المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

للسانهِ وسنانهِ

صدقانِ من طعنٍ وقيلِ

خلطَ البَراعةَ بالشَّجا

عةِ فالصَّليلُ عنْ الدليل

وتقدّم في بعض المواقف حتّى وقف بإزاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السّيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فخطب فيهم فقال : «الحمد لله الذي خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَنْ غرّته والشقيّ مَنْ فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدّنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها وتخيب طمع مَنْ طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمتة وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرسول محمّد (ص) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله ، فتبّاً لكم ولِما تُريدون! إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين». فقال ابن سعد : ويلكم كلّموه! فإنّه ابن أبيه. فوالله ، لَو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً ، لما انقطع ولما حصر. فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول؟ أفهمنا حتّى نفهم. فقال : «أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة». ثمّ قال : «فإنْ كنتم في شكّ من هذا ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قتلتُه أو مال لكم استهلكتُه أو بقصاص من جراحة؟!». فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أنْ قد أينعت الثّمار واخضرّت الجنان ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟». فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لنْ يرَوك إلاّ ما تُحب. فقال الحسين (ع) : «لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».

بأبي أبيّ الضّيمِ لا يُعطيْ العِدى

حذَرَ المنيّةِ منه فضلَ قيادِ

٤٨١

فأبَى أنْ يعيشَ إلاّ عزيزاً

أو تَجلَّى الكفاحُ وهو صريع

رُمْحُهُ من بَنانِهِ وكأنّ منْ

عزمهِ حدُّ سيفهِ مطبوع

٤٨٢

المجلس الحادي بعد المئتين

ذكر ابن أبي الحديد : إنّ القول بتفضيل علي (ع) قول قديم قد قال به كثير من الصحابة والتابعين ، وعُدّ من الصحابة خمسة عشر رجلاً ، ثُمّ قال : وكان من بني اُميّة قوم يقولون بذلك ، منهم : خالد بن سعيد بن العاص ، وعمر بن عبد العزيز. قال : وأنا أذكر هنا الخبر المروي المشهور عن عمر بن عبد العزيز ، وهو من رواية ابن الكلبي ، قال : بينا عمر بن عبد العزيز جالساً دخل حاجبه ، ومعه امرأة ورجلان متعلّقان بها ، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر فيه : أمّا بعد ، فإنّه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور ، وعجزت عنه الأوساع ، وهربنا بأنفسنا عنه ووكّلناه إلى عالمه ، لقوله تعالى : (وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى‏ اُولِي الأَمْرِ) وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والآخر أبوها ، وإنّ أباها زعم أنّ زوجها حلف بطلاقها أنْ علي بن أبي طالب (ع) خير هذه الاُمّة ، وأولاها برسول الله (ص) ، ويزعم أنّ ابنته طُلقت منه. والزوج يقول له : كذبت وأثمت ، لقد برّ قسمي وصدقت مقالتي ، وإنّها امرأتي على رغم أنفك وغيظ قلبك. فاجتمعوا إليّ يختصمون ، وتسامع النّاس فاجتمعوا ، وقد علمت يا أميرالمؤمنين ، اختلاف النّاس في أهوائهم وتسرّعهم إلى ما فيه الفتنة ، فأحجمنا عن الحكم لتحكم فيما أراك الله. وكتب في أسفل الكتاب :

إذا ما المشكلاتُ وردنَ يوماً

فحارتْ في تأمّلها العيونُ

وضاقَ القومُ ذَرْعاً من نباهَا

فأنتَ لها أبا حفصٍ أمينُ

لأنّك قدْ حويتَ العِلمَ طُرّاً

وأحكَمكَ التَّجاربُ والشؤونُ

وخلَّفكَ الإلهُ على الرَّعايا

فحظُّكَ فيهمُ الحظُّ الثَّمينُ

فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني اُميّة وأفخاذ قريش ، ثمّ قال لأبي المرأة :

٤٨٣

ما تقول؟ فقال : هذا الرجل حلف بطلاق ابنتي كاذباً ، ثمّ أراد الإقامة معها. فقال له عمر : لعلّه لَمْ يطلّق امرأته ، فكيف حلف؟ قال الشيخ : الذي حلف عليه أبين كذباً من أنْ يختلج في صدري منه شكّ ؛ لأنّه زعم أنّ عليّاً خير هذه الاُمّة ، وإلاّ فامرأته طالق ثلاثاً. فقال للزوج : أهكذا حلفت؟ قال : نعم. فلمّا قال نعم ، كاد المجلس يرتجّ بأهله ، وبنو اُميّة ينظرون إليه شزراً إلاّ أنّهم لمْ ينطقوا بشيء ، كلّ ينظر إلى وجه عمر ، فأكبّ عمر مليّاً ينكت الأرض بيده ، والقوم صامتون ينظرون ما يقوله ، ثمّ رفع رأسه وقال :

إذا وليَ الحكومةَ بينَ قومٍ

أصابَ الحقَّ والتمسَ السَّدادا

وما خيرُ الأنامِ إذا تعدَّى

خلافَ الحقِّ واجتنبَ الرَّشادا

ثُمّ قال : ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا. فقال : سبحان الله! قولوا؟ فقال رجل من بني اُميّة : هذا حكمٌ في فرج ، ولسنا نجترئ على القول فيه. قال : قلْ ما عندك ؛ فإنّ القول ما لم يحقّ باطلاً أو يبطل حقّاً جائز عليّ في مجلسي. قال : لا أقول شيئاً. فالتفت إلى رجل من ولد عقيل بن أبي طالب ، فقال : ما تقول يا عُقيلي؟ فاغتنمها ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنْ جعلت قولي حكماً وحكمي جائزاً قلت ، وإلاّ فالسكوت أوسع لي وأبقى للمودّة. قال : قلْ وقولك حكم وحكمك ماضٍ. فقال بنو اُميّة : ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين ، إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ، ونحن من لحمتك واُولي رحمك. فقال عمر : اسكتوا عجزاً ولؤماً ، عرضت ذلك عليكم آنفاً فما انتدبتم له. قالوا : لأنّك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي. فقال : إنْ كان أصاب وأخطاتم ، وحزم وعجزتم ، وأبصر وعميتم فما ذنب عمر؟ لا أباً لكم ، أتدرون ما مثلكم؟ قالوا : لا. قال : لكن العقيلي يدري ، ثمّ قال : ما تقول؟ قال : مثلهم كما قال الأوّل :

دُعيتمْ إلى أمرٍ فلمّا عجزتُمُ

تناولَهُ مَن لا يُداخله عجز

فلمّا رايتم ذاك أبدت نفوسكم

نداماً وهل يغني من الحذر الحرزُ

فقال عمر : أحسنت وأصبت ، فقل ما سألتك عنه. قال : يا أمير المؤمنين ، برّ قسمه ، ولم تُطلّق امرأته. قال : وأنّى علمت ذلك؟ قال : نشدتك الله يا أمير المؤمنين ، ألم تعلم أنّ رسول الله (ص) قال لفاطمة عليها‌السلام ، وهو عندها في بيتها عائد لها : «يا بُنيّة ، ما علّتُك؟». قالت عليها‌السلام : «الوعك يا أبتاه». ـ وكان علي (ع) غائباً في بعض حوائج النّبي (ص) ـ فقال لها «أتشتهين شيئاً؟». قالت عليها‌السلام : «نعم ، أشتهي عِنباً ، وأنا أعلم أنّه عزيز وليس وقت عنب». فقال

٤٨٤

(ص) : «إنّ الله قادر على أنْ يجيئنا به». ثُمّ قال (ص) : «اللهمّ ، ائتنا به مع أفضل اُمّتي عندك منزلة». فطرق علي (ع) الباب ودخل ، ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه ، فقال له النّبي (ص) : «ما هذا يا علي؟». قال : «عنب التمسته لفاطمة». فقال (ص) : «الله أكبر الله أكبر! اللهمّ ، كما سررتني بأنْ خصصت عليّاً بدعوتي ، فاجعل فيه شفاءَ بُنيّتي». ثُمّ قال (ص) : «كُلي على اسم الله يا بُنيّة». فأكلت ، وما أنْ خرج رسول الله (ص) حتّى استلقت وبرئت. فقال عمر : صدقت وبررت ، أشهد لقد سمعته ووعيته. يا رجل ، خُذ بيد امرأتك ؛ فإنْ عرض لك أبوها فاهشم أنفه. ثمّ قال : يا بني عبد مناف ، والله ، ما نجهل ما يعلم غيرنا ، ولا بنا عمىً في ديننا ، ولكن كما قال الأوّل :

تصيَّدتْ الدُّنيا رجالاً بفخِّها

فلمْ يُدركوا خيراً بل استحْقَبوا شَرّا

وأعماهُمُ حبُّ الغِنى وأصمَّهُمْ

فلمْ يُدركوا إلاّ الخسارةَ والوزْرا

قال : فكأنّما اُلقم بني اُميّة حجراً ، ومضى الرجل بامرأته. وعمر بن عبد العزيز هو الذي رفع السّب عن مولانا أمير المؤمنين (ع) ، وردّ فدكاً إلى أولاد فاطمة عليها‌السلام ، وقد كان بنو اُميّة جعلوا سبّه فرضاً من الفروض الواجبة ، فكان يُسبّ على جميع منابر الإسلام في أقطار الأرض ، في الأعياد والجماعات حتّى رفعه عمر بن عبد العزيز في زمن خلافته. وفي ذلك يقول الشريف الرضي ـ رضي الله عنه ـ :

يابنَ عبدِ العزْيزِ لو بكتْ العيْ

نُ فتىً من اُميّةَ لبكيتكْ

أنتَ نزْهتَنا عن السّبِّ والشّتْ

مِ فلو أمكنَ الجزاءُ جزيتُكْ

وبنو اُميّة قد دخلوا في الإسلام كرهاً ، وبقيت في نفوسهم أحقاد بدر ويوم الفتح ، بما قتله منهم بنو هاشم حين كان جدّهم أبو سفيان يحارب رسول الله (ص) بكلِّ جهد ويكيد الإسلام ما استطاع ، فلمّا كان يوم الفتح ، أظهر الإسلام ليحقن دمه ، وأسرّ النّفاق ، وبقيت أحقاد بدر في نفسه ، ونفوس أبنائه وذرّيّته حتّى أظهرها يزيد يوم جيء إليه باُسارى أهل بيت النّبوّة ، ومعهم رأس الحسين (ع) ورؤوس أصحابه ، وكان يزيد في منظرة على جيرون ، فأنشأ يقول :

لمّا بَدتْ تلكَ الحمولُ وأشرقَتْ

تلكَ الشّموسُ على رُبى جيرونِ

نَعبَ الغُرابُ فقلتُ صحْ أو لا تَصحْ فلقدْ

قضيْتُ من الغريمِ دُيوني

٤٨٥

وغريمه هو رسول الله (ص) ، فقضى ديونه منه بقتل أولاده وذرّيّته وسبي نسائه ، وأخذ بذلك ثأره في يوم بدر ، ولمّا اُدخلت عليه الرؤوس والأسرى ، ووُضع رأس الحسين (ع) بين يديه ، جعل يقول مظهراً للفرح والشماتة ، ومجاهراً بالكفر :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قدْ قتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ

وعَدلْناهُ ببدْرٍ فاعتَدَلْ

لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

ألا َيابنَ هندٍ لا سقَى اللهُ تُربةً

ثويتَ بمثْواها ولا اخضرَّ عُودُها

أتسلبُ أثوابَ الخلافةِ هاشماً

وتطرِدُها عنها وأنتَ طريدُها

٤٨٦

المجلس الثاني بعد المئتين

قال الله تعالى في سورة الأحزاب : (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمن أَسْفَلَ منكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمنونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً) إلى قوله تعالى : (وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمنونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * من الْمُؤْمنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمنهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمنهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهِ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمنينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) نزلت هذه الآية في وقعة الأحزاب ، وتُسمّى : وقعة الخندق ، وكانت سنة خمس من الهجرة ، وسببها أنّه كان بنواحي المدينة ثلاثة بطون من اليهود ، وأصلهم من يهود فلسطين الذين جاؤوا إلى الحجاز ، وهم : بنو قينقاع وبنو النّضير وبنو قُريظة ، وكان بينهم وبين النّبي (ص) معاهدة ومهادنة ، فنقصوا العهد جميعهم ، وأوّل مَن نقضه بنو قينقاع فنفاهم إلى أذرعات ، ثُمّ نقضه بنو النّضير ، أرادوا أنْ يلقوا صخرة على النّبي (ص) من فوق سطح ، فأخبره جبرائيل بذلك فقام ، ثمّ قال لهم : «اخرجوا من بلادي ولا تُساكنوني». فامتنعوا فحاصرهم. وجاء رجل من شجعانهم ليلاً ليغتال النّبي (ص) ، ومعه تسعة أنفس ، فقتله علي (ع) وهربت التسعة ، فأخذ علي (ع) معه جماعة ولحقوهم فقتلوهم ، فعند ذلك استولى الخوف على بني النّضير ، فطلبوا من النّبيّ (ص) أنْ

_____________________

(١) تقدّمت وقعة الأحزاب في الجزء الثاني ، وأعدناها لزيادات لمْ تُذكر هناك.

٤٨٧

يسمح لهم بالخروج ، فسمح لهم على أنْ يأخذوا من أموالهم ما أمكنهم حمله عدا السّلاح ، وخرجوا إلى خيبر. وبعد وقعة اُحد جاء جماعة من رؤساء بني النّضير ، منهم حُيَي بن أخطب إلى مكّة ، فهيّجوا قريشاً على محاربة النّبيّ (ص) ، فقال لهم أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبّ النّاس إلينا مَن أعاننا على عداوة محمّد. وأرسلوا إلى قبائل من العرب فوافقتهم على ذلك ، وأرسل أبو سفيان حُيَي بن أخطب رئيس بني النّضير إلى كعب بن أسد رئيس بني قُريظة لينقض العهد ، فأبى وقال : ما رأيت من محمّد إلاّ صدقاً ووفاءً. فراوده حُيَي كثيراً حتّى قَبِل ومزّق العهد ، وبلغ ذلك النّبيَّ (ص). فجاء نعيم بن مسعود ، وهو من غَطْفان ، إلى النّبيّ (ص) فقال : إنّي أسلمت ولمْ يعلم بيّ قومي ، فمرني بما تريد؟ فقال (ص) : «خذّل عنّا ؛ فإنّ الحرب خُدعة». فجاء إلى بني قُريظة ، وكانوا ندماءه في الجاهليّة ، فقال : قد عرفتم حُبّي لكم؟ قالوا : لست عندنا بمتّهم. قال : قد ضاهرتم قريشاً على حرب محمّد ولستم مثلهم ، أنتم أهل هذه البلاد وهم غرباء ، فإنْ غلبهم محمّد ذهبوا إلى بلادهم وتركوكم ، فلا تحاربوا معهم حتّى يُعطوكم رهينة. وجاء إلى قريش ، وقال : بلغني أنّ قُريظة ندموا وبعثوا إلى محمّد : هل يُرضيك أنْ نأخذ رجالاً من قريش وندفعهم إليك فتقتلهم؟ فإنْ طلبت قُريظة رهناً ، فلا تُعطوهم. فلمّا طلبت قُريظة منهم الرهن ، قالوا : صدق نعيم ، ولمْ يعطوهم. فقالت قُريظة : الذي قال نعيم حقّ. فلمْ تحارب معهم ، واجتمعت قريش ومَن تحزّب معها من قبائل العرب واليهود فكانوا عشرة آلاف ، وقصدوا المدينة ، كما قال الله تعالى : (جَآءُوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمن أَسْفَلَ منكُمْ). فبلغ خبرهم النّبي (ص) ، فأخبر النّاس وندبهم وشاورهم ، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة ، فأعجب ذلك المسلمين ، وقسّمه رسول الله (ص) بين كلّ عشرة أربعين ذراعاً ، فأحتق المهاجرون والأنصار في سلمان كلّ يقول منّا ، فقال رسول الله (ص) : «سلمان منّا أهل البيت». وجعلوا يحفرون الخندق مستعجلين حتّى أتمّوه في ستة أيام أو أكثر. وجاء الأحزاب ونزلوا بجانب الخندق ، وخرج النّبي (ص) في ثلاثة آلاف ، فضرب معسكره إلى سفح سلع ـ وهو جبل فوق المدينة ـ وجعل سلعاً خلف ظهره والخندق بينه وبين القوم ، ولمْ يكن الخندق محيطاً بالمدينة من جميع جوانبها ، بل كان الجانب الذي من ناحية سلع مشبكاً بالبنيان لا يستطيع العدو أنْ يأتي منه ، وإنّما حُفر الخندق من الجانب الذي هو غير محصّن.

وعظم البلاء ، واشتدّ الخوف وساءت الظنون ، وهو قوله تعالى : (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا) ونجم النّفاق حتّى قال بعض المنافقين : كان محمّد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أنْ

٤٨٨

يذهب إلى الغائط ، وهو قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمنونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ) وأيقنوا بالنّصر : (وما زادهم) ما رأوا من البلاء (إلاّ إيمانا) بالله (وتسليماً) لقضائه. (من الْمُؤْمنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ) بأنّهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله (ص) ثبتوا وقاتلوا حتّى يُقتلوا أو ينتصروا : (فَمنهُم مَّن قَضَى‏ نَحْبَهُ). عن ابن عبّاس : هو حمزة ومَن قُتل معه : (وَمنهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً). عن علي (ع) : «فينا نزلت ، وأنا والله ، المنتظر وما بدّلت تبديلاً». ولمّا اشتدّ البلاء ، ورآى النّبي (ص) ضعف قلوب الأكثرين ، بعث إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عوف ـ وهما قائدا غَطْفان ـ فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أنْ يرجعا بمَن معهما ، وبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأخبرهما ، فقالا : يا رسول الله ، شيء أمرك الله به لا بدّ لنا منه ، أمْ شيء تصنعه لنا؟ فقال (ص) : «بل شيء أصنعه لكم». فقال سعد بن معاذ : قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الِشرك وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أنْ يأكلوا منّا ثمرة إلاّ قرى أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزّنا بك وبه نُعطيهم أموالنا؟ والله ، لا نعطيهم إلاّ السّيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم. وأقام المسلمون بضعاً وعشرين ليلة ، وعدوّهم محاصرهم ليس بينهم قتال إلاّ الترامي بالنّبل والحجارة ، وجاءت فوارس من قريش ، منهم : عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّان ، وضرار بن الخطاب الفهري ، فأقبلوا تعنق بهم خيلهم حتّى وقفوا على الخندق ، فصاروا إلى مكان ضيّق منه ، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم بين الخندق وسلع. قال الطبري وابن هشام وغيرهما : وخرج علي بن أبي طالب (ع) في نفر معهم من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا خيلهم منها ؛ وذلك أنّهم لمّا عبروا الخندق ، بادر علي (ع) فرابط عند الثغرة التي أقحموا خيلهم منها ليمنع مَن يريد عبور الخندق من ذلك المكان ؛ فإنّه لم يكن في الحسبان أنّ المشركين يعبرون الخندق ، فلمّا رأوهم عبروه على حين غفلة ، بادر علي (ع) بمَن معه ليمنعوا غيرهم ، وليقاتلوهم إذا أرادوا الرجوع. وهذه منقبة انفرد بها علي (ع) في هذه الغزاة بمبادرته لحماية الثغرة دون غيره ، حين بدا لهم هذا الأمر الذي لم يكن في الحسبان ، وعلموا أنّ هؤلاء الذين اقتحموا الخندق بخيولهم ، وأقدموا على ما كان يخال أنّه ليس بممكن ، هم من أشجع الشجعان. قال ابن هشام والطبري : وقد كان عمرو بن عبد ودّ قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة ، فلمْ يشهد اُحداً ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه. قال صاحب السّيرة الحلبيّة : فقال عمرو : مَن يبارز؟ فقام علي ، وقال : «أنا

٤٨٩

له يا نبيّ الله» والظاهر ان علياً لما سمع عمراً يطلب المبارزة ترك مكانه من الثغرة التي كان يحرسها وابقى بها بعض اصحابه وجاء الى النبي (ص) فقام بين يديه وقال انا له يا نبي الله فانه لم يكن ليبارزه بغير اذنه ـ فقال النّبي (ص) : «اجلس إنّه عمرو». ثمّ كرر النّداء وجعل يوبّخ المسلمين ، ويقول : أين جنّتكم التي تزعمون أنّ مَن قُتل منكم دخلها؟ أفلا يبرز إليّ رجل؟ وقال :

ولقدْ بُححتُ منَ الندا

بجمعِكُمْ هل منْ مُبارزْ

إنّي كذلكَ لمْ أزَلْ

مُتسرِّعاً نحو الهزاهزْ

إنّ الشجاعةَ في الفتَى

والجودَ منْ خيرِ الغرائزْ

فقام علي (ع) ، وهو مقنع في الحديد ، فقال : «أنا له يا رسول الله». فقال (ص) : «اجلس إنّه عمرو». ثمّ نادى الثالثة ، فقام علي (ع) ، فقال : «أنا له يا رسول الله». فقال (ص) : «إنّه عمرو». فقال (ع) : «وإنْ كان عمراً». فأذنَ له وأعطاه سيفه ذو الفقار ، وألبسه درعه وعمّمه بعمامته ، وقال (ص) : «اللهمّ ، أعنه عليه». فبرز إليه علي ، وهو يقول :

لا تعجلنَّ فقدْ أتا

كَ مُجيبُ صوتِكَ غيرُ عاجزْ

ذو نيَةٍ وبصيرةٍ والصدقُ

مَنجى كلِّ فائزْ

إني لأرجُو أنْ اُقيْ

مَ عليكَ نائحةَ الجنائِزْ

منْ ضربةٍ نجلاءَ يبْ

قَى صيتُها بعد الهزاهزْ

فقال له عمرو : مَن أنت؟ قال (ع) : «أنا علي». قال : ابن مَن؟ قال (ع) : «ابن عبد مناف ، أنا علي بن أبي طالب». فقال : غيرك يابن أخي من أعمامك مَن هو أشدّ منك فانصرف ؛ فإنّي أكره أنْ أهريقَ دمك ؛ فإنّ أباك كان لي صديقاً وكنتُ له نديماً فقال علي (ع) : «لكنّي والله ، ما أكره أنْ أهريق دمك». وقال له علي (ع) : «إنّك كنت تقول : لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها». قال : أجل. فدعاه إلى الإسلام ، فقال : أخّر عنّي هذه. قال (ع) : «واُخرى ترجع إلى بلادك ، فإنْ يكُ محمّد صادقاً كنت أسعد النّاس به ، وإنْ يكُ كاذباً كان الذي تريد». قال : هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبداً ، كيف وقد قدرت على استيفاء ما نذرت؟ ـ فإنّه نذرَ لمّا أفلت هارباً يوم بدر وقد جُرح ، أنْ لا يمسّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً ـ قال : فالثالثة؟ قال (ع) : «البراز». قال : هذه خصلة ما كنت أظنّ أنّ أحداً من العرب يخوّفني بها ، ولِمَ يابن أخي؟ فوالله ، ما اُحبّ أنْ أقتلك. فقال

٤٩٠

علي (ع) : «ولكنّي والله ، اُحبّ أنْ أقتلك». وقال له علي : «كيف اُقاتلك وأنت فارس؟». فاقتحم عن فرسه وضرب وجهه ، وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار ، وأقبل على علي فتنازلا وتجاولا ، فاستقبله عليٌّ (ع) بدرقته ، فضربه عمرو فيها فقدّها ، وأثبت فيها السّيف وأصاب رأسه فشجّه ، فضربه علي (ع) على حبل عاتقه فسقط ، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري قد تبع عليّاً لينظر ما يكون منه ومن عمرو. قال : فثارث غبرة فما رأيتهما ، فسمعت التكبير تحتها فعلمت أنّ عليّاً قد قتله ، وكان مع عمرو ابنه حسل فقتله علي (ع). ولمّا قُتل عمرو ، فرّ الأربعة الذين كانوا معه حتّى اقتحمت خيلهم الخندق ، وتوطرت بنوفل فرسه ، فنزل إليه علي فقتله ، ضربه بالسّيف فقطعه نصفّين ، ولحق هبيرة فأعجزه ، وضرب قربوس سرجه فسقطت درع له كان قد احتقبها ، وفرّ عكرمة وضرار ، وانهزم المشركون بقتل عمرو ونوفل ، وذلك قوله تعالى : (وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمنينَ الْقِتَالَ) كفاهم ذلك بعلي (ع). وعن ابن مسعود ، أنّه كان يقرأ : وكفى الله المؤمنين القتال بعلي. قال جابر : فما شبّهت قتل علي عمراً إلاّ بما قصّ الله من قصّة قتل داود جالوت ، حيث يقول الله جلّ شأنه : (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ) وأقبل علي (ع) برأس عمرو ـ ووجهه يتهلل ـ فألقاه بين يدي النّبيّ (ص) ، فقال له عمر : هلاّ سلبته يا علي درعه ؛ فإنّه ليس في العرب درع مثلها؟ فقال (ع) : «إنّي استحييت أنْ أكشف سوأة ابن عمّي». ورجع علي إلى مقامه الأوّل يحمي الثغرة التي عبر منها عمرو وأصحابه ، وهو يقول :

نصرَ الحجارةَ منْ سفاهةِ رأيهِ

ونصرتُ دينَ محمّدٍ بصوابي

فضربتُهُ فتركتُهُ مُتجدّلاً

كالجذعِ بينَ دكادِكٍ ورَوابي

وعففتُ عنْ أثوابِهِ ولو انّنيْ

كُنتُ المُجدَّلَ بزَّني أثوابي

لا تحسبنَّ اللهَ خاذلَ دينَهُ

ونبيَّهُ يا معشرَ الأحزابِ

وروى المفيد في الإرشاد ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بالإسناد عن ربيعة السّعدي ، قال : أتيت حذيفة بن اليمان ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، إنّا لنتحدث عن علي ومناقبه ، فيقول لنا أهل البصرة : إنّكم لتفرّطون في علي ، فهل أنت محدثي بحديث فيه؟ فقال حذيفة : يا ربيعة ، وما تسألني عن علي؟ فوالذي نفسي بيده ، لو وُضع أعمال جميع أصحاب محمّد في كفّة الميزان ، منذ بعث الله محمّداً (ص) إلى يوم النّاس هذا ، ووُضع عمل واحد من أعمال علي في الكفّة الاُخرى ، لرجح عمل علي على جميع أعمالهم. فقال ربيعة : هذا الذي لا يُقام له ولا يقعد ولا يُحمل. فقال حذيفة : يا لُكَع! وكيف لا يُحمل

٤٩١

وأين كان حذيفة وجميع أصحاب محمّد (ص) يوم عمرو بن عبد ودّ ، وقد دعا إلى المبارزة فأحجم النّاس كلّهم ما خلا عليّاً ، فإنّه برز إليه وقتله الله على يده؟ ـ والذي نفس حذيفة بيده ، لَعمله ذلك أعظم أجراً من أعمال اُمّة محمّد إلى يوم القيامة. وقال ابن أبي الحديد : وإنّ خروجه إلى عمرو يوم الخندق أجلُّ من أنْ يُقال جليلة ، وأعظم من أنْ يُقال عظيمة ، وما هي إلاّ كما قال أبو الهذيل ، وقد سأله سائل : أيّما أعظم منزلة عند الله علي أمْ غيره؟ فقال : يا ابن أخي ، والله ، لَمبارزة علي عمراً يوم الخندق تعِدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعتهم ، وتُربي عليها ، فضلاً عن رجل واحد. وروى الحاكم في المستدرك بسنده : أنّ النبيّ (ص) قال : «لَمبارزةُ علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق ، أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة». وفي رواية عن النّبي (ص) أنّه قال : «قتلُ عليٍّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين». وقال ابن تيمية ـ على عادته المعروفة ـ : كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ، ومنهم الأنبياء؟! بل إنّ عمرو بن عبد ودّ هذا لمْ يُعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة. وردّ عليه صاحب السّيرة الحلبيّة : بأنّ قتل هذا الكافر كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين. وردّ صاحب السّيرة الحلبيّة أيضاً على قوله : أنّه لم يُعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة ، بما روي من أنّه قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة ولمْ يشهد اُحداً ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه ، وأنّه نذر أنْ لا يمسّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً. وروى الحاكم في المستدرك : أنّه كان ثالث قريش. أقول : ويردّه أيضاً أنّه كان معروفاً بفارس يليل وفي ذلك يقول مسافح الجمحي يرثي عمراً :

عمرو بنُ عبدٍ كانَ أوّلَ فارسٍ

جزعَ (١) المذادَ (٢) وكان فارسَ يْليلِ(٣)

وأقلّ نظرة يلقيها الإنسان على تلك الغزوة ، فيرى عشرة آلاف محاصرين للمدينة ، حانقين أشدّ الحنق على المسلمين ، وهم دون الثلث من عسكر المشركين ، بينهم عدد كبير من المنافقين ، وبنو قُريظة إلى جنبهم يخافون منهم على ذراريهم ونسائهم ، وما أصاب المسلمين من الخوف والهلع الذي اضطر النّبي (ص) أنْ يصانع غَطْفان ليرجعوا عن معاونة قريش بثلث ثمار المدينة ، وتعظيم الله ذلك في القرآن بقوله تعالى : (وَإِذْ

_____________________

(١) اسم مكان كانت له فيه وقعة مشهورة.

(٢) جزع : اجتاز.

(٣) المذاد : موضع الخندق. ـ المؤلّف ـ

٤٩٢

زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمنونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) ووقوف عمرو ينادي بالمسلمين ويُقرّعهم ويوبّخهم ، ويطلب منهم المبارزة ولا يُجيبه أحد إلاّ علي (ع) وهم ثلاثة آلاف ، فيقتل عمراً وينهزم المشركون بقتله ، ويرتفع البلاء ويأتي الفرج بتلك الضربة. وأقلّ نظرة يلقيها الإنسان على تلك الحال توصله إلى اليقين بأنّ ضربة علي (ع) يومئذ أفضل من عبادة الجنّ والإنس والملائكة ، وملايين من العوالم أمثالهم لو كانت سواء ، أجاء الحديث بذلك عن رسول الله (ص) أم لمْ يجىء. ومتى احتاج النّهار إلى دليل؟ ولولا تلك الضربة لمَا عُبد الله ، بل عُبدت الأوثان وانمحى أثر الإيمان. قدورهم وتطرح أبنيتهم ، وذلك قوله تعالى : (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا) وهي الملائكة ، فارتحلت قريش ورجعت غطفان إلى بلادها. ولمّا كان الصباح ، انصرف رسول الله (ص) بالمسلمين عن الخندق راجعاً إلى المدينة.

وقد افتخر جماعة من المشركين في أشعارهم التي رثوا بها عمرو بن عبد ودّ بأنّ قاتله علي بن أبي طالب ؛ منهم مسافح الجمحي ، قال :

فاذهَبْ عليٌّ فما ظفرتَ بمثلِهِ

فخراً فلا لاقيتَ مثلَ المُعضلِ

وقال هبيرة بن أبي وهب ، وكان مع عمرو وهرب :

فلا تبعدَنْ يا عمرو حيّاً وهالكاً

فقدْ بنتَ محمودَ الثَّنا ماجدَ الأصلِ

فمَنْ لِطرادِ الخيلِ تُقدَعُ بالقنا

وللفخرِ يوماً عند قرْقرةِ البُزْلِ

فعنك عليٌّ لا أرى مثلَ موقفٍ

وقفتَ على نَجْدِ المقدَّمِ كالفحلِ

فما ظفرتْ كفاك فخراً بمثلِهِ

أمِنْتَ بهِ ما عشتَ منْ زلّةِ النَّعلِ

ومنهم اُخته عمرة المُكنّاة : اُمّ كلثوم ، فإنّه لمّا نُعي إليها ، قالت : مَن ذا الذي اجترأ عليه؟ قالوا : ابن أبي طالب. فقالت : لمْ يعدُ موتُه أنْ كان على يد كفو كريم ، لا رقأت دمعتي إنْ هرقتها عليه ؛ قتل الأقران وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه ، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر ، ثمّ أنشأت تقول:

لو كانَ قاتلُ عمرٍو غيرَ قاتلِهِ

لكنتُ أبكي عليهِ آخرَ الأبدِ

٤٩٣

لكنّ قاتلَهُ مَنْ لا يُعابُ بهِ

قدْ كان يُدعَى أبوهُ بيضةَ البلدِ

منْ هاشمٍ في ذُراهَا وهي صاعدةٌ

إلى السّماءِ تُميتُ النّاسَ بالحسدِ

قومٌ أبى اللهُ إلاّ أنْ يكون لهمْ

كرامةُ الدِّينِ والدُّنيا بلا لددِ

وقالت أيضاً في قتل أخيها وذكر علي بن أبي طالب (ع) :

أسدانِ في ضيْقِ المجالِ تصاوَلا

وكلاهُما كفوٌ كريمٌ باسل

فاذهبْ عليٌّ فما ظفرتَ بمثلِهِ

قولٌ سديدٌ ليس فيه تحامل

وهكذا كانت العرب تفتخر إذا كان قتلها بيد الأشراف ، وتأنف أنْ يكون قتلها بيد الأنذال الأرذال. ولمّا اُقيم حُيي بن أخطب بين يدي علي (ع) ليُقتل ، قال : قتلة شريفة بيد شريف. وكما هوّن على اُمّ كلثوم اُخت عمرو بن عبد ودّ قتل أخيها ، كونه بيد شريف كفو كريم وهو علي بن أبي طالب ، فقد زاد في حزن أخوات الحسين (ع) ؛ زينب واُمّ كلثوم على أخيهما الحسين (ع) أنّ قتله كان على يد أولاد الأدعياء ، وعلى يد شمر بن ذي الجوشن الرذل النّذل. ولمّا جاء الجواد إلى المخيم ، وهو خالي السّرج من راكبه ، وضعت اُمّ كلثوم يدها على اُمِّ رأسها ونادت : وا محمّداه! وا جدّاه! وا عليّاه! وا جعفراه! وا حمزتاه! وا حسناه! هذا حسين بالعراء ، صريع بكربلاء ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء. ثُمّ غُشي عليها ، وجعلت زينب تنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا محمّداه! صلّى عليك مليك السّماء ، هذا حُسينك مرمّل بالدماء ، مقطوع الأعضاء ، وبناتك سبايا. يا محمّداه! هذا حسين بالعراء ، تسفي عليه ريح الصبا ، قتيل أولاد البغايا ، بأبي مَن لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى! بأبي المهموم حتّى قضى! بأبي العطشان حتّى مضى! بأبي مَن شيبته تقطر بالدماء.

أدهى المصائِبِ في القلوبِ فجيعةً

قتْلُ الكِرامِ على يدِ الأنذالِ

تبّاً لدهرٍ مكَّنتْ أحداثُهُ

كفَّ الثعالبِ من أبي الأشبالِ

٤٩٤

المجلس الثالث بعد المئتين

من كتاب لأمير المؤمنين (ع) إلى معاوية جواباً ، وهو من محاسن الكتب : «أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمّداً (ص) لدينه ، وتأييده إيّاه بمَن أيّده من أصحابه ، فلقد خبّأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدّده إلى النّضال. وزعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إنْ تمّ اعتزلك كلّه ، وإنْ نقص لَمْ يلحقك ثلمه. وما أنت والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات! لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها مَن عليه الحكم لها ، ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخرّك القدر؟ فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر. وإنّك لذّهاب في التيه ، روّاغ عن القصد ، ألاَ ترى غير مخبر لك ـ ولكن بنعمة الله اُحدّث ـ أنّ قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ـ ولكلٍّ فضل ـ حتّى إذا استشهد شهيدنا ، قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول الله (ص) بسبعين تكبيرةً عند صلاته عليه؟ ـ يريد بذلك حمزة ـ. أولاَ ترى أنّ قوماً قطعتُ أيديهم وأرجلهم في سبيل الله ـ ولكلٍّ فضل ـ حتّى إذا فُعل بواحدنا ـ يعني : جعفراً ـ ما فُعل بواحدهم ، قيل : الطيّار في الجنّة وذو الجناحين؟ ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السّامعين ، فدع عنك مَن مالت به الرمية ؛ فإنّا صنائع ربّنا والنّاس بعدُ صنائع لنا. لَمْ يمنعا قديم عزّنا ، ولا عادي طولنا على قومك أنْ خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ولستم هناك ، وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النّبيّ ومنكم المُكذّب ، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النّار ، ومنّا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب ، في كثير ممّا لنا وعليكم؟! فإسلامنا قد سُمع

٤٩٥

وجاهليتنا لا تُدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله تعالى : (واُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ) وقوله تعالى : (إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمنينَ) فنحن تارة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة. ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله (ص) فلجوا عليهم ، فإنْ يكن الفلجُ به فالحقّ لنا دونكم ، وإنْ يكن بغيره فالأنصار على دعواهم. وزعمت أنّي لكل الخلفاء حسدتُ ، وعلى كلّهم بغيتُ ، فإنْ يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك ، فيكون العذر إليك ، وتلك شكاة ظاهر عنك عارُها. وقلتَ : إنّي كنتُ اُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتّى اُبايع ، ولَعمر الله ، لقد أردتَ أنْ تذمَّ فمدحت ، وأنْ تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أنْ يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ولا مُرتاباً بيقينه ، وهذه حُجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها. وذكرت : أنّّه ليس لي ولا لأصحابي إلاّ السّيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسّيف مُخوَّفين؟ ـ لبّث قليلاً يلحق الهيجا حَمَلْ ـ فسيطلبك مَن تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد. وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، والتابعين لهم بإحسان ، شديدٌ زحامهم ، ساطعٌ قتامهم ، متسربلين بالموت ، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم ، قد صحبَتْهم ذرّيّة بدريّة وسيوف هاشميّة ، قد عرفتَ مواقع نصالها في أخيك وخالك ، وجدّك وأهلك (وما هي من الظالمين ببعيد) أخوه حنظلة بن أبي سفيان وخاله الوليد بن عتبة قتلهما أمير المؤمنين (ع) يوم بدر ، وجدّه عتبة بن ربيعة الذي قتله حمزة يوم بدر ، وشرك في قتله أمير المؤمنين (ع) ، وما برحت أحقاد بدر في قلوب بني اُميّة حتّى أظهرها يزيد يوم جيء إليه برأس الحسين (ع) ، فلمّا وُضع الرأس الشريف بين يديه ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (ع) ، ثُمّ قال : يوم بيوم بدر. وكان عنده أبو برزة الأسلمي ، فقال : ويحك يا يزيد! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النّبي (ص) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : «أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً». فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فاُخرج سحباً. وفي رواية : أنّه قال : أما إنّك يا يزيد ، تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا ومحمّد شفيعه. ثُمّ قام فولّى.

أتنْكتُها شُلَّتْ يمينُك إنَّها

وجوهٌ لوجهِ اللهِ طالَ سُجُودُها

٤٩٦

المجلس الرابع بعد المئتين

من وصيّة لأمير المؤمنين (ع) للحسن والحسين عليهما‌السلام ، لمّا ضربه ابن ملجم ـ لعنه الله ـ : «اُوصيكما بتقوى الله ، وأنْ لا تبغيا الدّنيا وإنْ بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً. اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ، ومَن بلغه كتابي هذا من المؤمنين ، بتقوى الله ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ؛ فإنّي سمعت جدّكما (ص) يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام. والله الله في الأيتام! فلا تغبّوا (١) أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم». بأبي واُمّي يا أمير المؤمنين! توصي ولديك الحسنين عليهما‌السلام بالأيتام ، فليتك لا غبت عن أيتام ولدك الحسين (ع) ليلة العاشر من المُحرّم وقد باتوا جياعى عطاشى ، بلا محامٍ ولا كفيل سوى العليل زين العابدين (ع) الذي نهكته العلّة فلا يستطيع النهوض ، وابنتك زينب عليها‌السلام التي قامت تجمع العيال والأطفال وتحرسهم تلك الليلة ، وقد أحرق القوم الخيام ونهبوا ما فيها ، ولا شك أنّهم باتوا تلك الليلة على وجه الأرض بلا غطاءٍ ولا وطاءٍ تحت السّماء ، وهم ينظرون إلى القتلى مجزّرة كالأضاحي جثثاً بلا رؤوس.

مُجرَّدينَ على الرَّمضَاءِ قدْ لبسُوا

منَ المهابَةِ أثواباً لها قُشُبَا

مُغسَّلينَ بمحمرِّ النَّجيعِ بنَى

نبلُ العِدى والقنا منْ فوقِهمْ قُبَبا

والله الله في جيرانكم! فإنّهم وصية نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظننا أنّه سيورّثهم ، والله الله في القرآن! لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، والله الله في الصلاة! فإنّها عمود دينكم ، والله الله في بيت ربّكم! لا تخلوه ما بقيتم ؛ فإنّه إنْ تُرك لَمْ تناظروا ، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله! وعليكم بالتّواصل والتباذل

____________________

(١) أغبّ القوم : جاءهم يوماً وترك يوماً ، أي : لا تقطعوا الطعام عن أفواههم. ـ المؤلّف ـ

٤٩٧

وإيّاكم والتدابر والتقاطع. لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم. يا بني عبد المطلب ، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ، تقولون : قُتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي. انظروا : إذا أنا مِتُّ من ضربته هذه ، فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يُمثّل بالرجل ؛ فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور». ألا لعن الله أهل الكوفة ، فإنّه لم يكفهم قتل الحسين (ع) حتّى مثّلوا به وبأهل بيته وأنصاره ؛ قطعوا الرؤوس وشالوها على رؤوس الرماح من بلد إلى بلد ، ولمْ يكفهم ذلك حتّى داسوا بخيولهم صدر الحسين (ع) وظهره حتّى هشّمت الخيل أضلاعه ، وطحنت جناجن صدره.

لمْ يشفِ أعداهُ مثلَ القتلِ فابتَدَرتْ

تجري على جسمِهِ الجُردُ المحاضيرَا

يا عقّرَ الله تلكَ الخيلَ إذْ جعلتْ

أعضاءَهُ لعوادِيها مضامِيرَا

٤٩٨

المجلس الخامس بعد المئتين

قال أبو جعفر محمّد بن علي الباقر (ع) لجابر : «أيكفي مَنْ انتحل التشيع أنْ يقول بحبنّا أهل البيت؟ فوالله ، ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله. وما كانوا يُعرفون يا جابر ، إلاّ بالتواضع والتخشّع وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة ، والغارمين والأيتام ، وكفّ الألسن عن النّاس إلاّ من خير ، فكانوا اُمناء عشائرهم في الأشياء». فقال جابر : يابن رسول الله ، لستُ أعرف أحداً بهذه الصفة. فقال (ع) : «يا جابر ، لا تذهبنّ بك المذاهب ، حسب الرجل أنْ يقول : اُحبّ عليّاً وأتولاّه ، فلو قال : إنّي اُحبّ رسول الله (ص) ، فرسول الله خير من علي ، ثمّ لا يعمل عمله ولا يتبع سنته ، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً ، فاتّقوا الله واعملوا لِمَا عند الله. ليس بين الله وبين أحد قرابة. أحبّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم له وأعملهم بطاعته. والله ، ما يُتقرّب إلى الله تعالى إلاّ بالطاعة. ما معنا براءة من النّار ولا على الله لأحد من حجة. مَن كان لله مُطيعاً فهو لنا ولي ، ومَن كان عاصياً فهو لنا عدو ، ولا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع والعمل». وقال أبو جعفر (ع) : «إنّما شيعة علي (ع) الشاحبون الناحلون الذابلون ؛ ذابلة شفاهم ، خمص بطونهم ، متغيرة ألوانهم ، مصفرّة وجوههم ، إذا جنّهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً ، واستقبلوا الأرض بجباههم ؛ كثير سجودهم كثيرة دموعهم ، كثير دعاؤهم كثير بكاؤهم ، يفرح النّاس وهم يحزنون». وقال أمير المؤمنين (ع) : «ألا وإنّ لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألاَ وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد ، وعفّة وسداد ، فوالله ، ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حزت من أرضها شبراً». وهكذا كانت عادة أهل البيت عليهم‌السلام وطريقتهم في الزهد في الدنيا الفانية ، والإيثار على أنفسهم ، وتفقّد الفقراء والمساكين ، وكثرة الصلاة ، وكثرة ذكر الله

٤٩٩

تعالى في الليل والنّهار ولذلك لمّا زحف عمر بن سعد وأصحابه إلى الحسين (ع) عشية اليوم التاسع من المُحرّم ، أرسل إليهم أخاه العبّاس وقال له : «إنْ استطعتَ أنْ تُؤخِّرَهُمْ إلى غدْوَةٍ وتدفَعَهُمْ عنّا العشيّةَ ؛ لَعلَّنا نُصلِّي لربِّنا اللَّيلةَ ونَدعُوهُ ونَستغفِرُهُ ؛ فهو يعلمُ أنِّي كُنتُ اُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِهِ ، وكثرةَ الدُّعاءِ والاسْتغفارِ». فسألهم العبّاس ذلك ، فتوقّف ابن سعد ، فقال له عمرو بن الحجّاج : سبحان الله! والله ، لو أنّهم من التُرك أو الدّيلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد! فأجابوهم الى ذلك. فقام الحسين (ع) وأصحابه الليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ليلة العاشر من المُحرّم ولهم دويّ كدويّ النّحل ؛ ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد.

سمةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

لله إنْ ضمّتْهُمُ الأسحارُ

فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ

بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

ولمْ يشغلهم ما هم فيه من الشدائد وانتظار القتل عن ذكر ربّهم وعبادته ، والإقبال بقلوبهم عليه. ولمّا كان يوم عاشوراء ، قال أبو ثمامة الصّيداوي للحسين (ع) : يا أبا عبد الله ، نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله ، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أنْ ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصّلاة. فرفع الحسين (ع) رأسه إلى السّماء ، وقال : «ذكرتَ الصّلاة جعلك الله من المصلّين الذّاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها». ثمّ قال : «سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نُصلّي». ففعلوا ، فقال لهم الحُصين بن تميم : إنّها لا تُقبل. فقال له حبيب بن مظاهر : زعمتَ لا تُقبل الصّلاة من آل رسول الله (ص) وأنصارهم ، وتُقبل منك يا خمّار وقال الحسين (ع) لزهير بن القَين وسعيد بن عبد الله الحَنفي : «تقدّما أمامي حتّى اُصلّي الظهر». فتقدّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين (ع) سهم ، فتقدّم سعيد بن عبد الله ووقف يقيه من النّبال بنفسه ما زال ولا تخطّى ، فما زال يُرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض ، وهو يقول : اللهمّ ، العنهم لعن عاد وثمود. اللهمّ ، أبلغ نبيّك عنّي السّلام ، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح ؛ فإنّي أردتُ ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك. وفي رواية : أنّه قال : اللهمّ ، لا يعجزك شيء تريده ، فأبلغ محمّداً (ص) نُصرتي ودفعي عن الحسين (ع) ، وارزقني مرافقته في دار الخلود. ثمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوُجِد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح.

٥٠٠