وأنْ يحبّ المرء لأخيه ما يُحبّ لنفسه ، ومعاونة الضعيف وحفظ مال اليتيم ، والرأفة والحنوِّ على السّائل.

ومن أحكام الشرع الإسلامي وأوامره في حفظ الحقوق والأموال : الأمر بكتابة الدَّين والإشهاد عليه ، وأخذ الرهن إنْ لمْ تكن الكتابة ، وسنَّ قانون كاتب العدل الذي اتّبعت فيه جميع دول الأرض قانون الإسلام : (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوْا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ إِلَى‏ اََجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... وَاسْتَشْهِدُوا شَاهِدَيْنِ ... وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى‏ أَجَلِهِ * وَإِن كُنْتُمْ عَلَى‏ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ).

وحرّم الدِّين الإسلام كلَّ ما فيه مفسدة ومضرّة ؛ فحرّم الرِّبا والزِّنا والفواحش ، وشرب الخمر وكلَّ مسكر والقمار ، والغيبة والنّميمة ، والحسد والكذب إلاّ في الإصلاح ورفع الضرر ، وكتمان الشهادة والسّرقة ، وقتل النّفس وقطع الطريق ، والغشّ والخيانة ، والفتنة والبغي ، والرشا وخلف العهد ، والإسراف وتضييع المال وأكل المال بالباطل ، ونهى عن التنازع والتنابز بالألقاب ، وبخس المكيال والميزان. فكم ترى من المفاسد

٥١٧

في الرِّبا بذهاب الثروات! وفي الزِّنا من اختلاط الأنساب وفساد نظام العائلة وتفشِّي الأمراض المُهلكة! وفي شرب الخمر من زوال العقل وصيرورة المرء اُضحوكة ، ووصوله إلى أقصى دركات المهانة والسّفالة ، ومن هلاك النّفوس وتلف الأموال ، والإضرار بالبدن والنّسل حتّى أنّ دولة أميركا حرّمته بعد مضي أكثر من ألف وثلاثمئة سنة من تحريم الإسلام! وفي القمار من تلف الأموال وهياج الشرّ! وفي الغيبة والنّميمة من حصول العداوات والفتن ، والإخلال بالمجتمع البشري.

ولمْ يكتفِ الشرع الإسلامي في جملةٍ من المُحرّمات بالنّهي والتحريم والعقاب في الآخرة حتّى فرض عليها التأديب والعقوبة في الدنيا ؛ فأوجب الحدَّ على الزاني بالضرب أو الرجم ، وعلى شارب الخمر بالضرب ، وعلى السّارق بقطع اليد ، وعلى مخالف العهد واليمين بغرامة ماليّة ، وفرض العقوبات التأديبيّة غير المحدودة في شتّى المواضع ، وأباح كلَّ لذَّة وزينة وتنعّم في الدُّنيا لا تخلّ بالآداب ، ولا تضرّ بالمجتمع الإنساني.

واعتنى الشرع الإسلامي بالمرأة عنايةً كبيرةً حتّى نزلت في القرآن الكريم سورة أكثرها في الوصاية بالنّساء والعناية باُمورهنّ ؛ فسُمّيت : سورة النّساء. وأوجب على الزوج القيام بكلِّ ما تحتاج إليه الزوجة من إسكانٍ وإخدام ، وكسوةٍ وطعام ، وجعل نفقتها مقدّمةً على نفقة أبويه ، العظيمُ حقُّهما عليه ، وعلى نفقة أولاده ، وأوجب معاشرتها بالمعروف : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وأبطل العادات الجائرة التي سنّتها الجاهليّة في حقّ النّساء ؛ فكان الرجل إذا زوّج أمةً أخذ صداقها دونها ، وكانوا لا يورّثون المرأة. وأكدّ النّبي (ص) الوصاية بالمرأة في مواضع كثيرة.

ولم يضيِّقْ الدِّين الإسلامي على المرأة فيما يجلب ترويح النّفس ، مع مراعاة الحشمة والآداب ، والبعد عمّا يوجب الظنّة والارتياب ، وعدم الاختلاط بالأجانب ومجانبة ما يوقع في الفساد. فالإسلام قد أكرم المرأة كرامةً ليس عليها من مزيد ، وصانها الصيانة التي تليق بكرامتها. أمّا الذين يدعون إلى السّفور وهتك الحجاب ، واختلاط الرجال بالنّساء ، فهم الذين يُريدون أنْ لا يكون بين بني آدم وحوّاء وبين البهائم فرق ، والذين يُريدون أنْ يتّخذوا لأنفسهم طريقاً سهلةً ، ووسيلةً قريبةً لقضاء شهواتهم والوصول إلى لذّاتهم. فأيّ أحكام عباديّة واجتماعيّة ، وسياسيّة وأخلاقيّة أسمى وأرقى ، وأنفع وأجمع ، وأصلح وأنجع ، وأسهل وأعدل ، وأنزه وأرفه وأقرب إلى تهذيب الأخلاق وسعادة البشر وهناء العيش من هذه الأحكام؟ أمْ أيّ أحكام تُدانيها في جميع الشرائع والأديان.

٥١٨

ولِما في هذا الدِّين من محاسن وموافقة أحكامه للعقول وسهولتها وسماحتها ، ولِما في تعاليمه من السّموِّ والحزم والجدّ ، دخل النّاس فيه أفواجاً ، وقضى أهله على أعظم ممالك الأرض ؛ مملكة الأكاسرة ومملكة الروم ، واخترق شرق الأرض وغربها ودخل جميع أقاليمها وأقطارها ، ودانت به الاُمم على اختلاف عناصرها ولغاتها. وأصبح هذا الرجل الذي فرّ من مكّة مستخفياً ، وأصحابه يُعذّبون ، يدخل مكّة بأصحابه هؤلاء ظاهراً على رغم جبابرة قريش ، فاتحاً لها ، مالكاً رقاب أهلها. وسمت نفسه إلى مكاتبة ملوك الأرض ؛ كسرى وقيصر ومَن دونهما ، ودعاهم إلى الإسلام ، وظهر دينه على الدِّين كلّه كما وعده ربّه ، وفتح أتباعه ممالك الدُّنيا. ولمْ يقمْ هذا الدِّين بالسّيف والقهر كما يُصوّره أعداؤه ؛ بل كما قال الله تعالى : (ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ من الْغَيّ) ولمْ يحارب أهل مكّة والعرب حتّى حاربوه وأرادوا قتله وأخرجوه ، وأقرّ أهل الأديان التي نزلت بها الكتب السّماويّة على أديانهم ، ولمْ يجبرهم على الدخول في الإسلام ، وأجبر الوثنيّين على ذلك.

ولمْ يكن تأخُّرُ أتباع هذا الدين وضعفهم ناشئاً إلاّ عن عدم تمسّكهم بتعاليم دينهم ، ولمْ يكن فتح العدو لبلادهم إلاّ لتهاونهم بما أمر الله تعالى به ، بقوله : (وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعْتُم من قُوّةٍ وَمن رِبَاطِ الْخَيْلِ) وعدم فهمهم مغزى قوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ).

ولمْ يطلب النّبي (ص) على ما أسداه إلينا من هذه النّعم العظيمة ، وكابده من المحن في سبيل تبليغ الرسالة أجراً ، إلاّ المودّة في القربى : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى) عن ابن عبّاس : لمّا نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله ، مَن هؤلاء الذين أمرنا الله بمودَّتهم؟ قال : «عليٌّ وفاطمةٌ وولْدُهما». وروى الحاكم في كتاب شواهد التنزيل : قال رسول الله (ص) : «لو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثمّ ألف عام ، ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشّن البالي ، ثمّ لمْ يُدرك محبَّتنا ، أكبّه الله على منخريه في النّار». ثمّ تلا : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى). وروي عن علي (ع) ، قال : «فينا في آل حم آية ، لا يحفظ مودَّتنا إلاّ كلّ مؤمن». ثمّ قرأ هذه الآية. وإلى هذا أشار الكميت بقوله :

وجدنَا لكُمْ في آلَ حاميمَ آيةً

تأوَّلها منَّا تقيٌّ ومُعربُ

وقال المؤلف :

٥١٩

أنتمْ وُلاةُ الورَى حقّاً وحُبُّكمُ

فرضٌ أكيدٌ بنصِّ الذّكرِ قدْ وَجَبا

وقال أيضاً :

وقدْ فرضَ الرَّحمنُ حُبَّهمُ على

جميعِ البرايَا في الكتابِ وأوجَبا

وحسبك قول الإمام الشافعي محمّد بن إدريس في ذلك :

يا أهلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبُّكمُ

فرضٌ منَ اللهِ في القُرآنِ أنزَلَهُ

كفاكُمُ من عظيمِ القدرِ أنَّكُمُ

مَنْ لا يُصلِّي عليكُمْ لا صلاةَ لهُ

وقال الشيخ مُحي الدِّين بن العربي :

رأيتُ ولائي آلَ طه فريضةً

على رغمِ أهلِ البُعدِ يُورثُني القُرْبا

فما طلبَ المبعوثُ أجراً على الهُدى

بتبليغِهِ إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى

ولكن هذه الاُمّة لمْ تُجازِ رسول الله (ص) على تبليغ الرسالة بالمودّة في قُرباه ـ كما أمرها الله ـ ، بل بالبغضة والشنآن ، والمحاربة والعدوان ، والقتل والأسر ، وجرّعتهم الغصص ، وأذاقتهم أنواع البلايا والمحن ؛ فحاربت ابن عمّه عليّاً (ع) وآل أمرها إلى أنْ قتلته وهو يصلّي في محرابه ، وسبّته على منابر الإسلام عشرات الأعوام في الأعياد والجماعات ، وما قامت أعواد تلك المنابر إلاّ بسيفه.

أعلَى المنابرِ تُعلنونَ بسبِّهِ

وبسيفِهِ نُصبَتْ لكُمْ أعوادُهَا

وقتلت ولده الحسن (ع) أحد السّبطين بالسّمِّ ، ومنعت من دفنه عند جدّه ، وقتلت ولده الحسين (ع) ثاني السّبطين بالسّيف ، غريباً ظامياً ، وحيداً فريداً ، بعدما قتلت أنصاره وسبعة عشر رجلاً من أهل بيته ، ليس لهم على وجه الأرض شبيه ، وقدّمت عليه يزيد السّكّير الخميّر ، صاحب القرود والفهود ، والمتجاهر بالكفر والفجور ، حتّى تطرّق العار إلى هذه الاُمّة بولاية يزيد عليها. وقال أبو العلاء المعري :

أرَى الأيامَ تفعلُ كلَّ نُكرٍ

فما أنا في العجائبِ مُستزيدُ

أليسَ قُريشكُمْ قتَلتْ حُسيناً

وكان علَى خلافتِكُمْ يزيدُ

٥٢٠